سورة البقرة: الآية 29 - هو الذي خلق لكم ما...

تفسير الآية 29, سورة البقرة

هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ

الترجمة الإنجليزية

Huwa allathee khalaqa lakum ma fee alardi jameeAAan thumma istawa ila alssamai fasawwahunna sabAAa samawatin wahuwa bikulli shayin AAaleemun

تفسير الآية 29

اللهُ وحده الذي خَلَق لأجلكم كل ما في الأرض من النِّعم التي تنتفعون بها، ثم قصد إلى خلق السموات، فسوَّاهنَّ سبع سموات، وهو بكل شيء عليم. فعِلْمُه -سبحانه- محيط بجميع ما خلق.

«هو الذي خلق لكم ما في الأرض» أي الأرض وما فيها «جميعاً» لتنتفعوا به وتعتبروا «ثم استوى» بعد خلق الأرض أي قصد «إلى السماء فسواهن» الضمير يرجع إلى السماء لأنها في معنى الجمع الآيلة إليه: أي صيَّرها كما في آية أخرى (فقضاهن) «سبع سماوات وهو بكل شيء عليم» مجملا ومفصلا أفلا تعتبرون أن القادر على خلق ذلك ابتداءً وهو أعظم منكم قادر على إعادتكم.

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا أي: خلق لكم, برا بكم ورحمة, جميع ما على الأرض, للانتفاع والاستمتاع والاعتبار. وفي هذه الآية العظيمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة, لأنها سيقت في معرض الامتنان، يخرج بذلك الخبائث, فإن [تحريمها أيضا] يؤخذ من فحوى الآية, ومعرفة المقصود منها, وأنه خلقها لنفعنا, فما فيه ضرر, فهو خارج من ذلك، ومن تمام نعمته, منعنا من الخبائث, تنزيها لنا. وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ اسْتَوَى ترد في القرآن على ثلاثة معاني: فتارة لا تعدى بالحرف، فيكون معناها, الكمال والتمام, كما في قوله عن موسى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى وتارة تكون بمعنى " علا " و " ارتفع " وذلك إذا عديت ب " على " كما في قوله تعالى: ثم استوى على العرش لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ وتارة تكون بمعنى " قصد " كما إذا عديت ب " إلى " كما في هذه الآية، أي: لما خلق تعالى الأرض, قصد إلى خلق السماوات فسواهن سبع سماوات فخلقها وأحكمها, وأتقنها, وهو بكل شيء عليم ف يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها و يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ يعلم السر وأخفى. وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية, وكما في قوله تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ لأن خلقه للمخلوقات, أدل دليل على علمه, وحكمته, وقدرته.

لما ذكر تعالى دلالة من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ، ذكر دليلا آخر مما يشاهدونه من خلق السماوات والأرض ، فقال : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء ) أي : قصد إلى السماء ، والاستواء هاهنا تضمن معنى القصد والإقبال ؛ لأنه عدي بإلى ( فسواهن ) أي : فخلق السماء سبعا ، والسماء هاهنا اسم جنس ، فلهذا قال : ( فسواهن ) . ( وهو بكل شيء عليم ) أي : وعلمه محيط بجميع ما خلق . كما قال : ( ألا يعلم من خلق ) [ الملك : 14 ] وتفصيل هذه الآية في سورة " حم السجدة " وهو قوله : ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ) [ فصلت : 9 - 12 ] .ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السماوات سبعا ، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك ، وقد صرح المفسرون بذلك ، كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله . فأما قوله تعالى : ( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها ) [ النازعات : 27 - 32 ] فقد قيل : إن ) ثم ) هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر ، لا لعطف الفعل على الفعل ، كما قال الشاعر :قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جدهوقيل : إن الدحي كان بعد خلق السماوات ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس .وقد قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك - وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات [ وهو بكل شيء عليم ] ) قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء . فلما أراد أن يخلق الخلق ، أخرج من الماء دخانا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه ، فسماه سماء . ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين ، فخلق الأرض على حوت ، والحوت هو النون الذي ذكره الله في القرآن : ( ن والقلم ) والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح ، وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض ، فتحرك الحوت فاضطرب ، فتزلزلت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فقرت ، فالجبال تفخر على الأرض ، فذلك قوله تعالى : ( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ) [ النحل : 15 ] . وخلق الجبال فيها ، وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك حين يقول : ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها ) [ فصلت : 9 ، 10 ] . يقول : أنبت شجرها ( وقدر فيها أقواتها ) يقول : أقواتها لأهلها ( في أربعة أيام سواء للسائلين ) [ فصلت : 10 ] يقول : من سأل فهكذا الأمر . ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) [ فصلت : 11 ] وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين ، في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض ، ( وأوحى في كل سماء أمرها ) [ فصلت : 12 ] قال : خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها ، من البحار وجبال البرد وما لا نعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين . فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش ، فذلك حين يقول : ( خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) [ الأعراف : 54 ] ويقول ( كانتا رتقا ففتقناهما ) [ الأنبياء : 30 ] .وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن سلام أنه قال : إن الله بدأ الخلق يوم الأحد ، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين ، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السماوات في الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم على عجل ، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة .وقال مجاهد في قوله : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) قال : خلق الله الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها دخان ، فذلك حين يقول : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) ( فسواهن سبع سماوات ) قال : بعضهن فوق بعض ، وسبع أرضين ، يعني بعضهن تحت بعض .وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء ، كما قال في آية السجدة : ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ) [ فصلت : 9 - 12 ] فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء ، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة : أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض ، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى : ( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها ) [ النازعات : 27 - 31 ] قالوا : فذكر خلق السماء قبل الأرض . وفي صحيح البخاري : أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه ، فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء ، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديما وحديثا ، وقد قررنا ذلك في تفسير سورة النازعات ، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله : ( والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها ) [ النازعات : 30 - 32 ] ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعا فيها بالقوة إلى الفعل لما اكتملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية دحى بعد ذلك الأرض ، فأخرجت ما كان مودعا فيها من المياه ، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها ، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفسير - أيضا - من رواية ابن جريج قال : أخبرني إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى الليل .وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم ، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ ، وجعلوه من كلام كعب ، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار ، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا ، وقد حرر ذلك البيهقي .

وبعد أن ذكر - سبحانه - ما يشهد بقدرته ووحدانيته عن طريق الأدلة المتعلقة بذوات المكلفين ، أردف ذلك بالكلام عن الأدلة الكونية فقال تعالى :( هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ) .أي : أنه خلق جميع ما في الأرض من نحو الحيوان والنبات والمعادن والجبال من أجلكم ، فهو المنعم عليكم لتنتفعوا بها في دنياكم ، وتستعينوا بها على طاعته .وقد أخذ العلماء من هذه الآية شاهداً على أن الأشياء التي فيها منافع مأذون فيها حتى يقوم دليل على حرمتها .ثم استدل - سبحانه - على مظاهر قدرته بخلق السموات فقال :( ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ) .استوى إلى السماء : أقبل وعمد إليها بإرادته . وتسويتها معناه : تعديل خلقها وتقويمه .والسماء ليس المراد منها فردا من أفراد السموات ، وإنما المراد منها الأجرام العلوية الشاملة لجميع السموات ، فصح أن يعود عليها ضمير جمع الإِناث في قوله : ( فَسَوَّاهُنَّ ) ، وكذلك علماء البيان يزيدون أن اللفظ إذا أريد منه جنس ما وضع له صار في معنى الجمع .فمعنى ( ثُمَّ استوى إِلَى السمآء ) علا إليها وارتفع ، من غير تكييف ولا تحديد ولا تشبيه ، مع كمال التنزيه عن سمات المحدثات ، وقد سئل الإِمام مالك عن الاستواء على العرش فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .وقدم الأرض هنا لأنها أدل لشدة الملامسة والمباشرة .وجملة ( ثُمَّ استوى ) معطوفة على جملة ( خَلَقَ لَكُمْ ) ، وكان العطف بثم لعظم خلق السماء عن خلق الأرض .وعبر بسواهن للإِشعار بأنه - سبحانه - خلقهن في استقامة ، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا اضطراب . قال - تعالى - :( مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ ) وجملة ( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) مقررة لما ذكر قبلها من خلق السموات والأرض وما فيهما على هذه الصورة الحكيمة ، فقد دلت على أن ترتيب أجزاء تلك المصنوعات وموافقة جميعها للمنافع المقصودة منها ، إنما حدث عن عالم بحقائق تلك الأجزاء وخواصها ، ولإِِحاطته بكل شيء علماً وضع كل جزء في موضعه اللائق به .وبعد أن بين سبحانه للناس أنه قد من عليهم بنعمة خلقه ما في الأرض جميعاً ، بدأ بعد ذلك يذكرهم بنعمة أخرى هي نعمة خلقه لأبيهم آدم ، وخلق آدم مبدأ لخلق ذريته ، وتكريمه موصول بتكريمهم فقال تعالى :( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ . . . )

قوله تعالى: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً لكي تعتبروا وتستدلوا وقيل: لكي تنتفعوا.ثم استوى إلى السماء قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: "أي ارتفع إلى السماء".وقال ابن كيسان والفراء وجماعة من النحويين: "أي أقبل على خلق السماء". وقيل: قصد لأنه خلق الأرض أولاً ثم عمد إلى خلق السماء.فسواهن سبع سماوات خلقهن مستويات لا فطور فيها ولا صدع.وهو بكل شيء عليم قرأ أبو جعفر وأبو عمرو والكسائي وقالون و(هو) و(هي) بسكون الهاء إذا كان قبل الهاء واو أو فاء أو لام، زاد الكسائي وقالون: (ثم هو)، وقالون أن يمل هو [282-البقرة].

قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليمقوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعافيه عشر مسائل : الأولى : " خلق " معناه اخترع وأوجد بعد العدم . وقد يقال في الإنسان : " خلق " عند إنشائه شيئا ، ومنه قول الشاعر :من كان يخلق ما يقو ل فحيلتي فيه قليلهوقد تقدم هذا المعنى . وقال ابن كيسان : " خلق لكم " أي من أجلكم . وقيل : المعنى أن جميع ما في الأرض منعم به عليكم فهو لكم . وقيل : إنه دليل على التوحيد والاعتبار .قلت : وهذا هو الصحيح على ما نبينه . ويجوز أن يكون عني به ما هم إليه محتاجون من جميع الأشياء .الثانية : استدل من قال إن أصل الأشياء التي ينتفع بها الإباحة بهذه الآية وما كان مثلها - كقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه الآية - حتى يقوم الدليل على الحظر . وعضدوا هذا بأن قالوا : إن المآكل الشهية خلقت مع إمكان ألا تخلق فلم تخلق عبثا ، فلا بد لها من منفعة . وتلك المنفعة لا يصح رجوعها إلى الله تعالى لاستغنائه بذاته ، فهي راجعة إلينا . ومنفعتنا إما في نيل لذتها ، أو في اجتنابها لنختبر بذلك ، أو في اعتبارنا بها . ولا يحصل شيء من تلك الأمور إلا بذوقها ، فلزم أن تكون مباحة . وهذا فاسد ; لأنا لا نسلم لزوم العبث من خلقها إلا لمنفعة ، بل خلقها كذلك لأنه لا يجب عليه أصل المنفعة ، بل هو الموجب . ولا نسلم حصر المنفعة فيما ذكروه ، ولا حصول بعض تلك المنافع إلا بالذوق ، بل قد يستدل على الطعوم بأمور أخر كما هو معروف عند الطبائعيين . ثم هو معارض بما يخاف أن تكون سموما مهلكة ، ومعارضون بشبهات أصحاب الحظر . وتوقف آخرون وقالوا : ما من فعل لا ندرك منه حسنا ولا قبحا إلا ويمكن أن يكون حسنا في نفسه ، ولا معين قبل ورود الشرع ، فتعين الوقف إلى ورود الشرع . وهذه الأقاويل الثلاثة للمعتزلة .وقد أطلق الشيخ أبو الحسن وأصحابه وأكثر المالكية والصيرفي في هذه المسألة القول بالوقف . ومعناه عندهم أن لا حكم فيها في تلك الحال ، وأن للشرع إذا جاء أن يحكم بما شاء ، وأن العقل لا يحكم بوجوب ولا غيره وإنما حظه تعرف الأمور على ما هي عليه . قال ابن عطية : وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال : لم يخل العقل قط من السمع ، ولا نازلة إلا وفيها سمع ، أو لها تعلق به ، أو لها حال تستصحب . قال : فينبغي أن يعتمد على هذا ، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف .الثالثة : الصحيح في معنى قوله تعالى : خلق لكم ما في الأرض الاعتبار . يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر : الإحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها ، أي الذي قدر على إحيائكم وخلقكم وخلق السماوات والأرض ، لا تبعد منه القدرة على الإعادة .فإن قيل : إن معنى لكم الانتفاع ، أي لتنتفعوا بجميع ذلك ، قلنا المراد بالانتفاع الاعتبار لما ذكرنا . فإن قيل : وأي اعتبار في العقارب والحيات ، قلنا : قد يتذكر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سببا للإيمان وترك المعاصي ، وذلك أعظم الاعتبار . قال ابن العربي : وليس في الإخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظرا ولا إباحة ولا وقفا ، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليستدل بها على وحدانيته .وقال أرباب المعاني في قوله : خلق لكم ما في الأرض جميعا لتتقووا به على طاعته ، لا لتصرفوه في وجوه معصيته . وقال أبو عثمان : وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده ، وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد ، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك ، فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد .الرابعة : روى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عندي شيء ، ولكن ابتع علي فإذا جاء شيء قضينا فقال له عمر : هذا أعطيت إذا كان عندك فما كلفك الله ما لا تقدر . فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عمر ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله :أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالافتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعرف السرور في وجهه لقول الأنصاري . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بذلك أمرت ) . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فخوف الإقلال من سوء الظن بالله ; لأن الله تعالى خلق الأرض بما فيها لولد آدم ، وقال في تنزيله : خلق لكم ما في الأرض جميعا وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه . فهذه الأشياء كلها مسخرة للآدمي قطعا لعذره وحجة عليه ، ليكون له عبدا كما خلقه عبدا ، فإذا كان العبد حسن الظن بالله لم يخف الإقلال لأنه يخلف عليه ، كما قال تعالى : وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين وقال : فإن ربي غني كريم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى : سبقت رحمتي غضبي ، يا ابن آدم أنفق أنفق عليك ، يمين الله ملأى سحا لا يغيضها شيء الليل والنهار . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا . ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا .وكذا في المساء عند الغروب يناديان أيضا ، وهذا كله صحيح رواه الأئمة والحمد لله . فمن استنار صدره ، وعلم غنى ربه وكرمه أنفق ولم يخف الإقلال ، وكذلك من ماتت شهواته عن الدنيا واجتزأ باليسير من القوت المقيم لمهجته ، وانقطعت مشيئته لنفسه ، فهذا يعطي من يسره وعسره ولا يخاف إقلالا . وإنما يخاف الإقلال من له مشيئة في الأشياء ، فإذا أعطى اليوم وله غدا مشيئة في شيء خاف ألا يصيب غدا ، فيضيق عليه الأمر في نفقة اليوم لمخافة إقلاله . روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم انفحي أو انضحي أو أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي عليك . وروى النسائي عن عائشة قالت : دخل علي سائل مرة وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرت له بشيء ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما تريدين ألا يدخل بيتك شيء ولا يخرج إلا بعلمك ؟ قلت : نعم ، قال : مهلا يا عائشة ، لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك .الخامسة : قوله تعالى : ثم استوى ثم لترتيب الإخبار لا لترتيب الأمر في نفسه . والاستواء في اللغة : الارتفاع والعلو على الشيء ، قال الله تعالى : فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك ، وقال لتستووا على ظهوره ، وقال الشاعر :فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد حلق النجم اليماني فاستوىأي ارتفع وعلا ، واستوت الشمس على رأسي واستوت الطير على قمة رأسي ، بمعنى علا . وهذه الآية من المشكلات ، والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه قال بعضهم : نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها ، وذهب إليه كثير من الأئمة ، وهذا كما روي عن مالك رحمه الله أن رجلا سأله عن قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى قال مالك : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وأراك رجل سوء أخرجوه .وقال بعضهم : نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة . وهذا قول المشبهة .وقال بعضهم : نقرؤها ونتأولها ونحيل حملها على ظاهرها .وقال الفراء في قوله عز وجل ثم استوى إلى السماء فسواهن قال : الاستواء في كلام العرب على وجهين ، أحدهما : أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته ، أو يستوي عن اعوجاج . فهذان وجهان . ووجه ثالث أن تقول : كان فلان مقبلا على فلان ، ثم استوى علي وإلي يشاتمني . على معنى أقبل إلي وعلي . فهذا معنى قوله : ثم استوى إلى السماء والله أعلم . قال وقد قال ابن عباس : ثم استوى إلى السماء صعد . وهذا كقولك : كان قاعدا فاستوى قائما ، وكان قائما فاستوى قاعدا ، وكل ذلك في كلام العرب جائز .وقال البيهقي أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين : قوله استوى بمعنى أقبل - صحيح ، لأن الإقبال هو القصد إلى خلق السماء ، والقصد هو الإرادة ، وذلك جائز في صفات الله تعالى . ولفظة " ثم " تتعلق بالخلق لا بالإرادة . وأما ما حكي عن ابن عباس فإنما أخذه عن تفسير الكلبي ، والكلبي ضعيف . وقال سفيان بن عيينة وابن كيسان في قوله ثم استوى إلى السماء : قصد إليها ، أي بخلقه واختراعه ، فهذا قول . وقيل : على دون تكييف ولا تحديد ، واختاره الطبري . ويذكر عن أبي العالية الرياحي في هذه الآية أنه يقال : استوى بمعنى أنه ارتفع . قال البيهقي : ومراده من ذلك - والله أعلم - ارتفاع أمره ، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء . وقيل : إن المستوي الدخان . وقال ابن عطية : وهذا يأباه وصف الكلام . وقيل : المعنى استولى ، كما قال الشاعر :قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراققال ابن عطية : وهذا إنما يجيء في قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى . قلت : قد تقدم في قول الفراء علي وإلي بمعنى . وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة " الأعراف " إن شاء الله تعالى . والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع الحركة والنقلة .السادسة : يظهر من هذه الآية أنه سبحانه خلق الأرض قبل السماء ، وكذلك في " حم السجدة " . وقال في النازعات : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها فوصف خلقها ، ثم قال : والأرض بعد ذلك دحاها . فكأن السماء على هذا خلقت قبل الأرض ، وقال تعالى الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وهذا قول قتادة : إن السماء خلقت أولا ، حكاه عنه الطبري . وقال مجاهد وغيره من المفسرين : إنه تعالى أيبس الماء الذي كان عرشه عليه فجعله أرضا وثار منه دخان فارتفع ، فجعله سماء فصار خلق الأرض قبل خلق السماء ، ثم قصد أمره إلى السماء فسواهن سبع سماوات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وكانت إذ خلقها غير مدحوة .قلت : وقول قتادة يخرج على وجه صحيح إن شاء الله تعالى ، وهو أن الله تعالى خلق أولا دخان السماء ثم خلق الأرض ، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواها ، ثم دحا الأرض بعد ذلك .ومما يدل على أن الدخان خلق أولا قبل الأرض ما رواه السدي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء ، فسما عليه ، فسماه سماء ، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين ، في الأحد والاثنين . فجعل الأرض على حوت - والحوت هو النون الذي ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن بقوله : ن والقلم - والحوت في الماء والماء على صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على الصخرة ، والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان : ليست في السماء ولا في الأرض - فتحرك الحوت فاضطرب ، فتزلزلت الأرض ، فأرسل عليها الجبال فقرت ، فالجبال تفخر على الأرض ، وذلك قوله تعالى : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وخلق الجبال فيها ، وأقوات أهلها وشجرها ، وما ينبغي لها في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك حين يقول : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين يقول : من سأل فهكذا الأمر ، ثم استوى إلى السماء وهي دخان وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين ، في الخميس والجمعة وإنما سمي يوم الجمعة ; لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض ، وأوحى في كل سماء أمرها قال : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين . فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش ، قال فذلك حين يقول : خلق السماوات والأرض في ستة أيام ويقول : كانتا رتقا ففتقناهما وذكر القصة في خلق آدم عليه السلام ، على ما يأتي بيانه في هذه السورة إن شاء الله تعالى .وروى وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : ( إن أول ما خلق الله عز وجل من شيء " القلم " فقال له : اكتب . فقال : يا رب ، وما أكتب ؟ قال : اكتب القدر . فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة . قال : ثم خلق النون فدحا الأرض عليها ، فارتفع بخار الماء ففتق منه السماوات ، واضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ، فإن الجبال تفخر على الأرض إلى يوم القيامة . ) ففي هذه الرواية خلق الأرض قبل ارتفاع بخار الماء الذي هو الدخان ، خلاف الرواية الأولى . والرواية الأولى عنه وعن غيره أولى ، لقوله تعالى : والأرض بعد ذلك دحاها والله أعلم بما فعل ، فقد اختلفت فيه الأقاويل ، وليس للاجتهاد فيه مدخل .وذكر أبو نعيم عن كعب الأحبار أن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض كلها ، فألقى في قلبه ، فقال : هل تدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والشجر والدواب والناس والجبال ؟ لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع . قال : فهم لوثيا بفعل ذلك ، فبعث الله دابة فدخلت في منخره ، فعج إلى الله فخرجت . قال كعب : والذي نفسي بيده ، إنه لينظر إليها بين يديه وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت حيث كانت .السابعة : أصل خلق الأشياء كلها من الماء لما رواه ابن ماجه في سننه ، وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي هريرة قال قلت : يا رسول الله ، إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني ، أنبئني عن كل شيء . قال : كل شيء خلق من الماء فقلت : أخبرني عن شيء إذا عملت به دخلت الجنة . قال : أطعم الطعام وأفش السلام ، وصل الأرحام ، وقم الليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام . قال أبو حاتم : قول أبي هريرة : " أنبئني عن كل شيء " أراد به عن كل شيء خلق من الماء . والدليل على صحة هذا - جواب المصطفى عليه السلام إياه حيث قال : كل شيء خلق من الماء وإن لم يكن مخلوقا . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أول شيء خلقه الله القلم وأمره فكتب كل شيء يكون ويروى ذلك أيضا عن عبادة بن الصامت مرفوعا . قال البيهقي : وإنما أراد والله أعلم : أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش " القلم " . وذلك بين في حديث عمران بن حصين ، ثم خلق السماوات والأرض . وذكر عبد الرزاق بن عمر بن حبيب المكي عن حميد بن قيس الأعرج عن طاوس قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله : مم خلق الخلق ؟ قال : من الماء والنور والظلمة والريح والتراب . قال الرجل : فمم خلق هؤلاء ؟ قال : لا أدري . قال : ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله ، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو . قال : فأتى الرجل عبد الله بن عباس فسأله ، فقال : مم خلق الخلق ؟ قال : من الماء والنور والظلمة والريح والتراب . قال الرجل : فمم خلق هؤلاء ؟ فتلا عبد الله بن عباس : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه فقال الرجل : ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم . قال البيهقي : أراد أن مصدر الجميع منه ، أي من خلقه وإبداعه واختراعه . خلق الماء أولا ، أو الماء وما شاء من خلقه لا عن أصل ولا على مثال سبق ، ثم جعله أصلا لما خلق بعد ، فهو المبدع ، وهو البارئ لا إله غيره ولا خالق سواه ، سبحانه جل وعز .الثامنة : قوله تعالى : فسواهن سبع سماوات ذكر تعالى أن السماوات سبع . ولم يأت للأرض في التنزيل عدد صريح لا يحتمل التأويل إلا قوله تعالى : ومن الأرض مثلهن وقد اختلف فيه ، فقيل : ومن الأرض مثلهن أي في العدد ; لأن الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والأخبار ، فتعين العدد . وقيل : ومن الأرض مثلهن أي في غلظهن وما بينهن . وقيل : هي سبع إلا أنه لم يفتق بعضها من بعض ، قال الداودي : والصحيح الأول ، وأنها سبع كالسماوات سبع . روى مسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه إلى سبع أرضين . وعن عائشة رضي الله عنها مثله ، إلا أن فيه " من " بدل " إلى " . ومن حديث أبي هريرة : لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال موسى عليه السلام يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به قال يا موسى قل لا إله إلا الله قال موسى يا رب كل عبادك يقول هذا قال قل لا إله إلا الله قال لا إله إلا أنت إنما أريد شيئا تخصني به قال يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله . وروى الترمذي عن أبي هريرة قال : بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : هل تدرون ما هذا فقالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : هذا العنان هذه روايا الأرض يسوقه الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه - قال - هل تدرون ما فوقكم قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف - ثم قال - هل تدرون كم بينكم وبينها قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : بينكم وبينها مسيرة خمسمائة عام - ثم قال : - هل تدرون ما فوق ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن فوق ذلك سماءين بعد ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة ثم قال كذلك حتى عد سبع سماوات ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض . ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين - ثم قال : - هل تدرون ما الذي تحتكم قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها الأرض - ثم قال : - هل تدرون ما تحت ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن تحتها الأرض الأخرى ، بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين ، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة ، ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله - ثم قرأ - هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم . قال أبو عيسى : قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد : لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه ، في كل مكان وهو على عرشه كما وصف نفسه في كتابه . قال : هذا حديث غريب ، والحسن لم يسمع من أبي هريرة والآثار بأن الأرضين سبع كثيرة ، وفيما ذكرنا كفاية . وقد روى أبو الضحى - واسمه مسلم - عن ابن عباس أنه قال : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ، قال : سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم ، وآدم كآدم ، ونوح كنوح ، وإبراهيم كإبراهيم ، وعيسى كعيسى . قال البيهقي : إسناد هذا عن ابن عباس صحيح ، وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه دليلا ، والله أعلم .التاسعة : قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض ابتداء وخبر . " ما " في موضع نصب جميعا عند سيبويه نصب على الحال ثم استوى أهل نجد يميلون ليدلوا على أنه من ذوات الياء ، وأهل الحجاز يفخمون . " سبع " منصوب على البدل من الهاء والنون ، أي فسوى سبع سماوات . ويجوز أن يكون مفعولا على تقدير يسوي بينهن سبع سماوات ، كما قال الله جل وعز : واختار موسى قومه سبعين رجلا أي من قومه ، قاله النحاس . وقال الأخفش : انتصب على الحال . وهو بكل شيء عليم ابتداء وخبر والأصل في " هو " تحريك الهاء ، والإسكان استخفاف . والسماء تكون واحدة مؤنثة ، مثل عنان ، وتذكيرها شاذ ، وتكون جمعا لسماوة في قول الأخفش ، وسماءة في قول الزجاج ، وجمع الجمع سماوات وسماءات . فجاء سواهن إما على أن السماء جمع وإما على أنها مفرد اسم جنس . ومعنى سواهن سوى سطوحهن بالإملاس . وقيل : جعلهن سواء .العاشرة : قوله تعالى : وهو بكل شيء عليم أي بما خلق وهو خالق كل شيء ، فوجب أن يكون عالما بكل شيء ، وقد قال : ألا يعلم من خلق فهو العالم والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم أزلي واحد قائم بذاته ، ووافقنا المعتزلة على العالمية دون العلمية . وقالت الجهمية : عالم بعلم قائم لا في محل ، تعالى الله عن قول أهل الزيغ والضلالات ، والرد على هؤلاء في كتب الديانات . وقد وصف نفسه سبحانه بالعلم فقال : أنزله بعلمه والملائكة يشهدون ، وقال : فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ، وقال : فلنقصن عليهم بعلم ، وقال : وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ، وقال : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الآية . وسندل على ثبوت علمه وسائر صفاته في هذه السورة عند قوله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر إن شاء الله تعالى . وقرأ الكسائي وقالون عن نافع بإسكان الهاء من : هو وهي ، إذا كان قبلها فاء أو واو أو لام أو ثم ، وكذلك فعل أبو عمرو إلا مع ثم . وزاد أبو عون عن الحلواني عن قالون إسكان الهاء من " أن يمل هو " والباقون بالتحريك .

وبنحو الذي قلنا في قوله: " هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا "، كان قتادة يقول:587- حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة، قوله: " هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا "، نَعَمْ والله سخر لكم ما في الأرض (100) .القول في تأويل قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍقال أبو جعفر: اختلفوا في تأويل قوله: " ثم استوى إلى السَّماء ".فقال بعضهم: معنى استوى إلى السماء, أقبل عليها, كما تقول: كان فلان مقبلا على فلان، ثم استوَى عليّ يشاتمني - واستوَى إليّ يشاتمني. بمعنى: أقبل عليّ وإليّ يشاتمني. واستُشْهِد على أنّ الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر:أَقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنَا شَرَوْرَىسَوَامِدَ, وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضَّجُوعِ (101)فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع, وكان ذلك عنده بمعنى: أقبلن. وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ, وإنما معنى قوله: " واستوين من الضجوع "، استوين على الطريق من الضجوع خارجات, بمعنى استقمن عليه.وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوُّل, ولكنه بمعنى فعله, كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم، ثم تحوَّل إلى الشام. إنما يريد: تحوّل فِعله. [وقال بعضهم: قوله: " ثم استوى إلى السماء " يعني به: استوت] (102) . كما قال الشاعر:أَقُولُ لَهُ لَمَّا اسْتَوَى فِي تُرَابِهِعَلَى أَيِّ دِينٍ قَتَّلَ النَّاسَ مُصْعَبُ (103)وقال بعضهم: " ثم استوى إلى السماء "، عمدَ لها (104) . وقال: بل كلُّ تارك عملا كان فيه إلى آخر، فهو مستو لما عمد له، ومستوٍ إليه.وقال بعضهم: الاستواء هو العلو, والعلوّ هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس.588- حُدِّثت بذلك عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: " ثم استوى إلى السماء ". يقول: ارتفع إلى السماء (105) .ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع، في الذي استوى إلى السّماء. فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها، هو خالقُها ومنشئها. وقال بعضهم: بل العالي عليها: الدُّخَانُ الذي جعله الله للأرض سماء (106) .قال أبو جعفر: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها انتهاءُ شباب الرجل وقوّته, فيقال، إذا صار كذلك: قد استوى الرّجُل. ومنها استقامة ما كان فيه أوَدٌ من الأمور والأسباب, يقال منه: استوى لفلان أمرُه. إذا استقام بعد أوَدٍ، ومنه قول الطِّرِمَّاح بن حَكيم:طَالَ عَلَى رَسْمِ مَهْدَدٍ أبَدُهْوَعَفَا وَاسْتَوَى بِهِ بَلَدُه (107)يعني: استقام به. ومنها: الإقبال على الشيء يقال استوى فلانٌ على فلان بما يكرهه ويسوءه بَعد الإحسان إليه. ومنها. الاحتياز والاستيلاء (108) ، كقولهم: استوى فلان على المملكة. بمعنى احتوى عليها وحازَها. ومنها: العلوّ والارتفاع, كقول القائل، استوى فلان على سريره. يعني به علوَّه عليه.وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه: " ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن "، علا عليهن وارتفع، فدبرهنّ بقدرته، وخلقهنّ سبع سموات.والعجبُ ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: " ثم استوى إلى السماء "، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هربًا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه -إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك- أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم يَنْجُ مما هرَب منه! فيقال له: زعمت أن تأويل قوله " استوى " أقبلَ, أفكان مُدْبِرًا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير, قيل له: فكذلك فقُلْ: علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان، لا علوّ انتقال وزَوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه، لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفًا. وفيما بينا منه ما يُشرِف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى.قال أبو جعفر: وإن قال لنا قائل (109) أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء, كان قبل خلق السماء أم بعده؟قيل: بعده, وقبل أن يسويهن سبعَ سموات, كما قال جل ثناؤه:ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا [سورة فصلت: 11]. والاستواء كان بعد أن خلقها دُخانًا, وقبل أن يسوِّيَها سبعَ سموات.وقال بعضهم: إنما قال: " استوى إلى السّماء "، ولا سماء, كقول الرجل لآخر: " اعمل هذا الثوب "، وإنما معه غزلٌ.وأما قوله " فسواهن " فإنه يعني هيأهن وخلقهن ودبَّرهن وقوَّمهن. والتسوية في كلام العرب، التقويم والإصلاح والتوطئة, كما يقال: سوَّى فلان لفلان هذا الأمر. إذا قوّمه وأصلحه وَوَطَّأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته: تقويمه إياهن على مشيئته, وتدبيره لهنّ على إرادته, وتفتيقهنّ بعد ارتتاقهنّ (110) .589- كما: حُدِّثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: " فسوَّاهن سبع سموات " يقول: سوّى خلقهن، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (111) .وقال جل ذكره: " فسواهن "، فأخرج مكنِيَّهن مخرج مكنيِّ الجميع (112) ، وقد قال قبلُ: " ثم استوى إلى السماء " فأخرجها على تقدير الواحد. وإنما أخرج مكنيَّهن مخرج مكنيِّ الجمع، لأن السماء جمع واحدها سماوة, فتقدير واحدتها وجميعها إذا تقدير بقرة وبقر ونخلة ونخل، وما أشبه ذلك. ولذلك أنِّثت مرة فقيل: هذه سماءٌ, وذُكِّرت أخرى (113) فقيل: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [سورة المزمل: 18]،كما يُفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحده غير دخول الهاء وخروجها, فيقال: هذا بقر وهذه بقر, وهذا نخل وهذه نخل, وما أشبه ذلك.وكان بعض أهل العربية يزعم أنّ السماء واحدة, غير أنها تدلّ على السموات, فقيل: " فسواهن "، يراد بذلك التي ذُكِرت وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تُذْكر معها (114) . قال: وإنما تُذكر إذا ذُكِّرت وهي مؤنثة, فيقال: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ، كما يذكر المؤنث (115) ، وكما قال الشاعر:فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَاوَلا أَرْضَ أَبْقَل إِبْقَالَهَا (116)وكما قال أعشى بني ثعلبة:فَإِمَّا تَرَيْ لِمَّتِي بُدِّلَتْفَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَزْرَى بِهَا (117)وقال بعضهم: السماء وإن كانت سماء فوق سماء وأرضًا فوق أرض, فهي في التأويل واحدةٌ إن شئت, ثم تكون تلك الواحدة جماعًا, كما يقال: ثوبٌ أخلاقٌ وأسمالٌ, وبُرْمة أعشار، للمتكسرة, وبُرْمة أكسار وأجبار. وأخلاق، أي أنّ نواحيه أخلاق (118) .فإن قال لنا قائل: فإنك قد قلت إن الله جل ثناؤه استوَى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسويها سبع سموات, ثم سواها سبعًا بعد استوائه إليها, فكيف زعمت أنها جِماع؟قيل: إنهن كنّ سبعًا غيرَ مستويات, فلذلك قال جل ذكره: فسوَّاهن سبعًا. كما:-590- حدثني محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, قال: قال محمد بن إسحاق: كان أوّلَ ما خلق الله تبارك وتعالى النورُ والظلمةُ, ثم ميَّز بينهما، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلمًا, وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا, ثم سمك السموات السبع من دخان - يقال، والله أعلم، من دخان الماء - حتى استقللن ولم يحبُكْهن (119) . وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها، وأخرج ضُحاها, فجرى فيها الليل والنهار, وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم. ثم دحا الأرض وأرْساها بالجبال, وقدر فيها الأقوات, وبث فيها ما أراد من الخلق, ففرَغ من الأرض وما قدر فيها من أقواتها في أربعة أيام. ثم استوى إلى السماء وهي دخان -كما قال- فحبكهن, وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها, وأوحى في كل سماء أمرها, فأكمل خلقهن في يومين، ففرغ من خلق السموات والأرض في ستة أيام. ثم استوى في اليوم السابع فوق سمواته, ثم قال للسموات والأرض: ائتيا طوعًا أو كرهًا لما أردت بكما, فاطمئنا عليه طوعًا أو كرهًا, قالتا: أتينا طائعين (120) .فقد أخبر ابن إسحاق أنّ الله جل ثناؤه استوى إلى السماء - بعد خلق الأرض (121) وما فيها - وهن سبع من دخان, فسواهن كما وَصف. وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق، لأنه أوضح بيانًا - عن خلق السموات (122) ، أنهن كُنّ سبعًا من دخان قبل استواء ربنا إليها لتسويتها - من غيره (123) ، وأحسنُ شرحًا لما أردنا الاستدلال به، من أن معنى السماء التي قال الله تعالى ذكره فيها: " ثم استوى إلى السماء " بمعنى الجميع (124) ، على ما وصفنا. وأنه إنما قال جل ثناؤه: " فسوَّاهن "، إذ كانت السماء بمعنى الجميع، على ما بينا.قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التي ذكرها في قوله " فسواهن "، إذ كن قد خُلِقن سبعًا قبل تسويته إياهن؟ وما وجه ذِكْر خَلْقهن بعد ذِكْر خَلْق الأرض؟ ألأنها خلقت قبلها, أم بمعنى غير ذلك (125) ؟قيل: قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق, ونؤكد ذلك تأكيدًا بما نضم إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم (126) .591- فحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ". قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء, ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانًا, فارتفع فوق الماء فسما عليه, فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة, ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين - في الأحد والاثنين, فخلق الأرض على حوت, والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن: ن وَالْقَلَمِ ، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة, والصفاةُ على ظهر ملَك, والملك على صخرة, والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض: فتحرك الحوت فاضطرب, فتزلزت الأرض, فأرسى عليها الجبال فقرّت, فالجبال تخر على الأرض, فذلك قوله: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ (127) [سورة النحل: 15]. وخلق الجبالَ فيها، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء, وذلك حين يقول: أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا يقول: أنبت شجرها وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يقول: أقواتها لأهلها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ يقول: قل لمن يسألك: هكذا الأمر (128) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [سورة فصلت: 9-11]، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس, فجعلها سماء واحدة, ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين - في الخميس والجمعة, وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض - وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها, من البحار وجبال البَرَد وما لا يُعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب, فجعلها زينةً وحِفظًا، تُحفظُ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحبّ، استوى على العرش. فذلك حين يقول : خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [سورة الأعراف: 54]. ويقول: كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا (129) [سورة الأنبياء: 30].592- وحدثني الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، في قوله: " هوَ الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء ". قال: خلق الأرض قبل السماء, فلما خلق الأرضَ ثار منها دخان, فذلك حين يقول: " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ". قال: بعضُهن فوق بعض, وسبعَ أرضين، بعضُهن تحت بعض (130) .593- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " فسواهنّ سبعَ سموات " قال: بعضُهن فوق بعض, بين كل سماءين مسيرة خمسمئة عام.594- حدثنا المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله:- حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء, ثم ذكر السماء قبل الأرض, وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء -" ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سموات ", ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [سورة النازعات: 30].595- حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال حدثني أبو معشر, عن سعيد بن أبي سعيد, عن عبد الله بن سلام أنه قال: إنّ الله بدأ الخلق يوم الأحد, فخلق الأرَضِين في الأحد والاثنين, وخلق الأقواتَ والرواسيَ في الثلاثاء والأربعاء, وخلق السموات في الخميس والجمعة, وفرَغ في آخر ساعة من يوم الجمعة, فخلق فيها آدم على عجل. فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: هو الذي أنعم عليكم, فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخَّره لكم تفضُّلا منه بذلك عليكم, ليكون لكم بلاغًا في دنياكم ومتاعًا إلى موافاة آجالكم, ودليلا لكم على وَحدانية ربكم. ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان, فسوَّاهنَّ وحبَكهن, وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه, وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلقه (131) .القول في تأويل قوله : وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)يعني بقوله جل جلاله: " وهو " نفسَه، وبقوله: " بكل شيء عليم " أن الذي خلقكم، وخلق لكم ما في الأرض جميعًا, وسوّى السموات السبع بما فيهن فأحكمهن من دخان الماء، وأتقن صُنعهنّ, لا يخفى عليه - أيها المنافقون والملحدون الكافرون به من أهل الكتاب (132) - ما تُبدون وما تكتمون في أنفسكم, وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم على التكذيب به منطوون. وكذّبتْ أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور، وهم بصحته عارفون. وجحدوه وكتموا ما قد أخذتُ عليهم -ببيانه لخلقي من أمر محمد ونُبوّته- المواثيق وهم به عالمون. بل أنا عالم بذلك من أمركم وغيره من أموركم. وأمور غيركم (133) ، إني بكل شيء عليم.وقوله: " عليم " بمعنى عالم. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول: هو الذي قد كمَل في علمه.596- حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح, قال: حدثني علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: العالم الذي قد كمَل في علمه (134) .------------------الهوامش :(101) البيت لتميم بن أبي بن مقبل (معجم ما استعجم : 795 ، 857) ، وروايته"ثواني" مكان"سوامد" . وشرورى : جبل بين بني أسد وبني عامر ، في طريق مكة إلى الكوفة . والضجوع -بفتح الضاد المعجمة- : موضع أيضًا بين بلاد هذيل وبني سليم . وقوله : "سوامد" جمع سامد . سمدت الإبل في سيرها : جدت وسارت سيرًا دائمًا ، ولم تعرف الإعياء . وسوامد : دوائب لا يلحقهن كلال . والنون في"قطعن" للإبل .(102) هذه الجملة بين القوسين ، ليست في المخطوطة ، وكأنها مقحمة .(103) لم أجد هذا البيت . وفي المطبوعة : "قبل الرأس مصعب" ، وهو خطأ لا شك فيه . وفي المخطوطة : "في ثراته" ، ولا معنى لها ، ولعلها"في تراثه" . وأنا في شك من كل ذلك . بيد أن مصعبًا الذي ذكر في الشعر ، هو فيما أرجح مصعب بن الزبير .(104) في المطبوعة : "عمد إليها" .(105) الأثر : 588- في الدر المنثور 1 : 43 ، والأثر التالي : 589 ، من تمامه .(106) في المطبوعة : "العالى إليها" .(107) ديوانه : 110 ، واللسان (سوى) قال : "وهذا البيت مختلف الوزن ، فالمصراع الأول من المنسرح ، والثاني من الخفيف" . والرسم : آثار الديار اللاصقة بالأرض . ومهدد اسم امرأة . والأبد : الدهر الطويل ، والهاء في"أبده" راجع إلى الرسم . وعفا : درس وذهب أثره . والبلد : الأثر يقول : انمحى رسمها حتى استوى بلا أثر .(108) في المخطوطة : "الاستيلاء والاحتواء" .(109) في المطبوعة : "وإن قال . . . " .(110) في المطبوعة : "بعد إرتاقهن" وليست بشيء ، وفي المخطوطة : "بعد أن تتاقهن" ، وظاهر أنها تحريف لما أثبتناه . وارتتق الشيء : التأم والتحم حتى ليس به صدع . وهذا من تأويل ما في سورة الأنبياء : 30 من قول الله سبحانه : أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا والفتق : الشق .(111) الأثر : 589- في الدر المنثور 1 : 43 ، وهو من تمام الأثر السالف : 588 .(112) المكني : هو الضمير ، فيما اصطلح عليه النحويون ، لأنه كناية عن الذي أخفيت ذكره . وفي المطبوعة : "الجمع" مكان"الجميع" حيث ذكرت في المواضع الآتية في هذه العبارة .(113) في المطبوعة : "أنث السماء . . . وذكر" بطرح التاء .(114) "بعض أهل العربية" هو الفراء ، وإن لم يكن اللفظ لفظه ، في كتابه معاني القرآن 1 : 25 ، ولكنه ذهب هذا المذهب ، في كتابه أيضًا ص : 126 - 131 .(115) هكذا في الأصول"كما يذكر المؤنث" ، وأخشى أن يكون صواب هذه العبارة : "كما تذكر الأرض ، كما قال الشاعر : . . . " وقد ذكر الفراء في معاني القرآن ذلك فقال : " . . فإن السماء في معنى جمع فقال : (فسواهن) للمعنى المعروف أنهن سبع سموات . وكذلك الأرض يقع عليها -وهي واحدة- الجمع . ويقع عليهما التوحيد وهما مجموعتان ، قال الله عز وجل : (رب السموات والأرض) ثم قال : (وما بينهما) ، ولم يقل : بينهن . فهذا دليل على ما قلت لك" . معاني القرآن . 1 : 25 ، وانظر أيضًا ص : 126 - 131 .(116) البيت من شعر عامر بن جوين الطائي ، في سيبويه 1 : 240 ، ومعاني القرآن 1 : 127 والخزانة 1 : 21 - 26 ، وشرح شواهد المغني : 319 ، والكامل 1 : 406 ، 2 : 68 ، وقبله ، يصف جيشًا :وَجَارِيَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُوكِ قَعْقَعْتُ بِالْخَيْلِ خَلْخَالَهَاكَكِرْ فِئَةِ الْغَيْثِ ذَاتِ الصَّبِيرِتَرْمِي السَّحَابَ وَيَرْمِي لَهَاتَوَاعَدْتُهَا بَعْدَ مَرِّ النُّجُومِ,كَلْفَاءَ تُكْثِرُ تَهْطَالَهَافلا مزنة . . . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . .(117) أعشى بني ثعلبة ، وأعشى بني قيس ، والأعشى ، كلها واحد ، ديوانه 1 : 120 ، وفي سيبويه 1 : 239 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 128 ، والخزانة 4 : 578 ، ورواية الديوان :فَإِنْ تَعْهَدِينِي وَلِي لِمَّةٌفَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَلْوَى بِهَاورواية سيبويه كما في الطبري ، إلا أنه روى"أودى بها" . وألوى به : ذهب به وأهلكه . وأودى به : أهلكه ، أيضًا . وأما"أزرى بها" : أي حقرها وأنزل بها الهوان ، من الزرارية وهي التحقير . وكلها جيد .(118) أخلاق ، جمع خلق (بفتحتين) : وهو البالي . وأسمال جمع سمل (بفتحتين) : وهو الرقيق المتمزق البالي . وبرمة أجبار ، ضد قولهم برمة أكسار ، كأنه جمع برمة جبر (بفتح فسكون) وإن لم يقولوه مفردًا ، كما لم يقولوا برمة كسر ، مفردًا . وأصله من جبر العظم ، وهو لأمه بعد كسره .(119) في المخطوطة : "ولم يحبكن" .(120) الأثر : 590- هذا الأثر في الحقيقة تفسير للآيات 9 - 12 من سورة فصلت . ولم يذكره الطبري في موضعه عند تفسيرها (24 : 60 - 65 طبعة بولاق) . وكذلك لم يذكره ابن كثير والسيوطي والشوكاني- في هذا الموضع ، ولا في موضعه من تفسير سورة فصلت . وهو من كلام ابن إسحاق ، ولا بأس عليهم في الإعراض عن إخراجه . وقد صرح الطبري -بعد- أنه إنما ذكره استشهادًا ، لا استدلالا ، إذ وجده أوضح بيانا ، وأحسن شرحًا .(121) في المطبوعة : "بعد خلقه الأرض" .(122) في المطبوعة : "عن خبر السموات" .(123) في المطبوعة : "بتسويتها" ، وسياق كلامه : "أوضح بيانًا . . . من غيره" ، وما بينهما فصل .(124) في المطبوعة"بمعنى الجمع" ، وفي التي تليها ، وقد مضى مثل ذلك آنفًا .(125) في المطبوعة : "أم بمعنى" ، وهذه أجود .(126) في المطبوعة : "ونزيد ذلك توكيدًا" .(127) في الأصول : "وجعل لها رواسي أن تميد بكم" ، وهو وهم سبق إليه القلم من النساخ فيما أرجح ، والآية كما ذكرتها في سورة النحل ، ومثلها في سورة لقمان : 10(128) في المخطوطة : "يقول : من سأل ، فهكذا الأمر" .(129) الخبر : 591- في ابن كثير 1 : 123 ، والدر المنثور 1 : 42 - 43 ، والشوكاني 1 : 48 . وقد مضى الكلام في هذا الإسناد ، واستوعب أخي السيد أحمد شاكر تحقيقه في موضعه (انظر الخبر : 168) ، وقد مضى أيضًا قول الطبري ، حين عرض لهذا الإسناد في الأثر رقم : 465 ص : 353 : "فإن كان ذلك صحيحًا ، ولست أعلمه صحيحًا ، إذ كنت بإسناده مرتابًا . . " . وقد مضى الطبري في تفسيره على رواية ما لم يصح عنده إسناده ، لعلمه أن أهل العلم كانوا يومئذ يقومون بأمر الإسناد والبصر به ، ولا يتلقون شيئًا بالقبول إلا بعد تمحيص إسناده . فلئن سألت : فيم يسوق الطبري مثل هذا الخبر الذي يرتاب في إسناده؟ وجواب ذلك : أنه لم يسقه ليحتج بما فيه ، بل ساقه للاعتبار بمعنى واحد ، وهو أن الله سبحانه سمك السموات السبع من دخان ، ثم دحا الأرض وأرساها بالجبال ، ثم استوى إلى السماء وهي دخان ، فحبكهن سبعًا ، وأوحى في كل سماء أمرها . وليس في الاعتبار بمثل هذا الأثر ضرر ، لأن المعنى الذي أراده هو ظاهر القرآن وصريحه . وإن كان الخبر نفسه مما تلقاه بعض الصحابة عن بني إسرائيل ، لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا حجة إلا فيما أنزل الله في كتابه ، أو في الذي أوحى إلى نبيه مما صح عنه إسناده إليه . وكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبلناه لا نحكم فيه أحدًا ، فإن قوله هو المهيمن بالحق على أقوال الرجال .(130) الأثر : 592- في ابن كثير 1 : 124 ، والدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 48 .(131) الآثار : 593 - 595 ، لم نجدها في شيء من تلك المراجع .(132) في المخطوطة : "وأهل الكتاب" عطفًا .(133) في المطبوعة : "بل أنا عالم بذلك وغيره من أموركم . . " .(134) الخبر : 596- ليس في مراجعنا .

هذا ، إما استدلال ثاننٍ على شناعة كفرهم بالله تعالى وعلى أنه مما يقضي منه العجب فإن دلائل ربوبية الله ووحدانيته ظاهرة في خلق الإنسان وفي خلق جميع ما في الأرض فهو ارتقاء في الاستدلال بكثرة المخلوقات ، وفصْل الجملةِ السابقة يجوز أن يكون لمراعاة كمال الاتصال بين الجملتين لأن هذه كالنتيجة للدليل الأول لأن في خلق الأرض وجميع ما فيها وفي كون ذلك لمنفعة البشر إكمالاً لإيجادهم المشار إليه بقوله : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] لأن فائدة الإيجاد لا تكمل إلا بإمداد الموجود بما فيه سلامته من آلام الحاجة إلى مقومات وجوده . ويجوز أن يكون ترك العطف لدفع أن يوهم العطف أن الدليل هو مجموع الأمرين فبترك العطف يعلم أن الدليل الأول مستقل بنفسه وفي الأول بُعد وفي الثاني مخالفة الأصل لأن أصل الفصل أن لا يكون قطعاً على أنه توهم لا يضير . وإما أن يكون قوله : { هو الذي خلق } امتناناً عليهم بالنعم لتسجيل أن إشراكهم كفران بالنعمة أدمج فيه الاستدلال على أنه خالق لما في الأرض من حيوان ونبات ومعادن استدلالاً بما هو نعمة مشاهدة كما أشار إليه قوله : { لكم } فيكون الفصل بين الجملتين كما قرر آنفاً ، ولم يلتفت إلى ما في هذه الجملة من مغايرة للجملة الأولى بالامتنان لأن ما أدمج فيها من الاستدلال رجح اعتبار الفصل .والخلق تقدم تفسيره عند قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم } [ البقرة : 21 ] . والأرض اسم للعالم الكروي المشتمل على البر والبحر الذي يعمره الإنسان والحيوان والنبات والمعادن وهي المواليد الثلاثة وهذه الأرض هي موجود كائن هو ظرف لما فيه من أصناف المخلوقات ، وحيث إن العبرة كائنة في مشاهدة الموجودات من المواليد الثلاثة ، علق الخلق هنا بما في الأرض مما يحتويه ظرفها من ظاهره وباطنه ولم يعلق بذات الأرض لغفلة جل الناس عن الاعتبار ببديع خلقها إلا أن خالق المظروف جدير بخلق الظرف إذ الظرف إنما يقصد لأجل المظروف فلو كان الظرف من غير صنع خالق المظروف للزم إما تأخر الظرف عن مظروفه وفي ذلك إتلاف المظروف ، والمشاهدةُ تنفي ذلك ، وإما تقدم الظرف وذلك عبث . فاستفادة أنه خلق الأرض مأخوذة بطريق الفحوى فمن البعيد أن يجَوِّز صاحب «الكشاف» أن يراد بالأرض الجهة السفلية كما يراد بالسماء الجهة العلوية ، وبعده من وجهين أحدهما أن الأرض لم تطلق قط على غير الكرة الأرضية إلا مجازاً كما في قول شاعر أنشده صاحب «المفتاح» في بحث التعريف باللام ولم ينسبه هو ولا شارحوه :الناس أرض بكل أرض ... وأنت من فوقهم سماءبخلاف السماء أطلقت على كل ما علا فأظل ، والفرق بينهما أن الأرض شيء مشاهد والسماء لا يتعقل إلا بكونه شيئاً مرتفعاً .الثاني على تسليم القياس فإن السماء لم تطلق على الجهة العليا حتى يصح إطلاق الأرض على الجهة السفلى بل إنما تطلق السماء على شيء عال لا على نفس الجهة .وجملة : { هو الذي خلق لكم } صيغة قصر وهو قصر حقيقي سيق للمخاطبين من المشركين الذين لا شك عندهم في أن الله خالق ما في الأرض ولكنهم نُزلوا منزلةَ الجاهل بذلك فسيق لهم الخبر المحصور لأنهم في كفرهم وانصرافهم عن شكره والنظر في دعوته وعبادته كحال من يجهل أن الله خالق جميع الموجودات . ونظير هذا قوله : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } [ النحل : 17 ] { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } [ الحج : 73 ] فإن المشركين ما كانوا يثبتون لأصنامهم قدرة على الخلق وإنما جعلوها شفعاء ووسائط وعبدوها وأعرضوا عن عبادة الله حق عبادته ونسوا الخلق الملتصق بهم وبما حولهم من الأحياء والمقصود من الكلام فيما أراه موافقاً للبلاغة التذكير بأن الله هو خالق الأرض وما عليها وما في داخلها وأن ذلك كله خلقه بقدر انتفاعنا بها وبما فيها في مختلف الأزمان والأحوال فأُوجز الكلامُ إيجازاً بديعاً بإقحام قوله : { لكم } فأَغْنَى عن جملة كاملة فالكلام مسوق مساق إظهار عظيم القدرة وإظهار عظيم المنة على البشر وإظهار عظيم منزلة الإنسان عند الله تعالى ، وكل أولئك يقتضي اقتلاع الكفر من نفوسهم .وفي هذه الآية فائدتان :الأولى : أن لام التعليل دلت على أن خلق ما في الأرض كان لأجل الناس وفي هذا تعليل للخلق وبيان لثمرته وفائدتهِ فتثار عنه مسألةُ تعليل أفعال الله تعالى وتعلقها بالأغراض والمسألة مختلف فيها بين المتكلمين اختلافاً يشبه أن يكون لفظياً فإن جميع المسلمين اتفقوا على أن أفعال الله تعالى ناشئة عن إرادة واختيار وعلى وفق علمه وأن جميعها مشتمل على حِكَم ومصالح وأن تلك الحكم هي ثمرات لأفعاله تعالى ناشئة عن حصول الفعل فهي لأجل حصولها عند الفعل تثمر غايات ، هذا كله لا خلاف فيه وإنما الخلاف في أنها أتوصف بكونها أغراضاً وعللاً غائية أم لا؟ فأثبت ذلك جماعة استدلالاً بما ورد من نحو قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] ، ومنع من ذلك أصحاب الأشعري فيما عزاه إليهم الفخر في «التفسير» مستدلين بأن الذي يفعل لغرض يلزم أن يكون مستفيداً من غرضه ذلك ضرورة أن وجود ذلك الغرض أَوْلَى بالقياس إليه من عدمه ، فيكون مستفيداً من تلك الأولوية ويلزم من كون ذلك الغرض سبباً في فعله أن يكون هو ناقصاً في فاعليته محتاجاً إلى حصول السبب .وقد أجيب بأن لزوم الاستفادة والاستكمال إذا كانت المنفعة راجعة إلى الفاعل ، وأما إذا كانت راجعة للغير كالإحسان فَلا ، فردَّه الفخر بأنه إذا كان الإحسان أرجح من غيره وأولى لزمت الاستفادة .وهذا الرد باطل لأن الأرجحية لا تستلزم الاستفادة أبداً بل إنما تستلزم تعلق الإرادة ، وإنما تلزم الاستفادةُ لو ادعينا التعين والوجوب .والحاصل أن الدليل الذي استدلوا به يشتمل على مقدمتين سفسطائيتين أولاهما قولهم إنه لو كان الفعل لغرض للزم أن يكون الفاعل مستكملاً به وهذا سفسطة شُبِّه فيها الغرض النافع للفاعل بالغرض بمعنى الداعي إلى الفعل والراجع إلى ما يناسبه من الكمال لا توقف كماله عليه . الثانية قولهم إذا كان الفعل لغرض كان الغرض سبباً يقتضي عجز الفاعل وهذا شُبه فيه السبب الذي هو بمعنى الباعث بالسبب الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم وكلاهما يطلق عليه سبب .ومن العجائب أنهم يسلمون أن أفعال الله تعالى لا تخلو عن الثمرة والحكمة ويمنعون أن تكون تلك الحكم عللاً وأغراضاً مع أن ثمرة فعل الفاعل العالم بكل شيء لا تخلو من أن تكون غرضاً لأنها تكون داعياً للفعل ضرورة تحقق علم الفاعل وإرادته . ولم أدر أي حرج نظروا إليه حين منعوا تعليل أفعال الله تعالى وأغراضها .ويترجح عندي أن هاته المسألة اقتضاها طرد الأصول في المناظرة ، فإن الأشاعرة لما أنكروا وجوب فعل الصلاح والأصلح أَورد عليهم المعتزلة أو قدَّرُوا هُم في أنفسهم أن يُورَد عليهم أن الله تعالى لا يفعل شيئاً إلا لغرض وحكمة ولا تكون الأغراض إلا المصالح فالتزموا أن أفعال الله تعالى لا تناط بالأغراض ولا يعبر عنها بالعلل وينبىء عن هذا أنهم لما ذكروا هذه المسألة ذكروا في أدلتهم الإحسان للغير ورعي المصلحة .وهنالك سبب آخر لفرض المسألة وهو التنزه عن وصف أفعال الله تعالى بما يوهم المنفعة له أو لغيره وكلاهما باطل لأنه لا ينتفع بأفعاله ولأن الغير قد لا يكون فعلُ الله بالنسبة إليه منفعةً .هذا وقد نقل أبو إسحاق الشاطبي في «الموافقات» عن جمهور الفقهاء والمتكلمين أن أحكام الله تعالى معللة بالمصالح ودرء المفاسد ، وقد جمع الأقوال الشيخ ابن عرفة في «تفسيره» فقال : «هذا هو تعليل أفعال الله تعالى وفيه خلاف وأما أحكامه فمعللة» .الفائدة الثانية : أخذوا من قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } أن أصل استعمال الأشياء فيما يراد له من أنواع الاستعمال هو الإباحة حتى يدل دليل على عدمها لأنه جعل ما في الأرض مخلوقاً لأجلنا وامتن بذلك علينا وبذلك قال الإمام الرازي والبيضاوي وصاحب «الكشاف» ونسب إلى المعتزلة وجماعة من الشافعية والحنفية منهم الكرخي ونسب إلى الشافعي . وذهب المالكية وجمهور الحنفية والمعتزلة في نقل ابن عرفة إلى أن الأصل في الأشياء الوقف ولم يروا الآية دليلاً قال ابن العربي في «أحكامه» : «إنما ذكر الله تعالى هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه على طريق العلم والقدرة وتصريف المخلوقات بمقتضى التقدير والإتقان بالعلم» الخ .والحق أن الآية مجملة قصد منها التنبيه على قدرة الخالق بخلق ما في الأرض وأنه خلق لأجلنا إلا أن خلقه لأجلنا لا يستلزم إباحة استعماله في كل ما يقصد منه بل خلق لنا في الجملة ، على أن الامتنان يصدق إذا كان لكل من الناس بعض مما في العالم بمعنى أن الآية ذكرت أن المجموع للمجموع لا كل واحد لكل واحد كما أشار إليه البيضاوي لا سيما وقد خاطب الله بها قوماً كافرين منكراً عليهم كفرهم فكيف يعلمون إباحة أو منعاً ، وإنما محل الموعظة هو ما خلقه الله من الأشياء التي لم يزل الناس ينتفعون بها من وجوه متعددة .وذهب جماعة إلى أن أصل الأشياء الحظر ونقل عن بعض أهل الحديث وبعض المعتزلة فللمعتزلة الأقوال الثلاثة كما قال القرطبي . قال الحموي في «شرح كتاب الأشباه» لابن نجيم نقلاً عن الإمام الرازي وإنما تظهر ثمرة المسألة في حكم الأشياء أيام الفترة قبل النبوة أي فيما ارتكبه الناس من تناول الشهوات ونحوها ولذلك كان الأصح أن الأمر موقوف وأنه لا وصف للأشياء يترتب من أجله عليها الثواب والعقاب .وعندي أن هذا لا يحتاج العلماء إلى فرضه لأن أهل الفترة لا شرع لهم وليس لأفعالهم أحكام إلا في وجوب التوحيد عند قوم ، وأما بعد ورود الشرع فقد أغنى الشرع عن ذلك فإن وجد فعل لم يدل عليه دليل من نص أو قياس أو استدلال صحيح فالصحيح أن أصل المضار التحريم والمنافع الحل وهذا الذي اختاره الإمام في «المحصول» فتصير للمسألة ثمرة باعتبار هذا النوع من الحوادث في الإسلام .{ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } .انتقال من الاستدلال بخلق الأرض وما فيها وهو مما علمه ضروري للناس ، إلى الاستدلال بخلق ما هو أعظم من خلق الأرض وهو أيضاً قد يُغفل عن النظر في الاستدلال به على وجود الله ، وذلك خلق السماوات ، ويشبه أن يكون هذا الانتقال استطراداً لإكمال تنبيه الناس إلى عظيم القدرة .وعَطَفَتْ ( ثُمَّ ) جملةَ ( استوى ) على جملة { خَلَقَ لكم } . ولدلالة ( ثُمَّ ) على الترتيب والمهلة في عطف المفرد على المفرد كانت في عطف الجملة على الجملة للمهلة في الرتبة وهي مهلة تخييلية في الأصل تشير إلى أن المعطوف بثُم أعرق في المعنى الذي تتضمنه الجملة المعطوف عليها حتى كأنَّ العَقْل يتمهل في الوصول إليه بعد الكلام الأول فينتبه السامع لذلك كي لا يغفل عنه بما سمع من الكلام السابق ، وشاع هذا الاستعمال حتى صار كالحقيقة ، ويسمى ذلك بالترتيب الرتبي وبترتب الإخبار ( بكسر الهمزة ) كقوله تعالى : { فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فَكُّ رقبةٍ }[ البلد : 11 13 ] إلى أن قال : { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] فإن قوله : { فَكُّ رقبة } خبرُ مبتدأ محذوف ولما كان ذكر هاته الأمور التي يعز إيفاؤها حقها مما يُغفل السامع عن أمر آخر عظيم نُبه عليه بالعطف بثم للإشارة إلى أنه آكد وأهم ، ومنه قول طرفة بن العبد يصف راحلته :جَنُوح دِفاق عَنْدَلٌ ثم أُفرِعَت ... لَهَا كَتِفَاها في مُعَالىً مُصَعَّدفإنه لما ذكر من محاسنها جملة نبه على وصف آخر أهم في صفات عنقها وهو طول قامتها قال المرزوقي في «شرح الحماسة» في شرح قول جَعفر بن عُلبة الحارثي :لا يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إلاَّ ابنُ حُرَّة ... يَرَى غَمَرَاتتِ المَوْتتِ ثم يزورهاإن ثم وإن كان في عطفه المفرد على المفرد يدل على التراخي فإنه في عطفه الجملة على الجملة ليس كذلك وذكر قوله تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا } ا ه . وإفادة التراخي الرتبي هو المعتبر في عطف ثم للجمل سواء وافقت الترتيب الوجودي مع ذلك أو كان معطوفها متقدماً في الوجود وقد جاء في الكلام الفصيح ما يدل على معنى البعدية مراداً منه البعدية في الرتبة وإن كان عكس الترتيب الوجودي فتكون البعدية مجازية مبنية على تشبيه البَوْن المعنوي بالبعد المكاني أو الزماني ومنه قوله تعالى : { همَّاز مَشَّاءٍ بنَميم منَّاععٍ للخير مُعْتَد أثيم عُتُلّ بعدَ ذلك زنيم } [ القلم : 11 13 ] فإن كونه عُتُلا وزنيماً أسبق في الوجود من كونه همَّازاً مشَاء بنميم لأنهما صفتان ذاتيتان بخلاف هماز مشاء بنميم ، وكذلك قوله تعالى : { فإن الله هو مولاه وجبريل وصالحُ المؤمنين والملائكةُ بعد ذلك ظهير } [ التحريم : 4 ] . فإذا تمحضت ثم للتراخي الرتبي حملت عليه وإن احتملته مع التراخي الزمني فظاهر قول المرزوقي : «فإنه في عطف الجملة ليس كذلك» إنه لا يَحتمل حينئذٍ التراخي الزمني . ولكن يظهر جَواز الاحتمالين وذلك حيث يكون المعطوف بها متأخراً في الحصول على ما قبلها وهو مع ذلك أهم كما في بيت جعفر بن عُلبة . قلت وهو إما مجاز مرسل أو كناية ، فإن ألقت ( ثم ) وأريد منها لازم التراخي وهو البعد التعظيمي كما أريد التعظيم من اسم الإشارة الموضوع للبعيد ، والعلاقة وإن كانت بعيدة إلا أنها لشهرتها في كلامهم واستعمالهم ومع القرائن لم يكن هذا الاستعمال مردوداً .واعلم أني تتبعت هذا الاستعمال في مواضعه فرأيته أكثر ما يرد فيما إذا كانت الجمل إخباراً عن مخبر عنه واحد بخلاف ما إذا اختلف المخبر عنه فإن ( ثم ) تتعين للمهلة الزمنية كقوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم إلى قوله : ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } [ البقرة : 84 ، 85 ] أي بعد أن أخذنا الميثاق بأزمان صرتم تقتلون أنفسكم ونحو قولك : مرت كتيبة الأنصار ثم مرت كتيبة المهاجرين .فأما هذه الآية فإنه إذا كانت السماوات متأخراً خلقها عن خلق الأرض فثُم للتراخي الرتبي لا محالة مع التراخي الزمني وإن كان خلق السماوات سابقاً فثُم للترتيب الرتبي لا غير .والظاهر هو الثاني . وقد جرى اختلاف بين علماء السلف في مقتضى الأخبار الواردة في خلق السماوات والأرض فقال الجمهور منهم مجاهد والحسن ونسب إلى ابن عباس إن خلق الأرض متقدم على خلق السماء لقوله تعالى هنا : { ثم استوى إلى السماء } وقوله في سورة حم السجدة ( 9 11 ) : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } إلى أن قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان . وقال قتادة والسدي ومقاتل إن خلق السماء متقدم واحتجوا بقوله تعالى : بناها رَفع سمكها فسواها إلى قوله : { والأرضَ بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 27 30 ] . وقد أجيب بأن الأرض خلقت أولاً ثم خلقت السماء ثم دُحيت الأرض فالمتأخر عن خلق السماء هو دحْو الأرض ، على ما ذهب إليه علماء طبقات الأرض من أن الأرض كانت في غاية الحرارة ثم أخذت تبرد حتى جمدت وتكونت منها قشرة جامدة ثم تشققت وتفجرت وهبطت منها أقسام وعلت أقسام بالضغط إلا أن علماء طبقات الأرض يقدرون لحصول ذلك أزمنة متناهية الطول وقدرة الله صالحة لإحداث ما يحصل به ذلك التقلب في أمد قليل بمقارنة حوادث تعجل انقلاب المخلوقات عما هي عليه .وأرجح القولين هو أن السماء خلقت قبل الأرض لأن لفظ { بعد ذلك } أظهر في إفادة التأخر من قوله : { ثم استوى إلى السماء } ولأن أنظار علماء الهيئة ترى أن الأرض كرة انفصلت عن الشمس كبقية الكواكب السيارة من النظام الشمسي . وظاهر سفر التكوين يقتضي أن خلق السماوات متقدم على الأرض . وأحسب أن سلوك القرآن في هذه الآيات أسلوب الإجمال في هذا الغرض لقطع الخصومة بين أصحاب النظريتين .والسماء إن أريد بها الجو المحيط بالكرة الأرضية فهو تابع لها متأخر عن خلقها ، وإن أريد بها الكواكب العلوية وذلك هو المناسب لقوله : { فسوتهن سبع سموات } فالكواكب أعظم من الأرض فتكون أسبق خلقاً وقد يكون كل من الاحتمالين ملاحظاً في مواضع من القرآن غير الملاحظ فيها الاحتمال الآخر .والاستواء أصله الاستقامة وعدم الاعوجاج يقال صراط مستو ، واستوى فلان وفلان واستوى الشيء مطاوع سواء ، ويطلق مجازاً على القصد إلى الشيء بعزم وسرعة كأنه يسير إليه مستوياً لا يلوي على شيء فيعدى بإلى فتكون ( إلى ) قرينة المجاز وهو تمثيل ، فمعنى استواء الله تعالى إلى السماء تعلق إرادته التنجيزي بإيجادها تعلقاً يشبه الاستواء في التهيىء للعمل العظيم المتقن .ووزن استوى افتعل لأن السين فيه حرف أصلي وهو افتعال مجازي وفيه إشارة إلى أنه لما ابتدأ خلق المخلوقات خلق السماوات ومن فيها ليكون توطئة لخلق الأرض ثم خلق الإنسان وهو الذي سيقت القصة لأجله .و ( سواهن ) أي خلقهن في استقامة ، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا ثلم .وبين استوى وسواهن الجناس المحرف .والسماء مشتقة من السمو وهو العلو واسم السماء يطلق على الواحد وعلى الجنس من العوالم العليا التي هي فوق العالم الأرضي والمراد به هنا الجنس بقرينة قوله : { فسواهن سبع سماوات } إذ جعلها سبعاً ، والضمير في قوله : { فسواهن } عائد إلى ( السماء ) باعتبار إرادة الجنس لأنه في معنى الجمع وجوز صاحب «الكشاف» أن يكون المراد من السماء هنا جهة العلو ، وهو وإن صح لكنه لا داعي إليه كما قاله التفتزاني .وقد عد الله تعالى في هذه الآية وغيرها السماوات سبعاً وهو أعلم بها وبالمراد منها إلا أن الظاهر الذي دلت عليه القواعد العلمية أن المراد من السماوات الأجرام العلوية العظيمة وهي الكواكب السيارة المنتظمة مع الأرض في النظام الشمسي ويدل لذلك أمور :أحدها : أن السماوات ذكرت في غالب مواضع القرآن مع ذكر الأرض وذكر خلقها هنا مع ذكر خلق الأرض فدل على أنها عوالم كالعالم الأرضي وهذا ثابت للسيارات .ثانيها : أنها ذكرت مع الأرض من حيث إنها أدلة على بديع صنع الله تعالى فناسب أن يكون تفسيرها تلك الأجرام المشاهدة للناس المعروفة للأمم الدال نظام سيرها وباهر نورها على عظمة خالقها .ثالثها : أنها وصفت بالسبع وقد كان علماء الهيئة يعرفون السيارات السبع من عهد الكلدان وتعاقب علماء الهيئة من ذلك العهد إلى العهد الذي نزل فيه القرآن فما اختلفوا في أنها سبع .رابعها : أن هاته السيارات هي الكواكب المنضبط سيرها بنظام مرتبط مع نظام سير الشمس والأرض ، ولذلك يعبر عنها علماء الهيئة المتأخرون بالنظام الشمسي فناسب أن تكون هي التي قرن خلقها بخلق الأرض . وبعضهم يفسر السماوات بالأفلاك وهو تفسير لا يصح لأن الأفلاك هي الطرق التي تسلكها الكواكب السيارة في الفضاء ، وهي خطوط فرضية لا ذوات لها في الخارج .هذا وقد ذكر الله تعالى السماوات سبعاً هنا وفي غير آية ، وقد ذكر العرش والكرسي بما يدل على أنهما محيطان بالسماوات وجعل السماوات كلها في مقابلة الأرض وذلك يؤيد ما ذهب إليه علماء الهيئة من عد الكواكب السيارة تسعة وهذه أسماؤها على الترتيب في بعدها من الأرض : نِبْتون ، أُورَانوس ، زُحَل ، المشتري ، المريخ ، الشمس ، الزهرة ، عطارد ، بلكان .والأرض في اصطلاحهم كوكب سيار ، وفي اصطلاح القرآن لم تعد معها لأنها التي منها تنظر الكواكب وعُد عوضاً عنها القمر وهو من توابع الأرض فعده معها عوض عن عد الأرض تقريباً لأفهام السامعين .وأما الثوابت فهي عند علماء الهيئة شموس سابحة في شاسع الأبعاد عن الأرض وفي ذلك شكوك . ولعل الله لم يجعلها سماوات ذات نظام كنظام السيارات السبع فلم يعدها في السماوات أو أن الله إنما عد لنا السماوات التي هي مرتبطة بنظام أرضنا .وقوله : { وهو بكل شيء عليم } نتيجة لما ذكره من دلائل القدرة التي لا تصدر إلا من عليم فلذلك قال المتكلمون ، إن القدرة يجري تعلقها على وفق الإرادة ، والإرادةَ على وفق العلم . وفيه تعريض بالإنكار على كفرهم والتعجيب منه فإن العليم بكل شيء يقبح الكفر به .وهذه الآية دليل على عموم العلم وقد قال بذلك جميع الملِّيِّين كما نقله المحقق السلكوتي في «الرسالة الخَاقَانِيَّة» وأنكر الفلاسفة علمه بالجزئيات وزعموا أن تعلق العلم بالجزئيات لا يليق بالعلم الإلهي وهو توهم لا داعي إليه .وقرأ الجمهور هاء «وهو» بالضم على الأصل ، وقرأها قالون وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر بالسكون للتخفيف عند دخول حرف العطف عليه ، والسكون أكثر من الضم في كلامهم وذلك مع الواو والفاء ولاممِ الابتداء ووجهه أن الحروف التي هي على حرف واحد إذا دخلت على الكلمة تنزلت منزلة الجزء منها فصارت الكلمة ثقيلة بدخول ذلك الحرف فيها فخففت بالسكون كما فعلوا ذلك في حركة لام الأمر مع الواو والفاء ، ومما يدل على أن أفصح لغات العرب إسكان الهاء مِن ( هو ) إذا دخل عليه حرف ، أنك تجده في الشعر فلا يتزن البيت إلا بقراءة الهاء ساكنة ولا تكاد تجد غير ذلك بحيث لا يمكن دَعوى أنه ضرورة . [
الآية 29 - سورة البقرة: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ۚ وهو بكل شيء عليم...)