سورة البقرة: الآية 108 - أم تريدون أن تسألوا رسولكم...

تفسير الآية 108, سورة البقرة

أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْـَٔلُوا۟ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۗ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلْإِيمَٰنِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ

الترجمة الإنجليزية

Am tureedoona an tasaloo rasoolakum kama suila moosa min qablu waman yatabaddali alkufra bialeemani faqad dalla sawaa alssabeeli

تفسير الآية 108

بل أتريدون- أيها الناس- أن تطلبوا من رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم أشياء بقصد العناد والمكابرة، كما طُلِبَ مثل ذلك من موسى. علموا أن من يختر الكفر ويترك الإيمان فقد خرج عن صراط الله المستقيم إلى الجهل والضَّلال.

«أم» بل «تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى» أي سأله قومه «من قبل» من قولهم: أرنا الله جهرة وغير ذلك «ومن يتبدل الكفر بالإيمان» أي يأخذ بدله بترك النظر في الآيات البينات واقتراح غيرها «فقد ضل سواء السبيل» أخطأ الطريق الحق والسواءُ في الأصل الوسط.

ينهى الله المؤمنين, أو اليهود, بأن يسألوا رسولهم كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ والمراد بذلك, أسئلة التعنت والاعتراض, كما قال تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ فهذه ونحوها, هي المنهي عنها. وأما سؤال الاسترشاد والتعلم, فهذا محمود قد أمر الله به كما قال تعالى فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ويقررهم عليه, كما في قوله يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ و يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ونحو ذلك. ولما كانت المسائل المنهي عنها مذمومة, قد تصل بصاحبها إلى الكفر، قال: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ

نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة ، عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها ، كما قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ) [ المائدة : 101 ] أي : وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم ، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه ; فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة . ولهذا جاء في الصحيح : " إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم ، فحرم من أجل مسألته " . ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم ، وإن سكت سكت على مثل ذلك ; فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها . ثم أنزل الله حكم الملاعنة . ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال وفي صحيح مسلم : " ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " . وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا . ثم قال ، عليه السلام : " لا ، ولو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لما استطعتم " . ثم قال : " ذروني ما تركتكم " الحديث . وهكذا قال أنس بن مالك : نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع .وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا أبو كريب ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي سنان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب ، قال : إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فأتهيب منه ، وإن كنا لنتمنى الأعراب .وقال البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ما سألوه إلا عن ثنتيعشرة مسألة ، كلها في القرآن : ( يسألونك عن الخمر والميسر ) [ البقرة : 219 ] ، و ( يسألونك عن الشهر الحرام ) [ البقرة : 217 ] ، و ( ويسألونك عن اليتامى ) [ البقرة : 220 ] يعني : هذا وأشباهه .وقوله تعالى : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) أي : بل تريدون . أو هي على بابها في الاستفهام ، وهو إنكاري ، وهو يعم المؤمنين والكافرين ، فإنه ، عليه السلام ، رسول الله إلى الجميع ، كما قال تعالى : ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ) [ النساء : 153 ] .قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد [ بن جبير ] عن ابن عباس ، قال : قال رافع بن حريملة أو وهب بن زيد : يا محمد ، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرأه ، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك . فأنزل الله من قولهم : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل )وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ) قال : قال رجل : يا رسول الله ، لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم لا نبغيها - ثلاثا - ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل ، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها ، فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا ، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة . فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل " . قال : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) [ النساء : 110 ] ، وقال : " الصلوات الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن " . وقال : " من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ، وإن عملها كتبت سيئة واحدة ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة ، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها ، ولا يهلك على الله إلا هالك " . فأنزل الله : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل )وقال مجاهد : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) أن يريهم الله جهرة ، قال : سألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا . قال : " نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم " ، فأبوا ورجعوا .وعن السدي وقتادة نحو هذا ، والله أعلم .والمراد أن الله ذم من سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء ، على وجه التعنت والاقتراح ، كما سألت بنو إسرائيل موسى ، عليه السلام ، تعنتا وتكذيبا وعنادا ، قال الله تعالى : ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان ) أي : من يشتر الكفر بالإيمان ( فقد ضل سواء السبيل ) أي : فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم ، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها ، على وجه التعنت والكفر ، كما قال تعالى : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ) [ إبراهيم : 28 ، 29 ] .وقال أبو العالية : يتبدل الشدة بالرخاء .

ثم حذر القرآن الكريم المؤمنين من الاستماع إلى وساوس اليهود، تثبيتا لقلوبهم، وتقوية لإيمانهم، فقال تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ، وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ والمعنى: لا يصح لكم أيها المؤمنون أن تقترحوا على رسولكم محمد صلّى الله عليه وسلّم مقترحات تتنافى مع الإيمان الحق كأن تسألوه أسئلة لا خير من ورائها لأنكم لو فعلتم ذلك لصرتم كبني إسرائيل الذين طلبوا من نبيهم موسى- عليه السلام- بعد أن جاءهم بالبينات- مطالب تدل على تعنتهم وجهلهم فقالوا له: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «1» وقالوا له: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «2» ولو صرتم مثلهم لكنتم ممن يختار الكفر على الإيمان، ولخرجتم عن الصراط المستقيم الذي يدعوكم إليه نبيكم صلّى الله عليه وسلّم.والاستفهام في الآية الكريمة للإنكار، وفي أسلوبها مبالغة في التحذير من الوقوع فيما وقع فيه اليهود من تعنت مع رسولهم، إذ جعل محط الإنكار إرادتهم للسؤال، وفي النهى عن إرادة الشيء، نهى عن فعله بأبلغ عبارة.ثم نبه الله تعالى عباده المؤمنين إلى ما يضمره لهم اليهود من أحقاد وشرور فقال- تعالى-:

قوله: أم تريدون أن تسألوا رسولكم نزلت في اليهود حين قالوا: يا محمد ائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة فقال الله تعالى: أم تريدون يعني أتريدون فالميم صلة، وقيل: بل تريدون أن تسألوا رسولكم محمداً صلى الله عليه وسلمكما سئل موسى من قبل سأله قومه: أرنا الله جهرة، وقيل: إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا، كما أن موسى سأله قومه فقالوا: أرنا الله جهرة، ففيه منعهم عن السؤالات المقبوحة بعد ظهور الدلائل والبراهين.ومن يتبدل الكفر بالإيمان يستبدل الكفر بالإيمان.فقد ضل سواء السبيل أخطأ وسط الطريق، وقيل: قصد السبيل.

قوله تعالى : أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل قوله تعالى : أم تريدون هذه أم المنقطعة التي بمعنى بل ، أي بل تريدون ، ومعنى الكلام التوبيخ . أن تسألوا رسولكم في موضع نصب ب تريدون . كما سئل الكاف في موضع نصب نعت لمصدر ، أي سؤالا كما . و موسى في موضع رفع على ما لم يسم فاعله . من قبل : سؤالهم إياه أن يريهم الله جهرة ، وسألوا محمدا أن يأتي بالله والملائكة قبيلا . عن ابن عباس ومجاهد : سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهبا . وقرأ الحسن " كما سيل " ، وهذا على لغة من قال : سلت أسأل ، ويجوز أن يكون على بدل الهمزة ياء ساكنة على غير قياس فانكسرت السين قبلها . قال النحاس : بدل الهمزة بعيد . والسواء من كل شيء : الوسط . قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى ومنه قوله : في سواء الجحيم . وحكى عيسى بن عمر قال : ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي ، وأنشد قول حسان يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم .يا ويح أصحاب النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحدوقيل : السواء القصد ، عن الفراء ، أي ذهب عن قصد الطريق وسمته ، أي طريق طاعة الله عز وجل . وعن ابن عباس أيضا أن سبب نزول هذه الآية أن رافع بن خزيمة ووهب بن زيد قالا للنبي صلى الله عليه وسلم : ائتنا بكتاب من السماء نقرؤه ، وفجر لنا أنهارا نتبعك .

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُالْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْل اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي السَّبَب الَّذِي مِنْ أَجْله أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَة . فَقَالَ بَعْضهمْ بِمَا : 1473 - حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْب , قَالَ : حَدَّثَنِي يُونُس بْن بُكَيْر , وَحَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : ثنا سَلَمَة بْن الْفَضْل , قَالَا : ثنا ابْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , قَالَ : حَدَّثَنِي سَعِيد بْن جُبَيْر أَوْ عِكْرِمَة عَنْ ابْن عَبَّاس : قَالَ رَافِع بْن حُرَيْمِلَة وَوَهْب بْن زَيْد لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ائْتِنَا بِكِتَابِ تُنْزِلهُ عَلَيْنَا مِنْ السَّمَاء نَقْرَؤُهُ وَفَجِّرْ لَنَا أَنَهَارًا نَتَّبِعك وَنُصَدِّقك ! فَأَنْزَلَ اللَّه فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلهمْ : أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْل الْآيَة . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 1474 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة قَوْله : أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْل وَكَانَ مُوسَى يُسْأَل فَقِيلَ لَهُ : أَرِنَا اللَّه جَهْرَة . 4 153 1475 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : ثنا عَمْرو , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ : أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْل أَنْ يُرِيهِمْ اللَّه جَهْرَة , فَسَأَلَتْ الْعَرَب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيهِمْ بِاَللَّهِ فَيَرَوْهُ جَهْرَة . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 1476 - حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه : أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْل أَنْ يُرِيهِمْ اللَّه جَهْرَة . فَسَأَلَتْ قُرَيْش مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَل اللَّه لَهُ الصَّفَا ذَهَبًا , قَالَ : " نَعَمْ , وَهُوَ لَكُمْ كَمَائِدَةِ بَنِي إسْرَائِيل إنْ كَفَرْتُمْ " . فَأَبَوْا وَرَجَعُوا . * حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد قَالَ : سَأَلَتْ قُرَيْش مُحَمَّدًا أَنْ يَجْعَل لَهُمْ الصَّفَا ذَهَبًا , فَقَالَ : " نَعَمْ , وَهُوَ لَكُمْ كَالْمَائِدَةِ لِبَنِي إسْرَائِيل إنْ كَفَرْتُمْ " . فَأَبَوْا وَرَجَعُوا , فَأَنْزَلَ اللَّه أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْل أَنْ يُرِيهِمْ اللَّه جَهْرَة . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : ثنا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 1477 - حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة , قَالَ : قَالَ رَجُل : يَا رَسُول اللَّه لَوْ كَانَتْ كَفَّارَاتنَا كَفَّارَات بَنِي إسْرَائِيل ! فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اللَّهُمَّ لَا نَبْغِيهَا ! مَا أَعْطَاكُمْ اللَّه خَيْر مِمَّا أَعْطَى بَنِي إسْرَائِيل ; فَقَالَ النَّبِيّ : كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيل إذَا فَعَلَ أَحَدهمْ الْخَطِيئَة وَجَدَهَا مَكْتُوبَة عَلَى بَابه وَكَفَّارَتهَا , فَإِنْ كَفَّرَهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الدُّنْيَا , وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرهَا كَانَتْ لَهُ خِزْيًا فِي الْآخِرَة . وَقَدْ أَعْطَاكُمْ اللَّه خَيْرًا مِمَّا أَعْطَى بَنِي إسْرَائِيل , قَالَ : وَمَنْ يَعْمَل سُوءًا أَوْ يَظْلِم نَفْسه ثُمَّ يَسْتَغْفِر اللَّه يَجِد اللَّه غَفُورًا رَحِيمًا " 4 110 قَالَ : وَقَالَ : " الصَّلَوَات الْخَمْس وَالْجُمُعَة إلَى الْجُمُعَة كَفَّارَات لِمَا بَيْنهنَّ " . وَقَالَ : " مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَة , فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْر أَمْثَالهَا , وَلَا يَهْلَك عَلَى اللَّه إلَّا هَالِك " . فَأَنْزَلَ اللَّه : أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْل . وَاخْتَلَفَ أَهْل الْعَرَبِيَّة فِي مَعْنَى أَمْ الَّتِي فِي قَوْله : أَمْ تُرِيدُونَ . فَقَالَ بَعْض الْبَصْرِيِّينَ : هِيَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَام , وَتَأْوِيل الْكَلَام : أَتُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ ؟ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : هِيَ بِمَعْنَى اسْتِفْهَام مُسْتَقْبَل مُنْقَطِع مِنْ الْكَلَام , كَأَنَّك تَمِيل بِهَا إلَى أَوَّله كَقَوْلِ الْعَرَب : إنَّهَا لَإِبِل يَا قَوْم أَمْ شَاءَ , وَلَقَدْ كَانَ كَذَا وَكَذَا أَمْ حَدْس نَفْسِيّ . قَالَ : وَلَيْسَ قَوْله : أَمْ تُرِيدُونَ عَلَى الشَّكّ ; وَلَكِنَّهُ قَالَهُ لِيُقَبِّح لَهُ صَنِيعهمْ . وَاسْتَشْهَدَ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِبَيْتِ الْأَخْطَل : كَذَبَتْك عَيْنك أَمْ رَأَيْت بِوَاسِطِ غَلَس الظَّلَام مِنْ الرَّبَاب خَيَالًا وَقَالَ بَعْض نَحْوِيِّي الْكُوفِيِّينَ : إنْ شِئْت جَعَلْت قَوْله : أَمْ تُرِيدُونَ اسْتِفْهَامًا عَلَى كَلَام قَدْ سَبَقَهُ , كَمَا قَالَ جَلّ ثَنَاؤُهُ : ألم تَنْزِيل الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ مِنْ رَبّ الْعَالَمِينَ أُمّ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ 32 1 - 3 فَجَاءَتْ " أَمْ " وَلَيْسَ قَبْلهَا اسْتِفْهَام . فَكَانَ ذَلِكَ عِنْده دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَام مُبْتَدَأ عَلَى كَلَام سَبَقَهُ . وَقَالَ قَائِل هَذِهِ الْمَقَالَة : " أَمْ " فِي الْمَعْنَى تَكُون رَدًّا عَلَى الِاسْتِفْهَام عَلَى جِهَتَيْنِ , إحْدَاهُمَا : أَنْ تَعْرِف مَعْنَى " أَيْ " , وَالْأُخْرَى أَنْ يُسْتَفْهَم بِهَا , وَيَكُون عَلَى جِهَة النَّسَق , وَاَلَّذِي يَنْوِي بِهِ الِابْتِدَاء ; إلَّا أَنَّهُ ابْتِدَاء مُتَّصِل بِكَلَامِ , فَلَوْ ابْتَدَأْت كَلَامًا لَيْسَ قَبْله كَلَام ثُمَّ اسْتَفْهَمْت لَمْ يَكُنْ إلَّا بِالْأَلِفِ أَوْ ب " هَلْ " . قَالَ : وَإِنْ شِئْت قُلْت فِي قَوْله : أَمْ تُرِيدُونَ قَبْله اسْتِفْهَام , فَرَدَّ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي قَوْله : أَلَمْ تَعْلَم أَنَّ اللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ عِنْدِي عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَار الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ أَهْل التَّأْوِيل أَنَّهُ اسْتِفْهَام مُبْتَدَأ بِمَعْنَى : أَتُرِيدُونَ أَيّهَا الْقَوْم أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ ؟ وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَسْتَفْهِم الْقَوْم ب " أَمْ " وَإِنْ كَانَتْ " أَمْ " أَحَد شُرُوطهَا أَنْ تَكُون نَسَقًا فِي الِاسْتِفْهَام لِتُقَدِّم مَا تَقَدَّمَهَا مِنْ الْكَلَام ; لِأَنَّهَا تَكُون اسْتِفْهَامًا مُبْتَدَأ إذَا تَقَدَّمَهَا سَابِق مِنْ الْكَلَام , وَلَمْ يُسْمَع مِنْ الْعَرَب اسْتِفْهَام بِهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمهَا كَلَام . وَنَظِيره قَوْله جَلّ ثَنَاؤُهُ : ألم تَنْزِيل الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ مِنْ رَبّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ . وَقَدْ تَكُون " أَمْ " بِمَعْنَى " بَلْ " إذَا سَبَقَهَا اسْتِفْهَام لَا يَصْلُح فِيهِ " أَيْ " , فَيَقُولُونَ : هَلْ لَك قِبَلنَا حَقّ , أَمْ أَنْت رَجُل مَعْرُوف بِالظُّلْمِ ؟ وَقَالَ الشَّاعِر : فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرِي أَسَلْمَى تَغَوَّلَتْ أَمْ الْقَوْم أَمْ كُلّ إلَيَّ حَبِيب يَعْنِي : بَلْ كُلّ إلَيَّ حَبِيب . وَقَدْ كَانَ بَعْضهمْ يَقُول مُنْكِرًا قَوْل مَنْ زَعَمَ أَنَّ " أَمْ " فِي قَوْله : أَمْ تُرِيدُونَ اسْتِفْهَام مُسْتَقْبَل مُنْقَطِع مِنْ الْكَلَام يَمِيل بِهَا إلَى أَوَّله أَنَّ الْأَوَّل خَبَر وَالثَّانِي اسْتِفْهَام , وَالِاسْتِفْهَام لَا يَكُون فِي الْخَبَر , وَالْخَبَر لَا يَكُون فِي الِاسْتِفْهَام ; وَلَكِنْ أَدْرَكَهُ الشَّكّ بِزَعْمِهِ بَعْد مُضِيّ الْخَبَر , فَاسْتَفْهَمَ . فَإِذَا كَانَ مَعْنَى " أَمْ " مَا وَصَفْنَا , فَتَأْوِيل الْكَلَام : أَتُرِيدُونَ أَيّهَا الْقَوْم أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولكُمْ مِنْ الْأَشْيَاء نَظِير مَا سَأَلَ قَوْم مُوسَى مِنْ قَبْلكُمْ , فَتَكْفُرُوا إنْ مَنَعْتُمُوهُ فِي مَسْأَلَتكُمْ مَا لَا يَجُوز فِي حِكْمَة اللَّه إِعْطَاؤُكُمُوه , أَوْ أَنْ تَهْلَكُوا , إنْ كَانَ مِمَّا يَجُوز فِي حِكْمَته عَطَاؤُكُمُوهُ فَأَعْطَاكُمُوهُ ثُمَّ كَفَرْتُمْ مِنْ بَعْد ذَلِكَ , كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ مِنْ الْأُمَم الَّتِي سَأَلَتْ أَنْبِيَاءَهَا مَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَسْأَلَتهَا إيَّاهُمْ , فَلَمَّا أُعْطِيَتْ كَفَرَتْ , فَعُوجِلَتْ بِالْعُقُوبَاتِ لِكُفْرِهَا بَعْد إعْطَاء اللَّه إيَّاهَا سُؤْلهَا .وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِالْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : وَمَنْ يَتَبَدَّل الْكُفْر بِالْإِيمَانِ . يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : وَمَنْ يَتَبَدَّل وَمَنْ يَسْتَبْدِل الْكُفْر ; وَيَعْنِي بِالْكُفْرِ : الْجُحُود بِاَللَّهِ وَبِآيَاتِهِ بِالْإِيمَانِ , يَعْنِي بِالتَّصْدِيقِ بِاَللَّهِ وَبِآيَاتِهِ وَالْإِقْرَار بِهِ . وَقَدْ قِيلَ عَنِّي بِالْكُفْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِع الشِّدَّة وَبِالْإِيمَانِ الرَّخَاء . وَلَا أَعْرِف الشِّدَّة فِي مَعَانِي الْكُفْر , وَلَا الرَّخَاء فِي مَعْنَى الْإِيمَان , إلَّا أَنْ يَكُون قَائِل ذَلِكَ أَرَادَ بِتَأْوِيلِهِ الْكُفْر بِمَعْنَى الشِّدَّة فِي هَذَا الْمَوْضِع وَبِتَأْوِيلِهِ الْإِيمَان فِي مَعْنَى الرَّخَاء مَا أَعَدَّ اللَّه لِلْكُفَّارِ فِي الْآخِرَة مِنْ الشَّدَائِد , وَمَا أَعَدَّ اللَّه لِأَهْلِ الْإِيمَان فِيهَا مِنْ النَّعِيم , فَيَكُون ذَلِكَ وَجْهًا وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْ الْمَفْهُوم بِظَاهِرِ الْخِطَاب . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 1478 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا إسْحَاق , قَالَ : ثنا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة : وَمَنْ يَتَبَدَّل الْكُفْر بِالْإِيمَانِ يَقُول : يَتَبَدَّل الشِّدَّة بِالرَّخَاءِ . * حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع , عَنْ أَبِي الْعَالِيَة بِمِثْلِهِ . وَفِي قَوْله : وَمَنْ يَتَبَدَّل الْكُفْر بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيل دَلِيل وَاضِح عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَات مِنْ قَوْله : يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا خِطَاب مِنْ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِتَاب مِنْهُ لَهُمْ عَلَى أَمْر سَلَفَ مِنْهُمْ مِمَّا سَرَّ بِهِ الْيَهُود وَكَرِهَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ , فَكَرِهَهُ اللَّه لَهُمْ . فَعَاتَبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ , وَأَعْلَمهُمْ أَنَّ الْيَهُود أَهْل غِشّ لَهُمْ وَحَسَد وَبَغْي , وَأَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ لَهُمْ الْمَكَارِه وَيَبْغُونَهُمْ الْغَوَائِل , وَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْتَصِحُوهُمْ , وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَنْ ارْتَدَّ مِنْهُمْ عَنْ دِينه فَاسْتَبْدَلَ بِإِيمَانِهِ كُفْرًا فَقَدْ أَخْطَأَ قَصْد السَّبِيل .فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِالْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيل . أَمَّا قَوْله : فَقَدْ ضَلَّ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ ذَهَبَ وَحَادَ . وَأَصْل الضَّلَال عَنْ الشَّيْء : الذَّهَاب عَنْهُ وَالْحَيْد . ثُمَّ يُسْتَعْمَل فِي الشَّيْء الْهَالِك وَالشَّيْء الَّذِي لَا يُؤْبَه لَهُ , كَقَوْلِهِمْ لِلرَّجُلِ الْخَامِل الَّذِي لَا ذِكْر لَهُ وَلَا نَبَاهَة : ضَلّ بْن ضَلّ , وَقَلّ بْن قَلّ ; كَقَوْلِ الْأَخْطَل فِي الشَّيْء الْهَالِك : كُنْتَ الْقَذَى فِي مَوْجِ أَكَدَرَ مُزْبِدٍ قَذَفَ الْأَتِيُّ بِهِ فَضَلَّ ضَلَالًا يَعْنِي : هَلَكَ فَذَهَبَ . وَاَلَّذِي عَنَى اللَّه تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيل فَقَدْ ذَهَبَ عَنْ سَوَاء السَّبِيل وَحَادَ عَنْهُ . وَأَمَّا تَأْوِيل قَوْله : سَوَاء السَّبِيل فَإِنَّهُ يَعْنِي بِالسَّوَاءِ : الْقَصْد وَالْمَنْهَج , وَأَصْل السَّوَاء : الْوَسَط ; ذُكِرَ عَنْ عِيسَى بْن عُمَر النَّحْوِيّ أَنَّهُ قَالَ : " مَا زِلْت أَكْتُب حَتَّى انْقَطَعَ سَوَائِي " , يَعْنِي وَسَطِي . وَقَالَ حَسَّان بْن ثَابِت : يَا وَيْح أَنْصَار النَّبِيّ وَنَسْله بَعْد الْمَغِيب فِي سَوَاء الْمُلْحِد يَعْنِي بِالسَّوَاءِ الْوَسَط . وَالْعَرَب تَقُول : هُوَ فِي سَوَاء السَّبِيل , يَعْنِي فِي مُسْتَوَى السَّبِيل . وَسَوَاء الْأَرْض مُسْتَوَاهَا عِنْدهمْ , وَأَمَّا السَّبِيل فَإِنَّهَا الطَّرِيق الْمَسْبُول , صُرِفَ مِنْ مَسْبُول إلَى سَبِيل . فَتَأْوِيل الْكَلَام إذًا : وَمَنْ يَسْتَبْدِل بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ الْكُفْر فَيَرْتَدّ عَنْ دِينه , فَقَدْ حَادَ عَنْ مَنْهَج الطَّرِيق وَوَسَطه الْوَاضِح الْمَسْبُول . وَهَذَا الْقَوْل ظَاهِره الْخَبَر عَنْ زَوَال الْمُسْتَبْدِل بِالْإِيمَانِ وَالْكُفْر عَنْ الطَّرِيق , وَالْمَعْنَى بِهِ الْخَبَر عَنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ دِين اللَّه الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ وَجَعَلَهُ لَهُمْ طَرِيقًا يَسْلُكُونَهُ إلَى رِضَاهُ , وَسَبِيلًا يَرْكَبُونَهَا إلَى مَحَبَّته وَالْفَوْز بِجَنَّاتِهِ . فَجَعَلَ جَلّ ثَنَاؤُهُ الطَّرِيق الَّذِي إذَا رَكِبَ مَحَجَّته السَّائِر فِيهِ وَلَزِمَ وَسَطه الْمُجْتَاز فِيهِ , نَجَا وَبَلَغَ حَاجَته وَأَدْرَكَ طِلْبَته لِدِينِهِ الَّذِي دَعَا إلَيْهِ عِبَاده مَثَلًا لِإِدْرَاكِهِمْ بِلُزُومِهِ وَاتِّبَاعه إدْرَاكهمْ طَلَبَاتهمْ فِي آخِرَتهمْ , كَاَلَّذِي يُدْرِك اللَّازِم مَحَجَّة السَّبِيل بِلُزُومِهِ إيَّاهَا طِلْبَته مِنْ النَّجَاة مِنْهَا , وَالْوُصُول إلَى الْمَوْضِع الَّذِي أَمَّهُ وَقَصَدَهُ . وَجَعَلَ مِثْل الْحَائِد عَنْ دِينه وَالْحَائِد عَنْ اتِّبَاع مَا دَعَاهُ إلَيْهِ مِنْ عِبَادَته فِي حَيَاته مَا رَجَا أَنْ يُدْرِكهُ بِعَمَلِهِ فِي آخِرَته وَيَنَال بِهِ فِي مُعَاده وَذَهَابه عَمَّا أَمَلَ مِنْ ثَوَاب عَمَله وَبُعْده بِهِ مِنْ رَبّه , مَثَل الْحَائِد عَنْ مَنْهَج الطَّرِيق وَقَصْد السَّبِيل , الَّذِي لَا يَزْدَاد وُغُولًا فِي الْوَجْه الَّذِي سَلَكَهُ إلَّا ازْدَادَ مِنْ مَوْضِع حَاجَته بُعْدًا , وَعَنْ الْمَكَان الَّذِي أَمَّهُ وَأَرَادَهُ نَأْيًا . وَهَذِهِ السَّبِيل الَّتِي أَخْبَرَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ مَنْ يَتَبَدَّل الْكُفْر بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَهَا , هِيَ الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم الَّذِي أُمِرْنَا بِمَسْأَلَتِهِ الْهِدَايَة لَهُ بِقَوْلِهِ : اهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ .

( أم ) حرف عطف مختص بالاستفهام وما في معناه وهو التسوية فإذا عطفت أحد مفرديْننِ مستفهماً عن تعيين أحدهما استفهاماً حقيقياً أو مسوَّى بينهما في احتمال الحصول فهي بمعنى ( أو ) العاطفة ويسميها النحاة متصلة ، وإذا وقعت عاطفة جملةً دلت على انتقال من الكلام السابق إلى استفهام فتكون بمعنى بل الانتقالية ويسميها النحاة منقطعة والاستفهام ملازم لما بعدها في الحالين . وهي هنا منقطعة لا محالة لأن الاستفهامين اللذين قبلها في معنى الخبر لأنهما للتقرير كما تقدم إلا أن وقوعهما في صورة الاستفهام ولو للتقرير يحسن موقع ( أم ) بعدهما كما هو الغالب والاستفهام الذي بعدهما هنا إنكار وتحذير ، والمناسبة في هذا الانتقال تامة فإن التقريرالذي قبلها مراد منه التحذير من الغلط وأن يكونوا كمن لا يعلم والاستفهام الذي بعدها مراد منه التحذير كذلك والمحذر منه في الجميع مشترك في كونه من أحوال اليهود المذمومة ولا يصح كون ( أم ) هنا متصلة لأن الاستفهامين اللذين قبلها ليسا على حقيقتهما لا محالة كما تقدم .وقد جوز القزويني في «الكشف على الكشاف» كون ( أم ) هنا متصلة بوجه مرجوح وتبعه البيضاوي وتكلفا لذلك مما لايساعد استعمال الكلام العربي ، وأفرط عبد الحكيم في «حاشية البيضاوي» فزعم أن حملها على المتصلة أرجح لأنه الأصل لا سيما مع اتحاد فاعل الفعلين المتعاطفين بأم ولدلالته على أنهم إذا سألوا سؤال قوم موسى فقد علموا أن الله على كل شيء قدير وإنما قصدوا التعنت وكان الجميع في غفلة عن عدم صلوحية الاستفهامين السابقين للحمل على حقيقة الاستفهام .وقوله : { تريدون } خطاب للمسلمين لا محالة بقرينة قوله : { رسولكم } وليس كونه كذلك بمرجح كون الخطابين اللذين قبله متوجهين إلى المسلمين لأن انتقال الكلام بعد ( أم ) المنقطعة يسمح بانتقال الخطاب .وقوله : { تريدون } يؤذن بأن السؤال لم يقع ولكنه ربما جاش في نفوس بعضهم أو ربما أثارته في نفوسهم شبه اليهود في إنكارهم النسخ وإلقائهم شبهة البداء ونحو ذلك مما قد يبعث بعض المسلمين على سؤال النبيء صلى الله عليه وسلموقوله : { كما سئل موسى } تشبيهٌ وجهُه أن في أسئلة بني إسرائيل موسى كثيراً من الأسئلة التي تفضي بهم إلى الكفر كقولهم : { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] أو من العجرفة كقولهم : { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] فيكون التحذير من تسلسل الأسئلة المفضي إلى مثل ذلك . ويجوز كونه راجعاً إلى أسئلة بني إسرائيل عما لا يعنيهم وعما يجر لهم المشقة كقولهم { ما لونها } [ البقرة : 69 ] و { ماهي } [ البقرة : 7 ] .قال الفخر : إن المسلمين كانوا يسألون النبيء صلى الله عليه وسلم عن أمور لا خير لهم في البحث عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى اه .وقد ذكر غيره أسباباً أخرى للنزول ، منها : أن المسلمين سألوا النبيء صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر لما مروا بذات الأنواط التي كانت للمشركين أن يجعل لهم مثلها ونحو هذا مما هو مبني على أخبار ضعيفة ، وكل ذلك تكلف لما لا حاجة إليه فإن الآية مسوقة مساق الإنكار التحذيري بدليل قوله : { تريدون } قصداً للوصاية بالثقة بالله ورسوله والوصاية والتحذير لا يقتضيان وقوع الفعل بل يقتضيان عدمه . والمقصود التحذير من تطرق الشك في صلاحية الأحكام المنسوخة قبل نسخها لا في صلاحية الأحكام الناسخة عند وقوعها .وقوله : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } تذييل للتحذير الماضي للدلالة على أن المحذر منه كفر أو يفضي إلى الكفر لأنه ينافي حرمة الرسول والثقة به وبحكم الله تعالى ، ويحتمل أن المراد بالكفر أحوال أهل الكفر أي لا تتبدلوا بآدابكم تقلد عوائد أهل الكفر في سؤالهم كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث «الصحيحين» : " فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " وإطلاق الكفر على أحوال أهله وإن لم تكن كفراً شائع في ألفاظ الشريعة وألفاظ السلف كما قالت جميلة بنت عبد الله بن أُبَيَ زوجةُ ثابتِ بن قيس : «إني أكره الكفر» تريد الزنا ، فإذن ذكر جملة بعد جملة يؤذن بمناسبة بين الجملتين فإذا لم يكن مدلول الجملتين واضح التناسب علم المخاطب أن هنالك مناسبة يرمز إليها البليغ فهنا تعلم أن الارتداد عن الإيمان إلى الكفر معنى كلي عام يندرج تحته سؤالهم الرسول كما سأل بنو إسرائيل موسى فتكون تلك القضية كفراً وهو المقصود من التذييل المعرف في باب الإطناب بأنه تعقيب الجملة بجملة مشتملة على معناها تتنزل منزلة الحجة على مضمون الجملة وبذلك يحصل تأكيد معنى الجملة الأولى وزيادة فالتذييل ضرب من ضروب الإطناب من حيث يشتمل على تقرير معنى الجملة الأولى ويزيد عليه بفائدة جديدة لها تعلق بفائدة الجملة الأولى . وأبدعه ما أخرج مخرج الأمثال لما فيه من عُموم الحكم ووجيز اللفظ مثل هاته الآية ، وقول النابغة :ولستَ بمستبققٍ أخاً لا تُلِمُّه ... على شعَث أيُّ الرجال المهذبوالمؤكد بجملة : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } هو مفهوم جملة { أم تريدون أن تسألوا رسولكم } مفهوم الجملة التي قبلها لا منطوقها فهي كالتذييل الذي في بيت النابغة . والقول في تعدية فعل { يتبدل } مضى عند قوله تعالى : { قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } [ البقرة : 61 ] .وقد جعل قوله : { فقد ضل } جواباً لمن الشرطية لأن المراد من الضلال أعظمه وهو الحاصل عقب تبدل الكفر بالإيمان ولا شبهة في كون الجواب مترتباً على الشرط ولا يريبك في ذلك وقوع جواب الشرط فعلاً ماضياً مع أن الشرط إنما هو تعليق على المستقبل ولا اقتران الماضي بقد الدالة على تحقق المضي لأن هذا استعمال عربي جيد يأتون بالجزاء ماضياً لقصد الدلالة على شدة ترتب الجزاء على الشرط وتحقق وقوعه معه حتى إنه عند ما يحصل مضمون الشرط يكون الجزاء قد حصل فكأنه حاصل من قبل الشرط نحو :{ ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى } [ طه : 81 ] وعلى مثل هذا يحمل كل جزاء جاء ماضياً فإن القرينة عليه أن مضمون الجواب لا يحصل إلا بعد حصول الشرط وهم يجعلون قد علامة على هذا القصد ولهذا قلما خلا جواب ماض لشرط مضارع إلا والجواب مقترن بقد حتى قيل : إن غير ذلك ضرورة ولم يقع في القرآن كما نص عليه الرضي بخلافه مع قد فكثير في القرآن .وقد يجعلون الجزاء ماضياً مريدين أن حصول مضمون الشرط كاشف عن كون مضمون الجزاء قد حصل أو قد تذكره الناس نحو { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } [ يوسف : 77 ] وعليه فيكون تحقيق الجزاء في مثله هو ما يتضمنه الجواب من معنى الانكشاف أو السبق أو غيرهما بحسب المقامات قبل أن يقدر فلا تعجب إذ قد سرق أخ له ويمكن تخريج هذه الآية على ذلك بأن يقدر ومن يتبدل الكفر بالإيمان فالسبب فيه أنه قد كان ضل سواء السبيل حتى وقع في الارتداد كما تقول من وقع في المهواة فقد خبط خبط عشواء إن أريد بالماضي أنه حصل وأريد بالضلال ما حف بالمرتد من الشبهات والخذلان الذي أوصله إلى الارتداد وهو بعيد من غرض الآية .والسواء الوسط من كل شيء قال بلعاء بن قيس :غَشَّيْتُه وهو في جَأَوَاءَ باسلة ... عَضْبَاً أصاب سواءَ الرأس فانفلقاووسط الطريق هو الطريق الجادة الواضحة لأنه يكون بين بنيات الطريق التي لا تنتهي إلى الغاية .
الآية 108 - سورة البقرة: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ۗ ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل...)