سورة البقرة: الآية 177 - ۞ ليس البر أن تولوا...

تفسير الآية 177, سورة البقرة

۞ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلْكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّۦنَ وَءَاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِى ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَٰهَدُوا۟ ۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِى ٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ ۗ أُو۟لَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُوا۟ ۖ وَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ

الترجمة الإنجليزية

Laysa albirra an tuwalloo wujoohakum qibala almashriqi waalmaghribi walakinna albirra man amana biAllahi waalyawmi alakhiri waalmalaikati waalkitabi waalnnabiyyeena waata almala AAala hubbihi thawee alqurba waalyatama waalmasakeena waibna alssabeeli waalssaileena wafee alrriqabi waaqama alssalata waata alzzakata waalmoofoona biAAahdihim itha AAahadoo waalssabireena fee albasai waalddarrai waheena albasi olaika allatheena sadaqoo waolaika humu almuttaqoona

تفسير الآية 177

ليس الخير عند الله- تعالى- في التوجه في الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب إن لم يكن عن أمر الله وشرعه، وإنما الخير كل الخير هو إيمان من آمن بالله وصدَّق به معبودًا وحدَه لا شريك له، وآمن بيوم البعث والجزاء، وبالملائكة جميعًا، وبالكتب المنزلة كافة، وبجميع النبيين من غير تفريق، وأعطى المال تطوُّعًا -مع شدة حبه- ذوي القربى، واليتامى المحتاجين الذين مات آباؤهم وهم دون سن البلوغ، والمساكين الذين أرهقهم الفقر، والمسافرين المحتاجين الذين بَعُدوا عن أهلهم ومالهم، والسائلين الذين اضطروا إلى السؤال لشدة حاجتهم، وأنفق في تحرير الرقيق والأسرى، وأقام الصلاة، وأدى الزكاة المفروضة، والذين يوفون بالعهود، ومن صبر في حال فقره ومرضه، وفي شدة القتال. أولئك المتصفون بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم، وأولئك هم الذين اتقَوا عقاب الله فتجنبوا معاصيه.

«ليس البر أن تولوا وجوهكم» في الصلاة «قبل المشرق والمغرب» نزل ردا على اليهود والنصارى حيث زعموا ذلك «ولكن البرَّ» أي ذا البر وقرئ بفتح الباء أي البار «من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب» أي الكتب «والنبيين و آتى المال على» مع «حبه» له «ذوي القربى» القرابة «واليتامى والمساكين وابن السبيل» المسافر «والسائلين» الطالبين «وفي» فك «الرقاب» المكاتبين والأسرى «وأقام الصلاة وآتى الزكاة» المفروضة وما قبله في التطوع «والموفون بعهدهم إذا عاهدوا» الله أو الناس «والصابرين» نصب على المدح «في البأساء» شدة الفقر «والضراء» المرض «وحين البأس» وقت شدة القتال في سبيل الله «أولئك» الموصوفون بما ذكر «الذين صدقوا» في إيمانهم أو ادعاء البر «وأولئك هم المتقون» الله.

يقول تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ أي: ليس هذا هو البر المقصود من العباد, فيكون كثرة البحث فيه والجدال من العناء الذي ليس تحته إلا الشقاق والخلاف، وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " ونحو ذلك. وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ أي: بأنه إله واحد, موصوف بكل صفة كمال, منزه عن كل نقص. وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وهو كل ما أخبر الله به في كتابه, أو أخبر به الرسول, مما يكون بعد الموت. وَالْمَلَائِكَةِ الذين وصفهم الله لنا في كتابه, ووصفهم رسوله صلى الله عليه وسلم وَالْكِتَابِ أي: جنس الكتب التي أنزلها الله على رسوله, وأعظمها القرآن, فيؤمن بما تضمنه من الأخبار والأحكام، وَالنَّبِيِّينَ عموما, خصوصا خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم. وَآتَى الْمَالَ وهو كل ما يتموله الإنسان من مال, قليلا كان أو كثيرا، أي: أعطى المال عَلَى حُبِّهِ أي: حب المال ، بيَّن به أن المال محبوب للنفوس, فلا يكاد يخرجه العبد. فمن أخرجه مع حبه له تقربا إلى الله تعالى, كان هذا برهانا لإيمانه، ومن إيتاء المال على حبه, أن يتصدق وهو صحيح شحيح, يأمل الغنى, ويخشى الفقر، وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة, كانت أفضل, لأنه في هذه الحال, يحب إمساكه, لما يتوهمه من العدم والفقر. وكذلك إخراج النفيس من المال, وما يحبه من ماله كما قال تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فكل هؤلاء ممن آتى المال على حبه. ثم ذكر المنفق عليهم, وهم أولى الناس ببرك وإحسانك. من الأقارب الذين تتوجع لمصابهم, وتفرح بسرورهم, الذين يتناصرون ويتعاقلون، فمن أحسن البر وأوفقه, تعاهد الأقارب بالإحسان المالي والقولي, على حسب قربهم وحاجتهم. ومن اليتامى الذين لا كاسب لهم, وليس لهم قوة يستغنون بها، وهذا من رحمته [تعالى] بالعباد, الدالة على أنه تعالى أرحم بهم من الوالد بولده، فالله قد أوصى العباد, وفرض عليهم في أموالهم, الإحسان إلى من فقد آباؤهم ليصيروا كمن لم يفقد والديه، ولأن الجزاء من جنس العمل فمن رحم يتيم غيره, رُحِمَ يتيمه. وَالْمَسَاكِين وهم الذين أسكنتهم الحاجة, وأذلهم الفقر فلهم حق على الأغنياء, بما يدفع مسكنتهم أو يخففها, بما يقدرون عليه, وبما يتيسر، وَابْنَ السَّبِيلِ وهو الغريب المنقطع به في غير بلده، فحث الله عباده على إعطائه من المال, ما يعينه على سفره, لكونه مظنة الحاجة, وكثرة المصارف، فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته, وخوله من نعمته, أن يرحم أخاه الغريب, الذي بهذه الصفة, على حسب استطاعته, ولو بتزويده أو إعطائه آلة لسفره, أو دفع ما ينوبه من المظالم وغيرها. وَالسَّائِلِينَ أي: الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج, توجب السؤال، كمن ابتلي بأرش جناية, أو ضريبة عليه من ولاة الأمور, أو يسأل الناس لتعمير المصالح العامة, كالمساجد, والمدارس, والقناطر, ونحو ذلك, فهذا له حق وإن كان غنيا وَفِي الرِّقَابِ فيدخل فيه العتق والإعانة عليه, وبذل مال للمكاتب ليوفي سيده, وفداء الأسرى عند الكفار أو عند الظلمة. وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ قد تقدم مرارا, أن الله تعالى يقرن بين الصلاة والزكاة, لكونهما أفضل العبادات, وأكمل القربات, عبادات قلبية, وبدنية, ومالية, وبهما يوزن الإيمان, ويعرف ما مع صاحبه من الإيقان. وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا والعهد: هو الالتزام بإلزام الله أو إلزام العبد لنفسه. فدخل في ذلك حقوق الله كلها, لكون الله ألزم بها عباده والتزموها, ودخلوا تحت عهدتها, ووجب عليهم أداؤها, وحقوق العباد, التي أوجبها الله عليهم, والحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور, ونحو ذلك. وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ أي: الفقر, لأن الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة, لكونه يحصل له من الآلام القلبية والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره. فإن تنعم الأغنياء بما لا يقدر عليه تألم، وإن جاع أو جاعت عياله تألم، وإن أكل طعاما غير موافق لهواه تألم، وإن عرى أو كاد تألم, وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه من المستقبل الذي يستعد له تألم, وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألم. فكل هذه ونحوها, مصائب, يؤمر بالصبر عليها, والاحتساب, ورجاء الثواب من الله عليها. وَالضَّرَّاءِ أي: المرض على اختلاف أنواعه, من حمى, وقروح, ورياح, ووجع عضو, حتى الضرس والإصبع ونحو ذلك, فإنه يحتاج إلى الصبر على ذلك؛ لأن النفس تضعف, والبدن يألم, وذلك في غاية المشقة على النفوس, خصوصا مع تطاول ذلك, فإنه يؤمر بالصبر, احتسابا لثواب الله [تعالى]. وَحِينَ الْبَأْسِ أي: وقت القتال للأعداء المأمور بقتالهم, لأن الجلاد, يشق غاية المشقة على النفس, ويجزع الإنسان من القتل, أو الجراح أو الأسر, فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتسابا, ورجاء لثواب الله [تعالى] الذي منه النصر والمعونة, التي وعدها الصابرين. أُولَئِكَ أي: المتصفون بما ذكر من العقائد الحسنة, والأعمال التي هي آثار الإيمان, وبرهانه ونوره, والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية، فأولئك هم الَّذِينَ صَدَقُوا في إيمانهم, لأن أعمالهم صدقت إيمانهم، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لأنهم تركوا المحظور, وفعلوا المأمور؛ لأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير, تضمنا ولزوما, لأن الوفاء بالعهد, يدخل فيه الدين كله، ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية أكبر العبادات، ومن قام بها, كان بما سواها أقوم, فهؤلاء هم الأبرار الصادقون المتقون. وقد علم ما رتب الله على هذه الأمور الثلاثة, من الثواب الدنيوي والأخروي, مما لا يمكن تفصيله في [مثل] هذا الموضع.

اشتملت هذه الآية الكريمة ، على جمل عظيمة ، وقواعد عميمة ، وعقيدة مستقيمة ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبيد بن هشام الحلبي ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عامر بن شفي ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد ، عن أبي ذر : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الإيمان ؟ فتلا عليه : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم ) إلى آخر الآية . قال : ثم سأله أيضا ، فتلاها عليه ثم سأله . فقال : " إذا عملت حسنة أحبها قلبك ، وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك " .وهذا منقطع ; فإن مجاهدا لم يدرك أبا ذر ; فإنه مات قديما .وقال المسعودي : حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، قال : جاء رجل إلى أبي ذر ، فقال : ما الإيمان ؟ فقرأ عليه هذه الآية : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم ) حتى فرغ منها . فقال الرجل : ليس عن البر سألتك . فقال أبو ذر : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه ، فقرأ عليه هذه الآية ، فأبى أن يرضى كما أبيت [ أنت ] أن ترضى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار بيده : " المؤمن إذا عمل حسنة سرته ورجا ثوابها ، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها " .رواه ابن مردويه ، وهذا أيضا منقطع ، والله أعلم .وأما الكلام على تفسير هذه الآية ، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس ، ثم حولهم إلى الكعبة ، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين ، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك ، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل ، وامتثال أوامره ، والتوجه حيثما وجه ، واتباع ما شرع ، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل ، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة ، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه ; ولهذا قال : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ) الآية ، كما قال في الأضاحي والهدايا : ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) [ الحج : 37 ] .وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية : ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا . فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود ، فأمر الله بالفرائض والعمل بها .وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك .وقال أبو العالية : كانت اليهود تقبل قبل المغرب ، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق ، فقال الله تعالى : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ) يقول : هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل . وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله .وقال مجاهد : ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله ، عز وجل .وقال الضحاك : ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها .وقال الثوري : ( ولكن البر من آمن بالله ) الآية ، قال : هذه أنواع البر كلها . وصدق رحمه الله ; فإن من اتصف بهذه الآية ، فقد دخل في عرى الإسلام كلها ، وأخذ بمجامع الخير كله ، وهو الإيمان بالله ، وهو أنه لا إله إلا هو ، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله ) والكتاب ) وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء ، حتى ختمت بأشرفها ، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب ، الذي انتهى إليه كل خير ، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ، ونسخ [ الله ] به كل ما سواه من الكتب قبله ، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .وقوله : ( وآتى المال على حبه ) أي : أخرجه ، وهو محب له ، راغب فيه . نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف ، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا : " أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى ، وتخشى الفقر " .وقد روى الحاكم في مستدركه ، من حديث شعبة والثوري ، عن منصور ، عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وآتى المال على حبه ) أن تعطيه وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى وتخشى الفقر " . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .قلت : وقد رواه وكيع عن الأعمش ، وسفيان عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود ، موقوفا ، وهو أصح ، والله أعلم .وقال تعالى : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) [ الإنسان : 8 ، 9 ] .وقال تعالى : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) [ آل عمران : 92 ] وقوله : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ الحشر : 9 ] نمط آخر أرفع من هذا [ ومن هذا ] وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه ، وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له .وقوله : ( ذوي القربى ) وهم : قرابات الرجل ، وهم أولى من أعطى من الصدقة ، كما ثبت في الحديث : " الصدقة على المساكين صدقة ، وعلى ذوي الرحم ثنتان : صدقة وصلة " . فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك . وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير ما موضع من كتابه العزيز .( واليتامى ) هم : الذين لا كاسب لهم ، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب ، وقد قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن النزال بن سبرة ، عن علي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يتم بعد حلم " .( والمساكين ) وهم : الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم ، فيعطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه .( وابن السبيل ) وهو : المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده ، وكذا الذي يريد سفرا في طاعة ، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ، ويدخل في ذلك الضيف ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنه قال : ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين ، وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو جعفر الباقر ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك والزهري ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان .( والسائلين ) وهم : الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات ، كما قال الإمام أحمد :حدثنا وكيع وعبد الرحمن ، قالا حدثنا سفيان ، عن مصعب بن محمد ، عن يعلى بن أبي يحيى ، عن فاطمة بنت الحسين ، عن أبيها - قال عبد الرحمن : حسين بن علي - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للسائل حق وإن جاء على فرس " . رواه أبو داود .( وفي الرقاب ) وهم : المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم .وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف في آية الصدقات من براءة ، إن شاء الله تعالى . وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا شريك ، عن أبي حمزة ، عن الشعبي ، حدثتني فاطمة بنت قيس : أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفي المال حق سوى الزكاة ؟ قالت : فتلا علي ( وآتى المال على حبه ) .ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن أبي إياس ، ويحيى بن عبد الحميد ، كلاهما ، عن شريك ، عن أبي حمزة عن الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " في المال حق سوى الزكاة " ثم تلا ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ) إلى قوله : ( وفي الرقاب )[ وقد أخرجه ابن ماجه والترمذي وضعف أبا حمزة ميمونا الأعور ، قال : وقد رواه بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي ] .وقوله : ( وأقام الصلاة وآتى الزكاة ) أي : وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها ، وسجودها ، وطمأنينتها ، وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي .وقوله : ( وآتى الزكاة ) يحتمل أن يكون المراد به زكاة النفس ، وتخليصها من الأخلاق الدنية الرذيلة ، كقوله : ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) [ الشمس : 9 ، 10 ] وقول موسى لفرعون : ( هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى ) [ النازعات : 18 ، 19 ] وقوله تعالى : ( وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ) [ فصلت : 6 ، 7 ] .ويحتمل أن يكون المراد زكاة المال كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ، ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة ; ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس : أن في المال حقا سوى الزكاة ، والله أعلم .وقوله : ( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ) كقوله : ( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ) [ الرعد : 20 ] وعكس هذه الصفة النفاق ، كما صح في الحديث : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " . وفي الحديث الآخر : " إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " .وقوله : ( والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ) أي : في حال الفقر ، وهو البأساء ، وفي حال المرض والأسقام ، وهو الضراء . ( وحين البأس ) أي : في حال القتال والتقاء الأعداء ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو العالية ، ومرة الهمداني ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسدي ، ومقاتل بن حيان ، وأبو مالك ، والضحاك ، وغيرهم .وإنما نصب ( والصابرين ) على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته ، والله أعلم ، وهو المستعان وعليه التكلان .وقوله : ( أولئك الذين صدقوا ) أي : هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم ; لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال ، فهؤلاء هم الذين صدقوا ( وأولئك هم المتقون ) لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات .

ثم ساق القرآن الكريم آية جامعة لأنواع البر ، ووجوه الخير ، تهدي المتمسك بها إلى السعادة الدنيوية والأخروية فقال - تعالى - :( لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر . . . )( البر ) : اسم جامع لكل خير ، ولكل طاعة وقربة يتقرب بها العبد إلى خالقه - عز وجل- .قال الراغب : " البر - بفتح الباء - خلاف البحر ، وتصور منه التوسع فاشتق منه البر - بكسر الباء - بمعنى التوسع في فعل الخير ، وينسب ذلك إلى الله - تعالى - تارة نحو : ( إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم ) وإلى البعد تارة فيقال : بر العبد ربه ، أي توسع في طاعته فالبر من الله الثواب ، ومن العبد الطاعة " .وتولية الوجوه قبل الشيء معناه : التوجه إليه بجعل الوجه متجها إلى جهته فلفظ " قيل " بمعنى جهة وهو منصوب على الظرفية المكانية .( المشرق ) : الجهة التي تشرق منها الشمس ، والمغرب : الجهة التي تغرب فيها .قال الإِمام الرازي : اختلف العلماء في أن هذا الخطاب عام أو خاص . فقال بعضهم : أراد بقوله : ( لَّيْسَ البر ) أهل الكتاب لما شددوا في الثبات على التوجه بنحو بيت المقدس فقال - تعالى - ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله . وقال بعضهم : بل المراد مخاطبته المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك فخوطبوا بهذا الكلام وقال بعضهم : بل هو خطاب للكل ، لأن عند نسخ القبلة وتحويلها حصل من المؤمنين الاغتباط بهذه القبلة ، وحصل منهم التشدد في تلك القبلة حتى ظنوا أنه الفرض الأكبر في الدين ، فبعثهم الله - تعالى - بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات ، وبين أن البر ليس بأن تولوا وجوهكم شرقاً وغرباً ، وإنما البر . كيت وكيت . وهذا أشبه بالظاهر إذ لا تخيصيص فيه ، فكأنه - تعالى - قال : ليس البر المطلوب هو أمر القبلة ، بل البر المطلوب هو هذه الخصال التي عدها " .وهذا القول الثالث - الذي يرى أصحابه أن الخطاب للكل ، والذي قال عنه الإِمام الرازي : هذا أشبه بالظاهر - هذا القول ، هو الذي تسكن إليه النفس ، لأنه لا يوجد نص صحيح يخصص الخطاب لطائفة معينة من الناس ولأن المقصود من الآية الكريمة إنما هو إفهام الناس في كل زمان ومكان أن مجرد تولية الوجه إلى قبلة مخصوصة ليس هو البر الكامل الذي يعنيه الإِسلام ، وإنما البر الكامل يتأنى في استجابة الإِنسان لتلك الخصال الشريفة التي اشتملت عليها الآية ، تلك الخصال التي تجعل المسكين بها على صلة طيبة بخالقهم وعلى صلة طيبة بغيرهم ، - كما سنبين ذلك عند تعليقنا على هذه الآية الكريمة- .والمعنى : ليس البر - الذي هو كل طاعة يتقرب بها الإِنسان إلى خالقه - في تولية الوجه عند الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب ، وإنما البر الذي يجب الاهتمام به لأنه يؤدي إلى السعادة والفلاح - يكون في الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وفي إنفاق المال في وجوه الخير ، وفي اتباع ما ذكرته الآية الكريمة من خصال جليلة .هذا وقد قرأ حمزة وحفص عن عاصم ( لَّيْسَ البر ) بنصب البر على أنه خبر ليس ، واسمها قوله - تعالى - : ( أَن تُوَلُّواْ ) أي : ليس توليتكم وجهوهكم قبل المشرق والمغرب البر كله .وقرأ الباقون ( لَّيْسَ البر ) برفع البر على أنه اسم ليس ، وخبرها قوله - تعالى - : ( أَن تُوَلُّواْ ) أي ليس البر كله توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب .قال الطبرسي : وكلا المذهبين حسن ، لأن كل واحد من اسم ليس وخبرها معرفة ، فإذا اجتمعا في التعريف تكافآ في كون أحدهما اسما والآخر خبراً كما تتكافأ النكرتان .وقوله - تعالى - ( ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ) إلخ بيان لما هو البر الذي يجب أن تتجه إليه الأفكار ، وتستجيب له النفوس .و ( ولكن ) حرف استدراك ، البر : اسمها . وقوله ( مَنْ آمَنَ ) وقع في اللفظ موقع الخبر عن قوله ( البر ) والخبر في المعنى لفظ مقدر مضاف إلى من آمن ، يفهم من سياق الجملة ، والمعنى مع ملاحظة المقدر : ولكن البر بر من آمن بالله .وهذا اللون من الإِيجاز الذي حذف فيه المضاف معهود في كلام البلغاء إذ تجدهم يقولون السخاء حاتم ، والشعر زهير .وقيل : إن البر هنا بمعنى البار فجعل المصدر في موضع اسم الفاعل ، كما يقال : ماء غور أي : غائر ، ورجل صوم أي : صائم .وقيل : إن المحذوف هو لفظ مضاف إلى البر : أي : ولكن ذا البر من آمن بالله .وقد ابتدأت الآية حديثها عن خصال البر بالإِيمان بالله ، لأنه أساس كل بر . وأصل كل خير ، والإِيمان بالله : هو التصديق بأنه هو الواحد الفرد الصمد ، الذي لا تعنو الوجوه إلا له ، ولا تتجه القلوب بالعبادة إلا إليه ، ومتى رسخ هذا الإِيمان في النفوس ارتفع بها إلى مكانة التكريم التي أرادها الله - تعالى - لبني آدم وصانها عن الذلة والاستكانة وأعطاها بنراس الهداية والسداد في كل نواحي الحياة .ثم ذكرت الإِيمان باليوم الآخر ، وهو التصديق بالبعث وما يقع بعده من حساب وثواب وعقاب على الوجه الذي وصفته نصوص الشريعة بأجلى بيان .والإِيمان باليوم الآخر من ثماره أنه يغرس في النفوس محبة الخير ، والحرص على إسداء المعروف وينفرها من اقتراف الشرور وارتكاب الآثام .ولقد تحدث القرآن عن الإِيمان بالله واليوم الآخر في عشرات الآيات ، وأقام الأدلة الساطعة ، والبراهين القاطعة على وحدانية الله وعلى أنه هو صاحب الكمال المطلق ، كما أقام الحجج والبراهين على أن البعث حق وضرب الأمثال لذلك ، وسفه عقول المنكرين له .ثم ذكرت الإِيمان بالملائكة والملائكة : أجسام لطيفة نورانية ، قادرون على التشكل في صورة حسنة مختلفة ، وصفهم القرآن بأنهم( لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ووجه دخول التصديق بهم في حقيقة الإِيمان ، أن الله وسطهم في إبلاغ وحيه لأنبيائه ، وبين ذلك في كتابه ، وتحدث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عنهم في كثير من أحاديثه ، فمن لم يؤمن بالملائكة على هذا الوجه الذي جاءت به الشريعة فقد أنكر الوحي ، إذ الإِيمان بهم أصل للإِيمان بالوحي ، فيلزم من إنكارهم إنكار الوحي ، وهو يستلزم إنكار النبوة وإنكار الدار الآخرة .ثم ذكرت الآية الإِيمان بالكتاب . والمراد به القرآن لأنه المقصود بالدعوة ، ولأنه هو الأمين على الكتب قبله ، فما وافقه منها كان حقاً وما خالفه كان باطلا .والإِيمان به يستلزم الإِيمان بجميع الكتب المنزلة من عند الله على أنبيائه ، لأنه هو الذي أخبرنا بذلك وأمرنا بذلك وأمرنا بأن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله .ثم ذكرت الإِيمان بالنبيين ، أي : التصديق بأنهم رجال اصطفاهم الله - تعالى - لتلقي هدايته وكتبه وتبليعها للناس بصدق وأمانة وسلامة بصيرة .والنبيون الذين يجب الإِيمان بهم : كل من ثبتت نبوته عن طريق القرآن الكريم أو الحديث الصحيح ، وكل من أنكر نبوة نبي قد ثبت نبوته فقد خرج عن طريق الإِيمان .ولقد قام الدليل القاطع على أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين والمرسلين ، وكل من ادعى غير ذلك فهو من الضالين المضلين .وقد جمعت هذه الأمور الخمسة التي ذكرتها الآية كل ما يلزم أن يصدق به الإِنسان ، ليك يكون ذا عقيدة سليمة ، تصل به إلى الفلاح والسعادة .ثم ذكرت الآية بعد بيان أصول الإِيمان الأعمال الصالحة فقالت . ( وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب ) .وهذه الجملة معطوفة على قوله - تعالى - : ( مَنْ آمَنَ بالله ) .والضمير في قوله ( على حُبِّهِ ) يعود إلى المال ، أي : أعطى المال وبذله عن طيب خاطره حالة كونه محباً له راغباً فيه . لأن الإِعطاء والبذل في هذه الحالة يدل على قوة الإِيمان ، وصفاء الوجدان ، ويسمو بصاحبه إلى أعلا الدرحات . قال - تعالى - : ( لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصدقة ما كان في حال الصحة ، لأن الإِنسان في هذه الحالة يكون مظنة الحاجة إلى المال فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا رسول الله ، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال : " أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا وكذا وقد كان لفلان " " .وقيل الضمير يعود إلى الله - عز وجل - أي : يعطون المال على حب الله وطلباً لمرضاته .وقيل يعود إلى الإيتاء الذي دل عليه قوله - تعالى - ( وَآتَى المال ) فكأنه قال : يعطيى ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله .والمراد بذوي القربى : أقرباء المعطى للمال ، والمعنى : وأعطاى المال مع محبته لهذا المال لأقاربه المحتاجبين لأنهم أولى بالمعروف ، ولأن إعطاءهم إحسان وصلة رحم ، ولذلك جاء ذكرهم في الآية مقدماً على بقية الأصناف التي تستحق العطف والإِحسان .روى الإِمام أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن سليمان بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدقة على المسكين صدقة . وعلى ذي الرحم اثنتان : صدقة وصلة " .( واليتامى ) : جمع يتيم ، وهو من فقد أباه بالموت ولم يبلغ الحلم . وهؤلاء اليتامى في حاجة إلى الإِحسان إليهم بعد ذوي القربى متى كانوا محتاجين ، لشدة عجزهم عن كسب ما يسد حاجتهم .( والمساكين ) جمع مسكين ، وهو من لا يملك شيئاً من المال ، أو يملك ما لا يكفي حاجاته وهذا النوع من الناس في حاجة إلى العناية والرعاية؛ لأنهم في الغالب يفضلون الاكتفاء بالقليل على إراقة وجهوههم بالسؤال . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان . قالوا : فما المسكين يا رسول الله؟ قال الذي لا يجد غني يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئاً " .( وابن السبيل ) : هو المسافر المنقطع عن ماله . وسمى بذلك - كما قال الآلوسي - لملازمته السبيل - أي الطريق - في السفر ، أو لأن الطريق تبرزة فكأنها ولدته وكأن إفراده لانفراده عن أحبابه ووطنه فهو أبدا يتوق إلى الجمع ، ويشتاق إلى الربع ، والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف إلى عطنه .وهذا النوع من الناس في حاجة إلى المساعدة والمعاونة حتى يستطيع الوصول إلى بلده ، وفي هذا تنبيه إلى المسلمين وإن اختلفت أوطانهم ينبغي أن يكونوا في التعاطف والتعاون على متاعب الحياة كالأسرة الواحدة .( والسآئلين ) : جمع سائل ، وهو الطالب للإِحسان والمعروف . ويحمل حاله على أنه في حاجة إلى المعاونة ، لأن السؤال علامة الحاجة غالباً .والرقاب : جمع رقبة وهي في الأصل العنق ، وتطلق على البدن كله كما تطلق العين على الجاسوس . فصح حمل الرقاب على الأسارى والأرقاء .وقوله : ( وَفِي الرقاب ) متعلق بآتي ، أي : آتى المال على حبه في تخليص الأسرى من أيدي العدو بفدائهم ، وتخليص الأرقاء بشرائهم وإعتاقهم ، وهذه الأوصناف الستة التي ذكرت في تلك الآية الكريمة ( وَآتَى المال على حُبِّهِ . . ) إلخ .ليس المقصود من ذكرها الاستيعاب والحصر ، ولكنها ذكرت كأمثلة وخصت بالذكر لأنها أحوج من غيرها إلى العون والمساعدة .والذي يراجع القرآن الكريم يجده قد عني عناية كبرى بالفقراء والمساكين وجميع أصناف المحتاجين حتى لا تكاد سورة من سوره تخلو من الحث على الإِنفاق عليهم ، وبذل العون في مساعدتهم - وأيضاً - هناك عشرات الأحاديث في الحض على مد يد العون إلى ذوي القرابة والمعسرين ، وذلك لأن المجتمعات تحيا وتنهض بالتراحم ، وتذل وتشقى بالتقاطع والتدابر بين أبنائها .ثم ذكرت الآية ألواناً أخرى من البر تدل على قوة الإِيمان وحسن الخلق فقالت : ( وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة ) وإقامة الصلاة أداؤها في مواقيتها مستوفية لأركانها وسننها وخشوعها على الوجه الشرعي الذي أمر الله به ، والمراد بالزكاة هنا ، الزكاة المفروضة على الوجه الذي فصلته السنة المطهرة . وإبتاؤها : يكون بإعطائها لمستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهم ممن ذكرهم الله في قوله - تعالى - : ( إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبُهُمْ وَفِي الرقاب والغارمين وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل فَرِيضَةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) وفي ذكر الزكاة المفروضة بعد ذكر إيتاء المال على حبه لذوي القربى واليتامى . . إلخ دليل على أن في الأموال حقوقاً لذوي الحاجات سوى الزكاة ، وذلك لأنه من المعروف بين أهل العلم أن الحاجة إذا بلغت بطائفة من أبناء الأمة حد الضرورة ، يجب على الأغنياء منها أن يسعو في سدها ولو مما زاد على قدر الزكاة .والأغنياء الذين يكتفون بدفع الزكاة ، ولا يمدون يد المساعدة لسد حاجة المحتاجين ، وتفريج كرب المكروبين ، ودفع ضرورة البائسين ، ليسوا على البر الذي يريده الله من عباده المتقين .ومسألة " هل في المال حق سوى الزكاة " من المسائل التي تناولها بعض العلماء بالشرح والتفصيل .وقوله : ( والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ) معطوف على قوله ( مَنْ آمَنَ ) فإنه في قوة قولك ، ومن أوفوا بعهدهم ، وأوثرت صيغة اسم الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء .الوفاء بالعهد يشمل ما عاهد المؤمنمون عليه الله من الإِعان لكل ما جاء به الدين ، ويشمل ما يعاهد به الناس بعضهم بعضاً مما لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً .والموفون بعهدهم هم الذين إذا وعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا بروا في أيمانهم ، وإذا قالوا صدقوا في قولهم ، وإذا ائتمنوا أدوا الأمانة ، وقد وعدهم الله على ذلك بأجزل الثواب ، وأعلى الدرجات .وفي قوله - تعالى - : ( إِذَا عَاهَدُواْ ) إشارة إلى أن إيفاءهم بالعهد لا يتأخر عن وقت حصول العهد .ثم ختم - سبحانه - خصال البر بقوله : ( والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس ) .البأساء من البؤس ، وهي ما يصيب الناس في الأموال كالفقر والاحتياج . يقال : بئس يبأس بؤساً وبأساً أي اشتدت حاجته .والضراء من الضر ، وهي ما يصيبهم في أنفسهم كالأمراض والأسقام يقال : ضره وأضره وضاره وضراً ، ضد نفع : والألف في البأساء والضراء للتأنيث .وحين البأس ، أي : ووقت القتال في سبيل الله لإعلاء كلمته ، يقال : بؤس ببؤس بأسا فهو بئيس ، أي : شجاع شديد .وقوله : ( والصابرين ) معطوف في المعنى على ( مَنْ آمَنَ ) كقوله ( والموفون ) إلا أنه جاء منصوبا على المدح بتقدير - أخص أو أمدح - وغير سبكه عما قبله ، تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على غيره من الفضائل حتى لكأنه ليس من جنس ما سبقه من فضائل ، وهذا الأسلوب يسمى عند علماء اللغة العربية بالقطع ، وهو أبلغ من الإِتباع . ولا ريب في أن صفة الصبر على الشدائد والآلام وحين القتال في سبيل الله ، جديرة بأنه ينبه لمزيد فضلها ، إذ هي أصل لكثير من المكارم كالعفاف عما في أيدي الناس ، والتسليم للقضاء الذي لا مرد له ، والإِقدام الذي يحمي به الدين وتسلم به النفوس والأموال والأعراض :وليس الصبر هو الخضوع والاستكانة والاستسلام من غير مقاومة ولا عمل وإنما الصبر جهاد ومحاولة للتغلب على المصاعب ، ومع الاحتفاظ برباطة الجأش والثقة بحسن العاقبة .وقد خصت الآية ثلاثة حالات بالصبر؛ لأن هذه الحالات هي أبرز الأشياء التي يظهر فيها هلع الهالعين وجزع الجازعين ، كما يتميز فيها أصحاب النفوس القوية المطمئنة من غيرهم .وجاءت كلمة " حين " في قوله : ( وَحِينَ البأس ) مشيرة إلى أن مزية الصبر في القتال إنما تظهر حين يلتقى الجمعان ، وتدور رحى الحرب ، لأن بعض الناس قد يكون قوياً في بدنه ، وقد يحشر نفسه في زمرة الأبطال المقاتلين ، ولكنه عندما يرى الأعناق تتساقط من حوله تخور قواه ، ويلوذ بالفرار ، أو يستسلم للعدو . وفي هذه الحالة تسلب عنه صفة الصابرين حين البأس . وتحق عليه صفة الضعفاء الجبناء .وقد جاءت أنواع الصبر في الآية على وجه الترقي من الشديد إلى الأشد ، وذلك لأن الصبر على المرض أصعب من الصبر على الفقر ، والصبر حين البأس أصعب من الصبر على المرض . ثم ختمت الآية حديثها عن هؤلاء الجامعين لهذه الخصال بقوله تعالى : ( أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون ) .أولئك اسم إشارة للجمع ، وقد أشير به إلى من تقدم ذكرهم من الجامعين لخصال البر . والصدق توصف به الأقوال المطابقة للواقع ، وتوصف به الأعمال الواقعة على الوجه الذي يرضى الله - تعالى- .والمتقون من الاتقاء وهو الحذر ، ويطلق المتقى في كلام الشارع على الإِنسان الذي صان نفسه عن كل ما يغضب الله ، وامتثل لأوامره ونواهيه .أي : أولئك الذين تقدم ذكرهم من المحرزين لخصال البر هم الصادقون في إيمانهم وفي كل أحوالهم ، وأولئك هم المتقون لعذاب الله - تعالى - بسبب امتثالهم لأوامره ، واجتنابهم لما نهى عنه .واسم الإشارة ( أولئك ) جيء به لإحضارهم في أذهان المخاطبين وهم متصفون بتلك المناقب الجليلة .وفي تكرير الإِشارة زيادة تنويه بشأنهم وفضلهم . وجاء الإِخبار عنهنم بأنهم الصادقون المتقون ، لتشيرهم بأنهم قد بلغوا بإحرازهم لتلك الخصال السابقة الغاية التي يطمح إليها أرباب البصائر المستنيرة ، والنفوس المستقيمة ، والقلوب السليمة ، وهي مقام الصدق والتقوى الذي يرتفع بصاحبه إلى السعادة في الدنيا ، والنعيم الدائم في الآخرة .هذا وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على خمسة عشر نوعاً من أنواع البر الذي يهدي إلى الحياة السعيدة في الدنيا ، وإلى رضا الله - تعالى - في الآخرة ، وذلك لأنها قد أرشدت إلى أن البر أنواع ثلاثة جامعة لكل خير : بر في العقيدة ، وبر في العمل ، وبر في الخلق .أما بر العقيدة فقد بينته أكمل بيان في قوله - تعالى - : ( وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب ) .ولا شك أن إنفاق المال في تلك الوجوه من شأنه أن يسعد الأفراد والجماعات والأمم ، ويكون مظهراً من أفضل مظاهر العمل الصالح الذي يرضي الله - تعالى - .وأما بر الخلق فقد ذكرته بأحكم عبارة في قوله - تعالى - : ( وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس ) .وذلك لأن التمسك بهذه الفضائل . أداء الصلاة وإيتاء الزكاة . والوفاء بالعهود ، والتذرع بالصبر - يدل على صفاء الإِيمان وطهارة الوجدان وحسن الخلق وكمال الاستقامة .وهكذا تجمع آية واحدة من كتاب الله بين بر العقيدة وبر العمل وبر الخلق ، وتربط بين الجميع برباط واحد لا ينفصم ، ونضع على هذا كله عنواناً واحداً " البر " وتمدح من استجمع أنواعه بالصدق والتقوى .فلله هذا الاستقراء البديع ، وذلك التوجيه السديد ، الذي يشهد أن هذا القرآن من عند الله ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً ) وبعد أن بين - سبحانه - أن البر الجامع لألوان الخير يتجلى في الإِيمان بالله واليوم الآخر . . وفي بذل المال في وجوه الخير ، وفي المحافظة على فرائضة - سبحانه - وفي غير ذلك من أنواع الطاعات التي ذكرتها الآية السابقة بعد كل

قوله تعالى : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ) قرأ حمزة وحفص : ليس البر بنصب الراء والباقون برفعها فمن رفعها جعل ( البر ) اسم ليس وخبره قوله : أن تولوا تقديره ليس البر توليتكم وجوهكم ، : كقوله تعالى " ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا " ( 25 - الجاثية ) والبر كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية فقال قوم عنى بها اليهود والنصارى ، وذلك أن اليهود كانت تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس والنصارى قبل المشرق وزعم كل فريق منهم أن البر في ذلك فأخبر الله تعالى أن البر غير دينهم وعملهم ولكنه ما بينه في هذه الآية وعلى هذا القول قتادة ومقاتل بن حيان . وقال الآخرون المراد بها المؤمنون وذلك أن الرجل كان في ابتداء الإسلام قبل نزول الفرائض إذا أتى بالشهادتين وصلى الصلاة إلى أي جهة كانت ثم مات على ذلك وجبت له الجنةولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض وحددت الحدود وصرفت القبلة إلى الكعبة أنزل الله هذه الآية فقال : ( ليس البر ) أي كله أن تصلوا قبل المشرق والمغرب ولا تعملوا على غير ذلك ( ولكن البر ) ما ذكر في هذه الآية وعلى هذا القول ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك . ( ولكن البر ) قرأ نافع وابن عامر ولكن خفيفة النون البر رفع وقرأ الباقون بتشديد النون ونصب البر .قوله تعالى ( من آمن بالله ) جعل من وهي اسم خبرا للبر وهو فعل ولا يقال البر زيد واختلفوا في وجهه ، قيل لما وقع من في موضع المصدر جعله خبرا للبر كأنه قال ولكن البر الإيمان بالله والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل وأنشد الفراء :لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ولكنما الفتيان كل فتى نديفجعل نبات اللحى خبرا للفتى وقيل فيه إضمار معناه ولكن البر بر من آمن بالله فاستغنى بذكر الأول عن الثاني كقولهم الجود حاتم أي الجود جود حاتم وقيل معناه ولكن ذا البر من آمن بالله كقوله تعالى : " هم درجات عند الله " ( 163 - آل عمران ) أي ذو درجات وقيل معناه ولكن البار من آمن بالله كقوله تعالى " والعاقبة للتقوى " ( 132 - طه ) أي للمتقي والمراد من البر هاهنا الإيمان والتقوى( واليوم الآخر والملائكة ) ( كلهم والكتاب ) يعني الكتب المنزلة ( والنبيين ) أجمع ( وآتى المال ) أعطى المال ( على حبه ) اختلفوا في هذه الكناية فقال أكثر أهل التفسير : إنها راجعة إلى المال أي أعطى المال في حال صحته ومحبته المال قال ابن مسعود : أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقرأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا موسى بن إسماعيل أخبرنا عبد الواحد ثنا عمارة بن القعقاع أنا أبو زرعة أخبرنا أبو هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا ؟ قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان .وقيل هي عائدة على الله عز وجل أي على حب الله تعالى( ذوي القربى ) أهل القرابةأخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أخبرنا أبو العباس المحبوبي أخبرنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا قتيبة أخبرنا سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن عمها سلمان بن عامر ، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان : صدقة وصلة " .قوله تعالى ( واليتامى والمساكين وابن السبيل ) قال مجاهد : يعني المسافر المنقطع عن أهله يمر عليك ويقال للمسافر ابن السبيل لملازمته الطريق وقيل هو الضيف ينزل بالرجل قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه . . . "( والسائلين ) يعني الطالبينأخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبي بجيد الأنصاري وهو عبد الرحمن بن بجيد عن جدته وهي أم بجيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ردوا السائل ولو بظلف محرق " وفي رواية قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لم تجدي شيئا إلا ظلفا محرقا فادفعيه إليه " قوله تعالى ( وفي الرقاب ) يعني المكاتبين قاله أكثر المفسرين وقيل عتق النسمة وفك الرقبة ، وقيل فداء الأسارى ( وأقام الصلاة وآتى الزكاة ) وأعطى الزكاة ( والموفون بعهدهم ) فيما بينهم وبين الله عز وجل وفيما بينهم وبين الناس ( إذا عاهدوا ) يعني إذا وعدوا أنجزوا وإذا حلفوا ونذروا أوفوا وإذا عاهدوا أوفوا وإذا قالوا صدقوا وإذا ائتمنوا أدوا واختلفوا في رفع قوله والموفون ، قيل هو عطف على خبر معناه ولكن ذا البر المؤمنون والموفون بعهدهم وقيل تقديره وهم الموفون كأنه عد أصنافا ثم قال هم والموفون كذا ، وقيل رفع على الابتداء والخبر يعني وهم الموفون ثم قال ( والصابرين ) وفي نصبها أربعة أوجهقال أبو عبيدة : نصبها على تطاول الكلام ومن شأن العرب أن تغير الإعراب إذا طال الكلام والنسق ومثله في سورة النساء " والمقيمين الصلاة " ( سورةالمائدة - 162 ( والصابئون والنصارى ) ، وقيل معناه أعني الصابرين ، وقيل نصبه نسقا على قوله ذوي القربى أي وآتى الصابرينوقال الخليل : نصب على المدح والعرب تنصب الكلام على المدح والذم [ كأنهم يريدون إفراد الممدوح والمذموم فلا يتبعونه أول الكلام وينصبونه فالمدح كقوله تعالى " والمقيمين الصلاة " ] ( 162 - النساء ) .والذم كقوله تعالى " ملعونين أينما ثقفوا " ( 61 - الأحزاب ) .قوله تعالى ( في البأساء ) أي الشدة والفقر ( والضراء ) المرض والزمانة ( وحين البأس ) أي القتال والحربأخبرنا المطهر بن علي بن عبد الله الفارسي أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الصالحاني أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي أخبرنا علي بن الجعد أخبرنا زهير عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه . يعني إذا اشتد الحرب ( أولئك الذين صدقوا ) في إيمانهم ( وأولئك هم المتقون ) .

ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون فيه ثمان مسائل :الأولى : قوله تعالى : ليس البر اختلف من المراد بهذا الخطاب فقال قتادة : ذكر لنا أن رجلا سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البر ، فأنزل الله هذه الآية . قال : وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، ثم مات على ذلك وجبت له الجنة ، فأنزل الله هذه الآية ، وقال الربيع وقتادة أيضا : الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي ، فاليهود إلى المغرب قبل بيت المقدس ، والنصارى إلى المشرق مطلع الشمس ، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليتها ، فقيل لهم : ليس البر ما أنتم فيه ، ولكن البر من آمن بالله .الثانية : قرأ حمزة وحفص " البر " بالنصب ; لأن ليس من أخوات كان ، يقع بعدها المعرفتان فتجعل أيهما شئت الاسم أو الخبر ، فلما وقع بعد ليس : البر نصبه ، وجعل أن تولوا الاسم ، وكان المصدر أولى بأن يكون اسما لأنه لا يتنكر ، والبر قد يتنكر والفعل أقوى في التعريف . وقرأ الباقون " البر " بالرفع على أنه اسم ليس ، وخبره أن تولوا ، تقديره ليس البر توليتكم وجوهكم ، وعلى الأول ليس توليتكم وجوهكم البر ، كقوله : ما كان حجتهم إلا أن قالوا ، ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا فكان عاقبتهما أنهما في النار وما كان مثله ، ويقوي قراءة الرفع أن الثاني معه الباء إجماعا في قوله : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولا يجوز فيه إلا الرفع ، فحمل الأول على الثاني أولى من مخالفته له ، وكذلك هو في مصحف أبي بالباء ليس البر بأن تولوا وكذلك في مصحف ابن مسعود أيضا ، وعليه أكثر القراء ، والقراءتان حسنتان .الثالثة : قوله تعالى : ولكن البر من آمن بالله البر ها هنا اسم جامع للخير ، والتقدير : ولكن البر بر من آمن ، فحذف المضاف ، كقوله تعالى : واسأل القرية ، وأشربوا في قلوبهم العجل قاله الفراء وقطرب والزجاج ، وقال الشاعر :فإنما هي إقبال وإدبارأي ذات إقبال وذات إدبار وقال النابغة :وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحبأي كخلالة أبي مرحب ، فحذف ، وقيل : المعنى ولكن ذا البر ، كقوله تعالى : هم درجات عند الله أي ذوو درجات ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وفرضت الفرائض وصرفت القبلة إلى الكعبة وحدت الحدود أنزل الله هذه الآية فقال : ليس البر كله أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك ، ولكن البر - أي ذا البر - من آمن بالله ، إلى آخرها ، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعطاء وسفيان والزجاج أيضا ، ويجوز أن يكون البر بمعنى البار والبر ، والفاعل قد يسمى بمعنى المصدر ، كما يقال : رجل عدل ، وصوم وفطر ، وفي التنزيل : إن أصبح ماؤكم غورا أي غائرا ، وهذا اختيار أبي عبيدة ، وقال المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت ولكن البر بفتح الباء .الرابعة : قوله تعالى : والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فقيل : يكون الموفون عطفا على من لأن من في موضع جمع ومحل رفع ، كأنه قال : ولكن البر المؤمنون والموفون ، قاله الفراء والأخفش . والصابرين نصب على المدح ، أو بإضمار فعل ، والعرب تنصب على المدح وعلى الذم كأنهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه أول الكلام ، وينصبونه ، فأما المدح فقوله : والمقيمين الصلاة ، وأنشد الكسائي :وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم إلا نميرا أطاعت أمر غاويهاالظاعنين ولما يظعنوا أحدا والقائلون لمن دار نخليهاوأنشد أبو عبيدة :لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزرالنازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزروقال آخر :نحن بني ضبة أصحاب الجملفنصب على المدح ، وأما الذم فقوله تعالى : ملعونين أينما ثقفوا الآية ، وقال عروة بن الورد :سقوني الخمر ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزوروهذا مهيع في النعوت ، لا مطعن فيه من جهة الإعراب ، موجود في كلام العرب كما بينا ، وقال بعض من تعسف في كلامه : إن هذا غلط من الكتاب حين كتبوا مصحف الإمام ، قال : والدليل على ذلك ما روي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال : أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها ، وهكذا قال في سورة النساء والمقيمين الصلاة وفي سورة المائدة والصابئون . والجواب ما ذكرناه ، وقيل : الموفون رفع على الابتداء والخبر محذوف ، تقديره وهم الموفون ، وقال الكسائي : والصابرين عطف على ذوي القربى كأنه قال : وآتى الصابرين . قال النحاس : وهذا القول خطأ وغلط بين ; لأنك إذا نصبت والصابرين ونسقته على ذوي القربى دخل في صلة من وإذا رفعت والموفون على أنه نسق على من فقد نسقت على من من قبل أن تتم الصلة ، وفرقت بين الصلة والموصول بالمعطوف . وقال الكسائي : وفي قراءة عبد الله " والموفين ، والصابرين " ، وقال النحاس : " يكونان منسوقين على " ذوي القربى " أو على المدح . قال الفراء : وفي قراءة عبد الله في النساء " والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة " . وقرأ يعقوب والأعمش " والموفون والصابرون " بالرفع فيهما ، وقرأ الجحدري " بعهودهم " ، وقد قيل : إن والموفون عطف على الضمير الذي في آمن ، وأنكره أبو علي وقال : ليس المعنى عليه ، إذ ليس المراد أن البر بر من آمن بالله هو والموفون ، أي آمنا جميعا . كما تقول : الشجاع من أقدم هو وعمرو وإنما الذي بعد قوله " من آمن " تعداد لأفعال من آمن وأوصافهم .الخامسة : قال علماؤنا : هذه آية عظيمة من أمهات الأحكام ; لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة : الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته - وقد أتينا عليها في الكتاب الأسنى - والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار - وقد أتينا عليها في كتاب - التذكرة - والملائكة والكتب المنزلة وأنها حق من عند الله - كما تقدم - والنبيين وإنفاق المال فيما يعن من الواجب والمندوب وإيصال القرابة وترك قطعهم وتفقد اليتيم وعدم إهماله والمساكين كذلك ، ومراعاة ابن السبيل - قيل المنقطع به ، وقيل : الضيف - والسؤال وفك الرقاب ، وسيأتي بيان هذا في آية الصدقات ، والمحافظة على الصلاة وإيتاء الزكاة ، والوفاء بالعهود والصبر في الشدائد ، وكل قاعدة من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب . وتقدم التنبيه على أكثرها ، ويأتي بيان باقيها بما فيها في مواضعها إن شاء الله تعالى . واختلف هل يعطى اليتيم من صدقة التطوع بمجرد اليتم على وجه الصلة وإن كان غنيا ، أو لا يعطى حتى يكون فقيرا ، قولان للعلماء ، وهذا على أن يكون إيتاء المال غير الزكاة الواجبة ، على ما نبينه آنفا .السادسة : قوله تعالى : وآتى المال على حبه استدل به من قال : إن في المال حقا سوى الزكاة وبها كمال البر ، وقيل : المراد الزكاة المفروضة ، والأول أصح ، لما خرجه الدارقطني عن فاطمة بنت قيس قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في المال حقا سوى الزكاة ثم تلا هذه الآية ليس البر أن تولوا وجوهكم إلى آخر الآية ، وأخرجه ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه وقال : " هذا حديث ليس إسناده بذاك وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف ، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله وهو أصح " .قلت : والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى : وأقام الصلاة وآتى الزكاة فذكر الزكاة مع الصلاة ، وذلك دليل على أن المراد بقوله : وآتى المال على حبه ليس الزكاة المفروضة ، فإن ذلك كان يكون تكرارا ، والله أعلم ، واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها . قال مالك رحمه الله : يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم ، وهذا إجماع أيضا ، وهو يقوي ما اخترناه ، والموفق الإله .السابعة : قوله تعالى : على حبه الضمير في حبه اختلف في عوده ، فقيل : يعود على المعطي للمال ، وحذف المفعول وهو المال . ويجوز نصب ذوي القربى بالحب ، فيكون التقدير على حب المعطي ذوي القربى ، وقيل : يعود على المال ، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول . قال ابن عطية : ويجيء قوله على حبه اعتراضا بليغا أثناء القول . قلت : ونظيره قوله الحق : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا فإنه جمع المعنيين ، الاعتراض وإضافة المصدر إلى المفعول ، أي على حب الطعام ، ومن الاعتراض قوله الحق : ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك وهذا عندهم يسمى التتميم ، وهو نوع من البلاغة ، ويسمى أيضا الاحتراس والاحتياط ، فتمم بقوله على حبه وقوله : وهو مؤمن ومنه قول زهير :من يلق يوما على علاته هرما يلق السماحة منه والندى خلقاوقال امرؤ القيس :على هيكل يعطيك قبل سؤاله أفانين جري غير كز ولا وانفقوله : " على علاته " و " قبل سؤاله " تتميم حسن ، ومنه قول عنترة : أثنى علي بما علمت فإنني سمح مخالقتي إذا لم أظلمفقوله : " إذا لم أظلم " تتميم حسن ، وقال طرفة :فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهميوقال الربيع بن ضبع الفزاري :فنيت وما يفنى صنيعي ومنطقي وكل امرئ إلا أحاديثه فانفقوله : " غير مفسدها " ، و " إلا أحاديثه " تتميم واحتراس ، وقال أبو هفان :فأفنى الردى أرواحنا غير ظالم وأفنى الندى أموالنا غير عائبفقوله : " غير ظالم " و " غير عائب " تتميم واحتياط ، وهو في الشعر كثير . وقيل : يعود على الإيتاء ; لأن الفعل يدل على مصدره ، وهو كقوله تعالى : ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم أي البخل خيرا لهم ، فإذا أصابت الناس حاجة أو فاقة فإيتاء المال حبيب إليهم ، وقيل : يعود على اسم الله تعالى في قوله من آمن بالله ، والمعنى المقصود أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويأمن البقاء .الثامنة : قوله تعالى : والموفون بعهدهم إذا عاهدوا أي فيما بينهم وبين الله تعالى وفيما بينهم وبين الناس . والصابرين في البأساء والضراء البأساء : الشدة والفقر ، والضراء : المرض والزمانة ، قاله ابن مسعود ، وقال عليه السلام : يقول الله تعالى أيما عبد من عبادي ابتليته ببلاء في فراشه فلم يشك إلى عواده أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه فإن قبضته فإلى رحمتي وإن عافيته عافيته وليس له ذنب قيل : يا رسول الله ، ما لحم خير من لحمه ؟ قال : لحم لم يذنب قيل : فما دم خير من دمه ؟ قال : دم لم يذنب ، والبأساء والضراء اسمان بنيا على فعلاء ، ولا فعل لهما ; لأنهما اسمان وليسا بنعت . وحين البأس أي وقت الحرب .قوله تعالى : أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها ، وأنهم كانوا جادين في الدين ، وهذا غاية الثناء . والصدق : خلاف الكذب ويقال : صدقوهم القتال ، والصديق : الملازم للصدق ، وفي الحديث : عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا .

القول في تأويل قوله تعالى : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَقال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: ليس البرَّ الصلاةُ وحدها, ولكن البرّ الخصال التي أبينها لكم.2513- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: " ليسَ البرّ أن تُولوا وُجُوهكم قِبَل المشرق والمغرب "، يعني: الصلاة. يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تَعملوا, فهذا منذ تحوَّل من مكة إلى المدينة, ونزلت الفرائض, وحدَّ الحدود. فأمر الله بالفرائض والعمل بها.2514- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب "، ولكنّ البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله.2515- حدثني القاسم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.2516- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن ابن عباس قال: هذه الآية نزلت بالمدينة: " ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب "، يعني: الصلاة. يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غيرَ ذلك. قال ابن جريج، وقال مجاهد: " ليس البرّ أن تُولوا وجوهكم قبَل المشرق والمغرب "، يعني السجود، ولكن البر ما ثبت في القلب من طاعة الله.2517- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، (1) عن عبيد بن سليمان, عن الضحاك بن مزاحم، أنه قال فيها, قال يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك. وهذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة, فأنزل الله الفرائض وحدَّ الحدود بالمدينة، وأمر بالفرائض أن يؤخذ بها.* * *وقال آخرون: عنى الله بذلك اليهود والنصارى. وذلك أن اليهود تصلي فتوجِّه قبل المغرب, والنصارى تصلي فتوَجَّه قبل المشرق, فأنزل الله فيهم هذه الآية، يخبرهم فيها أن البرّ غير العمل الذي يعملونه، ولكنه ما بيناه في هذه الآية* ذكر من قال ذلك:2518- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كانت اليهود تصلي قبَل المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق، فنزلت: " ليس البر أن تولوا وُجُوهكم قبل المشرق والمغرب ".2519- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: " ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر "، ذُكر لنا أن رَجلا سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البر فأنزل الله هذه الآية. وذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا الرجل فتلاها عليه. وقد كان الرجلُ قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ثم مات على ذلك يُرْجى له ويطمع له في خير، فأنزل الله: " ليسَ البر أن تولوا وجوهَكم قبل المشرق والمغرب ". وكانت اليهود تَوجَّهت قبل المغرب, والنصارى قبل المشرق -" ولكن البر من آمنَ بالله واليوم الآخر " الآية.2520- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس قال: كانت اليهود تصلي قبل المغرب, والنصارى قبل المشرق, فنزلت: " ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ".* * *قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بتأويل الآية، القول الذي قاله قتادة والربيع بن أنس =: أن يكون عنى بقوله: " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب "، اليهودَ والنصارَى. لأن الآيات قبلها مضت بتوبيخهم ولَومهم، والخبر عنهم وعما أُعدّ لهم من أليم العذاب. وهذا في سياق ما قبلها, إذْ كان الأمر كذلك, -" ليس البر "، - أيها اليهود والنصارى، أنْ يولي بعضُكم وجهه قبل المشرق وبعضُكم قبل المغرب," ولكنّ البر مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وَالملائكة والكتاب " الآية.* * *فإن قال قائل: فكيف قيل: " ولكن البر من آمن بالله "، وقد علمت أن " البر " فعل, و " مَنْ" اسم, فكيف يكون الفعل هو الإنسان؟قيل: إن معنى ذلك غيرَ ما توهمته, وإنما معناه: ولكنّ البرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخر، (2) فوضع " مَنْ" موضع الفعل، اكتفاءً بدلالته، ودلالة صلته التي هي له صفةٌ، مَنْ الفعل المحذوف، كما تفعله العرب، فتضع الأسماء مواضع أفعالها التي هي بها مشهورة, فتقول: " الجود حاتم، والشجاعة عنترة "، و " إنما الجود حاتم والشجاعة عنترة ", ومعناها: الجُود جود حاتم فتستغني بذكر " حاتم " إذ كان معروفًا بالجود، من إعادة ذكر " الجود " بعد الذي قد ذكرته، فتضعه موضع " جوده "، لدلالة الكلام على ما حذفته، استغناء بما ذكرته عما لم تذكره. (3) كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا [سورة يوسف: 82] والمعنى: أهل القرية, وكما قال الشاعر, وهو ذو الخِرَق الطُّهَوي:حَسِبْتَ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا!وَمَا هي, وَيْبَ غَيْرِكَ بالعَنَاقِ (4)يريد: بُغَامَ عنَاق، أو صوتَ [عناق]، (5) كما يقال: " حسبت صياحي أخاك ", يعني به: حسبتَ صياحي صياحَ أخيك.* * *وقد يجوز أن يكون معنى الكلام: ولكن البارَّ مَنْ آمن بالله, فيكون " البر " مصدرًا وُضع موضعَ الاسم. (6)* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " وآتى المالَ على حُبه "، وأعطى مَاله في حين محبته إياه، وضِنِّه به، وشُحِّه عليه، (7) . كما:-2521- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا, عن زبيد, عن مرة بن شراحيل البكيلي, عن عبد الله بن مسعود: " وآتَى المالَ على حُبه "، أي: يؤتيه وهو صَحيحٌ شحيحٌ، يأمل العيش ويخشى الفقر. (8)2522- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن -وحدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق- قالا جميعًا, عن سفيان, عن زُبيد الياميّ, عن مرة, عن عبد الله: " وآتى المالَ على حُبه " قال، وأنت صحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر. (9)2523- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن زبيد اليامي, عن عبد الله أنه قال في هذه الآية: " وآتى المال على حبه " قال، وأنت حريصٌ شحيحٌ، تأمل الغنى، وتخشى الفقر.2524- حدثنا أحمد بن نعمة المصري قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثنا إبراهيم بن أعين, عن شعبة بن الحجاج, عن زبيد اليامي, عن مرة الهمداني قال، قال عبد الله بن مسعود في قول الله: " وآتى المال على حبه ذوي القربى ", قال: حريصًا شحيحًا، يأمل الغنى ويَخشى الفقر. (10)2525- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم, عن الشعبي، سمعته يُسْأل: هل على الرجل حَق في ماله سوى الزكاة؟ قال: نعم! وتلا هذه الآية: " وآتى المالَ على حُبه ذَوي القربى واليتامى والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة ".2526- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا سُويد بن عمرو الكلبي قال، حدثنا حمّاد بن سلمة قال، أخبرنا أبو حمزة قال، قلت للشعبي: إذا زكَّى الرجلُ ماله، أيطيبُ له ماله؟ فقرا هذه الآية: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلى " وآتى المال على حُبه " إلى آخرها، ثم قال: حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت: يا رسول الله، إنّ لي سبعين مثقالا من ذَهَب. فقال: اجعليها في قَرَابتك. (11)2527- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك قال، حدثنا أبو حمزة، فيما أعلم - عن عامر, عن فاطمة بنت قيس أنها سمعته يقول: إنّ في المال لحقًّا سوَى الزكاة. (12)2528- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن أبي حيان قال، حدثني مزاحم بن زفر قال، كنت جالسًا عند عطاء فأتاه أعرابي فقال له: إن لي إبلا فهل عليّ فيها حقٌّ بعد الصدقة؟ قال: نعم! قال: ماذا؟ قال: عَاريَّة الدلو, وطُروق الفحل, والحلَب. (13)2529- حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي, ذكره عن مرة الهمداني في: " وآتى المالَ على حُبه " قال: قال عبد الله بن مسعود: تُعطيه وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تطيل الأمل، وتخاف الفقر. وذكر أيضًا عن السدي أن هذا شيء واجبٌ في المال، حق على صاحب المال أن يفعله، سوى الذي عليه من الزكاة.2530- حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد قال، حدثنا سويد بن عبد الله, عن أبي حمزة, عن عامر, عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " في المال حق سوى الزكاة " ، وتلا هذه الآية: " ليس البر " إلى آخر الآية. (14)2531- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن زبيد اليامي, عن مرة بن شراحيل, عن عبد الله في قوله: " وآتى المالَ على حُبه " قال، أن يعطي الرجلُ وهو صحيح شحيحٌ به، يأمل العيش ويخاف الفقر.* * *قال أبو جعفر: فتأويل الآية: وأعطى المال - وهو له محب، حريصٌ على جمعه, شحيح به - ذَوي قَرابته فوصل به أرحامهم.وإنما قلت عنى بقوله: " ذوي القرْبى "، ذوي قرابة مؤدِّي المال على حُبه، للخبر الذي رَوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره فاطمةُ بنت قيس=2532- وقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل: أيُّ الصَّدقة أفضَل؟ قال: جُهْد المُقِلّ على ذي القَرَابة الكاشح. (15)* * *وأما " اليتامى "" والمساكين "، فقد بينا معانيهما فيما مضى. (16)* * *وأما " ابن السبيل "، فإنه المجتاز بالرَّجل. ثم اختلف أهل العلم في صفته. فقال بعضهم: هو الضيفُ من ذلك.* ذكر من قال ذلك:2533- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: " وابن السبيل " قال، هو الضيف قال: قد ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خَيرًا أو ليسكت " . قال: وكان يَقول: حَق الضيافة ثلاثُ ليال, فكل شيء أضافه بَعد ذَلك صدقة. (17)* * *وقال بعضهم: هو المسافر يمر عليك.* ذكر من قال ذلك:2534- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن جابر, عن أبي جعفر: " وابن السبيل " قال، المجتاز من أرض إلى أرض.2535- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وقتادة في قوله: " وابن السبيل " قال، الذي يمر عليك وهو مسافر.2536- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عمن ذكره, عن ابن جريج عن مجاهد وقتادة مثله.* * *وإنما قيل للمسافر " ابن السبيل "، لملازمته الطريق -والطريق هو " السبيل "- فقيل لملازمته إياه في سفره: " ابنه "، كما يقال لطير الماء " ابن الماء " لملازمته إياه, وللرجل الذي أتت عليه الدهور " ابن الأيام والليالي والأزمنة ", ومنه قول ذي الرمة:وَرَدْتُ اعْتِسَافًا وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَاعَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ ابْنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ (18)* * *وأما قوله: " والسائلين "، فإنه يعني به: المستطعمين الطالبين، كما:-2537- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن إدريس, عن حصين, عن عكرمة في قوله: " والسائلين " قال، الذي يسألك.* * *وأما قوله: " وفي الرقاب "، فإنه يعني بذلك: وفي فك الرقاب من العبودة, وهم المكاتبون الذين يسعون في فك رقابهم من العبودة، (19) بأداء كتاباتهم التي فارقوا عليها سادَاتهم.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " وأقامَ الصلاة "، أدام العمل بها بحدودها, وبقوله " وآتى الزكاة "، أعطاها على مَا فَرضها الله عليه. (20)* * *فإن قال قائل: وهل من حقٍّ يجب في مال إيتاؤه فرضًا غير الزكاة؟قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك:فقال بعضهم: فيه حقوقٌ تجبُ سوى الزكاة = واعتلُّوا لقولهم ذلك بهذه الآية, وقالوا: لما قال الله تبارك وتعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى ، ومن سمى الله معهم, ثم قال بعد: " وأقامَ الصلاةَ وآتى الزكاة "، علمنا أن المالَ - الذي وَصَف المؤمنين به أنهم يُؤتونه ذَوي القربى, ومن سمَّى معهم - غيرُ الزكاة التي ذكر أنهم يؤتونها. لأن ذلك لو كان مالا واحدًا لم يكن لتكريره معنى مفهوم. قالوا: فلما كان غيرَ جائز أن يقول تعالى ذكره قولا لا معنى له, علمنا أنّ حكم المال الأول غيرُ الزكاة, وأن الزكاة التي ذكرها بعد غيره. قالوا: وبعد، فقد أبان تأويل أهل التأويل صحة ما قلنا في ذلك.وقال آخرون: بل المال الأول هو الزكاة, ولكن الله وصَف إيتاء المؤمنين مَنْ آتوه ذلك، في أول الآية. فعرَّف عباده -بوصفه ما وصف من أمرهم- المواضعَ التي يجب عليهم أن يضَعوا فيها زكواتهم، ثم دلّهم بقوله بعد ذلك: " وآتى الزكاة "، أن المال الذي آتاه القومُ هو الزكاة المفروضةُ =كانت= عليهم, إذ كان أهلُ سُهمانها هم الذين أخبرَ في أول الآية أن القوم آتوهم أموالهم.* * *وأما قوله: " وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا "، فإن يعني تعالى ذكره: والذين لا ينقضون عَهد الله بعد المعاهدة, ولكن يوفُون به ويتمُّونه على ما عاهدوا عليه من عاهدوه عليه. كما:-2538- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: " وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا " قال، فمن أعطى عهدَ الله ثم نقضه، فالله ينتقم منه. ومن أعطى ذمة النبي صلى الله عليه وسلم ثم غَدر بها، فالنبي صلى الله عليه وسلم خصمه يومَ القيامة.* * *وقد بينت " العهد " فيما مضى، بما أغنى عن إعادته هاهنا. (21)* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِقال أبو جعفر: وقد بينا تأويل " الصبر " فيما مضى قبل. (22)فمعنى الكلام: والمانعين أنفسهم -في البأساء والضراء وحين البأس- مما يكرهه الله لَهم، الحابسيها على ما أمرهم به من طاعته. ثم قال أهل التأويل في معنى " البأساء والضراء " بما:-2539- حدثني به الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ (23) قال، حدثني أبي - وحدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد - قالا جميعًا، حدثنا أسباط عن السدي, عن مرة الهمداني, عن ابن مسعود أنه قال: أما البأساءُ فالفقر, وأما الضراء فالسقم .2540- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي - وحدثني المثنى قال، حدثنا الحماني - قالا جميعًا، حدثنا شريك, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله في قوله: " والصابرين في البأساء والضراء " قال، البأساء الجوع, والضراء المرضُ.2541- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك, عن السدي, عن مرة عن عبد الله قال: البأساء الحاجة, والضراءُ المرضُ.2542- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كنا نُحدِّث أن البأساء البؤس والفقر, وأن الضراء السُّقم. وقد قال النبي أيوب صلى الله عليه وسلم أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [سورة الأنبياء: 83].2543- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: " والصابرين في البأساء والضراء " قال، البؤس: الفاقة والفقر, والضراء: في النفس، من وَجع أو مرَض يصيبه في جسده.2544- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " البأساء والضراء " قال، البأساء: البؤس, والضراء: الزمانة في الجسد.2545- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيد, عن الضحاك قال: " البأساء والضراء "، المرض. (24)2546- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: " والصابرين في البأساء والضراء " قال، البأساء: البؤس والفقر, والضراء: السقم والوجع.2547- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبيد بن الطفيل قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في هذه الآية: " والصابرين في البأساء والضراء "، أما البأساء: الفقر, والضراء: المرض. (25)* * *قال أبو جعفر: وأما أهل العربية: فإنهم اختلفوا في ذلك. فقال بعضهم: " البأساء والضراء "، مصدر جاء على " فعلاء " ليس له " أفعل " لأنه اسم, كما قد جاء " أفعل " في الأسماء ليس له " فعلاء "، نحو " أحمد ". وقد قالوا في الصفة " أفعل "، ولم يجئ له " فعلاء ", فقالوا: " أنت من ذلك أوْجل ", ولم يقولوا: " وجلاء ".وقال بعضهم: هو اسم للفعل. فإن " البأساء "، البؤس," والضراء " الضر. وهو اسم يقع إن شئت لمؤنث، وإن شئت لمذكر، كما قال زهير:فَتُنْتَجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ, كُلُّهُمْكَأَحْمَرِ عَادٍ, ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ (26)يعني فتنتج لكم غلمان شؤم.وقال بعضهم: لو كان ذلك اسمًا يجوز صرفه إلى مذكر ومؤنث، لجازَ إجراء " أفعل " في النكرة, ولكنه اسم قام مقام المصدر. والدليل على ذلك قوله: " لئن طَلبت نُصرتهم لتجدنَّهم غير أبعدَ"، (27) بغير إجراء. وقال: إنما كان اسما للمصدر، لأنه إذا ذُكر علم أنه يُراد به المصدر.وقال غيره: لو كان ذلك مصدرًا فوقع بتأنيث، لم يقع بتذكير, ولو وَقَع بتذكير، لم يقع بتأنيث. لأن من سُمي ب " أفعل " لم يصرف إلى " فُعلى ", ومن سُمي ب " فُعلى " لم يصرف إلى " أفعل ", لأن كل اسم يبقى بهيئته لا يصرف إلى غيره, ولكنهما لغتان. فإذا وقع بالتذكير، كان بأمر " أشأم ", وإذا وقع " البأساء والضراء "، (28) وقع: الخلة البأساء، والخلة الضراء. وإن كان لم يُبن على " الضراء "،" الأضر "، ولا على " الأشأم "،" الشأماء ". لأنه لم يُردْ من تأنيثه التذكير، ولا من تذكيره التأنيث, كما قالوا: " امرأة حسناء ", ولم يقولوا: " رجل أحسن ". وقالوا: " رجل أمرد ", ولم يقولوا: " امرأة مرداء ". فإذا قيل: " الخصلة الضراء " و " الأمر الأشأم "، دل على المصدر, ولم يحتج إلى أن يكون اسمًا, وإن كان قد كَفَى من المصدر.وهذا قول مخالفٌ تأويلَ من ذكرنا تأويله من أهل العلم في تأويل " البأساء والضراء "، وإن كان صحيحًا على مذهب العربية. وذلك أن أهل التأويل تأولوا " البأساء " بمعنى: البؤس," والضراء " بمعنى: الضر في الجسد. وذلك من تأويلهم مبني على أنهم وجَّهوا " البأساءَ والضراء " إلى أسماء الأفعال، دون صفات الأسماء ونعوتها. فالذي هو أولى ب " البأساء والضراء "، على قول أهل التأويل، أن تكون " البأساء والضراء " أسماء أفعال, فتكون " البأساء " اسمًا " للبؤس ", و " الضراء " اسمًا " للضر ".* * *وأما " الصابرين " فنصبٌ, وهو من نعت " مَن " على وجه المدح. (29) لأن من شأن العرب -إذا تطاولت صفةُ الواحد- الاعتراضُ بالمدح والذم بالنصب أحيانًا، وبالرفع أحيانًا، (30) كما قال الشاعر: (31)إلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِوَلَيْثَ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ (32)وَذَا الرَّأْيِ حِينَ تُغَمُّ الأمُورُبِذَاتِ الصَّلِيلِ وذَاتِ اللُّجُمْ (33)فنصب " ليث الكتيبة " وذا " الرأي" على المدح, والاسم قبلهما مخفُوضٌ لأنه من صفة واحد، ومنه قول الآخر: (34)فَلَيْتَ الَّتِي فِيهَا النُّجُومُ تَوَاضَعَتعَلَى كُلِّ غَثٍّ مِنْهُمُ وسَمِينِ (35)غيُوثَ الوَرَى فِي كُلِّ مَحْلٍ وَأَزْمَةٍأُسُودَ الشَّرَى يَحْمِينَ كُلَّ عَرِينِ (36)* * *وقد زعم بعضهم أن قوله: (37) " والصابرين في البأساء "، نُصب عطفًا على " السائلين ". كأن معنى الكلام كان عنده: وآتى المال على حبه ذَوي القربَى واليتامَى والمساكين، وابنَ السبيل والسائلينَ والصابرين في البأساء والضراء. وظاهرُ كتاب الله يدلّ على خطأ هذا القول, وذلك أنّ" الصابرين في البأساء والضراء "، هم أهل الزمانة في الأبدان، وأهلُ الإقتار في الأموال. وقد مضى وصف القوم بإيتاء -مَنْ كان ذلك صفته- المالَ في قوله: وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ ، وأهل الفاقة والفقر، هم أهل " البأساء والضراء ", لأن من لم يكن من أهل الضراء ذا بأساء، لم يكن ممن له قبولُ الصدقة، وإنما له قبولها إذا كان جامعًا إلى ضرائه بأساء, وإذا جمع إليها بأساء، كان من أهل المسكنة الذين قد دخلوا في جملة " المساكين " الذين قد مضى ذكرهم قبل قوله: " والصابرين في البأساء ". وإذا كان كذلك، ثم نصب " الصابرين في البأساء " بقوله وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ، كان الكلام تكريرًا بغير فائدة معنى. كأنه قيل: وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامَى والمساكينَ. والله يتعالى عن أن يكون ذلك في خطابه عبادَه. ولكن معنى ذلك: ولكنّ البر مَن آمن بالله واليوم الآخر, والموفون بعهدهم إذا عاهدوا, والصابرين في البأساء والضراء." وَالْمُوفُونَ" رفعٌ لأنه من صفة " مَنْ", و " مَنْ" رفعٌ، فهو معرب بإعرابه." والصابرين " نصب -وإن كان من صفته- على وجه المدح الذي وصفنا قبل.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَحِينَ الْبَأْسِقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " وحين البأس "، والصابرين في وقت البأس, وذلك وَقت شدة القتال في الحرب، كما:-2548- حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله في قول الله: " وحين البأس " قال، حين القتال. (38)2549- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله مثله.2550- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " وحين البأس " القتال.2551- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: " وحين البأس "، أي عندَ مواطن القتال.2552- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: " وحين البأس "، القتال.2553- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع،" وحين البأس "، عند لقاء العدو.2554- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيدة، عن الضحاك: " وحين البأس "، القتال2555- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبيد بن الطفيل أبو سيدان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: " وحين البأس " قال، القتال. (39)* * *القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " أولئك الذين صدقوا "، من آمن بالله واليوم الآخر, ونعتهم النعتَ الذي نعتهم به في هذه الآية. يقول: فمن فعل هذه الأشياء، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم، وحققوا قولهم بأفعالهم - لا مَنْ ولَّى وجهه قبل المشرق والمغرب وهو يخالف الله في أمره، وينقض عهده وميثاقه، ويكتم الناسَ بَيانَ ما أمره الله ببيانه، ويكذِّب رسله.* * *وأما قوله: " وأولئك هُم المتقون "، فإنه يعني: وأولئك الذين اتقوا عقابَ الله، فتجنَّبوا عصيانه، وحَذِروا وعده، فلم يتعدَّوا حدوده. وخافوه, فقاموا بأداء فرائضه.* * *وبمثل الذي قلنا في قوله: " أولئك الذين صَدقوا "، كان الربيع بن أنس يقول:2556- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: " أولئك الذين صدقوا " قال، فتكلموا بكلام الإيمان, فكانت حقيقتُه العمل، صَدقوا الله. قال: وكان الحسن يقول: هذا كلام الإيمان، وحقيقتُه العمل, فإن لم يكن مع القول عملٌ فلا شيء.--------------الهوامش :(1) في المطبوعة : "أبو نميلة" بالنون ، والصواب ما أثبت . وانظر الأثر رقم : 2490 والتعليق عليه .(2) في المطبوعة : "ولكن البر كمن آمن بالله" وهو خطأ محض ، صوابه ما أثبت .(3) انظر ما سلف : 2 : 61 ، 359 وهذا الجزء 3 : 334 .(4) سلف تخريجه في هذا الجزء 3 : 103 تعليق : 3 .(5) الزيادة بين القوسين لا بد منها .(6) هذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن : 65 ، وذكره الفراء في معاني القرآن 1 : 104 .(7) انظر معنى"الإيتاء" فيما سلف 1 : 574/2 : 160 ، 317 .(8) الخبر : 2521- ابن إدريس : هو عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي ، مضى في : 438 ، 2030 .ليث : هو ابن أبي سليم ، مضى في شرح : 1497 .زبيد- بالباء الموحدة مصغرًا : هو ابن الحارث بن عبد الكريم اليامي ، وهو ثقة ثبت . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/411 ، وابن سعد 6 : 216 ، وابن أبي حاتم 1/2/623 .مرة بن شراحيل : وهو الهمداني الكوفي ، من كبار التابعين ، كما مضى توثيقه : 168 ، وهو مترجم في التهذيب 10 : 88-89 ، والكبير 4/2/5 ، وابن سعد 6 : 79 ، وابن أبي حاتم 4/1/366 . و"البكيلي" - بفتح الباء الموحدة وكسر الكاف : نسبه إلى"بكيل" ، وهم بطن من همدان . انظرالاشتقاق لابن دريد ، ص : 250 ، 256 ، 312 ، وجمهرة الأنساب لابن حزم ص : 372-373 . وكذلك نسب مرة إلى"بكيل" في كتاب ابن أبي حاتم ، وهو الصواب . ووقع في التهذيب بدلها"السكسكي"؛ وهو تصحيف لا شك فيه ، فإن"السكسك" : هو ابن أشرس بن كندة . وشتان بين همدان وكندة ، إنما يجتمعان بعد بضعة جدود ، في"زيد بن كهلان بن سبأ" . انظر جمهرة الأنساب ، ص : 405 ، وما قبلها .(9) الخبر : 2522- عبد الرحمن : هو ابن مهدي الإمام . وسفيان هو الثوري . فالطبري يرويه من طريق ابن مهدي . ومن طريق عبد الرزاق - كلاهما عن سفيان .والخبر في تفسير عبد الرزاق ، ص : 15 ، وفيه : "وأنت صحيح شحيح" ، بزيادة"شحيح" .(10) الخبر : 2524- شيخ الطبري"أحمد بن نعمة المصري" : لم أجد له ترجمة . أبو صالح : هو عبد الله بن صالح ، كاتب الليث . الليث : هو ابن سعد إمام أهل مصر .إبراهيم بن أعين الشيباني البصري ، نزل مصر : ضعيف : قال البخاري : "فيه نظر في إسناده" . وقال أبو حاتم : "هذا شيخ بصري ، ضعيف الحديث ، منكر الحديث وقع إلى مصر" . مترجم في التهذيب وفرق بينه وبين"إبراهيم بن أعين" آخر ثقة . وترجم ابن أبي حاتم 1/1/87 ثلاث تراجم . والبخاري 1/1/272 ترجمة واحدة .وهذه الأسانيد الثلاثة : 2521-2523 ، لخبر موقوف اللفظ على ابن مسعود . وهو في الحقيقة مرفوع حكمًا ، إذ مثل هذا لا يعرف بالرأي . وسيأتي معناه موقوفًا عليه أيضًا : 2529 ، 2531 . وكذلك رواه الحاكم 2 : 272 ، من رواية منصور ، عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود ، موقوفًا . وقال : "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه" . ووافقه الذهبي . ونسبه السيوطي 1 : 170-171 لابن المبارك ، ووكيع ، وغيرهما . ثم ذكر أنه رواه الحاكم أيضًا"عن ابن مسعود ، مرفوعًا" . وكذلك نقل ابن كثير 1 : 388 أن الحاكم رواه مرفوعًا . ولم أجده مرفوعًا في المستدرك . ثم ذكر ابن كثير الرواية الموقوفة ، وزعم أنها أصح .وهذا المعنى ثابت أيضًا في حديث مرفوع صحيح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقد سئل : أي الصدقة أعظم أجرًا؟ - فقال : "أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل البقاء ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ، وقد كان لفلان" . رواه أحمد في المسند : 7159 ، 7401 . ورواه البخاري ومسلم وأبو داود ، كما بينا هناك .(11) الحديث : 2526- سويد بن عمرو الكلبي : ثقة من شيوخ أحمد . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/149 ، وابن أبي حاتم 2/1/239 .أبو حمزة : هو ميمون الأعور القصاب ، وهو ضعيف جدًا . مترجم في التهذيب ، والكبير 4/1/343 ، وابن أبي حاتم 4/1/235-236 .وهذا الحديث بهذا السياق لم أجده في موضع آخر . وقد روى قريب من معناه ، بإسناد آخر أشد ضعفًا . فروى الدارقطني في سننه ، ص : 205 ، من طريق أبي بكر الهذلي ، عن شعيب بن الحبحاب ، عن الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس ، قالت : "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بطوق فيه سبعون مثقالا من ذهب ، فقلت : يا رسول الله ، خذ منه الفريضة ، فأخذ منه مثقالا وثلاثة أرباع مثقال" . وقال الدارقطني : "أبو بكر الهذلي : متروك ، ولم يأت به غيره" . وقد مضى بيان ضعف الهذلي هذا : 597 .(12) الحديث : 2527- شريك : هو ابن عبد الله بن أبي شريك ، النخعي القاضي ، وهو ثقة . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/238 ، وابن أبي حاتم 2/1/365-367 .وقوله : "عن فاطمة بنت قيس : أنها سمعت" : يعني النبي صلى الله عليه وسلم . كما هو ظاهر من سياق القول ، ومن الروايات الأخر . وسيأتي الحديث أيضًا : 2530- وتخريجه هناك ، إن شاء الله .(13) في المطبوعة : "عارية الذلول" ، وهو خطأ . في حديث عبد الله مسعود : "كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : عارية الدلو والقدر" ، وفي حديث أبي هريرة أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : "فما حق الإبل؟ قال : تعطى الكريمة ، وتمنح الغزيرة ، وتفقر الظهر ، وتطرق الفحل ، وتسقى اللبن" . وفي حديث عبيد بن عمير قال قال رجل : يا رسول الله ، ما حق الإبل -فذكره نحوه- زاد : "وإعارة دلوها" . (سنن أبي داود 2 : 167 ، 168 باب حقوق المال) .وطرق الفحل الناقة يطرقها طرقًا وطروقًا : قعا عليها وضربها . وإطراق الفحل : إعارته للضراب . والحلب (بفتحتين) : اللبن المحلوب ، سمي بمصدره من : حلب الناقة يحلبهَا وحلبًا وحلابًا .(14) الحديث : 2530- أسد : هو ابن موسى ، الذي يقال له"أسد السنة" . مضى في : 23 . سويد بن عبد الله هكذا ثبت في المطبوعة . وعندي أنه خطأ ، صواب"شريك بن عبد الله" ، الذي مضى في الإسناد السابق : 2527 . فإن الحديث معروف أنه من رواية شريك . ثم ليس في الرواة -الذين رأينا تراجمهم- من يسمى"سويد بن عبد الله" إلا رجلا له شأن لا بهذا الإسناد ، لم يعرف إلا بخبر آخر منكر ، وهو مترجم في لسان الميزان .وهذا الحديث تكرار للحديث : 2527 بأطول منه قليلا . ورواه أيضًا الدارمي 1 : 385 ، عن محمد بن الطفيل . والترمذي 2 : 22 ، من طريق الأسود بن عامر ، وعن الدارمي عن محمد بن الطفيل . وابن ماجه : 1789 ، من طريق يحيى بن آدم . والبيهقي في السنن الكبرى 4 : 84 ، من طريق شاذان - كلهم عن شريك ، بهذا الإسناد ، مطولا ومختصرًا .قال الترمذي : "هذا حديث ليس إسناده بذاك . أبو ميمون الأعور يضعف" .وقال البيهقي : "فهذا حديث يعرف بأبي حمزة ميمون الأعور ، كوفي ، وقد جرحه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، فمن بعدهما من حفاظ الحديث" .ونقل ابن كثير 1 : 389-390 أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم ، عن يحيى بن عبد الحميد . ورواه ابن مردويه ، من حديث آدم بن أبي إياس ، ويحيى بن عبد الحميد - كلاهما عن شريك ، ثم ذكر أنه أخرجه ابن ماجه ، والترمذي .ووقع لفظ الحديث في ابن ماجه مغلوطًا ، بنقيض معناه . بلفظ : "ليس في المال حق سوى الزكاة"!‍وهذا خطأ قديم في بعض نسخ ابن ماجه . وحاول بعض العلماء الاستدلال على صحة هذا اللفظ عند ابن ماجه ، كما في التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر ، ص 177 ، وشرح الجامع الصغير للمناوي : 7641 .ولكن رواية الطبري الماضية : 2527- وهي من طريق يحيى بن آدم ، التي رواه منها ابن ماجه : تدل على أن اللفظ الصحيح هو ما في سائر الروايات .ويؤيد ذلك أن ابن كثير نسب الحديث للترمذي وابن ماجه ، معًا ، ولم يفرق بين روايتهما ، وكذلك صنع النابلسي في ذخائر المواريث : 11699 ، إذ نسبه إليهما حديثًا واحدًا .ويؤيد أيضًا أن البيهقي ، بعد أن رواه قال : "والذي يرويه أصحابنا في التعاليق : ليس في المال حق سوى الزكاة - فلست أحفظ فيه إسنادًا . والذي رويت في معناه ما قدمت ذكره" . ولو كان في ابن ماجه على هذا اللفظ ، لما قال ذلك ، إن شاء الله .(15) الحديث : 2532- معناه ثابت من حديث أبي هريرة . رواه أحمد في المسند : 8687 (2 : 358 حلبي) : "عن أبي هريرة : أنه قال : يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال : جهد المقل ، وابدأ بمن تعول" .وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2 : 28 ، وقال : "رواه أبو داود ، وابن خزيمة في صحيحه ، والحاكم ، وقال : صحيح على شرط مسلم" .وروى الحاكم في المستدرك 1 : 406 ، عن أم كلثوم بنت عقبة ، قالت : "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح" . وقال الحاكم : "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه" ، ووافقه الذهبي .وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3 : 116 ، وقال : "رواه الطبراني في الكبير ، ورجاله رجال الصحيح" ، وذكر قبله أحاديث أخر بنحوه .والكاشح : المبغض : قال ابن الأثير : "العدو الذي يضمر عداوته ، ويطوي عليهما كشحه ، أي باطنه" .والكاشح الذي يضمر لك العداوة ، كأنه يطويها في كشحه . وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع ، أو يعرض عنك بوجهه ويوليك كشحه .(16) انظر ما سلف في معنى"مسكين" 2 : 137 ، 293 ، ومعنى : "ذي القربى" ، و"اليتامى" 2 : 292 .(17) الحديث : 2533- هو حديث مرسل ، يقول قتادة -وهو تابعي- : "قد ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول . . " ، فذكره .و"سعيد" الذي يروي عن قتادة : هو سعيد بن أبي عروبة . و"يزيد" الراوي عنه : هو يزيد بن زريع .والحديث ثبت معناه ضمن حديث رواه مسلم 2 : 45 ، من حديث أبي شريح العدوي الخزاعي : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته ، قالوا : وما جائزته يا رسول الله؟ قال : يومه وليلته ، والضيافة ثلاثة أيام ، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" . ورواه أيضًا أحمد ، وسائر أصحاب الكتب الستة ، كما في الفتح الكبير 3 : 231 .(18) ديوابنه : 401 ، وهو متعلق ببيت قبله :وَمَاءٍ قَدِيمِ العَهْدِ بالناسِ جنٍكَأَنَّ الدَّبَى مَاءَ الغَضَا فِيهِ يَبْصُقُالآجن المتغير . والدبى : صغار الجراد . والغضى : شجر . كأن الجراد رعته ، فبصقت فيه رعيها فهو أصفر أسود . والاعتساف : الاقتحام والسير على غير هدى . والمحلق : العالي المرتفع . وابن الماء : هو طير الغرانيق ، يعرف بالكركي ، والإوز العراقي ، وهو أبيض الصدر ، أحمر المنقار ، أصفر العين . يقول الأقيشر ، يصف مجلس شراب :كَأَنَّهُنَّ وأَيْدِي الشَّرْبِ مُعْمَلَةٌإِذَا تَلأْلأَْنَ فِي أَيْدِي الغَرَانِيقِبَنَاتُ ماءِ, تُرى بيضًا جَاجِئُهاحُمْرًا مَنَاقِرُهَا, صُفْرَ الحَمَالِيقِوالثريا : نجوم كثيرة مجتمعة ، سميت بالمفرد . جعلها"على قمة" ، وذلك في جوف الليل ، ترى بيضاء زاهرة .(19) العبودة والعبودية واحد ، ولا فعل له عند أبي عبيد . وقال اللحياني فعله"عبد" على زنة"كرم" .(20) انظر معنى"إقامة الصلاة" و"إيتاء الزكاة" فيما سلف 1 : 572-574 ، ومواضع أخرى ، اطلبها في فهرس اللغة .(21) انظر ما سلف 1 : 410-415 ، 557 / ثم هذا الجزء 3 : 20 .(22) انظر ما سلف 2 : 10-11 ، 124 / ثم هذا الجزء 3 : 214 .(23) في المطبوعة"العبقري" ، والصواب ما أثبته ، وقد ترجم له فيما سلف رقم : 1625 .(24) الأثر : 2545- أخشى أن يكون قد سقط من هذا الأثر شيء . وهو تفسير"البأساء" ، وذكر"الضراء" قبل قوله : "المرض" ، وسيأتي على الصواب في الأثر الذي يليه .(25) الخبر : 2547- عبيد بن الطفيل : كنيته : "أبو سيدان" ، بكسر السين المهملة وسكون الياء التحتية ثم دال مهملة ، كما سيأتي باسمه وكنيته : 2555 . وهو الغطفاني ، يروي عنه أيضًا وكيع ، وأبو نعيم الفضل بن دكين ، قال أبو حاتم : "صالح ، لا بأس به" . وهو مترجم في التقريب ، والخلاصة وابن أبي حاتم 2/2/409 .(26) ديوانه : 20 ، من معلقته الفريدة . وهي من أبياته في صفة الحرب ، التي قال في بدئها ، قبل هذا البيت :وَمَا الحَرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُوَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيث المُرَجَّمِمَتَى تَبْعَثُوهَا, تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً,وتَضْرَ, إذا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِفَتَعْرُكَكُم عَرْكَ الرَّحَا بِثِفَالِهَاوَتلْقَحْ كِشافًا, ثم تُنْتَجْ فَتُتْئِمِيقول : إن الحرب تلقح كما تلقح الناقة ، فتأتي بتوأمين في بطن . وقوله : "أحمر عاد" يعني أحمر ثمود ، فأخطأ ولم يبال أيهما قال . وأحمر ثمود ، هو قدار ، عاقر ناقة الله فأهلكهم ربهم بما فعلوا . يقول : إن الحرب ترضع مشائيمها وتقوم عليهم حتى تفطمهم بعد أن يبلغوا السعي لأنفسهم في الشر .(27) يقال"فلان غير أبعد" ، أي لا خير فيه . ويقال : "ما عند فلان أبعد" أي لا طائل عنده . قال رجل لابنه : "إن غدوت على المربد ربحت عنا ، أو رجعت بغير أبعد" ، أي بغير منفعة .(28) يعني : إذا وقع بالتأنيث : وقع بمعنى : الخلة البأساء والخلة الضراء .(29) يريد"من" في قوله تعالى : "ولكن البر من آمن . . . "(30) انظر ما سلف 1 : 329 .(31) لم أعرف قائله .(32) معاني القرآن للفراء 1 : 105 ، والإنصاف : 195 ، وأمالي الشريف 1 : 205 ، وخزانة الأدب 1 : 216 . والقرم . السيد المعظم المقدم في المعرفة وتجارب الأمور . والمزدحم : حومة القتال حيث يزدحم الكماة . يمدحه بالجرأة في القتال .(33) وغم الأمر يغم (بالبناء للمجهول) : استعجم وأظلم ، وصار المرء منه في لبس لا يهتدي لصوابه . والصليل : صوت الحديد . يعني بذات الصليل كتيبة من الرجالة يصل حديد بيضها وشكتها وسلاحها . وذات اللجم : كتيبة من الفرسان . يذكر ثباته واجتماع نفسه ورأيه حين تطيش العقول في صليل السيوف وكر الخيول في معركة الموت . فقوله : "بذات الصليل" متعلق بقوله : "تغم الأمور" .(34) لم أعرف قائلهما .(35) معاني القرآن للفراء 1 : 106 ، وأمالي الشريف 1 : 206 . وقوله : "تواضعت" ، هو عندي"تفاعل" من قولهم : وضع الباني الحجر توضيعًا : نضد بعضه على بعض . ومنه التوضع : وهو خياطة الجبة بعد وضع القطن . ومنه أيضًا : وضعت النعامة بيضها : إذا رثدته ووضعت بعضه فوق بعض ، وهو بيض موضع : منضود بعضه على بعض . يقول : ليت السماء قد انضمت على جميعهم ، فكانوا من نجومها . وقوله : "غث منهم وسمين" ، مدح ، يعني : ليس فيهم غث ، فغثهم حقيق بأن يكون من أهل العلاء .(36) المحل : الجدب والقحط . ورواية الفراء والشريف : "ولزبة" . والأزمة والأزبة واللزبة ، بمعنى واحد : وهي شدة السنة والقحط . وروايتهما أيضًا : "غيوث الحيا" . والحيا : الخصب ، ويسمى المطر حيا ، لأنه سبب الخصب . والثرى : موضع تأوي إليه الأسود .(37) هذا القول ذكره الفراء في معاني القرآن 1 : 108 ، ورده .(38) الأثر : 2548- في المطبوعة : "العبقري" ، وقد مضى مرارا خطأ ، وصححناه . وانظر ترجمته في رقم : 1625 .(39) الخبران : 2554-2555 أبو نعيم في أولهما؛ هو الفضل بن دكين . وأبو أحمد في ثانيهما : هو الزبيري ، محمد بن عبد الله بن الزبير . وباقي الإسناد ، مضى في : 2547 .

قدَّمنا عند قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا اتسعينوا بالصبر والصلوات } [ البقرة : 153 ] أَن قوله : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } متصل بقوله تعالى : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } [ البقرة : 142 ] ، وأنه ختام للمُحاجة في شأن تحويل القبلة ، وأن ما بين هذا وذلك كله اعتراض أُطنب فيه وأُطيل لأخْذِ معانيه بعضِها بحُجَزِ بعضضٍ .فهذا إقبال على خطاب المؤمنين بمناسبة ذكر أحوال أهل الكتاب وحَسَدِهم المؤمنين على اتِّباع الإِسلام مرادٌ منه تلقين المسلمين الحجةَ على أهل الكتاب في تهويلهم على المسلمين إبطال القبلة التي كانوا يصلُّون إليها ففي ذلك تعريض بأهل الكتاب . فأهل الكتاب رأوا أن المسلمين كانوا على شيء من البر باستقبالهم قبلتَهم فلما تحولوا عنها لمزوهم بأنهم أضاعوا أمراً من أمور البر ، يقول عَدِّ عن هذا وأَعْرِضوا عن تهويل الواهنين وهَبُوا أنَّ قبلة الصلاة تغيرت أو كانت الصلاةُ بلا قبلة أصلاً فهل ذلك أمر له أثر في تزكية النفوس واتصافها بالبر ، فذكر المشرق والمغرب اقتصار على أشهر الجهات أو هو للإِشارة إلى قبلة اليهود وقبلة النصارى لإبطال تهويل الفريقين على المسلمين حين استقبلوا الكعبة ، ومنهم من جعله لكل من يسمع الخطاب .والبِرّ سعة الإحسان وشدة المرضاة والخير الكامل الشامل ولذلك توصف به الأفعال القوية الإِحسان فيقال : بر الوالدين وبر الحج وقال تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } [ آل عمران : 92 ] ، والمراد به هنا بر العبد ربه بحسن المعاملة في تلقي شرائعه وأوامره .ونفيُ البر عن استقبال الجهات مع أن منها ما هو مشروع كاستقبال الكعبة : إما لأنه من الوسائل لا من المقاصد فلا ينبغي أن يكون الاشتغال به قصارى همة المؤمنين ولذلك أسقطه الله عن الناس في حال العجز والنسيان وصلوات النوافل على الدابة في السفر ، ولذلك قال : { ولكن البر من آمن } إلخ فإن ذلك كله من أهم مقاصد الشريعة وفيه جماع صلاح النفس والجماعة ، ونظير هذا قوله تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج } [ التوبة : 19 ] الآيات فيكون النفي على معنى نفي الكمال ، وإمَّا لأن المنفي عنه البرُّ هو استقبال قبلتي اليهود والنصارى فقد تقدم لنا أن ذلك الاستقبال غيرُ مشروع في أصل دينهم ولكنه شيء استحسنه أنبياؤُهم ورهبانهم ولذلك نُفي البر عن تولية المشرق والمغرب تنبيهاً على ذلك .وقرأ الجمهور { ليس البرُّ } برفع { البر } على أنه اسم { ليس } والخبر هو { أَن تُولُّوا } وقرأه حمزة وحفص عن عاصم بنصب { البرَّ } على أن قوله : { أن تولوا } اسمُ { ليس } مؤخر ، ويكثر في كلام العرب تقديم الخبر على الاسم في باب كان وأخواتها إذا كان أحد معمولي هذا الباب مركباً من أنْ المصدرية وفعلِها كان المتكلم بالخيار في المعمول الآخر بين أن يرفعه وأن ينصبه وشأن اسم { ليس } أن يكون هو الجدير بكونه مبتدأ به ، فوجه قراءة رفع { البر } أن البر أمر مشهور معروف لأهل الأديان مرغوب للجميع فإذا جعل مبتدأ في حالة النفي أصغت الأسماع إلى الخبر ، وأما توجيه قراءة النصب فلأن أمر استقبال القبلة هو الشغل الشاغل لهم فإذا ذُكر خبره قبلهُ ترقب السامع المبتدأ فإذا سمعه تقرر في علمه .وقوله : { ولكن البر من آمن } إخبار عن المصدر باسم الذَّات للمبالغة كعكسه في قولها : «فإنما هي إقبال وإدبار» وذلك كثير في الكلام ومنه قوله تعالى : { إن أصبح ماؤكم غوراً } [ الملك : 30 ] وقول النابغة :وقد خِفْتُ ما تزيد مَخافَتي ... علَى وَعِللٍ في ذي المطارة عاقلِأي وعل هو مخافة أي خائف ، ومن قدر في مثله مضافاً أي برُّ مَنْ آمن أو ولكن ذُو البر فإنما عنى بيان المعنى لا أن هنالك مقداراً؛ لأنه يخرج الكلام عن البلاغة إلى كلام مغول كما قال التفتازاني ، وعن المبرد : لو كنتُ ممن يقرأ لقَرَأْتُ ولكن البَر بفتح الباء ، وكأنه أراد الاستغناء عن التقدير في الإخبار عن البر بجملة : { من آمن } لأن مَن آمن هو البار لا نفس البِر وكيف يقرأ كذلك و { البر } معطوف بلكِن في مقابلة البر المثبت فهل يكون إلاّ عينه ولذا لم يقرأ أحد إلاّ البِر بكسر الباء ، على أن القراءات مروية وليست اختياراً ولعل هذا لا يصح عن المبرد .وقرأ نافع وابن عامر ( ولكنْ البر ) بتخفيف النون من لكن ورفع البر على الابتداء وقرأه بقية العشرة بتشديد نون ( لكن ) ونصب ( البر ) والمعنى واحد .وتعريف { والكتاب } تعريف الجنس المفيد للاستغراق أي آمن بكُتب الله مثل التوراة والإنجيل والقرآن ، ووجه التعبير بصيغة المفرد أنها أخف مع عدم التباس التعريف بأن يكون للعهد؛ لأن عطف ( النبيين ) على ( الكتاب ) قرينة على أن اللام في ( الكتاب ) للاستغراق فأوثرت صيغة المفرد طلباً لخفة اللفظ . وما يُظن من أن استغراق المفرد المعرف باللام أشمل من استغراق الجمع المعرف بها ليس جارياً على الاستعمال وإنما توهمه السكاكي في «المفتاح» في قوله تعالى : { قال رب إني وهن العظم مني } [ مريم : 4 ] من كلام وقع في «الكشاف» وما نقل عن ابن عباس أنه قرأ قولَه تعالى : { كلٌّ ءَامَن با لله وملائكته وكِتَابِهِ } [ البقرة : 285 ] ، وقال الكتاب أكثر من الكتب فلو صَحَّ عنه لم يكن مريداً به توجيه قراءته ( وكتابِه ) المعرفَ بالإضافة بل عنى به الأسماء المنفية بلا التبرئة تفرقة بين نحو لا رجل في الدار ونحو لا رجال في الدار في تطرق احتمال نفي جنس الجموع لا جنس الأفراد على ما فيه من البحث فلا ينبغي التعلُّق بتلك الكلمة ولا يصح التعلق بما ذكره صاحب «المفتاح» .والذي ينبغي اعتماده أن استغراق المفرد والجمع في المعرف باللام وفي المنفي بلا التبرئة سواء وإنما يختلف تعبير أهل اللسان مرة بصيغة الإفراد ومرة بصيغة الجمع تبعاً لحكاية الصورة المستحضرة في ذهن المتكلم والمناسبِة لمقام الكلام ، فأما في المنفي بلا النافية للجنس فلك أن تقول لا رجل في الدار ولا رجال في الدار على السواء إلاّ إذا رجح أحدَ التعبيرين مرجِّح لفظي ، وأما في المعرف باللام أو الإضافة فكذلك في صحة التعبير بالمفرد والجمع سِوى أنه قد يتوهم احتمال إرادة العهد وذلك يَعرض للمفرد والجمع وينْدفع بالقرائن .وعلى في قوله : { على حبه } مجاز في التمكن من حب المال مثل { أولئك على هدى } [ البقرة : 5 ] وهي في مثل هذا المقام للتنبيه على أبعد الأحوال من مظنة الوصف فلذلك تفيد مفاد كلمة مع وتدل على معنى الاحتراس كما هي في قوله تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً } [ الإنسان : 8 ] وقول زهير :مَن يَلْقَ يوماً على عِلاَّتِه هَرِماً ... يَلْقَ السماحة فيه والنَّدى خُلُقاًقال الأعلم في «شرحه» أي فكيف به وهو على غير تلك الحالة اه .وليس هذا معنى مستقلاً من معاني على بل هو استعلاء مجازي أريد به تحقق ثبوت مدلول مدخولها لمعمول متعلقها ، لأنه لبعد وقوعه يحتاج إلى التحقيق ، والضمير للمال لا محالة والمراد أنه يعطي المال مع حبِّه للمال وعدم زهادته فيه فيدل على أنه إنما يعطيه مرضاة لله تعالى ولذلك كان فعله هذا براً .وذكر أصنافاً ممن يؤتون المال لأن إتيانهم المال ينجم عنه خيرات ومصالح .فذكر ذوي القربى أي أصحاب قرابة المعطي فاللام في ( القربى ) عوض عن المضاف إليه ، أمر المرء بالإحسان إليهم لأن مواساتهم تكسبهم محبتهم إياه والتئامهم وهذا التئام القبائل الذي أراده الله بقوله : { لتعارفوا } [ الحجرات : 13 ] فليس مقيّداً بوصف فقرهم كما فسر به بعض المفسرين بل ذلك شامل للهدية لأغنيائهم وشامل للتوسعة على المتضائقين وترفيه عيشتهم ، إذ المقصود هو التحابب .ثم ذكر اليتامى وهم مظنة الضعف لظهور أن المراد اليتيم المحتاج حاجة دون الفقر وَإنما هو فاقد ما كان ينيله أبوه من رفاهية عَيْششٍ ، فإيتاؤهم المال يجبر صدع حياتهم . وذكر السائلين وهم الفقراء . والمسكنة : الذل مشتقة من السكون ووزن مسكني مفعيل للمبالغة مثل مِنطيق . والمسكين الفقير الذي أذله الفقر وقد أتفق أئمة اللغة أن المسكين غير الفقير هو أقل فقراً من الفقير وقيل هو أشد فقراً وهذا قول الجمهور وقد يطلق أحدهما في موضع الآخَر إذا لم يجتمعا وقد اجتمع في قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } [ التوبة : 60 ] ونظيرها في ذكر هؤلاء الأربعة قوله تعالى : { يسألونك ماذا ينفعون قل ما أنفقتم من خير فللو الدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } [ البقرة : 215 ] .وذكر السائلين وهم الفقراء كنى عنهم بالسائلين لأن شأن المرء أن تمنع نفسه من أن يسأل الناس لغير حاجة غالباً .فالسؤال علامة الحاجة غالباً ، ولو أدخل الشك في العلامات الاعتيادية لارتفعت الأحكام فلو تحقق غنى السائل لما شرع إعطاؤه لمجرد سؤاله ، ورووا : «للسائل حق ولو جاء راكباً على فرس» وهو ضعيف .وذَكر ابن السبيل وهو الغريب أعْني الضيف في البوادي؛ إذ لم يكن في القبائل نُزْل أو خانات أو فنادق ولم يكن السائر يستصحب معه المال وإنما يحمل زاد يومه ولذلك كان حق الضيافة فرضاً على المسلمين أي في البوادي ونحوها . وذكر الرقاب والمراد فِداء الأسرى وعتق العبيد . ثم ذكر الزكاة وهي حق المال لأجل الغنى ومصارفها مذكورة في آياتها .وذكر الوفاء بالعهد لما فيه من الثقة بالمعاهِد ومن كرم النفس وكون الجِد والحق لها دربة وسجية ، وإنما قيد بالظرف وهو إذا عاهدوا أي وقت حصول العهد فلا يتأخر وفاؤهم طَرفَة عَيْن ، وفيه تنبيه على وجوب الاحتياط عند بذل العهد بحيث لا يعاهِد حتى يتحقق أنه يستطيع الوفاء كأنه يقول : فإن علموا ألا يفوا فلا يعاهدوا . وعطف { والموفون } على { من ءامن بالله } وغير أسلوب الوصف فلم يقل ومَنْ أوْفَى بعهده للدلالة على مغايرة الوصفين بأن الأول من علائق حق الله تعالى وأصول الدين والثاني من حقوق العباد .وذكر الصابرين في البأساء لما في الصبر من الخصائص التي ذكرناها عند قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] ثم ذكر مواقعه التي لا يعدوها وهي حالة الشدة ، وحالة الضر ، وحالة القتال ، فالبأساء والضراء اسمان على وزن فعلاء وليسا وصفين إذ لم يسمع لهما أَفْعَلُ مذكَّراً ، والبأساء مشتقة من البُؤْس وهو سوء الحالة من فقر ونحوه من المكروه ، قال الراغب : وقد غلب في الفقر ومنه البئيس الفقير ، فالبأساء الشدة في المال ، والضراء شدة الحال على الإنسان مشتقة من الضُّرّ ويقابلها السَّرَّاء وهي ما يَسُرّ الإنسان من أحواله ، والبأسُ النكاية والشدة في الحرب ونحوها كالخصومة { قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد } [ النمل : 33 ] { بأسهم بينهم شديد } [ الحشر : 14 ] والشر أيضاً بأس والمراد به هنا الحرب .فلله هذا الاستقراء البديع الذي يعجز عنه كل خطيب وحكيم غير العلام الحكيم . وقد جمعت هذه الخصال جماع الفضائل الفردية والاجتماعية الناشىء عنها صلاح أفراد المجتمع من أصول العقيدة وصالحات الأعمال .فالإيمان وإقام الصلاة هما منبع الفضائل الفردية ، لأنهما ينبثق عنهما سائر التحليات المأمور بها ، والزكاة وإيتاء المال أصل نظام الجماعة صغيرها وكبيرها ، والمواساة تقوى عنها الأخوة والاتحاد وتسدد مصالح للأمة كثيرة ويبذل المال في الرقاب يتعزز جانب الحرية المطلوبة للشارع حتى يصير الناس كلهم أحراراً . والوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية وهي عنوان كمال النفس ، وفضيلة اجتماعية وهي ثقة الناس بعضهم ببعض .والصبر فيه جماع الفضائل وشجاعة الأمة ولذلك قال تعالى هنا : { أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } فحصر فيهم الصدق والتقوى حصراً ادعائياً للمبالغة ، ودلت على أن المسلمين قد تحقق فيهم معنى البر ، وفيه تعريض بأن أهل الكتاب لم يتحقق فيهم ، لأنهم لم يؤمنوا ببعض الملائكة وبعض النبيئين ، ولأنهم حرموا كثيراً من الناس حقوقهم ، ولم يفوا بالعهد ، ولم يصبروا .وفيها أيضاً تعريض بالمشركين إذ لم يؤمنوا باليوم الآخر ، والنبيئين ، والكتب وسلبوا اليتامى أموالهم ، ولم يقيموا الصلاة ، ولم يؤتوا الزكاة .ونصب ( الصابرين ) وهو معطوف على مرفوعات نصبٌ على الاختصاص على ما هو المتعارف في كلام العرب في عطف النعوت من تخيير المتكلم بين الاتباع في الإعراب للمعطوف عليه وبين القطع قاله الرضي ، والقطع يكون بنصب ما حقه أن يكون مرفوعاً أو مجروراً وبرفع ما هو بعكسه ليظهر قصد المتكلم القطع حين يختلف الإعراب؛ إذ لا يعرف أن المتكلم قصد القطع إلاّ بمخالفة الإعراب ، فأما النصب فبتقدير فعل مدح أو ذم بحسب المقام ، والأظهر تقدير فعل أخُص لأنه يفيد المدح بين الممدوحين والذم بين المذمومين .وقد حصل بنصب ( الصابرين ) هنا فائدتان : إحداهما عامة في كل قطع من النعوت ، فقد نقل عن أبي علي الفارسي أنه إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخالف إعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها لأن هذا من مواضع الإطناب فإذا خولف إعراب الأوصاف كان المقصود أكمل لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان .قال في «الكشاف» «نُصِب على المدح وهو باب واسع كسَّره سيبويه على أمثلة وشواهد» اه . قلت : قال سيبويه في باب ما ينتصب على التعظيم والمدح «وإن شئتَ جعلته صفة فجري على الأوللِ ، وإن شئتَ قطعته فابتدأْتَه ، مثل ذلك قوله تعالى : { ولكن البر من ءامن بالله واليوم الآخر } إلى قوله { والصابرين } ولو رُفع الصابرين على أول الكلام كان جيداً ، ولو ابتدأته فرفعته على الابتداء كان جيداً ، ونظير هذا النصب قول الخِرْنِقِ :لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الذِين هُمُو ... سُم العُداةِ وآفة الجُزْرِالنازِلينَ بكل مُعْتَرَكٍ ... والطيِّبون مَعَاقِدَ الأُزْرِبنصب النازلين ، ثم قال : وزعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم تُرِد أن تحدِّث الناس ولا مَنْ تخاطب بأمرٍ جَهِلوه ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمتَ فجعلته ثناء وتعظيماً ونصبه على الفعل كأنه قال أَذْكُرُ أهْلَ ذلك وأَذْكُرُ المقيمين ولكنه فعل لا يستعمل إظهاره» اه قلت : يؤيد هذا الوجه أنه تكرر مثله في نظائر هذه الآية في سورة النساء { والمقيمين الصلاة } [ النساء : 162 ] عطفاً على { لكن الراسخون في العلم } [ النساء : 162 ] ، وفي سورة العقود { والصابئون } [ المائدة : 69 ] عطفاً على { إن الذين آمنوا والذين هادوا } [ المائدة : 69 ] .الفائدة الثانية أن في نصب { الصابرين } بتقدير أخص أو أمدح تنبيهاً على خصيصية الصابرين ومزية صفتهم التي هي الصبر .قال في «الكشاف» : «ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظرْ في الكتاببِ ولم يعرف مذاهب العرب ومالَهم في النصب على الاختصاص من الافتتان اه» وأقول : إن تكرره كما ذكرنا وتقارب الكلمات يربأُ به على أن يكون خطأً أو سهواً وهو بين كلمتين مخالفتين إعرابه .وعن الكسائي أن نصبه عطف على مفاعيل { آتى } أي وآتى المال الصابرين أي الفقراء المتعففين عن المسألة حين تصيبهم البأساء والضراء والصابرين حين البأس وهم الذين لا يجدون ما ينفقون للغزو ويحبون أن يغزوا ، لأن فيهم غناء عن المسلمين قال تعالى : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون } [ التوبة : 92 ] .وعن بعض المتأولين أن نصب { والصابرين } وقع خطأ من كتاب المصاحف وأنه مما أراده عثمان رضي الله عنه فيما نُقل عنه أنه قال بعد أن قرأ المصحف الذي كتبوه : «إنِّي أجد به لحناً ستقيمه العرب بألسنتها» وهذا مُتَقَوَّل على عثمان ولو صح لكان يريد باللحن ما في رسم المصاحف من إشارات مثل كتابة الألف في صورة الياء إشارة إلى الإمالة ولم يكن اللحن يطلق على الخطأ .وقرأ يعقوب { والصابرون } بالرفع عطفاً على { والموفوف } .
الآية 177 - سورة البقرة: (۞ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى...)