سورة الأعراف: الآية 74 - واذكروا إذ جعلكم خلفاء من...

تفسير الآية 74, سورة الأعراف

وَٱذْكُرُوٓا۟ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى ٱلْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ فَٱذْكُرُوٓا۟ ءَالَآءَ ٱللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا۟ فِى ٱلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ

الترجمة الإنجليزية

Waothkuroo ith jaAAalakum khulafaa min baAAdi AAadin wabawwaakum fee alardi tattakhithoona min suhooliha qusooran watanhitoona aljibala buyootan faothkuroo alaa Allahi wala taAAthaw fee alardi mufsideena

تفسير الآية 74

واذكروا نعمة الله عليكم، إذ جعلكم تَخْلُفون في الأرض مَن قبلكم، من بعد قبيلة عاد، ومكَّن لكم في الأرض الطيبة تنزلونها، فتبنون في سهولها البيوت العظيمة، وتنحتون من جبالها بيوتًا أخرى، فاذكروا نِعَمَ الله عليكم، ولا تَسْعَوا في الأرض بالإفساد.

«واذكروا إذ جعلكم خلفاء» في الأرض «من بعد عاد وبوَّأكم» أسكنكم «في الأرض تتَّخذون من سهولها قصورا» تسكنونها في الصيف «وتنحتون الجبال بيوتا» تسكنونها في الشتاء ونصبه على الحال المقدرة «فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين».

وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ في الأرض تتمتعون بها وتدركون مطالبكم مِنْ بَعْدِ عَادٍ الذين أهلكهم اللّه، وجعلكم خلفاء من بعدهم، وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي: مكن لكم فيها، وسهل لكم الأسباب الموصلة إلى ما تريدون وتبتغون تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا أي: من الأراضي السهلة التي ليست بجبال، تتخذون فيها القصور العالية والأبنية الحصينة، وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا كما هو مشاهد إلى الآن من أعمالهم التي في الجبال، من المساكن والحجر ونحوها، وهي باقية ما بقيت الجبال، فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ أي: نعمه، وما خولكم من الفضل والرزق والقوة، وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي: لا تخربوا الأرض بالفساد والمعاصي، فإن المعاصي تدع الديار العامرة بلاقع، وقد أخلت ديارهم منهم، وأبقت مساكنهم موحشة بعدهم.

قال علماء التفسير والنسب : ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح ، وهو أخو جديس بن عاثر ، وكذلك قبيلة طسم ، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، وكانت ثمود بعد عاد ، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله ، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قراهم ومساكنهم ، وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع .قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا صخر بن جويرية ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك ، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود ، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود ، فعجنوا منها ونصبوا منها القدور . فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور ، وعلفوا العجين الإبل ، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال : " إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، فلا تدخلوا عليهم "وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم ، حدثنا عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر : " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين ، فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم "وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيحين من غير وجهوقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا المسعودي ، عن إسماعيل بن أوسط ، عن محمد بن أبي كبشة الأنماري ، عن أبيه قال : لما كان في غزوة تبوك ، تسارع الناس إلى أهل الحجر ، يدخلون عليهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنادى في الناس : " الصلاة جامعة " . قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره وهو يقول : " ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم " ؟ فناداه رجل منهم : نعجب منهم يا رسول الله . قال : " أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك : رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم ، وبما هو كائن بعدكم ، فاستقيموا وسددوا ، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا ، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا "لم يخرجه أحد من أصحاب السنن وأبو كبشة اسمه : عمر بن سعد ، ويقال : عامر بن سعد ، والله أعلم .وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق : حدثنا معمر ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال : " لا تسألوا الآيات ، فقد سألها قوم صالح فكانت - يعني الناقة - ترد من هذا الفج ، وتصدر من هذا الفج ، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها ، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما ، فعقروها ، فأخذتهم صيحة ، أهمد الله من تحت أديم السماء منهم ، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله " . فقالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : " أبو رغال . فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه "وهذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة ، وهو على شرط مسلم .فقوله تعالى : ( وإلى ثمود أخاهم صالحا ) أي : ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا ، ( قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) جميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ] وقال [ تعالى ] ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل : 36 ] .وقوله : ( قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية ) أي : قد جاءتكم حجة من الله على صدق ما جئتكم به . وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية ، واقترحوا عليه أن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم ، وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر ، يقال لها : الكاتبة ، فطلبوا منه أن يخرج لهم منها ناقة عشراء تمخض ، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه ؟ فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم ، قام صالح ، عليه السلام ، إلى صلاته ودعا الله ، عز وجل ، فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء يتحرك جنينها بين جنبيها ، كما سألوا ، فعند ذلك آمن رئيس القوم وهو : " جندع بن عمرو " ومن كان معه على أمره وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم " ذؤاب بن عمرو بن لبيد " " والحباب " صاحب أوثانهم ، ورباب بن صمعر بن جلهس ، وكان لجندع بن عمرو ابن عم يقال له : " شهاب بن خليفة بن محلاة بن لبيد بن حراس " ، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها ، فأراد أن يسلم أيضا فنهاه أولئك الرهط ، فأطاعهم ، فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود ، يقال له مهوس بن عنمة بن الدميل ، رحمه الله :وكانت عصبة من آل عمرو إلى دين النبي دعوا شهابا عزيز ثمود كلهم جميعافهم بأن يجيب فلو أجابا لأصبح صالح فينا عزيزاوما عدلوا بصاحبهم ذؤابا ولكن الغواة من آل حجرتولوا بعد رشدهم ذئابافأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة ، تشرب ماء بئرها يوما ، وتدعه لهم يوما ، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها ، يحتلبونها فيملئون ما شاءوا من أوعيتهم وأوانيهم ، كما قال في الآية الأخرى : ( ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر ) [ القمر : 28 ] وقال تعالى : ( هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ) [ الشعراء : 155 ] وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترد من فج وتصدر من غيره ليسعها ; لأنها كانت تتضلع من الماء ، وكانت - على ما ذكر - خلقا هائلا ومنظرا رائعا ، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها . فلما طال عليهم واشتد تكذيبهم لصالح النبي ، عليه السلام ، عزموا على قتلها ، ليستأثروا بالماء كل يوم ، فيقال : إنهم اتفقوا كلهم على قتلهاقال قتادة : بلغني أن الذي قتل الناقة طاف عليهم كلهم ، أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن ، وعلى الصبيان أيضاقلت : وهذا هو الظاهر ; لأن الله تعالى يقول : ( فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ) [ الشمس : 14 ] وقال : ( وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها ) [ الإسراء : 59 ] وقال : ( فعقروا الناقة ) فأسند ذلك على مجموع القبيلة ، فدل على رضا جميعهم بذلك ، والله أعلم .وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، وغيره من علماء التفسير في سبب قتل الناقة : أن امرأة منهم يقال لها : " عنيزة ابنة غنم بن مجلز " وتكنى أم غنم كانت عجوزا كافرة ، وكانت من أشد الناس عداوة لصالح ، عليه السلام ، وكانت لها بنات حسان ومال جزيل ، وكان زوجها ذؤاب بن عمرو أحد رؤساء ثمود ، وامرأة أخرى يقال لها : " صدوف بنت المحيا بن دهر بن المحيا " ذات حسب ومال وجمال ، وكانت تحت رجل مسلم من ثمود ، ففارقته ، فكانتا تجعلان لمن التزم لهما بقتل الناقة ، فدعت " صدوف " رجلا يقال له : " الحباب " وعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة ، فأبى عليها . فدعت ابن عم لها يقال له : " مصدع بن مهرج بن المحيا " ، فأجابها إلى ذلك - ودعت " عنيزة بنت غنم " قدار بن سالف بن جندع وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا ، يزعمون أنه كان ولد زنية ، وأنه لم يكن من أبيه الذي ينسب إليه ، وهو سالف ، وإنما هو من رجل يقال له : " صهياد " ولكن ولد على فراش " سالف " ، وقالت له : أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة ! فعند ذلك ، انطلق " قدار بن سالف " " ومصدع بن مهرج " ، فاستفزا غواة من ثمود ، فاتبعهما سبعة نفر ، فصاروا تسعة رهط ، وهم الذين قال الله تعالى : ( وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ) [ النمل : 48 ] وكانوا رؤساء في قومهم ، فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها ، فطاوعتهم على ذلك ، فانطلقوا فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء ، وقد كمن لها " قدار " في أصل صخرة على طريقها ، وكمن لها " مصدع " في أصل أخرى ، فمرت على " مصدع " فرماها بسهم ، فانتظم به عضلة ساقها وخرجت " أم غنم عنيزة " ، وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس وجها ، فسفرت عن وجهها لقدار وذمرته فشد على الناقة بالسيف ، فكسف عرقوبها ، فخرت ساقطة إلى الأرض ، ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها ، ثم طعن في لبتها فنحرها ، وانطلق سقبها - وهو فصيلها - حتى أتى جبلا منيعا ، فصعد أعلى صخرة فيه ورغا - فروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عمن سمع الحسن البصري أنه قال : يا رب أين أمي ؟ ويقال : إنه رغا ثلاث مرات . وإنه دخل في صخرة فغاب فيها ، ويقال : بل اتبعوه فعقروه مع أمه ، فالله أعلمفلما فعلوا ذلك وفرغوا من عقر الناقة ، بلغ الخبر صالحا ، عليه السلام ، فجاءهم وهم مجتمعون ، فلما رأى الناقة بكى وقال : ( تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ) [ هود : 65 ] وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء ، فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على قتل صالح عليه السلام وقالوا : إن كان صادقا عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذبا ألحقناه بناقته ! ( قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ) الآية . [ النمل : 49 - 52 ]فلما عزموا على ذلك ، وتواطئوا عليه ، وجاءوا من الليل ليفتكوا بنبي الله صالح ، أرسل الله ، سبحانه وتعالى ، وله العزة ولرسوله ، عليهم حجارة فرضختهم سلفا وتعجيلا قبل قومهم ، وأصبح ثمود يوم الخميس ، وهو اليوم الأول من أيام النظرة ، ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح ، عليه السلام ، وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل ، وهو يوم الجمعة ، ووجوههم محمرة ، وأصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع وهو يوم السبت ، ووجوههم مسودة ، فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحنطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه ، عياذا بالله من ذلك ، لا يدرون ماذا يفعل بهم ، ولا كيف يأتيهم العذاب ؟ وقد أشرقت الشمس ، جاءتهم صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفل منهم ، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحدة

وبعد أن بين لهم صالح- عليه السلام- وظيفته، وكشف لهم عن معجزته، وأنذرهم بسوء العاقبة إذا ما خالفوا أمره، أخذ في تذكيرهم بنعم الله عليهم. وبمصائر الماضين قبلهم.فقال- كما حكى القرآن عنه-: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ.أى: واذكروا بتدبر واتعاظ نعم الله عليكم حيث جعلكم خلفاء لقبيلة عاد في الحضارة والعمران والقوة والبأس، بعد أن أهلكهم الله بسبب طغيانهم وشركهم.وقوله: وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أى: أنزلكم فيها وجعلها مباءة ومساكن لكم. يقال: بوأه منزلا، أى: أنزله وهيأه له ومكن له فيه.والمراد بالأرض: أرض الحجر التي كانوا يسكنونها وهي بين الحجاز والشام، تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا.السهول: الأراضي السهلة المنبسطة. والجبال: الأماكن المتحجرة المرتفعة.أى أنزلكم في أرض الحجر، ويسر لكم أن تتخذوا من سهولها قصورا جميلة، ودورا عالية، ومن جبالها بيوتا تسكنونها بعد نحتكم إياها.يقال: نحته ينحته- كيضربه وينصره ويعلمه- أى: براه وسواه.قيل إنهم كانوا يسكنون الجبال في الشتاء لما في البيوت المنحوتة من القوة التي لا تؤثر فيها الأمطار والعواصف، ولما فيها من الدفء. أما في غير الشتاء فكانوا يسكنون السهول لأجل الزراعة والعمل ومن التعبير القرآنى نلمح أثر النعمة والتمكين في الأرض لقوم صالح، وندرك طبيعة الموقع الذي كانوا يعيشون فيه، فهو سهل وجبل، يتخذون في السهل القصور، وينحتون في الجبال البيوت، فهم في حضارة عمرانية واضحة المعالم، ولذا نجد صالح- عليه السلام- يكرر عليهم التذكير بشكر النعم فيقول:فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.أى: فاذكروا بتدبر واتعاظ نعم الله عليكم، واشكروه على هذه النعم الجزيلة، وخصوه وحده بالعبادة، ولا تتمادوا في الفساد حال إفسادكم في الأرض.والمقصود النهى عما كانوا عليه من التمادي في الفساد. مأخوذ من العيث وهو أشد الفساد.يقال: عثى- كرضى- عثوا إذ أفسد أشد الإفساد.وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد ذكرت لنا جانبا من النصائح التي وجهها صالح لقومه فماذا كان موقفهم منه.

( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم ) أسكنكم وأنزلكم ، ( في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا ) كانوا ينقبون في الجبال البيوت ففي الصيف يسكنون بيوت الطين ، وفي الشتاء بيوت الجبال . وقيل : كانوا ينحتون البيوت في الجبل لأن بيوت الطين ما كانت تبقى مدة أعمارهم لطول أعمارهم ، ( فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) والعيث : أشد الفساد .

قوله تعالى واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدينفيه ثلاث مسائل :الأولى : قوله تعالى وبوأكم في الأرض فيه محذوف ، أي بوأكم في الأرض منازل . تتخذون من سهولها قصورا أي تبنون القصور بكل موضع .وتنحتون الجبال بيوتا اتخذوا البيوت في الجبال لطول أعمارهم ; فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم . وقرأ الحسن بفتح الحاء ، وهي لغة . وفيه حرف من حروف الحلق ; فلذلك جاء على فعل يفعل .الثانية : استدل بهذه الآية من أجاز البناء الرفيع كالقصور ونحوها ، وبقوله : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق . ذكر أن ابنا لمحمد بن سيرين بنى دارا وأنفق فيها مالا كثيرا ; فذكر ذلك لمحمد بن سيرين فقال : ما أرى بأسا أن يبني الرجل بناء ينفعه . وروي أنه عليه السلام قال : إذا أنعم الله على عبد أحب أن يرى أثر النعمة عليه . ومن آثار النعمة البناء الحسن ، والثياب الحسنة . ألا ترى أنه إذا اشترى جارية جميلة بمال عظيم فإنه يجوز وقد يكفيه دون ذلك ; فكذلك البناء . وكره ذلك آخرون ، منهم الحسن البصري وغيره . واحتجوا بقوله عليه السلام : إذا أراد الله بعبد شرا أهلك ماله في الطين واللبن . وفي خبر آخر عنه أنه عليه السلام قال : من بنى فوق ما يكفيه جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه .قلت : بهذا أقول ; لقوله عليه السلام : وما أنفق المؤمن من نفقة فإن خلفها على الله عز وجل إلا ما كان في بنيان أو معصية . رواه جابر بن عبد الله وخرجه الدارقطني . وقوله عليه السلام : ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال : بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء أخرجه الترمذي .الثالثة : قوله تعالى : فاذكروا آلاء الله أي نعمه . وهذا يدل على أن الكفار منعم عليهم . وقد مضى في " آل عمران " القول فيه . ولا تعثوا في الأرض مفسدين تقدم في " البقرة " والعثي والعثو لغتان . وقرأ الأعمش ( تعثوا ) بكسر التاء أخذه من عثي يعثى لا من عثا يعثو .

القول في تأويل قوله : وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل صالح لقومه ، واعظًا لهم: واذكروا ، أيها القوم ، نعمة الله عليكم=( إذ جعلكم خلفاء ) ، يقول: تخلفون عادًا في الأرض بعد هلاكها.* * *و " خلفاء " جمع " خليفة ". وإنما جمع " خليفة "" خلفاء " ، و " فُعلاء " إنما هي جمع " فعيل "، كما " الشركاء " جمع " شريك "، و " العلماء " جمع " عليم "، و " الحلماء " جمع " حليم " ، لأنه ذهب بالخليفة إلى الرجل، فكأن واحدهم " خليف "، ثم جمع " خلفاء " ، فأما لو جمعت " الخليفة " على أنها نظيرة " كريمة " و " حليلة " و " رغيبة " ، قيل " خلائف "، كما يقال: " كرائم " و " حلائل " و " رغائب "، إذ كانت من صفات الإناث. وإنما جمعت " الخليفة " على الوجهين اللذين جاء بهما القرآن، لأنها جُمعت مرّة على لفظها، ومرة على معناها. (1)* * *وأما قوله: ( وبوأكم في الأرض ) ، فإنه يقول: وأنزلكم في الأرض، وجعل لكم فيها مساكن وأزواجًا ، (2) =(تتخذون من سهولها قصورًا وتنحتون الجبال بيوتًا ) ، ذكر أنهم كانوا ينقُبون الصخر مساكن، كما:-14823-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( وتنحتون الجبال بيوتًا ) ، كانوا ينقبون في الجبال البيوتَ.* * *وقوله: ( فاذكروا آلاء الله ) ، يقول: فاذكروا نعمة الله التي أنعم بها عليكم (3) =(ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) .* * *وكان قتادة يقول في ذلك ما:-14824-حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، يقول: لا تسيروا في الأرض مفسدين.* * *وقد بينت معنى ذلك بشواهده واختلاف المختلفين فيه فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4)-------------------الهوامش :(1) انظر تفسير"خليفة" فيما سلف 1: 449- 453/ 12: 288 ، 505 وقد استوفى هنا ما لم يذكره هناك.(2) انظر تفسير"بوأ" فيما سلف ص4: 164.(3) انظر تفسير"الآلاء" فيما سلف ص: 506.وكان في المطبوعة: "التي أنعمها" ، وأثبت ما في المخطوطة ، ولا أدري لم تصرف الناشر في مثل هذا!!.(4) انظر تفسير"عثا" فيما سلف 2: 123 ، 124/ 5: 499.= وتفسير"الفساد في الأرض" فيما سلف: 487 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.

يجوز أن يكون عطفاً على قوله : { اعبدوا الله } [ الأعراف : 73 ] وأن يكون عطفاً على قوله : { فذروها تأكل في أرض الله } [ الأعراف : 73 ] إلخ . والقول فيه كالقول في قوله : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [ الأعراف : 69 ].{ وبوأكم } معناه أنزلكم ، مشتق من البَوْء وهو الرّجوع ، لأنّ المرء يرجع إلى منزله ومسكنه ، وتقدّم في سورة آل عمران ( 121 ) ، { تُبَوّىءُ المؤمنين مَقاعد للقتال } وقوله : { في الأرض } يجوز أن يكون تعريفُ الأرض للعهد ، أي في أرضكم هذه ، وهي أرض الحِجر ، ويجوز أن يكون للجنس لأنّه لما بوأهم في أرض معيّنة فقد بَوّأهم في جانب من جوانب الأرض .و«السّهول» جمع سهل ، وهو المستوي من الأرض ، وضدّه الجبل .والقصور : جمع قصر وهو المسكن ، وهذا يدلّ على أنّهم كانوا يشيّدون القصور ، وآثارُهم تنطق بذلك .و ( مِنْ ) في قوله : { من سهولها } للظرفيّة ، أي : تتّخذون في سهولها قصوراً .والنّحت : بَرْي الحَجَر والخَشَب بآلة على تقدير مخصوص .والجبال : جمع جبل وهو الأرض النّاتئة على غيرها مرتفعة ، والجبال : ضدّ السّهول .والبيوت : جمع بيت وهو المكان المحدّد المتّخذ للسكنى ، سواء كان مبنياً من حجر أم كان من أثواب شعرٍ أو صوففٍ . وفعل النّحت يتعلّق بالجبال لأنّ النّحت يتعلّق بحجارة الجبال ، وانتصب { بيوتاً } على الحال من الجبال ، أي صائرة بعد النّحت بيوتاً ، كما يقال : خِطْ هذا الثّوب قميصاً ، وابْرِ هذه القصبة قَلماً ، لأنّ الجبل لا يكون حاله حال البيوت وقت النّحت ، ولكن يصير بيوتاً بعد النّحت .ومحلّ الامتنان هو أن جعل منازلهم قسمين : قسم صالح للبناء فيه ، وقسم صالح لنحت البيوت ، قيل : كانوا يسكنون في الصّيف القصور ، وفي الشّتاء البيوتَ المنحوتة في الجبال .وتفريع الأمر بذِكْر آلاءِ الله على قوله : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } تفريع الأعم على الأخصّ ، لأنّه أمَرهم بذكر نعمتين ، ثمّ أمرهم بذكر جميع النّعم التي لا يحصونها ، فكان هذا بمنزلة التّذييل .وفعل : { اذكروا } مشتقّ من المصدر ، الذي هو بضمّ الذّال ، وهو التذَكَّر بالعقل والنّظر النّفساني ، وتذكّر الآلاء يبعث على الشّكر والطّاعة وترك الفساد ، فلذلك عطف نهيهم عن الفساد في الأرض على الأمر بذكر آلاء الله .{ ولا تعثوا } معناه ولا تفسدوا ، يقال : عَثِيَ كَرضِي ، وهذا الأفصح ، ولذلك جاء في الآية بفتح الثّاء حين أسند إلى واو الجماعة ، ويقال عَثا يعثو من باب سَما عثواً وهي لغة دون الأولى ، وقال كراع ، كأنّه مقلوب عاث . والعَثْيُ والعَثْو كلّه بمعنى أفسد أشدّ الإفساد .ومفسدين حال مؤكّدة لمعنى { تعثوا } وهو وإن كان أعمّ من المؤكَّد فإنّ التّأكيد يحصل ببعض معنى المؤكَّد .
الآية 74 - سورة الأعراف: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا ۖ فاذكروا آلاء...)