سورة البقرة: الآية 93 - وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم...

تفسير الآية 93, سورة البقرة

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُوا۟ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُوا۟ ۖ قَالُوا۟ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا۟ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِۦٓ إِيمَٰنُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ

الترجمة الإنجليزية

Waith akhathna meethaqakum warafaAAna fawqakumu alttoora khuthoo ma ataynakum biquwwatin waismaAAoo qaloo samiAAna waAAasayna waoshriboo fee quloobihimu alAAijla bikufrihim qul bisama yamurukum bihi eemanukum in kuntum mumineena

تفسير الآية 93

واذكروا حين أَخَذْنا عليكم عهدًا مؤكدًا بقَبول ما جاءكم به موسى من التوراة، فنقضتم العهد، فرفعنا جبل الطور فوق رؤوسكم، وقلنا لكم: خذوا ما آتيناكم بجدٍّ، واسمعوا وأطيعوا، وإلا أسقطنا الجبل عليكم، فقلتم: سمعنا قولك وعصينا أمرك؛ لأن عبادة العجل قد امتزجت بقلوبكم بسبب تماديكم في الكفر. قل لهم -أيها الرسول-: قَبُحَ ما يأمركم به إيمانكم من الكفر والضلال، إن كنتم مصدِّقين بما أنزل الله عليكم.

«وإذ أخذنا ميثاقكم» على العمل بما في التوراة «و» قد «رفعنا فوقكم الطور» الجبل حين امتنعتم من قبولها ليسقط عليكم وقلنا «خذوا ما آتيناكم بقوة» بجد واجتهاد «واسمعوا» ما تؤمرون به سماع قبول «قالوا سمعنا» قولك «وعصينا» أمرك «وأشربوا في قلوبهم العجل» أي خالط حبه قلوبهم كما يخالط الشراب «بكفرهم، قل» لهم «بئسما» شيئا «يأمركم به إيمانكم» بالتوراة عبادة العجل «إن كنتم مؤمنين» بها كما زعمتم. المعنى لستم بمؤمنين لأن الإيمان لا يأمر بعبادة العجل، والمراد آباؤهم: أي فكذلك أنتم لستم بمؤمنين بالتوراة وقد كذَّبتم محمداً والإيمان بها لا يأمر بتكذيبه.

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا أي: سماع قبول وطاعة واستجابة، قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا أي: صارت هذه حالتهم وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بسبب كفرهم. قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: أنتم تدعون الإيمان وتتمدحون بالدين الحق, وأنتم قتلتم أنبياء الله, واتخذتم العجل إلها من دون الله, لما غاب عنكم موسى, نبي الله, ولم تقبلوا أوامره ونواهيه إلا بعد التهديد ورفع الطور فوقكم, فالتزمتم بالقول, ونقضتم بالفعل، فما هذا الإيمان الذي ادعيتم, وما هذا الدين؟. فإن كان هذا إيمانا على زعمكم, فبئس الإيمان الداعي صاحبه إلى الطغيان, والكفر برسل الله, وكثرة العصيان، وقد عهد أن الإيمان الصحيح, يأمر صاحبه بكل خير, وينهاه عن كل شر، فوضح بهذا كذبهم, وتبين تناقضهم.

يعدد ، تبارك وتعالى ، عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم عنه ، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ; ولهذا قال : ( قالوا سمعنا وعصينا ) وقد تقدم تفسير ذلك .( وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : ( وأشربوا في قلوبهم العجل [ بكفرهم ] ) قال : أشربوا [ في قلوبهم ] حبه ، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم . وكذا قال أبو العالية ، والربيع بن أنس .وقال الإمام أحمد : حدثنا عصام بن خالد ، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني ، عن خالد بن محمد الثقفي ، عن بلال بن أبي الدرداء ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حبك الشيء يعمي ويصم " .ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن بقية ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به وقال السدي : أخذ موسى ، عليه السلام ، العجل فذبحه ثم حرقه بالمبرد ، ثم ذراه في البحر ، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه ، ثم قال لهم موسى : اشربوا منه . فشربوا ، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب . فذلك حين يقول الله تعالى : ( وأشربوا في قلوبهم العجل )وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن عمارة بن عبد وأبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب ، قال : عمد موسى إلى العجل ، فوضع عليه المبارد ، فبرده بها ، وهو على شاطئ نهر ، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب .وقال سعيد بن جبير : ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) قال : لما أحرق العجل برد ثم نسف ، فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران .وحكى القرطبي عن كتاب القشيري : أنه ما شرب منه أحد ممن عبد العجل إلا جن [ ثم قال القرطبي ] وهذا شيء غير ما هاهنا ; لأن المقصود من هذا السياق ، أنه ظهر النقير على شفاههم ووجوههم ، والمذكور هاهنا : أنهم أشربوا في قلوبهم حب العجل ، يعني : في حال عبادتهم له ، ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة :تغلغل حب عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسير تغلغل حيث لم يبلغ شرابولا حزن ولم يبلغ سرور أكاد إذا ذكرت العهد منهاأطير لو ان إنسانا يطيروقوله : ( قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ) أي : بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه ، من كفركم بآيات الله ومخالفتكم الأنبياء ، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا أكبر ذنوبكم ، وأشد الأمور عليكم إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين ، فكيف تدعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة ، من نقضكم المواثيق ، وكفركم بآيات الله ، وعبادتكم العجل ؟ !

ثم ذكر القرآن الكريم جناية أخرى تكذبهم في دعواهم: أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم- وهي إباؤهم التوراة عنادا واستكبارا فقال تعالى:وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ، خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا، قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا، وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ، قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.ومعنى الآية الكريمة: واذكروا- يا بنى إسرائيل- وقت أن أخذنا الميثاق عليكم بأن تعملوا بما في التوراة، وتتلقوا أحكامها بالتقبل والطاعة ورفعنا فوقكم الطور لنريكم آية من آياتنا العظمى التي تقوى قلوبكم، وتجعلكم تقبلون على تعاليم التوراة برغبة واستجابة، وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم بجد وحزم، واسمعوا ما أمرناكم به سماع تدبر وطاعة، ولكنكم- يا بنى إسرائيل- يا من تدعون الإيمان بما أنزل عليكم- أعرضتم عما أمرتم به من قبول التوراة وقلتم لنبيكم سمعنا قولك وعصينا أمرك، وخالط حب عبادة العجل قلوبكم كما يخالط الماء أعماق البدن ولم تأبهوا بما جاءكم في التوراة من الهدى والنور وبما صحب عرضها عليكم من الآية البينة وهي رفع الجبل فوقكم حتى ظننتم أنه واقع بكم فكفرتم بذلك كله ولا زالت نفوسكم تحن إلى عبادة العجل ولقد سرتم على منهج أسلافكم في العناد والجحود والإعراض عما ينزله الله من الحق، وإذا كان هذا شأنكم فكيف تدعون الإيمان بما أنزل عليكم؟ثم أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يوبخهم على تخرصاتهم فقال تعالى: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.وقوله تعالى: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ معناه: أننا حركناه ونقلناه معلقا فوقكم في الهواء، لتروا بأعينكم آية كونية من شأنها أنها تحملكم على الإيمان والطاعة إن كانت لكم عقول تعقل.ومعنى قوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا: قلنا لكم خذوا ما أمرناكم به في التوراة بجد واجتهاد في تأديته، واسمعوا ما تؤمرون به سماع طاعة وتفهم. فقوله تعالى وَاسْمَعُوا ليس المراد به مجرد السماع للقول فقط، بل المقصود منه السماع الذي يصحبه التدبر والاستجابة للأمر: فهو مؤكد ومقرر لقوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ.ثم حكى- سبحانه- جوابهم الذي يدل على عنادهم فقال: قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف طابق قوله جوابهم؟ قلت طابقه من حيث إنه قال لهم اسمعوا: وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة .وقد اختلف المفسرون هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا أو أنهم فعلوا فعلا مقام القول فيكون مجازا؟قال الفخر الرازي: الأكثرون من المفسرين على أنهم قالوا هذا القول حقيقة. وقال أبو مسلّم: وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول ولم يقولوه، كقوله تعالى فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. قال: والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير دليل لا يجوز .وقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ عطف على قولهم سمعنا وعصينا والإشراب السقي وجعل الشيء شاربا، واستعمل على وجه التجوز في خلط لون بآخر كأن أحد اللونين سقى الآخر، يقال: بياض مشرب بحمرة أى مختلط، وفلان أشرب قلبه حب كذا بمعنى خالط حبه قلبه.قال الإمام الرازي: قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ في وجه هذه الاستعارة وجهان: الأول: معناه تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب، وقوله في قلوبهم بيان لمكان الإشراب كقوله: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً، الثاني: كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض، فكذا تلك المحبة كانت مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال .وفي الجملة الكريمة وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ مضاف محذوف وهو لفظ (حب) لدلالة المعنى عليه.والمعنى: إن هؤلاء اليهود الذين مردوا على العصيان قد خالط حب العجل نفوسهم حتى استقر في قلوبهم كما يخالط الماء أعماق الجسد. وحذف لفظ الحب من الجملة الكريمة، يشعر بشدة تعلق قلوبهم بالعجل حتى لكأنهم أشربوا ذاته.والتعبير بقوله: أُشْرِبُوا يشير إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه.وقوله تعالى: بِكُفْرِهِمْ دليل على أن محبتهم للعجل ناشئة عن كفر سابق، وجحود متأصل فكفرهم الذي ترتب على عبادتهم للعجل، قد سبقه كفر آخر، فهو كفر على كفر.ثم أمر الله- تعالى- نبيه في ختام الآية الكريمة بتوبيخهم فقال تعالى:قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أى: قل- يا محمد- لهؤلاء اليهود الذين يدعون الإيمان بما أنزل عليهم- قل لهم- بئس الشيء الذي يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء وعبادة العجل والعصيان إن كنتم مصدقين- كما زعمتم- بالتوراة، والحق أن التوراة ما أمرتكم بشيء من ذلك فما أنتم بمؤمنين بها ولا بغيرها من كتب الله، لأنها لا تأمر بالفحشاء.فالجملة الكريمة خلاصة لإبطال قولهم «نؤمن بما أنزل علينا» بعد أن أبطله الله- تعالى- فيما سبق بشواهد متعددة، لأنهم لما زعموا ذلك، وكانوا مع هذا يفعلون أفعالا قبيحة تناقض الإيمان بأى كتاب سماوي، أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يذمهم على هذه الأفعال التي تناقض الإيمان بما أنزل عليهم لكي يعلم الناس جميعا أن دعواهم لا أساس لها من الصحة.وأضاف- سبحانه- الإيمان إليهم فقال إِيمانُكُمْ ولم يقل الإيمان، لأنه ليس إيمانا صحيحا وإنما هو إيمان مزعوم، فإضافة الإيمان إليهم من باب التهكم بهم والاستهزاء بعقولهم.وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تشكيك في إيمانهم بالتوراة، وقدح في صحة دعواهم فإن الإيمان الحق إنما يأمر بعبادة الله وحده، وينهى عن عبادة سواه وعن ارتكاب السوء والفحشاء.فالجملة الكريمة في معنى النفي لادعائهم الإيمان بالتوراة لأنها ما أمرت بشيء يبغضه الله تعالى.قال الإمام ابن جرير: وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أى إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم. وإنما كذبهم الله بذلك لأن التوراة تنهى عن ذلك كله، وتأمر بخلافه، فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة إن كان يأمرهم بذلك، فبئس الأمر تأمر به. وإنما ذلك نفى من الله تعالى- عن التوراة أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله، وإعلام منه- جل ثناؤه- أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم، والذي يحملهم عليه البغي والعدوان» «1» .وبذلك تكون الآيات الكريمة قد أقامت الأدلة المتعددة، والبراهين القاطعة على كذب اليهود في دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم، ووبختهم على مزاعمهم الباطلة، وأقوالهم الفاسدة.هذا، ولفضيلة أستاذنا الدكتور محمد عبد الله دراز كلام رصين عند حديثه عن هذه الآيات، فقد قال- رحمه الله-:يقول الله تعالى في ذكر حجاج اليهود: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، قالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ، وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ، قُلْ: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ....هذا قطعة من فصل من قصة بنى إسرائيل، والعناصر الأصلية التي تبرزها لنا هذه الكلمات القليلة تتلخص فيما يلي:1- مقالة ينصح بها الناصح لليهود: إذ يدعوهم إلى الإيمان بالقرآن.2- إجابتهم لهذا الناصح بمقالة تنطوى على مقصدين.3- الرد على هذا الجواب بركنيه من عدة وجوه.وأقسم لو أن محاميا بليغا وكلت إليه الخصومة بلسان القرآن في هذه القضية، ثم هدى إلى استنباط هذه المعاني التي تختلج في نفس الداعي والمدعو لما وسعه في أدائها أضعاف أضعاف هذه الكلمات، ولعله بعد ذلك لا يفي بما حولها من إشارات واحتراسات وآداب وأخلاق.قال الناصح لليهود: آمنوا بالقرآن كما آمنتم بالتوراة، ألستم قد أمنتم بالتوراة التي جاء بها.موسى لأنها أنزلها الله؟ فالقرآن الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم أنزله الله، فآمنوا به كما آمنتم بها.فانظر كيف جمع القرآن هذا المعنى الكثير في هذا اللفظ الوجيز آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. وسر ذلك أنه عدل بالكلام عن صريح اسم القرآن إلى كنايته. فجعل دعاءهم إلى الإيمان به دعاء إلى الشيء بحجته، وبذلك أخرج الدليل والدعوى في لفظ واحد.ثم انظر كيف طوى ذكر المنزل عليه فلم يقل: آمنوا بما أنزل الله (على محمد) ، مع أن هذا جزء متمم لوصف القرآن المقصود بالدعوة.أتدري لم ذلك؟ لأنه لو ذكر لكان في نظر الحكمة البيانية زائدا، وفي نظر الحكمة الإرشادية مفسدا. أما الأول فلأن هذه الخصوصية لا مدخل لها في الإلزام، فأدير الأمر على القدر المشترك وعلى الحد الأوسط الذي هو عمود الدليل.وأما الثاني فلأن إلقاء هذا الاسم على مسامع الأعداء من شأنه أن يخرج أضغانهم ويثير أحقادهم فيؤدى إلى عكس ما قصده الداعي من التأليف والإصلاح ...كان جواب اليهود أن قالوا: إن الذي دعانا للإيمان بالتوراة ليس هو كونها أنزلها الله فحسب، بل إننا آمنا بها لأن الله أنزلها علينا. والقرآن لم ينزله علينا، فلكم قرآنكم ولنا توراتنا، ولكل أمة شرعة ومنهاج.هذا هو المعنى الذي أوجزه القرآن في قوله: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وهذا هو المقصد الأول، وقد زاد إيجاز هذه العبارة أن حذف منها فاعل الإنزال وهو لفظ الجلالة، لأنه تقدم ذكره في نظيرتها.ومن البين أن اقتصارهم على الإيمان بما أنزل عليهم يومئ إلى كفرانهم بما أنزل على غيرهم، وهذا هو المقصد الثاني، ولكنهم تحاشوا التصريح به لما فيه من شناعة التسجيل على أنفسهم بالكفر، فأراد القرآن أن يبرزه، أنظر كيف أبرزه؟ إنه لم يجعل لازم مذهبهم مذهبا له، ولم يدخل مضمون قولهم في جملة ما نقله من كلامهم، بل أخرجه في معرض الشرح والتعليق على مقالتهم فقال:وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أليس ذلك هو غاية الأمانة في النقل؟ .. ثم جاء دور الرد والمناقشة فيما أعلنوه وما أسروه.فتراه لا يبدأ بمحاورتهم في دعوى إيمانهم بكتابهم، بل يتركها مؤقتا كأنها مسلمة ليس عليهم وجوب الإيمان بغيره من الكتب فيقول: كيف يكون الإيمان بكتابهم باعثا على الكفر بما هو حق مثله؟ لا بل هو الحق كله، وهل يعارض الحق الحق حتى يكون الإيمان بأحدهما موجبا للكفر بالآخر؟ثم يترقى فيقول: وليس الأمر بين هذا الكتاب الجديد وبين الكتب السالفة عليه كالأمر بين كل حق وحق، فقد يكون الشيء حقا وغيره حقا فلا يتكاذبان، ولكنهما في شأنين مختلفين، فلا يشهد بعضها لبعض، أما هذا الكتاب فإنه جاء شاهدا ومصدقا لما بين يديه من الكتب، فكيف يكذب به من يؤمن بها.فانظر إلى الإحكام في صنعة البيان: إنما هي كلمة رفعت وأخرى وضعت في مكانها عند الحاجة إليها، فكانت هذه الكلمة حسما لكل عذر، وسدا لكل باب من أبواب الهرب، بل كانت هذه الكلمة وحدها بمثابة حركة تطويق للخصم تمت خطوة واحدة، وفي غير ما جلبة ولا طنطنة.ولما قضى وطر النفس من هذا الجانب المطوى الذي ساقه مساق الاعتراض والاستطراد، استوى إلى الرد على المقصد الأصلى الذي تبجحوا بإعلانه والافتخار به، وهو دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم، فأوسعهم إكذابا وتفنيدا. وبين أن داء الجحود فيهم داء قديم، قد أشربوه في قلوبهم ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضا مزمنا وأن الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد ما هو إلا حلقة متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عليهم، وساق على ذلك الشواهد التاريخية المفظعة التي لا سبيل لإنكارها في جهلهم بالله، وانتهاكهم لحرمة أنبيائه، وتمردهم على أوامره قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.تأمل كيف أن هذا الانتقال كانت النفس قد استعدت له في آخر المرحلة السابقة، إذ يفهم السامع من تكذيبهم لما يصدق كتابهم أنهم صاروا مكذبين لكتابهم نفسه، وهل الذي يكذب من يصدقك يبقى مصدقا لك؟؟ ...ثم انظر بعد أن سجل القرآن على بنى إسرائيل أفحش الفحش وهو وضعهم البقر الذي هو مثل في البلادة موضع المعبود الأقدس، وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبيهم على أوامر الله مع حملهم عليها بالآيات الرهيبة. بعد كل ذلك تراه لا يزيد على أن يقول في أول الأمر: إن هذا «ظلم» ، وفي الثانية (بئسما) صنعتم، أذلك كل ما تقابل به هذه الشناعات؟ نعم إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فهمتا على وجههما، ولكن أين حدة الألم وحرارة الاندفاع في الانتقام؟بل أين الإقذاع والتشنيع؟ وأين الإسراف والفجور الذي تراه في كلام الناس، إذا أحفظوا بالنيل من مقامهم.تالله ما أعف هذه الخصومة وما أعز هذا الجناب، وأغناه عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين، وتالله إن هذا الكلام لا يصدر عن نفس بشر» .

وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا أي استجيبوا وأطيعوا.سُمِيت الطاعة والإجابة سمعاً على المجاورة لأنه سبب للطاعة والإجابة.قالوا سمعنا قولك.وعصينا أمرك، وقيل: سمعنا بالأذن وعصينا بالقلوب، قال أهل المعاني: إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ولكن لما سمعوا وتلقوه بالعصيان فنسب ذلك إلى القول اتساعاً.وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم أي حب العجل، أي معناه: أدخل في قلوبهم حب العجل وخالطها، كإشراب اللون لشدة الملازمة يقال: فلان مشرب اللون إذا اختلط بياضه بالحمرة.وفي القصص: أن موسى أمر أن يبرد العجل بالمبرد ثم يذره في النهر وأمرهم بالشرب منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه.قوله عز وجل: قل بئسما يأمركم به إيمانكم أن تعبدوا العجل من دون الله أي بئس إيمان يأمركم بعبادة العجل.إن كنتم مؤمنين بزعمكم، وذلك أنهم قالوا: (نؤمن بما أنزل علينا) فكذبهم الله عز وجل.

قوله تعالى : وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنينقوله تعالى : وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا تقدم الكلام في هذا . ومعنى اسمعوا أطيعوا ، وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط ، وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه ، ومنه قولهم : سمع الله لمن حمده ، أي قبل وأجاب . قال :دعوت الله حتى خفت ألا يكون الله يسمع ما أقولأي يقبل ، وقال الراجز :والسمع والطاعة والتسليم خير وأعفى لبني تميمقالوا سمعنا وعصينا اختلف هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا ، أو يكونون فعلوا فعلا قام مقام القول فيكون مجازا ، كما قال :امتلأ الحوض وقال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطنيوهذا احتجاج عليهم في قولهم : نؤمن بما أنزل علينا .قوله تعالى : وأشربوا في قلوبهم العجل أي حب العجل والمعنى : جعلت قلوبهم تشربه ، وهذا تشبيه ومجاز عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم . وفي الحديث : تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء . . . . الحديث ، خرجه مسلم . يقال أشرب قلبه حب كذا ، قال زهير :فصحوت عنها بعد حب داخل والحب تشربه فؤادك داءوإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها ، والطعام مجاور لها غير متغلغل فيها . وقد زاد على هذا المعنى أحد التابعين فقال في زوجته عثمة ، وكان عتب عليها في بعض الأمر فطلقها وكان محبا لها :تغلغل حب عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسيرتغلغل حيث لم يبلغ شراب ولا حزن ولم يبلغ سرورأكاد إذا ذكرت العهد منها أطير لو ان إنسانا يطيروقال السدي وابن جريج : إن موسى عليه السلام برد العجل وذراه في الماء ، وقال لبني إسرائيل : اشربوا من ذلك الماء ، فشرب جميعهم ، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه . وروي أنه ما شربه أحد إلا جن ، حكاه القشيري .قلت : أما تذريته في البحر فقد دل عليه قوله تعالى : ثم لننسفنه في اليم نسفا ، وأما شرب الماء وظهور البرادة على الشفاه فيرده قوله تعالى : وأشربوا في قلوبهم العجل والله تعالى أعلم .قوله تعالى : قل بئسما يأمركم به إيمانكم أي إيمانكم الذي زعمتم في قولكم : نؤمن بما أنزل علينا . وقيل : إن هذا الكلام خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أمر أن يوبخهم ، أي قل لهم يا محمد : بئس هذه الأشياء التي فعلتم وأمركم بها إيمانكم . وقد مضى الكلام في ( بئسما ) والحمد لله وحده .

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَاقال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإذ أخذنا ميثاقكم)، واذكروا إذ أخذنا عهودكم، بأن خذوا ما آتيناكم من التوراة - التي أنزلتها إليكم أن تعملوا بما فيها من أمري, وتنتهوا عما نهيتكم فيها - بجد منكم في ذلك ونشاط, فأعطيتم على العمل بذلك ميثاقكم, إذ رفعنا فوقكم الجبل. (54)وأما قوله: (واسمعوا)، فإن معناه: واسمعوا ما أمرتكم به وتقبلوه بالطاعة، كقول الرجل للرجل يأمره بالأمر: " سمعت وأطعت ", يعني بذلك: سمعت قولك، وأطعت أمرك، كما قال الراجز:السمع والطاعة والتسليمخير وأعفى لبني تميمْ (55)يعني بقوله: " السمع "، قبول ما يسمع، و " الطاعة " لما يؤمر. فكذلك معنى قوله: (واسمعوا)، اقبلوا ما سمعتم واعملوا به.* * *قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذ أخذنا ميثاقكم أن خذوا ما آتيناكم بقوة, واعملوا بما سمعتم, وأطيعوا الله, ورفعنا فوقكم الطور من أجل ذلك.* * *وأما قوله: (قالوا سمعنا)، فإن الكلام خرج مخرج الخبر عن الغائب بعد أن كان الابتداء بالخطاب, فإن ذلك كما وصفنا، (56) من أن ابتداء الكلام، إذا كان حكاية، فالعرب تخاطب فيه ثم تعود فيه إلى الخبر عن الغائب، وتخبر عن الغائب ثم تخاطب، كما بينا ذلك فيما مضى قبل. (57) فكذلك ذلك في هذه الآية، لأن قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم)، بمعنى: قلنا لكم، فأجبتمونا.* * *وأما قوله: (قالوا سمعنا)، فإنه خبر من الله - عن اليهود الذين أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة، وأن يطيعوا الله فيما يسمعون منها - أنهم قالوا حين قيل لهم ذلك: سمعنا قولك، وعصينا أمرك.* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْقال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: وأشربوا في قلوبهم حب العجل.* ذكر من قال ذلك:1561 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر, عن قتادة: (وأشربوا في قلوبهم العجل)، قال: أشربوا حبه، حتى خلص ذلك إلى قلوبهم.1562 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: (وأشربوا في قلوبهم العجل)، قال: أشربوا حب العجل بكفرهم.1563 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه, عن الربيع: (وأشربوا في قلوبهم العجل)، قال: أشربوا حب العجل في قلوبهم.* * *وقال آخرون: معنى ذلك أنهم سقوا الماء الذي ذري فيه سحالة العجل. (58)* ذكر من قال ذلك:1564 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: لما رجع موسى إلى قومه، أخذ العجل الذي وجدهم عاكفين عليه، فذبحه, ثم حرقه بالمبرد, (59) ثم ذرّاه في اليم, فلم يبق بحر يومئذ يجري إلا وقع فيه شيء منه. ثم قال لهم موسى: اشربوا منه، فشربوا منه, فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب. فذلك حين يقول الله عز وجل: (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم). (60)1565 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال: لما سحل فألقي في اليم، استقبلوا جرية الماء, فشربوا حتى ملئوا بطونهم, فأورث ذلك من فعله منهم جبنا.* * *قال أبو جعفر: وأولى التأويلين اللذين ذكرت بقول الله جل ثناؤه: (وأشربوا &; 2-359 &; في قلوبهم العجل) تأويل من قال: وأشربوا في قلوبهم حب العجل. لأن الماء لا يقال منه: أشرب فلان في قلبه, وإنما يقال ذلك في حب الشيء, فيقال منه: " أشرب قلب فلان حب كذا ", بمعنى سقي ذلك حتى غلب عليه وخالط قلبه، كما قال زهير:فصحوت عنها بعد حب داخلوالحب يُشْرَبُه فؤادُك داء (61)قال أبو جعفر: ولكنه ترك ذكر " الحب " اكتفاء بفهم السامع لمعنى الكلام. إذ كان معلوما أن العجل لا يُشرِب القلب, وأن الذي يشرب القلب منه حبه, كما قال جل ثناؤه: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [سورة الأعراف: 163]، وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا [يوسف: 82]، وكما قال الشاعر: (62)ألا إنني سُقِّيت أسود حالكاألا بَجَلِي من الشراب ألا بَجَل (63)يعني بذلك سُمّا أسود, فاكتفى بذكر " أسود " عن ذكر " السم " لمعرفة السامع معنى ما أراد بقوله: " سقيت أسود ". ويروى:ألا إنني سقيت أسود سالخا (64)وقد تقول العرب: " إذا سرك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى هرم، أو إلى حاتم ", (65)فتجتزئ بذكر الاسم من ذكر فعله، إذا كان معروفا بشجاعة أو سخاء أو ما أشبه ذلك من الصفات، ومنه قول الشاعر:يقولون جاهد يا جميل بغزوةوإن جهادا طيئ وقتالها (66)* * *القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل: بئس الشيء يأمركم به إيمانكم؛ إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله, والتكذيب بكتبه, وجحود ما جاء من عنده. ومعنى " إيمانهم ": تصديقهم الذي زعموا أنهم به مصدقون من كتاب الله, إذْ قيل لهم: آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ . فقالوا: نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا . وقوله: (إن كنتم مؤمنين)، أي: إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم، (67) وإنما كذبهم الله بذلك - لأن التوراة تنهي عن ذلك كله، وتأمر بخلافه. فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة، إن كان يأمرهم بذلك، فبئس الأمر تأمر به. وإنما ذلك نفي من الله تعالى ذكره عن التوراة، أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم, وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله، وإعلام منه جل ثناؤه أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم, والذي يحملهم عليه البغي والعدوان.* * *--------------الهوامش :(54) سلف شرحه لألفاظ هذه الآية : "ميثاق" ، "الطور" ، "الإيتاء" ، "قوة" ، فاطلبه في المواضع الآتية 2 : 156 ، 157 ، 160 والمراجع .(55) قائلة رجل من ضبة ، من بني ضرار يدعى جبير بن الضحاك ، ومن خبره أن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي والي البصرة في سنة 55 ، خطب على منبرها فحصبه جبير هذا ، فأمر به عبد الله بن عمرو فقطعت يده . فقال الرجز . ورفعوا الأمر إلى معاوية فعزله (تاريخ الطبري 6 : 167) .(56) في المطبوعة : "مما وصفنا" ، ليست شيئا .(57) انظر ما سلف 1 : 153 - 154 ، وهذا الجزء 2 : 293 ، 294 .(58) السحالة : ما سقط من الذهب والفضة ونحوهما إذا سحلا ، أي بردا بالمبرد .(59) حرقه : برده بالمبرد ، وانظر ما سلف من هذا الجزء 2 : 74 .(60) الأثر : 1564 - سلف برقم : 937 .(61) ديوانه : 339 ، وهو هناك"تشربه" بضم التاء وسكون الشين وكسر الراء ونصب"فؤادك" ، وشرحه فيه دليل على ذلك ، فإنه قال : "تدخله" وقال : "تشربه" تلزمه ولكن استدلال الطبري ، كما ترى يدل على ضبطه مبنيا للمجهول ، ورفع"فؤادك" . وحب داخل ، وداء داخل : قد خالط الجوف فأدخل الفساد على العقل والبدن .(62) هو طرفة بن العبد .(63) ديوانه : 343 (أشعار الستة الجاهليين) ، ونوادر أبي زيد : 83 ، واللسان (سود) . واختلف فيما أراد بقوله : "أسود" . قيل : الماء ، وقيل : المنية والموت . قال أبو زيد في نوادره : "يقال ما سقاني فلان من سويد قطرة ، (سويد : بالتصغير) هو الماء ، يدعى الأسود" . واستدل بالبيت . والصواب في ذلك أن يقال كما قال الطبري ، ويعني به : سوء ما لقى من هم وشقاء حالك في حب صاحبته الحنظلية ، التي ذكرها في شعره هذا قبل البيت :فقل لخيال الحنظلية ينقلبإليها, فإني واصل حبل من وصلألا إنما أبكى ليوم لقيتهبجرثم قاس, كل ما بعده جللإذا جاء ما لا بد منه فمرحبابه حين يأتي - لا كذاب ولا عللألا إنني . . . . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . .ويروى : "ألا بجلى من الحياة" ، وهي أجود . . ورواية الديوان واللسان : (ألا إنني شربت) ، والتي هنا أجود . وقوله : "بجل" ، أي حسبي ما سقيت منك ومن الحياة .(64) السالخ من الحيات : الأسود الشديد السواد ، وهو أقتل ما يكون إذا سلخ جلده في إبانه من كل عام .(65) هرم بن سنان ، صاحب زهير بن أبي سلمى ، وحاتم : هو الطائي الذي لا يخفى له ذكر . وأكثر هذا في معاني القرآن للفراء 1 : 61 - 62 .(66) معاني القرآن للفراء 1 : 62 ، ومجالس ثعلب : 76 ، واللسان (غزا) ، ونسبه لجميل ، ولا أظنه إلا أخطأ ، لذكر جميل في البيت ، ولمشابهته لقول جميل :يقولون : جاهد يا جميل بغزوة!وأي جهاد غيرهن أريد?ولكن البيت من شعر آخر ، لم أهتد إليه بعد البحث ، ويريد الأول : وإن الجهاد جهاد طيئ وقتالها ، فحذف واجتزأ .(67) انظر ما سلف في معنى"الإيمان" 1 : 235 ، 2 : 143 وغيرهما .

وفي «الكشاف» أن تكرير حديث رفع الطور هنا لما نيط به من الزيادة على ما في الآية السابقة معنى في قوله : { قالوا سمعنا وعصينا } الآية وهي نكتة في الدرجة الثانية .وقال البيضاوي إن تكرير القصة للتنبيه على أن طريقتهم مع محمد صلى الله عليه وسلم طريقة أسلافهم مع موسى وهي نكتة في الدرجة الأولى وهذا إلزام لهم بعمل أسلافهم بناءً على أن الفرع يَتْبَع أصله والولد نسخة من أبيه ، وهو احتجاج خطابي .والقول في هاته الآيات كالقول في سابقتها [ البقرة : 63 ] وكذلك القول في ( البينات ) . إلا أن قوله : { واسمعوا } مراد به الامتثال فهو كناية كما تقول فلان لا يسمع كلامي أي لا يمتثل أمري إذ ليس الأمر هنا بالسماع بمعنى الإصغاء إلى التوراة فإن قوله : { خذوا ما آتيناكم بقوة } يتضمنه ابتداء لأن المراد من الأخذ بالقوة الاهتمام به وأول الاهتمام بالكلام هو سماعه والظاهر أن قوله : { خذوا ما آتيناكم بقوة } لا يشمل الامتثال فيكون قوله : { واسمعوا } دالاً على معنى جديد وليس تأكيداً ، ولك أن تجعله تأكيداً لمدلول { خذوا ما آتيناكم بقوة } بأن يكون الأخذ بقوة شاملاً لنية الامتثال وتكون نكتة التأكيد حينئذ هي الإشعار بأنهم مظنة الإهمال والإخلال حتى أكد عليهم ذلك قبل تبين عدم امتثالهم فيما يأتي ففي هذه الآية زيادة بيان لقوله في الآية الأولى : { واذكروا ما فيه } [ البقرة : 63 ] .واعلم أن من دلائل النبوة والمعجزات العلمية إشارات القرآن إلى العبارات الني نطق بها موسى في بني إسرائيل وكتبت في التوراة فإن الأمر بالسماع تكرر في مواضع مخاطباتتِ موسى لملإ بني إسرائيل بقوله : اسمع يا إسرائيل ، فهذا من نكت اختيار هذا اللفظ للدلالة على الامتثال دون غيره مما هو أوضح منه وهذا مثل ما ذكرنا في التعبير بالعهد .وقوله : { قالوا سمعنا وعصينا } يحتمل أنهم قالوه في وقت واحد جواباً لقوله : { واسمعوا } وإنما أجابوه بأمرين لأن قوله : { اسمعوا } تضمن معنيين معنى صريحاً ومعنى كنائياً فأجابوا بامتثال الأمر الصريح وأما الأمر الكنائي فقد رفضوه وذلك يتضمن جواب قوله : { خذوا ما آتيناكم بقوة } أيضا لأنه يتضمن ما تضمنه { واسمعوا } وفي هذا الوجه بعد ظاهر إذ لم يعهد منهم أنهم شافهوا نبيهم بالعزم على المعصية وقيل : إن قوله : { سمعنا } جواب لقوله : { خذوا ما آتيناكم } أي سمعنا هذا الكلام ، وقوله : { وعصينا } جواب لقوله : { واسمعوا } لأنه بمعنى امتثلوا ليكون كل كلام قد أجيب عنه ويبعده أن الإتيان في جوابهم بكلمة { سمعنا } مشير إلى كونه جواباً لقوله : { اسمعوا } لأن شأن الجواب أن يشتمل على عبارة الكلام المجاب به وقوله : ليكون كل كلام قد أجيب عنه قد علمت أن جعل { سمعنا وعصينا } جواباً لقوله : { واسمعوا } يغني عن تطلب جواب لقوله : { خذوا } ففيه إيجاز ، فالوجه في معنى هذه الآية هوما نقله الفخر عن أبي مسلم أن قولهم : { عصينا } كان بلسان الحال يعني فيكون { قالوا } مستعملاً في حقيقته ومجازه أي قالوا : سمعنا وعصوا فكأن لسانهم يقول عصينا . : ويحتمل أن قولهم { عصينا } وقع في زمن متأخر عن وقت نزول التوراة بأن قالوا عصينا في حثهم على بعض الأوامر مثل قولهم لموسى حين قال لهم : ادخلوا القرية { لن ندخلها أبداً } [ المائدة : 24 ] وهذان الوجهان أقرب من الوجه الأول . وفي هذا بيان لقوله في الآية الأولى : { ثم توليتم من بعد ذلك } [ البقرة : 64 ] .والإشراب هو جعل الشيء شارباً ، واستعير لجعل الشيء متصلاً بشيء وداخلاً فيه ووجه الشبه هو شدة الاتصال والسريان لأن الماء أسرى الأجسام في غيره ولذا يقول الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية ومَركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن فلذلك استعاروا الإشراب لشدة التداخل استعارة تبعية قال بعض الشعراء :تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسيرتغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرورومنه قولهم أشرب الثوب الصبغ ، قال الراغب : من عادتهم إذا أرادوا مخامرة حب وبغض أن يستعيروا لذلك اسم الشراب اه . وقد اشتهر المعنى المجازي فهجر استعمال الإشراب بمعنى السقي وذكر القلوب قرينة على أن إشراب العجل على تقدير مضاف من شأن القلب مثل عبادة العجل أو تأليه العجل . وإنما جعل حبهم العجل إشراباً لهم للإشارة إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه كقولهم أُولِع بكذا وشُغِف .والعجلَ مفعول { أشربوا } على حذف مضاف مشهور في أمثاله من تعليق الأحكام وإسنادها إلى الذوات مثل{ حُرِّمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] أي أكل لحمها . وإنما شغفوا به استحساناً واعتقاداً أنه إلههم وأن فيه نفعهم لأنهم لما رأوه من ذهب قدسوه من فرط حبهم الذهب . وقد قوي ذلك الإعجاب به بفرط اعتقادهم ألوهيته ولذلك قال تعالى : { بكفرهم } فإن الاعتقاد يزيد المعتقد توغلاً في حب معتقده .وإسناد الإشراب إلى ضمير ذواتهم ثم توضيحه بقوله : { في قلوبهم } مبالغة وذلك مثل ما يقع في بدل البعض والاشتمال وما يقع في تمييز النسبة . وقريب منه قوله تعالى : { إنما يأكلون في بطونهم ناراً } [ النساء : 10 ] وليس هو مثل ما هنا لأن الأكل متمحض لكونه منحصراً في البطن بخلاف الإشراب فلا اختصاص له بالقلوب .وقوله : { قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين } تذييل واعتراض ناشىء عن قولهم { سمعنا وعَصَيْنا } هو خلاصة لإبطال قولهم : { نؤمن بما أنزل علينا } [ البقرة : 91 ] بعد أن أبطل ذلك بشواهد التاريخ وهي قوله : { قل فلم تقتلون أنبئاء الله } [ البقرة : 91 ] وقوله : { ولقد جاءكم موسى بالبينات } وقوله : { قالوا سمعنا وعصينا } ولذلك فَصَله عن قوله : { قل فلم تقتلون أنبئاء الله } لأنه يجري من الأول مجرى التقرير والبيان لحاصله ، والمعنى قل لهم إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم كما زعمتم يعني التوراة فبئسما أمركم به هذا الإيمان إذ فعلتم ما فعلتم من الشنائع من قتل الأنبياء ومن الإشراك بالله في حين قيام التوراة فيكم فكيف وأنتم اليوم لا تعرفون من الشريعة إلا قليلاً ، وخاصة إذا كان هذا الإيمان بزعمهم يصدهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فالجملة الشرطية كلها مقول { قل } والأمر هنا مستعمل مجازاً في التسبب .وإنما جعل هذا مما أمرهم به إيمانهم مع أنهم لم يدعوا ذلك لأنهم لما فعلوه وهم يزعمون أنهم متصلبون في التمسك بما أنزل إليهم حتى أنهم لا يخالفونه قيد فتر ولا يستمعون لكتاب جاء من بعده فلا شك أن لسان حالهم ينادي بأنهم لا يفعلون فعلاً إلا وهو مأذون فيه من كتابهم ، هذا وجه الملازمة وأما كون هذه الأفعال مذمومة شنيعة فذلك معلوم بالبداهة فأنتج ذلك أن إيمانهم بالتوراة يأمرهم بارتكاب الفظائع وهذا ظاهر الكلام والمقصود منه القدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال ذلك بطريق يستنزل طائرهم ويرمي بهم في مهواة الاستسلام للحجة فأظهر إيمانهم المقطوع بعدمه في مظهر الممكن المفروض ليتوصل من ذلك إلى تبكيتهم وإفحامهم نحو : { قل إن كان للرحمن من ولد فأنا أول العابدين } [ الزخرف : 81 ] ولهذا أضيف الإيمان إلى ضميرهم لإظهار أن الإيمان المذموم هو إيمانهم أي الذي دخله التحريف والاضطراب لما هو معلوم من أن الإيمان بالكتب والرسل إنما هو لصلاح الناس والخروج بهم من الظلمات إلى النور فلا جرم أن يكون مرتكبو هاته الشنائع ليسوا من الإيمان بالكتاب الذي فيه هدى ونور في شيء فبطل بذلك كونهم { مؤمنين } وهو المقصود فقوله : { بئسما يأمركم } جواب الشرط مقدم عليه أو { قل } دليل الجواب ولأجل هذا جيء في هذا الشرط بإن التي من شأن شرطها أن يكون مشكوك الحصول وينتقل من الشك في حصوله إلى كونه مفروضاً كما يفرض المحال وهو المراد هنا؛ لأن المتكلم عالم بانتفاء الشرط ولأن المخاطبين يعتقدون وقوع الشرط فكان مقتضى ظاهر حال المتكلم أن لا يؤتى بالشرط المتضمن لكونهم { مؤمنين } إلا منفياً ومقتضى ظاهر حال المخاطب أن لا يؤتى به إلا مع إذا ولكن المتكلم مع علمه بانتفاء الشرط فرضه كما يفرض المحال استنزالاً لطائرهم .وفي الإتيان بإن إشعار بهذا الفرض حتى يقعوا في الشك في حالهم وينتقلوا من الشك إلى اليقين بأنهم غير مؤمنين حين مجيء الجواب وهو { بئسما يأمركم } وإلى هذا أشار صاحب «الكشاف» كما قاله التفتزاني وهو لا ينافي كون القصد التبكيت لأنها معان متعاقبة يفضي بعضها إلى بعض فمن الفرض يتولد التشكيك ومن التشكيك يظهر التبكيت .ولا معنى لجعل { إن كنتم مؤمنين } ابتداء كلام وجوابه محذوفاً تقديره فإيمانكم لا يأمركم بقتل الأنبياء وعبادة العجل إلخ لأنه قطع لأواصر الكلام وتقدير بلا داع مع أن قوله : { قل بئسما يأمركم به إيمانكم } إلخ يتطلبه مزيد تطلب ونظائره في آيات القرآن كثيرة . على أن معنى ذلك التقدير لا يلاقي الكلام المتقدم المثبت أن إيمانهم أمَرهم بهذا المذام فكيف ينفي بَعْد ذلك أن يكون إميانهم يأمرهم؟و { بئسما } هنا نظير بئسما المتقدم في قوله : { بئسما اشتروا به أنفسهم } [ البقرة : 90 ] سوى أن هذا لم يؤت له باسممٍ مخصوص بالذم لدلالة قوله : { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } والتقدير بئسما يأمركم به إيمانكم عبادةُ العجل .
الآية 93 - سورة البقرة: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا ۖ قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم...)