سورة البقرة: الآية 23 - وإن كنتم في ريب مما...

تفسير الآية 23, سورة البقرة

وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا۟ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِۦ وَٱدْعُوا۟ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ

الترجمة الإنجليزية

Wain kuntum fee raybin mimma nazzalna AAala AAabdina fatoo bisooratin min mithlihi waodAAoo shuhadaakum min dooni Allahi in kuntum sadiqeena

تفسير الآية 23

وإن كنتم -أيها الكافرون المعاندون- في شَكٍّ من القرآن الذي نَزَّلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتزعمون أنه ليس من عند الله، فهاتوا سورة تماثل سورة من القرآن، واستعينوا بمن تقدرون عليه مِن أعوانكم، إن كنتم صادقين في دعواكم.

«وإن كنتم في ريب» شك «مما نزلنا على عبدنا» محمد من القرآن أنه من عند الله «فأتوا بسورة من مثله» أي المنزل ومن للبيان أي هي مثله في البلاغة وحسن النظم والإخبار عن الغيب. والسورة قطعة لها أول وآخر أقلها ثلاث آيات «وادعوا شهداءكم" آلهتكم التي تعبدونها» من دون الله» أي غيره لتعينكم «إن كنتم صادقين» في أن محمدا قاله من عند نفسه فافعلوا ذلك فإنكم عربيون فصحاء مثله ولما عجزوا عن ذلك قال تعالى:

وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به، فقال: وإن كنتم معشر المعاندين للرسول, الرادين دعوته, الزاعمين كذبه في شك واشتباه, مما نزلنا على عبدنا, هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف، فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو أنه بشر مثلكم, ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم, لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله, وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون, فأتوا بسورة من مثله, واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم, فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة, والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله, فهو كما زعمتم, وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز, ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزل معكم، فهذا آية كبرى, ودليل واضح [جلي] على صدقه وصدق ما جاء به, فيتعين عليكم اتباعه, واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [والشدة], أن كانت وقودها الناس والحجارة, ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب, وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله, بعد ما تبين لكم أنه رسول الله. وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي, وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا وكيف يقدر المخلوق من تراب, أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه, أن يأتي بكلام ككلام الكامل, الذي له الكمال المطلق, والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان, ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [بأنواع] الكلام, إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء, ظهر له الفرق العظيم. وفي قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ إلى آخره, دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة: [هو] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق. وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه, فهذا لا يمكن رجوعه, لأنه ترك الحق بعد ما تبين له, لم يتركه عن جهل, فلا حيلة فيه. وكذلك الشاك غير الصادق في طلب الحق, بل هو معرض غير مجتهد في طلبه, فهذا في الغالب أنه لا يوفق. وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم, دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم, قيامه بالعبودية, التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين. كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ وفي مقام الإنزال، فقال: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ وفي قوله: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ونحوها من الآيات, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة، وفيها أيضا, أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار, لأنه قال: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فلو كان [عصاة الموحدين] يخلدون فيها, لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج والمعتزلة. وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه, وهو الكفر, وأنواع المعاصي على اختلافها

ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو ، فقال مخاطبا للكافرين : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ( فأتوا بسورة ) من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله ، فعارضوه بمثل ما جاء به ، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله ، فإنكم لا تستطيعون ذلك .قال ابن عباس : ( شهداءكم ) أعوانكم [ أي : قوما آخرين يساعدونكم على ذلك ] .وقال السدي ، عن أبي مالك : شركاؤكم [ أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم ] .وقال مجاهد : ( وادعوا شهداءكم ) قال : ناس يشهدون به [ يعني : حكام الفصحاء ] .وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن ، فقال في سورة القصص : ( قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ) [ القصص : 49 ] وقال في سورة سبحان : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) [ الإسراء : 88 ] وقال في سورة هود : ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) [ هود : 13 ] ، وقال في سورة يونس : ( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) [ يونس : 37 ، 38 ] وكل هذه الآيات مكية .ثم تحداهم [ الله تعالى ] بذلك - أيضا - في المدينة ، فقال في هذه الآية : ( وإن كنتم في ريب ) أي : [ في ] شك ( مما نزلنا على عبدنا ) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم . ( فأتوا بسورة من مثله ) يعني : من مثل [ هذا ] القرآن ؛ قاله مجاهد وقتادة ، واختاره ابن جرير . بدليل قوله : ( فأتوا بعشر سور مثله ) [ هود : 13 ] وقوله : ( لا يأتون بمثله ) [ الإسراء : 88 ] وقال بعضهم : من مثل محمد صلى الله عليه وسلم ، يعني : من رجل أمي مثله . والصحيح الأول ؛ لأن التحدي عام لهم كلهم ، مع أنهم أفصح الأمم ، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة ، مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ، ومع هذا عجزوا عن ذلك

وبعد أن ساق - سبحانه - في هاتين الآيتين البراهين الساطعة الدالة على وحدانية الله؛ ونفي عقيدة الشرك ، أورد بعد ذلك الدلائل الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن ليس من صنع بشر ، وإنما هو كلام واهب القوى والقدر فقال - تعالى - :( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ . . . )في هاتين الآيتين انتقال لإِثبات الجزء الثاني من جزأي الإِيمان ، وهو صدق النبي صلى الله عليه وسلم - في رسالته ، بعد أن تم إثبات الجزء الأول من ذلك وهو وحدانية الله - تعالى - وعظيم قدرته .والمعنى : إن رتبتم أيها المشركون في شأن هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد على مهل وتدريج ، فأتوا أنتم بسورة من مثله في سمو الرتبة ، وعلو الطبقة واستعينوا على ذلك بآلهتكم وبكل من تتوقعون منهم العون ، ليساعدوكم في مهمتكم ، أو ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بما يمائله ، إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم تقدرون على معارضة القرآن الكريم .والمقصود بقوله : ( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا . . . ) نفي الريب عن المنزل عليه - وهو محمد صلى الله عليه وسلم - بنفيه عن المنزل وهو القرآن الكريم .والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب للإِيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم هو الارتياب في شأنه ، أو للتنبيه على أن كلامهم في شأن القرآن هو بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح الدلائل الدالة على أن القرآن من عند الله - تعالى- .وعبر بقوله : ( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) ولم يقل : وإن ارتبتم فيما نزلنا ، للإِشارة إلى أن ذات القرآن لا يتطرق إليها ريب ، ولا يطير إلى أفقها شرارة من شك ، وأنه إن أثير حوله أي شك فمرجعه إلى انطماس بصيرتهم ، وضعف تفكيرهم ، واستيلاء الحقد والعناد على نفوسهم .وأتى بإن المفيدة للشك مع أن كونهم في ريب مما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أمر محقق ، تنزيلا للمحقق منزلة المشكوك فيه ، وتنزيهاً لساحة القرآن عن أن يتحقق الشك فيه من أي أحد ، وتوبيخاً لهم على وضعهم الأمور في غير مواضعها .ووجه الإِتيان بفي الدالة على الظرفية ، للإِشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف .وقال ( نَزَّلْنَا ) دون أنزلنا ، لأن المراد النزول على سبيل التدريج ، ومن المعروف أن القرآن قد نزل منجما في مدة تزيد على عشرين سنة .قال صاحب الكشاف : ( فإن قلت : لم قيل : ( مما نزلنا ) على لفظ التنزيل دون الإِنزال؟ قلت : لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم وذلك أنهم كانوا يقولون : لو كان هذا القرآن من عند الله ، لم ينزل هكذا نجوماً سورة بعد سورة ، وآيات عقب آيات ، على حسب النوازل ، وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من جود ما يوجد منهم مفرقاً حيناً فحيناً حسب ما يعن لهم من الأحوال المتجددة . . . فقيل لهم : إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج ، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبة ، وهاتوا نجماً فردا من نجومه : سورة من أصغر السور ، أو آيات شتى مفترقات ، وهذا غاية التبكيت ومنتهى إزاحة العلل ) اه. ملخصاً .والمراد بالعبد في قوله - تعالى - : ( على عَبْدِنَا ) محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي إضافته إلى الله - تعالى - تنبيه على شرف منزلته عنده ، واختصاصه به .وفي ذكره صلى الله عليه وسلم باسم العبودية ، تذكير لأمته بهذا المعنى ، حتى لا يغالوا في تعظيمه فيدعوا ألوهية كما غالت بعض الفرق في تعظيم أبنيائها أو زعمائهم فادعت ألوهيتهم .والسورة : الطائفة من القرآن المسماة باسم خاص ، والتي أقلها ثلاث آيات ، والضمير في قوله ( من مثله ) يعود على المنزل وهو القرآن .والمراد من مثل القرآن : ما يشابهه في حسن النظم ، وبراعة الأسلوب وحكمة المعنى . وهذا الوجه من الإِعجاز يتحقق في كل سورة .وقيل : إن الضمير في قوله ( من مثله ) يعود على المنزل عليه القرآن ، وهو - النبي صلى الله عليه وسلم - ولكن الرأي الأول أرجح .قال الإِمام الرازي ما ملخصه : وعود الضمير إلى القرىن أرجح لوجوه :أحدها : أن ذلك مطابق لسائر الآيات الواردة في باب التحدي لا سيما ما ذكره في سورة يونس من قوله : ( فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ . . . ) .وثانيها : أن البحث إنما وقع في المنزل وهو القرآن ، لأنه قال : ( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا . . . ) فوجب صرف الضمير إليه ، ألا ترى أن المعنى ، وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا أنتم شيئاً مما يماثله ، وقضية الترتيب لو كان الضمير مردودا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال : وإن ارتبتم في أن محمدا منزل عليه فهاتوا قرآنا مثله .وثالثها : أن الضمير لو كان عائدا إلى القرآن لاقتضى كونهم عاجزين عن الإِتيان بمثله سواء اجتمعوا أو انفردوا وسواء كانوا أميين أو عالمين ، أما لو كان عائداً إلى محمد صلى الله عليه وسلم فذلك لا يقتضي إلا كون آحادهم من الأميين عاجزين عنه ، لأنه لا يكون مثل محمد إلا الشخص الأمي ، فأما لو اجتمعوا وكانوا قارئين لم يكونوا مثل محمد ، لأن الجماعة لا تماثل الواحد . والقارئ لا يكون مثل الأمي ، ولا شك أن الإِعجاز على الوجه الأول أقوى .ورابعها : أننا لو صرفنا الضمير إلى محمد صلى الله عليه وسلم لكان ذلك يوهم أن صدور مثل القرآن مما لم يكن مثل محمد في كونه أميا ممكن ، ولو صرفناه إلى القرآن لدل ذلك على أن صدور مثله من الأمي ومن غير الأمي ممتنع فكان هذا أولى .وقوله - تعالى - : ( وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله ) معطوف على قوله : ( فَأْتُواْ بِسُورَةٍ ) .وادعوا : من الدعاء ، والمراد به هنا : طلب حضور المدعو أي : نادوهم .وشهداءكم : أي : آلهتكم ، جمع شهيد وهو القائم بالشهادة ، فقد كانوا يزعمون أن آلهتهم تشهد لهم يوم القيامة بأنهم على حق .وقيل : الشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو الناصر أو الإِمام ، وكأنه سمي به لأنه يحضر المجالس وتمر بمحضره الأمور .ودون : بمعنى غير : وتطلق في أصل اللغة على أدنى مكان من الشيء ، ومنه تدوين الكتب لأنه إدناء البعض من البعض ، ودونك هذا أي : خذه من أدنى مكان منك ، ثم استعير للتفاوت في الرتب فقيل : زيد دون عمرو أي : في الشرف ، ومنه الشيء الدون ، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد ، وتخطى أمر إلى أمر .قال الجمل : ( والمعنى ) : وادعوا إلى المعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وآلهتكم غير الله ، فإنه لا يقدر على أن يأتي بمثله إلا الله . . ، أو ادعوا من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم به مثله ، ولا تستشهدوا بالله ، فإن الاستشهاد به من عادة المبهوت العاجز عن إقامة الحجة ، أو شهداءكم الذين اتخذتموهم من دون الله آلأهة وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة . . . .وفي أمرهم بدعوة أصنامهم وهي جماد ، وفي تسميتها شهداء مع إضافتها إليهم مع أنه لا تعقل ولا تنطق ، في كل ذلك أقوى ألوان التهكم ، لكي يثير في نفوسهم من الألم ما قد يكون سبباً لتنبيههم ، إلى جهلهم ، وانصرافهم عن ضلالهم .وقوله - تعالى - : ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) جملة معترضة في آخر الكلام وجواب الشرط محذوف دل عليه الكلام السابق دلالة واضحة حتى صار ذكره في نظم الكلام مما ينزل به عن مرتبة البلاغة .والمعنى : إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم تقدرون على معارضة القرآن فأتوا بسورة من مثله . وادعوا آلهتكم وبلغاءكم وجميع البشر ليعينوكم أو ليشهدو لكم أنكم أتيتم بما يماثله في حكمة معانيه وحسن بيانه .وفي هذه الآية الكريمة إثارة لحماستهم ، إذ عرض بعدم صدقهم ، فتتوفر دواعيهم على المعارضة التي زعموا أنهم أهل لها .

وإن كنتم في ريب أي (وإن) كنتم في شك، لأن الله تعالى علم أنهم شاكون.مما نزلنا يعني القرآن.على عبدنا محمد.فأتوا أمر تعجيز.بسورة والسورة قطعة من القرآن معلومة الأول والآخر من أسأرت أي أفضلت، حذفت الهمزة، وقيل: السورة اسم للمنزلة الرفيعة، ومنه سور البناء لارتفاعه؛ سميت سورة لأن القارئ ينال بقراءتها منزلة رفيعة حتى يستكمل المنازل باستكماله سور القرآن.من مثله أي مثل القرآن (( ومن )) صلة، كقوله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم [30-النور]وقيل: الهاء في مثله راجعة لمحمد صلى الله عليه وسلم يعني: من مثل محمد صلى الله عليه وسلم أمي لا يحسن الخط والكتابة [ قال محمود هاهنا من مثله دون سائر السور، لأن مِن للتبعيض وهذه السورة أول القرآن بعد الفاتحة فأدخل (مِن) ليعلم أن التحدي واقع على جميع سور القرآن، ولو أدخل (مِن) في سائر السور كان التحدي واقعاً على جميع سور القرآن، ولو أدخل خفي سائر السور كان التحدي واقعاً على بعض السور ].وادعوا شهداءكم أي واستعينوا بآلهتكم التي تعبدونها.من دون الله قال مجاهد: "ناساً يشهدون لكم".إن كنتم صادقين أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقوله من تلقاء نفسه فلما تحداهم عجزوا.فقال:

قوله تعالى : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقينقوله تعالى : وإن كنتم في ريب أي في شك " مما نزلنا " يعني القرآن ، والمراد المشركون الذين تحدوا ، فإنهم لما سمعوا القرآن قالوا : ما يشبه هذا كلام الله ، وإنا لفي شك منه ، فنزلت الآية . ووجه اتصالها بما قبلها أن الله سبحانه لما ذكر في الآية الأولى الدلالة على وحدانيته وقدرته ذكر بعدها الدلالة على نبوة نبيه ، وأن ما جاء به ليس مفترى من عنده .قوله على عبدنا يعني محمدا صلى الله عليه وسلم . والعبد مأخوذ من التعبد وهو التذلل ، فسمي المملوك - من جنس ما يفعله - عبدا لتذلله لمولاه ، قال طرفة :إلى أن تحامتني العشيرة كلها وأفردت إفراد البعير المعبدأي المذلل . قال بعضهم : لما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمي بها أشرف الخطط ، سمى نبيه عبدا ، وأنشدوا :يا قوم قلبي عند زهراء يعرفه السامع والرائيلا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائيفأتوا بسورة الفاء جواب الشرط ، ائتوا مقصور لأنه من باب المجيء ، قاله ابن كيسان . وهو أمر معناه التعجيز ; لأنه تعالى علم عجزهم عنه . والسورة واحدة السور . وقد تقدم الكلام فيها وفي إعجاز القرآن ، فلا معنى للإعادة . و " من " في قوله " من مثله " زائدة ، كما قال فأتوا بسورة مثله والضمير في مثله عائد على القرآن عند الجمهور من العلماء ، كقتادة ومجاهد وغيرهما . وقيل : يعود على التوراة والإنجيل . فالمعنى فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدق ما فيه . وقيل : يعود على النبي صلى الله عليه وسلم . المعنى : من بشر أمي مثله لا يكتب ولا يقرأ . فمن على هذين التأويلين للتبعيض ، والوقف على مثله ليس بتام ; لأن وادعوا نسق عليه .قوله تعالى : وادعوا شهداءكم معناه أعوانكم ونصراءكم . الفراء : آلهتكم . وقال ابن كيسان : فإن قيل كيف ذكر الشهداء هاهنا ، وإنما يكون الشهداء ليشهدوا أمرا ، أو ليخبروا بأمر شهدوه ، وإنما قيل لهم : فأتوا بسورة من مثله ؟ فالجواب : أن المعنى استعينوا بمن وجدتموه من علمائكم ، وأحضروهم ليشاهدوا ما تأتون به ، فيكون الرد على الجميع أوكد في الحجة عليهم .قلت : هذا هو معنى قول مجاهد . قال مجاهد : معنى : وادعوا شهداءكم أي ادعوا ناسا يشهدون لكم ، أي يشهدون أنكم عارضتموه . النحاس : " شهداءكم " نصب بالفعل ، جمع شهيد ، يقال : شاهد وشهيد ، مثل قادر وقدير .وقوله من دون الله أي من غيره ، ودون نقيض فوق ، وهو تقصير عن الغاية ، ويكون ظرفا . والدون : الحقير الخسيس ، قال :إذا ما علا المرء رام العلاء ويقنع بالدون من كان دوناولا يشتق منه فعل ، وبعضهم يقول منه : دان يدون دونا . ويقال : هذا دون ذاك ، أي أقرب منه . ويقال في الإغراء بالشيء : دونكه . قالت تميم للحجاج : أقبرنا صالحا - وكان قد صلبه - فقال : دونكموه .قوله تعالى : إن كنتم صادقين فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة ، لقولهم في آية أخرى : لو نشاء لقلنا مثل هذا والصدق : خلاف الكذب ، وقد صدق في الحديث . والصدق : الصلب من الرماح . ويقال : صدقوهم القتال . والصديق : الملازم للصدق . ويقال : رجل صدق ، كما يقال : نعم الرجل . والصداقة مشتقة من الصدق في النصح والود .

القول في تأويل قوله : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِقال أبو جعفر: وهذا من الله عز وجل احتجاجٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم، وكفار أهل الكتاب وضُلالهم، الذين افتتح بقصَصهم قولَه جل ثناؤه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ، وإياهم يخاطب بهذه الآيات, وضُرباءَهم يَعني بها (150) ، قال الله جلّ ثناؤه: وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفارُ من أهل الكتابين، في شكٍّ -وهو الريب- مما نزّلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان: أنه من عندي, وأنّي الذي أنزلته إليه, فلم تُؤمنوا به ولم تصدّقوه فيما يقول, فأتوا بحجة تدفع حُجته، لأنكم تعلمون أن حجةَ كلّ ذي نبوّة على صدقه في دعوَاه النبوة: أن يأتي ببرهان يَعجز عن أن يأتيَ بمثله جَميعُ الخلق. ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه، وبُرْهانه على حقيقة نبوته (151) ، وأنّ ما جاء به من عندي - عَجزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم، عن أن تَأتوا بسورةٍ من مثله. وإذا عَجزتم عن ذلك -وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والذَّرابة (152) - فقد علمتم أن غيركم عما عَجزتم عنه من ذلك أعْجزُ. كما كانَ برهانُ من سَلف من رُسلي وأنبيائي على صدْقه، وحُجتهُ على نبوته من الآيات، ما يَعجز عن الإتيان بمثله جميعُ خلقي. فيتقرر حينئذ عندكم أنّ محمدًا لم يتقوَّله ولم يختلقْه, لأنّ ذلك لو كان منه اختلافًا وتقوُّلا لم تعجزوا وجميع خلقي عن الإتيان بمثله. لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يَعْدُ أن يكون بَشرًا مثلكم, وفي مثل حالكم في الجسم وبَسطة الخلق وذرَابة اللسان - فيمكن أن يُظنّ به اقتدارٌ على ما عَجزْتم عنه, أو يتوهم منكم عجزٌ عما اقتدر عليه.ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " فأتوا بسورَة من مثله ".491- فحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " فأتوا بسورة من مثله "، يعني: من مثل هذا القرآن حقًّا وصدْقًا، لا باطل فيه ولا كذب.492- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا ص[ 1-374 ] مَعمر، عن قتادة في قوله: " فأتوا بسورة من مثله "، يقول: بسورة مثلِ هذا القرآن (153) .493- حدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى بن ميمون, عن عبد الله بن أبي نَجيح, عن مجاهد: " فأتوا بسورة من مثله "، مثلِ القرآن.494- حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.495- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد: " فأتوا بسورة مِنْ مثله "، قال: " مثله " مثلِ القرآن (154) .فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما (155) : أن الله جلّ ذكره قال لمن حاجَّه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار: فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب, كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم.وقد قال قوم آخرون: إن معنى قوله: " فأتُوا بسورة من مثله "، من مثل محمد من البشر , لأن محمدًا بشر مثلكم (156) .قال أبو جعفر: والتأويل الأول، الذي قاله مجاهد وقتادة، هو التأويل الصحيح. لأن الله جَل ثناؤه قال في سُورة أخرى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [سورة يونس: 38]، ومعلومٌ أنّ السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه, فيجوزُ أنْ يقال: فأتُوا بسورة مثل محمد.فإن قال قائل: إنك ذكرتَ أن الله عني بقوله (157) " ، فأتوا بسورة من مثله "، ص[ 1-375 ] من مثل هذا القرآن, فهل للقرآن من مثل فيقال: ائتوا بسورة من مثله؟قيل: إنه لم يعنِ به: ائتُوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باينَ بها سائرَ الكلام غيرَه, وإنما عنى: ائتوا بسورة من مثله في البيان، لأنّ القرآن أنزله الله بلسان عربيّ, فكلام العرب لا شك له مثلٌ في معنى العربية. فأمّا في المعنى الذي باين به القرآن سائرَ كلام المخلوقين, فلا مثلَ له من ذلك الوجه ولا نظيرَ ولا شبيه.وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم بما احتج به لهُ عليهم من القرآن (158) ، إذْ ظهر عجز القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان, إذْ كان القرآن بيانًا مثلَ بيانهم, وكلامًا نزل بلسانهم, فقال لهم جلّ ثناؤه: وإن كنتم في رَيب من أنّ ما أنزلتُ على عَبدي من القرآن من عندي, فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثلُه في العربية, إذْ كنتم عربًا, وهو بيانٌ نظيرُ بيانكم, وكلامٌ شبيهُ كلامِكم. فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظيرُ اللسان الذي نزل به القرآن, فيقدِرُوا أن يقولُوا: كلفتنا ما لو أحسنَّاه أتينا به, وإنا لا نقدر على الإتيان به لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به, فليس لك علينا بهذا حجة (159) . لأنا - وإن عَجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا لأنّا لسنا من أهله (160) - ففي الناس خلقٌ كثير من غير أهل لساننا يقدرُ على أن يأتيَ بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به. ولكنه جل ثناؤه قال لهم: ائتوا بسورة مثله, لأن مثله من الألسن ألسنكم (161) ، وأنتم - إن كان محمدٌ اختلقه وافتراه, إذا اجتمعتم وتظاهرتُم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم - ص[ 1-376 ] أقدرُ على اختلاقه ورَصْفِه وتأليفه من محمد صلى الله عليه وسلم (162) ، وإن لم تكونوا أقدرَ عليه منه، فلن تعجزوا -وأنتم جميعٌ- عما قدَر عليه محمدٌ من ذلك وهو وحيدٌ (163) ، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أنّ محمدًا افتراه واختلقه، وأنه من عند غيرِي.واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)فقال ابن عباس بما:496- حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عباس: " وادعوا شُهداءكم من دون الله "، يعني أعوانكم على ما أنتم عليه, إن كنتم صادقين.497- حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: " وادعوا شُهداءكم "، ناس يَشهدون.498- حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.499- حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع، عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد, قال: قوم يشهدون لكم.ص[ 1-377 ]500- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد: " وادعوا شهداءكم "، قال: ناس يشهدون. قال ابن جُريج: " شهداءكم " عليها إذا أتيتم بها - أنها مثلُه، مثل القرآن (164) .وذلك قول الله لمن شكّ من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله " فادعوا "، يعني: استنصروا واستغيثوا (165) ، كما قال الشاعر:فَلَمَّا الْتَقَتْ فُرْسَانُنَا وَرِجَالُهُمْدَعَوْا: يَا لَكَعْبٍ! وَاعْتَزَيْنَا لِعَامِرِ (166)يعني بقوله: " دعوْا يالكعب "، استنصرُوا كعبًا واستغاثوا بهم (167) .وأما الشهداء، فإنها جمعُ شهيد, كما الشركاء جمع شريك (168) ، والخطباء جمع خطيب. والشهيد يسمى به الشاهدُ على الشيء لغيره بما يحقِّق دَعواه. وقد يسمَّى به المشاهِدُ للشيء، كما يقال: فلان جليسُ فلان -يعني به مُجالسَه, ونديمه - يعني به مُنادِمَه, وكذلك يقال: شهيده - يعني به مُشاهِدَه.فإذا كانت " الشهداء " محتملةً أن تكون جمعَ" الشهيد " الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفتُ, فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس, وهو أن يكون معناه: واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانَكم وشُهداءكم الذين يُشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله، ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم، إن كنتم مُحقّين في جُحودكم أنّ ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق وافتراء, لتمتحنوا أنفسكم وغيرَكم: هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من ص[ 1-378 ] مثله، فيقدرَ محمد على أن يأتي بجميعه من قِبَل نَفسه اختلاقًا؟وأما ما قاله مجاهد وابن جُريج في تأويل ذلك، فلا وجه له. لأن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافًا ثلاثة: أهل إيمان صحيح, وأهل كفر صحيح, وأهلَ نفاق بين ذلك. فأهل الإيمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين, فكان من المحال أن يدّعي الكفار أن لهم شُهداء - على حقيقة ما كانوا يأتون به، لو أتوا باختلاق من الرسالة, ثم ادَّعوا أنه للقرآن نَظير - من المؤمنين (169) . فأما أهلُ النفاق والكفر، فلا شكّ أنهم لو دُعُوا إلى تَحقيق الباطل وإبطال الحق لتتارعوا إليه مع كفرهم وضَلالهم (170) ، فمن أي الفريقين كانت تكون شُهداؤهم لو ادعوْا أنهم قد أتوْا بسورة من مثل القرآن (171) ؟ولكنْ ذلك كما قال جل ثناؤه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [سورة الإسراء: 88]، فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية، أنّ مثل القرآن لا يأتي به الجنّ والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به، وتحدَّاهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة فقال تعالى: " وإنْ كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إنْ كنتمْ صَادقين ". يعني بذلك: إن كنتم في شَكّ في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي, فأتوا بسورة ص[ 1-379 ] من مثله, وليستنصر بعضُكم بعضًا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم، حتى تعلموا أنكم إذْ عَجزتم عن ذلك - أنّه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من البشر أحدٌ, ويَصحَّ عندكم أنه تنزيلي وَوحيي إلى عبدي.-------------------الهوامش :(150) في المطبوعة : "وأخبر بأهم نعوتها" ، وهي في المخطوطة"+وحرناهم تعنى بها" غير منقوطة ولا بينة ، فاختار المصححون لها قراءة لا تحمل معنى! والضرباء : جمع ضريب؛ فلان ضريب فلان : نظيره أو مثله .(151) في المطبوعة : "وبرهانه على نبوته" .(152) في المطبوعة : "والدارية" ، ولا معنى لها هنا ، وستأتي بعد أسطر على الصواب . والذرابة : الحدة في كل شيء ، وحدة اللسان وفصاحته ولدده . ذرب الرجل يذرب ذربًا وذرابة : فصح وصار حديد اللسان ، فهو ذرب اللسان (بفتح الذال وكسر الراء) .(153) الأثر 492- في الدر المنثور 1 : 35 ، والشوكاني 1 : 40 .(154) الآثار 493 - 495 في الدر المنثور 1 : 35 ، والشوكاني 1 : 40 ، وابن كثير 1 : 108 .(155) في المطبوعة : "اللذين ذكرنا عنهما" .(156) يعني فأتوا بسورة من عند بشر مثل محمد .(157) في المطبوعة : "إنك ذكرت" ، بغير فاء .(158) في المطبوعة : "بما احتج له عليهم" ، أسقط"به" .(159) في المطبوعة : "حجة بهذا" على التأخير .(160) في المطبوعة : "لسنا بأهله" .(161) في المطبوعة : "ألسنتكم" .(162) يقول : "وأنتم . . . أقدر على اختلاقه . . " ، مبتدأ وخبر ، وما بينهما فصل . وفي المطبوعة مكان"ورصفه" ، "ووضعه" . والرصف : ضم الشيء بعضه إلى بعض ونظمه وإحكامه حتى يستوي . ومنه : كلام رصيف : أي محكم لا اختلاف فيه .(163) في المطبوعة"وهو وحده" ، وهذه أجود .(164) الآثار 496 - 500 : في ابن كثير 1 : 108 بعضها ، والدر المنثور 1 : 35 ، والشوكاني 1 : 40 ، وفي المخطوطة في بعض المواضع : "أناس" مكان"ناس" ، وهما سواء .(165) في المطبوعة : "واستعينوا" ، وهما متقاربتان ، والأولى أجود ، وهي كذلك في معاني القرآن للفراء 1 : 19 .(166) البيت للراعي النميري ، اللسان (عزا) . واعتزى : انتسب ، ودعا في الحرب بمثل قوله : يا لفلان ، أو يا للمهاجرين ، أو يا للأنصار ، والاسم العزاء والعزوة ، وهي دعوى المستغيث .(167) في المطبوعة : "واستعانوا" ، كما سلف في أختها قبل .(168) في المطبوعة : "كالشركاء" .(169) قوله"من المؤمنين" متعلق بقوله آنفًا "أن لهم شهداء . . " ، يعني شهداء من المؤمنين . ثم فصل ، لأن قوله"على حقيقة ما كانوا يأتون به . . " متعلق أيضًا ، بشهداء .(170) في المطبوعة : "لسارعوا إليه مع كفرهم وضلالهم" . وتترع إلى الشيء : تسرع إليه ، يقال في التسرع إلى الشر وما لا ينبغي . وما في المخطوطة"تتارعوا" صحيح في اشتقاق العربية ، وإن لم تذكره المعاجم ، وهو مثل تسرع وتسارع ، سواء .(171) في المطبوعة"فمن أي الفرق . . " ، وكلام الطبري استفهام واستنكار . لأن من المحال أن يشهد المؤمنون على هذا الباطل ، والكفار وأهل النفاق يتسرعون إلى الشهادة بالباطل لإبطال الحق ، فكان محالا أن يكون معنى"الشهداء" هنا : الذين يشهدون لهم ، أن ما جاءوا به نظير ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى . وصار حتما أن يكون معنى"الشهداء" : الذين يظاهرونهم ويعاونونهم ، كما جاء في الآية التالية .

انتقال لإثبات الجزء الثاني من جزئي الإيمان بعد أن تم إثبات الجزء الأول من ذلك بما قدمه من قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] الخ . فتلك هي المناسبة التي اقتضت عطف هذه الجملة على جملة : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم ، } ولأن النهي عن أن يجعلوا لله أنداداً جاء من عند الله فهم بمظنة أن ينكروا أن الله نهى عن عبادة شفعائه ومقربيه لأنهم من ضَلالهم كانوا يدَّعون أن الله أمرهم بذلك قال تعالى : { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } [ الزخرف : 20 ] فقد اعتلوا لعبادة الأصنام بأن الله أقامها وسائط بينه وبينهم ، فزادت بهذا مناسبةُ عطف قوله : { وإن كنتم في ريب } عقب قوله : { فلا تجعلوا لله أنداداً } [ البقرة : 22 ] . وأتى بإنْ في تعليق هذا الشرط وهو كونهم في ريب وقد علم في فن المعاني اختصاص إن بمقام عدم الجزم بوقوع الشرط ، لأن مدلول هذا الشرط قد حَفَّ به من الدلائل ما شأنه أن يقلَع الشرط من أصله بحيث يكون وقوعه مفروضاً فيكون الإتيان بإن مع تحقق المخاطب علم المتكلم بتحقق الشرط توبيخاً على تحقق ذلك الشرط ، كأن ريبهم في القرآن مستضعف الوقوع .ووجه ذلك أن القرآن قد اشتطت ألفاظه ومعانيه على ما لو تدبره العقل السليم لجزم بكونه من عند الله تعالى فإنه جاء على فصاحة وبلاغة ما عهدوا مثلهما من فحول بلغائهم ، وهم فيهم متوافرون متكاثرون حتى لقد سجد بعضهم لبلاغته واعترف بعضهم بأنه ليس بكلام بشر . وقد اشتمل من المعاني على ما لم يطرقه شعراؤهم وخطباؤهم وحكماؤهم ، بل وعلى ما لم يبلغ إلى بعضه علماء الأمم . ولم يزل العلم في طول الزمان يظهر خبايا القرآن ويبرهن على صدق كونه من عند الله فهذه الصفات كافية لهم في إدراك ذلك وهم أهل العقول الراجحة والفطنة الواضحة التي دلت عليها أشعارهم وأخبارهم وبداهتهم ومناظرتهم ، والتي شهد لهم بها الأمم في كل زمان ، فكيف يبقى بعد ذلك كله مسلك للريب فيه إليهم فضلاً عن أن يكونوا منغمسين فيه .ووجه الإتيان بفي الدالة على الظرفية الإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف . واستعارة ( في ) لمعنى الملابسة شائعة في كلام العرب كقولهم هو في نعمة .وأتى بفعل نَزَّل دون أنزل لأن القرآن نزل نجوماً . وقد تقدم في أول التفسير أن فعَّل يدل على التقضي شيئاً فشيئاً على أن صاحب «الكشاف» قد ذكر أن اختياره هنا في مقام التحدي لمراعاة ما كانوا يقولون { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] فلما كان ذلك من مثارات شبههم ناسب ذكره في تحديهم أن يأتوا بسورة مثله منجمة .والسورة قطعة من القرآن معينة فتميزه عن غيرها من أمثالها بمبدأ ونهاية تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام أو عدة أغراض .وجعلُ لفظ سورة اسماً جنسياً لأجزاء من القرآن اصطلاحٌ جاء به القرآن . وهي مشتقة من السور وهو الجدار الذي يحيط بالقرية أو الحظيرة ، فاسم السورة خاص بالأجزاء المعينة من القرآن دون غيره من الكتب وقد تقدم تفصيله في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير ، وإنما كان التحدي بسورة ولم يكن بمقدار سورة من آيات القرآن لأن من جملة وجوه الإعجاز أموراً لا تظهر خصائصها إلا بالنظر إلى كلام مستوفى في غرض من الأغراض وإنما تنزل سور القرآن في أغراض مقصودة فلا غنى عن مراعاة الخصوصيات المناسبة لفواتح الكلام وخواتمه بحسب الغرض ، واستيفاء الغرض المسوق له الكلام ، وصحة التقسيم ، ونكت الإجمال والتفصيل ، وأحكام الانتقال من فن إلى آخر من فنون الغرض ، ومناسبات الاستطراد والاعتراض والخروج والرجوع ، وفصل الجمل ووصلها ، والإيجاز والإطناب ، ونحو ذلك مما يرجع إلى نكت مجموع نَظم الكلام ، وتلك لا تظهر مطابقتهاجلية إلا إذا تم الكلام واستَوفَى الغرضُ حقه ، فلا جرم كان لنظم القرآن وحسن سَبكه إعجازٌ يفوت قدرة البشر هو غير الإعجاز الذي لِجُمله وتراكيبه وفصَاحةِ ألفاظه . فكانت السورة من القرآن بمنزلة خطبة الخطيب وقصيدة الشاعر لا يُحكم لها بالتفوق إلا باعتبارات مجموعها بعد اعتبار أجزائها . قال الطيبي في «حاشية الكشاف» عند قوله تعالى : { فلم تقتلوهم } في سورة الأنفال ( 17 ) ، ولسر النظم القرآني كان التحدي بالسورة وإن كانت قصيرة دون الآيات وإن كانت ذوات عدد .والتنكير للإفراد أو النوعية ، أي بسورة واحدة من نوع السور وذلك صادق بأقل سورة ترجمت باسم يخصها ، وأقل السور عددَ آيات سورةُ الكوثر ، وقد كان المشركون بالمدينة تبعاً للمشركين بمكة وكان نزول هذه السورة في أول العهد بالهجرة إلى المدينة فكان المشركون كلهم ألْباً على النبيء يتداولون الإغراء بتكذيبه وصد الناس عن اتباعه ، فأعيد لهم التحدي بإعجاز القرآن الذي كان قد سبق تحديهم به في سورة يونس وسورة هود وسورة الإسراء .وقد كان التحدي أولاً بالإتيان بكتاببٍ مثل ما نزل منه ففي سورة الإسراء ( 88 ) : { قُل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } فلما عجزوا استُنزلوا إلى الإتيان بعشْرِ سور مثله في سورة هود ، ثم استنزلوا إلى الإتيان بسورة من مثله في سورة يونس .والمِثْل أصله المَثيل والمُشابه تمامَ المشابهة فهو في الأصل صفة يتبع موصوفاً ثم شاع إطلاقه على الشيء المشابه المكافىء .والضمير في قوله : من مثله } يجوز أن يعود إلى ( مَا نَزّلنا ) أي من مِثل القرآن ، ويجوز أن يعود إلى { عبدنا } فإن أعيد إلى ( ما نزلنا ) أي من مثل القرآن فالأظهر أن ( من ) ابتدائية أي سورة مأخوذة من مثل القرآن أي كتاب مثل القرآن والجار والمجرور صفة لسورة ، ويحتمل أن تكون ( من ) تبعيضية أو بيانية أو زائدة ، وقد قيل بذلك كله ، وهي وجوه مرجوحة ، وعلى الجميع فالجار والمجرور صفة لسورة ، أي هي بعض مثل ما نزلنا ، ومِثل اسم حينئذٍ بمعنى المماثل ، أو سورة مثل ما نزلنا و ( مثل ) صفةٌ على احتمالي كون ( من ) بيانية أو زائدة ، وكل هذه الأوجه تقتضي أن المِثل سواء كان صفة أو اسماً فهو مثل مقدَّر بناء على اعتقادهم وفرضهم ولا يقتضي أن هذا المثل موجود لأن الكلام مسوق مساق التعجيز .وإن أُعيد الضمير لعبدنا فمن لتعدية فعل ( ائتوا ) وهي ابتدائية وحينئذٍ فالجار والمجرور ظرف لغو غير مستقر . ويجوز كون الجار والمجرور صفة لسورة على أنه ظرف مستقر والمعنى فيهما ائتوا بسورة منتزعة من رجل مثل محمد في الأمية ، ولفظ مثل إذن اسْم .وقد تبين لك أن لفظ ( مثل ) في الآية لا يحتمل أن يكون المراد به الكناية عن المضاف إليه على طريقة قوله تعالى : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] بناء على أن لفظ ( مِثل ) كناية عن المضاف إليه إذ لا يستقيم المعنى أن يكون التقدير فأتوا بسورة من القرآن ، أو من محمد خلافاً لمن توهم ذلك من كلام «الكشاف» وإنما لفظ مثل مستعمل في معناه الصريح إلا أنه أشبه المكنَّى به عن نفس المضاففِ هُو إليه من حيث إن المِثل هنا على تقدير الاسمية غير متحقق الوجود إلا أن سبب انتفاء تحققه هو كونه مفروضاً فإن كون الأمر للتعجيز يقتضي تعذر المأمور ، فليس شيء من هاته الوجوه بمقتضضٍ وجود مثل للقرآن حتى يُراد به بعض الوجوه كما توهمه التفتزاني .وعندي أن الاحتمالات التي احتملها قوله : { من مثله } كلها مرادة لرد دعاوى المكذبين في اختلاف دعاويهم فإن منهم من قال : القرآن كلامُ بشر ، ومنهم من قال : هو مكتتب من أساطير الأولين ، ومنهم من قال : إنما يعلمه بشر . وهاته الوجوه في معنى الآية تُفند جميع الدعاوى فإن كان كلام بشر فأتوا بمماثله أو بمثله ، وإن كان من أساطير الأولين فأتوا أنتم بجزء من هذه الأساطير ، وإن كان يُعلمه بشر فأتوا أنتم من عنده بسورة فما هو ببخيل عنكم إن سألتموه . وكل هذا إرخاء لعنان المعارضة وتسجيل للإعجاز عند عدمها . فالتحدي على صدق القرآن هو مجموع مماثلةِ القرآن في ألفاظه وتراكيبه ، ومماثلة الرسول المنزَّل عليه في أنه أمي لم يسبق له تعليم ولا يعلم الكتب السالفة ، قال تعالى : { أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب } [ العنكبوت : 51 ] . فذلك معنى المماثلة فلو أتوا بشيء من خُطببِ أو شعر بلغائهم غير مشتمل على ما يشتمل عليه القرآن من الخصوصيات لم يكن ذلك إتياناً بما تحداهم به ، ولو أتوا بكلام مشتمل على معان تشريعية أو من الحكمة من تأليف رجل عالم حكيم لم يكن ذلك إتياناً بما تحداهم به .فليس في جعل ( من ) ابتدائية إيهام إجْزاء أن يأتوا بشيء من كلام بلغائهم لأن تلك مماثلة غير تامة .وقولُه تعالى : { وادعوا شهداءكم من دون الله } معطوف على { فأتوا بسورة } أي ائتوا بها وادعوا شهداءكم . والدعاء يستعمل بمعنى طلب حضور المدعو ، وبمعنى استعطافه وسؤاله لفعل ما ، قال أبو فراس يخاطب سيف الدولة ليفديه من أسر ملك الروم :دَعَوْتُك للجفن القريح المسهد ... لديّ وللنوم الطريد المشردوالشهداء جمع شهيد فعيل بمعنى فاعل من شهد إذا حضر ، وأصله الحاضر قال تعالى : { ولا يَأْبَ الشهداء إذا ما دُعُوا } [ البقرة : 282 ] ثم استعمل هذا اللفظ فيما يلازمه الحضور مجازاً أو كناية لا بأصل وضع اللفظ ، وأطلق على النصير على طريقة الكناية فإن الشاهد يؤيد قول المشهود فينصره على معارضه ولا يطلق الشهيد على الإمام والقدوة وأثبته البيضاوي ولا يعرف في كتب اللغة ولا في كلام المفسرين . ولعله انجر إليه من تفسير «الكشاف» لحاصل معنى الآية فتوهمه معنى وضعياً فالمراد هنا ادعوا آلهتكم بقرينة قوله : { من دون الله } أي ادعوهم من دون الله كدأبكم في الفزع إليهم عند مهماتكم معرضين بدعائهم واستنجادهم عن دعاء الله واللجأ إليه ففي الآية إدماج توبيخهم على الشرك في أثناء التعجيز عن المعارضة وهذا الإدماج من أفانين البلاغة أن يكون مراد البليغ غرضين فيقرن الغرض المسوق له الكلام بالغرض الثاني وفيه تظهر مقدرة البليغ إذ يأتي بذلك الاقتران بدون خروج عن غرضه المسوق له الكلام ولا تكلف . قال الحرث بن حلّزة :آذنتنا ببينها أسماءُ ... رب ثاوٍ يَمَلّ منه الثّواءُفإن قوله رب ثاو عند ذكر بعد الحبيبة والتحسر منه كناية عن أن ليست هي من هذا القبيل الذي يمل ثواؤه . وقد قضى بذلك حق إرضائها بأنه لا يحفل بإقامة غيرها ، وقد عد الإدماج من المحسنات البديعة وهو جدير بأن يعد في الأبواب البلاغية في مبحث الإطناب أو تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ، فإن آلهتهم أنصار لهم في زعمهم .ويجوز أن يكون المراد ادعوا نصراءكم من أهل البلاغة فيكون تعجيزاً للعامة والخاصة ، وادعوا من يشهد بمماثلة ما أتيتم به لما نزلنا ، على نحو قوله تعالى : { قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا } [ الأنعام : 150 ] ويكون قوله : { من دون الله } على هذه الوجوه حالاً من الضمير في ( ادعوا ) أو من ( شهداءكم ) أي في حال كونكم غير داعين لذلك الله أو حال كون الشهداء غير الله بمعنى اجعلوا جانب الله الذي أنزل الكتاب كالجانب المشهود عليه فقد أذناكم بذلك تيسيراً عليكم لأن شدة تسجيل العجز تكون بمقدار تيسير أسباب العمل ، وجوز أن يكون ( دون ) بمعنى أمام وبين يدي يعني ادعوا شهداءكم بين يدي الله ، واستشهد له بقول الأعشى :تريك القَذى من دونها وهي دونهُ ... إذا ذاقَها من ذاقها يتمطِّقكما جوز أن يكون { من دون الله } بمعنى من دون حزب الله وهم المؤمنون أي أحضروا شهداء من الذين هم على دينكم فقد رضيناهم شهوداً فإن البارع في صناعة لا يرضى بأن يشهد بتصحيح فاسدها وعكسه إباءَة أن ينسب إلى سوء المعرفة أو الجور ، وكلاهما لا يرضاه ذو المروءة وقديماً كانت العرب تتنافر وتتحاكم إلى عقلائها وحكامها فما كانوا يحفظون لهم غلطاً أو جوراً . وقد قال السموأل :إنا إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السامع للقائللا نجعل الباطل حقاً ولا ... نلظ دون الحق بالباطلنخاف أن تسفه أحلامنا ... فنخمُل الدهر مع الخاملوعلى هذا التفسير يجىء قول الفقهاء إن شهادة أهل المعرفة بإثبات العيوب أو بالسلامة لا تشترط فيها العدالة ، وكنت أعلل ذلك في دروس الفقه بأن المقصود من العدالة تحقق الوازع عن شهادة الزور ، وقد قام الوازع العلمي في شهادة أهل المعرفة مقام الوازع الديني لأن العارف حريص ما استطاع أن لا يؤثر عنه الغلط والخطأ وكفى بذلك وازعاً عن تعمده وكفى بعلمه مظنة لإصابة الصواب فحصل المقصود من الشهادة .وقوله : { إن كنتم صادقين } اعتراض في آخر الكلام وتذييل . أتى بإن الشرطية التي الأصل في شرطها أن يكون غير مقطوع بوقوعه لأن صدقهم غير محتمل الوقوع وإن كنتم صادقين في أن القرآن كلام بشر وإنكم أتيتم بمثله .والصدق ضد الكذب وهما وصفان للخبر لا يخلو عن أحدهما فالصدق أن يكون مدلول الكلام الخبري مطابقاً ومماثلاً للواقع في الخارج أي في الوجود الخارجي احترازاً عن الوجود الذهني ، والكذب ضد الصدق وهو أن يكون مدلول الكلام الخبري غير مطابق أي غير مماثل للواقع في الخارج ، والكلام موضوع للصدق وأما الكذب فاحتمال عقلي والإنشاء لا يوصف بصدق ولا كذب إذ لا معنى لمطابقته لما في نفس الأمر لأنه إيجاد للمعنى لا للأمور الخارجية . هذا معنى الصدق والكذب في الإطلاق المشهور . وقد يطلق الكذب صفة ذم فيلاحظ في معناه حينئذٍ أن مخالفته للواقع كانت عن تعمد فتوهم الجاحظ أن ماهية الكذب تتقوم من عدم مطابقة الخبر للواقع وللاعتقاد معاً وسرى هذا التقوم إلى ماهية الصدق فجعل قوامها المطابقة للخارج والاعتقاد معاً ومن هنا أثبت الواسطة بين الصدق والكذب ، وقريب منه قول الراغب ، ويشبه أن يكون الخلاف لفظياً ومحل بسطه في علمي الأصول والبلاغة .والمعنى إن كنتم صادقين في دعوى أن القرآن كلام بشر ، فحذف متعلق ( صادقين ) لدلالة ما تقدم عليه ، وجواب الشرط محذوف تدل عليه جملة مقدرة بعد جملة : { وادعوا شهداءكم من دون الله } إذ التقدير فتأتون بسورة من مثله ودل على الجملة المقدرة قوله قبلها : { فأتوا بسورة من مثله } وتكون الجملة المقدرة دليلاً على جواب الشرط فتصير جملة { إن كنتم صادقين } تكريراً للتحدي .وفي هذه الآية إثارة لحماسهم إذ عرض بعدم صدقهم فتتوفر دواعيهم على المعارضة .
الآية 23 - سورة البقرة: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين...)