سورة المائدة: الآية 116 - وإذ قال الله يا عيسى...

تفسير الآية 116, سورة المائدة

وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِىٓ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُۥ فَقَدْ عَلِمْتَهُۥ ۚ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلَآ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلْغُيُوبِ

الترجمة الإنجليزية

Waith qala Allahu ya AAeesa ibna maryama aanta qulta lilnnasi ittakhithoonee waommiya ilahayni min dooni Allahi qala subhanaka ma yakoonu lee an aqoola ma laysa lee bihaqqin in kuntu qultuhu faqad AAalimtahu taAAlamu ma fee nafsee wala aAAlamu ma fee nafsika innaka anta AAallamu alghuyoobi

تفسير الآية 116

واذكر إذ قال الله تعالى يوم القيامة: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اجعلوني وأمي معبودين من دون الله؟ فأجاب عيسى -منزِّهًا الله تعالى-: ما ينبغي لي أن أقول للناس غير الحق. إن كنتُ قلتُ هذا فقد علمتَه؛ لأنه لا يخفى عليك شيء، تعلم ما تضمره نفسي، ولا أعلم أنا ما في نفسك. إنك أنت عالمٌ بكل شيء مما ظهر أو خفي.

«و» اذكر «إذ قال» أي يقول «الله» لعيسى في القيامة توبيخا لقومه «يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وَأُمِّي إلهين من دون الله قال» عيسى وقد أرعد «سبحانك» تنزيها لك عما لا يليق بك من الشريك وغيره «ما يكون» ما ينبغي «لي أن أقول ما ليس لي بحق» خبر ليس، ولي للتبيين «إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما» أخفيه «في نفس ولا أعلم ما في نفسك» أي ما تخفيه من معلوماتك «إنك أنت علام الغيوب».

وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهذا توبيخ للنصارى الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، فيقول الله هذا الكلام لعيسى. فيتبرأ عيسى ويقول: سُبْحَانَكَ عن هذا الكلام القبيح، وعمّا لا يليق بك. مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أي: ما ينبغي لي، ولا يليق أن أقول شيئا ليس من أوصافي ولا من حقوقي، فإنه ليس أحد من المخلوقين، لا الملائكة المقربون ولا الأنبياء المرسلون ولا غيرهم له حق ولا استحقاق لمقام الإلهية وإنما الجميع عباد، مدبرون، وخلق مسخرون، وفقراء عاجزون إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ فأنت أعلم بما صدر مني و إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وهذا من كمال أدب المسيح عليه الصلاة والسلام في خطابه لربه، فلم يقل عليه السلام: "لم أقل شيئا من ذلك" وإنما أخبر بكلام ينفي عن نفسه أن يقول كل مقالة تنافي منصبه الشريف، وأن هذا من الأمور المحالة، ونزه ربه عن ذلك أتم تنزيه، ورد العلم إلى عالم الغيب والشهادة.

هذا أيضا مما يخاطب الله تعالى به عبده ورسوله عيسى ابن مريم ، - عليه السلام - ، قائلا له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله : ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) ؟ وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد . هكذا قاله قتادة وغيره ، واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى : ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم )وقال السدي : هذا الخطاب والجواب في الدنيا .قال ابن جرير : هذا هو الصواب ، وكان ذلك حين رفعه الله إلى سماء الدنيا . واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين :أحدهما : أن الكلام لفظ المضي .والثاني : قوله : ( إن تعذبهم ) و ( إن تغفر لهم )وهذان الدليلان فيهما نظر ; لأن كثيرا من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي ، ليدل على الوقوع والثبوت . ومعنى قوله : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك ) الآية : التبري منهم ورد المشيئة فيهم إلى الله ، وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه ، كما في نظائر ذلك من الآيات .والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر ، والله أعلم : أن ذلك كائن يوم القيامة ، ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة . وقد روي بذلك حديث مرفوع ، رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله ، مولى عمر بن عبد العزيز ، وكان ثقة ، قال : سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممهم ، ثم يدعى بعيسى ؛ فيذكره الله نعمته عليه ، فيقر بها ، فيقول : ( يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ) الآية [ المائدة : 110 ] ثم يقول : ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) ؟ فينكر أن يكون قال ذلك ، فيؤتى بالنصارى فيسألون ، فيقولون : نعم ، هو أمرنا بذلك ، قال : فيطول شعر عيسى ، - عليه السلام - ، فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده . فيجاثيهم بين يدي الله ، عز وجل ، مقدار ألف عام ، حتى ترفع عليهم الحجة ، ويرفع لهم الصليب ، وينطلق بهم إلى النار " ، وهذا حديث غريب عزيز .وقوله : ( سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ) هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاوس ، عن أبي هريرة قال : يلقى عيسى حجته ، ولقاه الله في قوله : ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) ؟ قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلقاه الله : ( سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ) إلى آخر الآية .وقد رواه الثوري ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن طاوس ، بنحوه .وقوله : ( إن كنت قلته فقد علمته ) أي : إن كان صدر مني هذا فقد علمته يا رب ، فإنه لا يخفى عليك شيء مما قلته ولا أردته في نفسي ولا أضمرته ; ولهذا قال : ( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب)

ثم حكت السورة الكريمة ما سيقوله الله لعيسى يوم القيامة، وما سيرد به عيسى على خالقه- عز وجل- حتى تزداد حسرة الذين وصفوا المسيح وأمه. بما هما بريئان منه فقال- تعالى-:وقوله: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ معطوف على قوله- تعالى- قبل ذلك: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ.والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا القول إنما يكون في الآخرة- على الصحيح- والمعنى: واذكر أيها الرسول الكريم وليذكر معك كل مكلف وقت أن يسأل الله- تعالى- عبده ورسوله عيسى فيقول له يا عيسى: أأنت قلت للناس اتَّخِذُونِي أى: اجعلوني وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أى من غير الله.قال القرطبي: اختلف في وقت هذه المقالة، فقال قتادة وابن جريج وأكثر المفسرين: إنما يقول له هذا يوم القيامة. وقال السدى وقطرب: قال له ذلك حين رفعه إلى السماء وقالت النصارى فيه ما قالت فإن إِذْ في كلام العرب لما مضى والأول أصح، يدل عليه ما قبله من قوله يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ الآية. كما يدل عليه ما بعده وهو قوله: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ.وعلى هذا تكون إذ بمعنى إذا كما في قوله: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ أى: إذا فزعوا فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي. لأنه لتحقيق أمره وظهور برهانه. كأنه قد وقع .وكان النداء بقوله- سبحانه- يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أى: بغير ذكر النبوة، للإشارة إلى الولادة الطبيعية التي تنفى أن يكون إلها أو ابن إله أو فيه عنصر الألوهية بأى وضع من الأوضاع لأن الألوهية والبشرية نقيضان لا يجتمعان فلا يمكن أن يكون البشر فيه ألوهية، ولا إله فيه بشرية.والتعبير بقوله اتَّخِذُونِي يدل على أنه ليس له حقيقة، بل هو في ذاته اتخاذ بما لا أصل له.والمقصود بالاستفهام في قوله: أَأَنْتَ قُلْتَ توبيخ للكفرة من قومه وتبكيت كل من نسب إلى عيسى وأمه ما ليس من حقهما، وفضيحتهم على رءوس الأشهاد في ذلك اليوم العصيب، لأن عيسى سينفى عن نفسه أمامهم أنه قال ذلك وإنما هو أمرهم بعبادة الله وحده. ولا شك أن النفي بعد السؤال أبلغ في التكذيب وأشد في التوبيخ والتقريع وادعى لقيام الحجة على من وصفوه بما هو برىء منه.قال الآلوسى: واستشكلت الآية بأنه لا يعلم أن أحدا من النصارى اتخذ مريم إلها.وأجيب عنه بأجوبة الأول: أنهم لما جعلوا عيسى إلها لزمهم أن يجعلوا والدته أيضا كذلك لأن الولد من جنس من يلده، فذكر إِلهَيْنِ على طريق الإلزام لهم.والثاني: أنهم لما عظموها تعظيم الإله أطلق عليها اسم الإله كما أطلق اسم الرب على الأحبار والرهبان في قوله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ.والثالث: أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك. ويعضد هذا القول ما حكاه أبو جعفر الإمامى عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم: المريمية، يعتقدون في مريم الألوهية وهو أولى الأوجه عندي .وقوله- تعالى- قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ بيان لما أجاب به عيسى على خالقه- عز وجل-.أى: قال عيسى مجيبا ربه بكل أدب وإذعان: تنزيها لك- يا إلهى- عن أن أقول هذا القول، فإنه ليس من حقي ولا من حق أحد أن ينطق به.فأنت ترى أن سيدنا عيسى- عليه السلام- قد صدر كلامه بالتنزيه المطلق لله- عز وجل- ثم عقب ذلك بتأكيد هذا التنزيه، بأن أعلن بأنه ليس من حقه أن يقول هذا القول، لأنه عبد له- تعالى- ومخلوق بقدرته. ومرسل منه لهداية الناس فكيف يليق بمن كان شأنه كذلك أن يقول لمن أرسل إليهم اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.ثم أضاف إلى كل ذلك الاستشهاد بالله- تعالى- على براءته، وإظهار ضعفه المطلق أمام علم خالقه وقدرته فقال- كما حكى القرآن عنه- إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.أى: إن كنت قلت هذا القول وهو اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فأنت تعلمه ولا يخفى عليك منه شيء- لأنك أنت- يا إلهى- تعلم ما في نَفْسِي أى ما في ذاتى، ولا أعلم ما في ذاتك.والمراد: تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم، وتعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، وتعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل إنك أنت- يا إلهى- علام الغيوب.فهذه الجملة الكريمة بجانب تأكيدها لنفى ما سئل عنه عيسى- عليه السلام- تدل بأبلغ تعبير على إثبات شمول علم الله- تعالى- بكل شيء، وقد أكد عيسى ذلك، بإن المؤكدة وبالضمير أنت، وبصيغة المبالغة «علّام» وبصيغة الجمع للفظ «الغيوب» فهو لم يقل: إنك أنت عالم الغيب وإنما قال- كما حكى القرآن عنه- إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ بكل أنواعها، وبكل ما يتعلق بالكائنات كلها.

قوله عز وجل : ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) واختلفوا في أن هذا القول متى يكون ، فقال السدي : قال الله تعالى هذا القول لعيسى عليه السلام حين رفعه إلى السماء لأن حرف " إذ " يكون للماضي ، وقال سائر المفسرين : إنما يقول الله له هذا القول يوم القيامة بدليل قوله [ من قبل ] ( يوم يجمع الله الرسل ) ( المائدة ، 109 ) . وقال من بعدها ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) ( المائدة ، 119 ) ، وأراد بهما يوم القيامة ، وقد تجيء " إذ " بمعنى " إذا " كقوله عز وجل : ( ولو ترى إذ فزعوا ) أي : إذا فزعوا [ يوم القيامة ] والقيامة وإن لم تكن بعد ولكنها كالكائنة لأنها آتية لا محالة .قوله : ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) ؟ فإن قيل : فما وجه هذا السؤال مع علم الله عز وجل أن عيسى لم يقله؟قيل هذا السؤال عنه لتوبيخ قومه وتعظيم أمر هذه المقالة كما يقول القائل لآخر : أفعلت كذا وكذا؟ فيما يعلم أنه لم يفعله ، إعلاما واستعظاما لا استخبارا واستفهاما .وأيضا : أراد الله عز وجل أن يقر [ عيسى عليه السلام عن ] نفسه بالعبودية ، فيسمع قومه ، ويظهر كذبهم عليه أنه أمرهم بذلك ، قال أبو روق : وإذا سمع عيسى عليه السلام هذا الخطاب أرعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة في جسده عين من دم ، ثم يقول مجيبا لله عز وجل : ( قال سبحانك ) تنزيها وتعظيما لك ( ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ) قال ابن عباس : تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك ، وقيل معناه : تعلم سري ولا أعلم سرك ، وقال أبو روق تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في الآخرة ، وقال الزجاج : النفس عبارة عن جملة الشيء وحقيقته ، يقول : تعلم جميع ما أعلم من حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك ، ( إنك أنت علام الغيوب ) ما كان وما يكون .

قوله تعالى : وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوبقوله تعالى : وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله اختلف في وقت هذه المقالة ; فقال قتادة وابن جريج وأكثر المفسرين : إنما يقول له هذا يوم القيامة ، وقال السدي وقطرب . قال له ذلك حين رفعه إلى السماء وقالت النصارى فيه ما قالت ; واحتجوا بقوله : إن تعذبهم فإنهم عبادك فإن إذ في كلام العرب لما مضى ، والأول أصح ; يدل عليه ما قبله من قوله : يوم يجمع الله الرسل الآية وما بعده هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم . وعلى هذا تكون إذ بمعنى " إذا " كقوله تعالى : ولو ترى إذ فزعوا أي : إذا فزعوا ، وقال أبو النجم :ثم جزاه الله عني إذ جزى جنات عدن في السماوات العلايعني إذا جزى ، وقال الأسود بن جعفر الأزدي :فالآن إذ هازلتهن فإنما يقلن ألا لم يذهب الشيخ مذهبايعني إذا هازلتهن ، فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي ; لأنه لتحقيق أمره وظهور برهانه ، كأنه قد وقع ، وفي التنزيل ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة ومثله كثير وقد تقدم ، واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس هو باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين : أحدهما : أنه سأله عن ذلك توبيخا لمن ادعى ذلك عليه ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب ، وأشد في التوبيخ والتقريع . الثاني : قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غيروا بعده ، وادعوا عليه ما لم يقله . فإن قيل : فالنصارى لم يتخذوا مريم إلها فكيف قال ذلك فيهم ؟ فقيل : لما كان من قولهم إنها لم تلد بشرا وإنما ولدت إلها لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة من ولدته ، فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له .قوله تعالى : قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته خرج الترمذي عن أبي هريرة قال : تلقى عيسى حجته ولقاه الله في قوله : وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : فلقاه الله سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق الآية كلها . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين : أحدهما : تنزيها له عما أضيف إليه . الثاني : خضوعا لعزته ، وخوفا من سطوته ، ويقال : إن الله تعالى لما قال لعيسى : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله أخذته الرعدة من ذلك القول حتى سمع صوت عظامه في نفسه فقال : سبحانك ثم قال : ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق أي : أن أدعي لنفسي ما ليس من حقها ، يعني أنني مربوب ولست برب ، وعابد ولست بمعبود . ثم قال : إن كنت قلته فقد علمته فرد ذلك إلى علمه ، وقد كان الله عالما به أنه لم يقله ، ولكنه سأله عنه تقريعا لمن اتخذ عيسى إلها . ثم قال : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك أي : تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك ، وقيل : المعنى تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم ، وقيل : تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه . وقيل : تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد وقيل : تعلم سري ولا أعلم سرك ; لأن السر موضعه النفس وقيل : تعلم ما كان مني في دار الدنيا ، ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة .قلت : والمعنى في هذه الأقوال متقارب ; أي : تعلم سري وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته ، ولا أعلم شيئا مما استأثرت به من غيبك وعلمك . إنك أنت علام الغيوب ما كان وما يكون ، وما لم يكن وما هو كائن .

القول في تأويل قوله : وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُقال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ," إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمِّيَ إلهين من دون الله ".* * *وقيل: إن الله قال هذا القولَ لعيسى حين رفعه إليه في الدنيا.* ذكر من قال ذلك:13028 - حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " ، قال: لما رفع الله عيسى ابن مريم إليه، قالت النصارى ما قالت, وزعموا أنّ عيسى أمرَهم بذلك, فسأله عن قوله فقال: " سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب " إلى قوله: وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ .* * *وقال آخرون: بل هذا خبر من الله تعالى ذكره عن أنه يقول لعيسى ذلك في القيامة.* ذكر من قال ذلك:13029 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن ابن جريج: " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " ، قال: والناس يسمعون, فراجعه بما قد رأيت, وأقرَّ له بالعبودية على نفسه, فعلم من كان يقول في عيسى ما يقول: أنه إنما كان يقول باطلا.13030 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير, عن عطاء, عن ميسرة قال : قال الله: يا عيسى، أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله؟ فأُرْعِدت مفاصله, وخشي أن يكون قد قال, فقال: سبحانك، إن كنت قلته فقد علمته = الآية.13031 - حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: " يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " ، متى يكون ذلك؟ قال: يوم القيامة, ألا ترى أنه يقول: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ؟= فعلى هذا التأويل الذي تأوَّله ابن جريج، يجب أن يكون " وإذ " بمعنى: و " إذا ", كما قال في موضع آخر: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا ، [سورة سبأ: 51]، بمعنى: يفزعون، وكما قال أبو النجم:ثُمَّ جَزَاهُ اللهُ عَنَّا إذْ جَزَىجَنَّاتِ عَدْنٍ فِي العَلالِيِّ العُلا (12)والمعنى: إذا جزى، وكما قال الأسود: (13)فَالآنَ , إذْ هَازَلْتُهُنَّ , فإنَّمَايَقُلْنَ: ألا لَمْ يَذْهَبِ الشَّيْخُ مَذْهَبَا !!ٌٌ (14)بمعنى: إذا هازلتهن.وكأنّ من قال في ذلك بقول ابن جريج هذا, وجَّه تأويل الآية إلى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ في الدنيا = وأعذبه أيضًا في الآخرة: " إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ".* * *قال أبو جعفر: وأولى القولين عندنا بالصواب في ذلك, قولُ من قال بقول السدي، وهو أن الله تعالى ذكره قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه, وأن الخبرَ خبرٌ عما مضى، لعلَّتين:إحداهما: أن " إذْ" إنما تصاحب = في الأغلب من كلام العرب المستعمل بينها = الماضيَ من الفعل, وإن كانت قد تدخلها أحيانًا في موضع الخبر عما يحدث، إذا عرف السامعون معناها. وذلك غير فاشٍ، ولا فصيح في كلامهم, (15) وتوجيه معاني كلام الله تعالى إلى الأشهر الأعرف ما وجد إليه السبيل، (16) أولى من توجيهها إلى الأجهل الأنكر.والأخرى: أن عيسى لم يشك هو ولا أحد من الأنبياء، أن الله لا يغفر لمشرك مات على شركه, فيجوز أن يُتَوهم على عيسى أن يقول في الآخرة مجيبًا لربه تعالى ذكره: إن تعذّب من اتخذني وأمي إلهين من دونك فإنهم عبادك, وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.* * *فإن قال قائل: وما كان وجه سؤال الله عيسى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله "، وهو العالم بأن عيسى لم يقل ذلك؟قيل: يحتمل ذلك وجهين من التأويل:أحدهما: تحذير عيسى عن قيل ذلك ونهيُه, كما يقول القائل لآخر: " أفعلت كذا وكذا "؟ مما يعلم المقولُ له ذلك أن القائل يستعظم فعل ما قال له: " أفعلته "، على وجه النهي عن فعله، والتهديد له فيه.والآخر: إعلامه أنّ قومه الذين فارقهم قد خالفوا عهده، وبدّلوا دينهم بعده. فيكون بذلك جامعًا إعلامَه حالَهم بعده، وتحذيرًا له قيله. (17)* * *قال أبو جعفر: وأما تأويل الكلام، فإنه: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين "، أي: معبودين تعبدونهما من دون الله. قال عيسى: تنزيهًا لك يا رب وتعظيمًا أن أفعل ذلك أو أتكلم به (18) = ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق "، يقول: ليس لي أن أقول ذلك، لأني عبد مخلوق، وأمي أمَةٌ لك, وكيف يكون للعبد والأمة ادّعاء ربوبية؟ = (19) " إن كنت قلته فقد علمته ", يقول: إنك لا يخفى عليك شيء, وأنت عالم أني لم أقل ذلك ولم آمُرهم به.القول في تأويل قوله : تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (116)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم: أنه يبرأ إليه مما قالت فيه وفي أمه الكفرةُ من النصارى، أن يكون دعاهم إليه أو أمرهم به, فقال: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ . ثم قال: " تعلم ما في نفسي"، يقول: إنك، يا رب، لا يخفى عليك ما أضمرته نفسي مما لم أنطق به ولم أظهره بجوارحي, فكيف بما قد نطقتُ به وأظهرته بجوارحي؟ يقول: لو كنت قد قلت للناس: " اتخذوني وأمي إلهين من دون الله "، كنت قد علمته, لأنك تعلم ضمائر النفوس مما لم تنطق به، فكيف بما قد نطقت به؟ =" ولا أعلم ما في نفسك "، يقول: ولا أعلم أنا ما أخفيته عني فلم تطلعني عليه, لأني إنما أعلم من الأشياء ما أعلمتنيه =" إنك أنت عَلام الغيوب "، يقول: إنك أنت العالم بخفيّات الأمور التي لا يطلع عليها سواك، ولا يعلمها غيرك. (20)------------------------الهوامش :(12) الأضداد لابن الأنباري: 102 ، والصاحبي: 112 ، واللسان (طها) وسيأتي بعد قليل في هذا الجزء ص: 317 ، بزيادة بيت. وقوله: "العلالي" ، جمع"علية" (بكسر العين ، وتشديد اللام المكسورة ، والياء المشدودة): وهي الغرفة العالية من البيت. وأرد بذلك: "في عليين" ، المذكورة في القرآن. وقد قال هدبة من خشرم أيضًا ، فتصرف:كأنَّ حَوْطًا، جزاهُ اللهُ مَغْفِرَةًوَجَنَّةً ذاتَ عِلِّيٍّ وأشْرَاعِو"الأشراع" ، السقائف.(13) هو الأسود بن يعفر النهشلي ، أعشى بني نهشل.(14) ديوان الأعشين: 293 ، والأضداد لابن الأنباري: 101 ، من قصيدة له ، ذهب أكثرها فلم يوجد منها في الكتب المطبوعة ، غير هذا البيت ، وخمسة أبيات أخرى ، في ديوانه ، وفي العيني (هامش خزانة الأدب 4: 103) ، وهي أبيات جياد:صَحَا سَكَرٌ مِنْه طَوِيلٌ بِزَيْنَيَاتَعَاقَبَهُ لَمَّا اسْتَبَانَ وجَرَّبَاوَأَحْكَمَهُ شَيْبُ القَذَالِ عَنِ الصِّبَافَكَيْفَ تَصَابِيه وَقَدْ صَار أَشْيَبَا?وَكَان لَهُ، فِيمَا أَفَادَ، خَلاَئِلٌعَجِلْنَ، إذَا لاقَيْنَهُ، قُلْنَ: مَرْحَبَاٌ!!فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنَهُ عَنْ بِمَا بهِأصَعَّدَ فَي عُلْوِ الهَوَى أم تَصَوَّبَا?طَوَامِحُ بالأَبْصَارِ عَنْه، كَأَنَّمَايَرَيْنَ عَلَيْهِ جُلَّ أَدْهَمَ أجْرَبَا(15) انظر ما سلف من القول في"إذ" و"إذا" 1: 349 - 444 ، 493/3: 92 ، 98/6: 407 ، 550/7 : 333/9 : 627. وانظر ما سيأتي ص: 317.(16) في المطبوعة والمخطوطة: "فتوجيه" بالفاء ، والجيد ما أثبت.(17) في المطبوعة: "وتحذيره" ، غير ما كان في المخطوطة لغير طائل.(18) انظر تفسير"سبحان" فيما سلف 1: 474 - 476 ، 495/2 : 537/6 : 423.(19) في المطبوعة: "فهل يكون للعبد" ، وفي المخطوطة: "فيكون يكون للعبد" ، هكذا ورجحت قراءتها كما أثبتها.(20) انظر تفسير"علام الغيوب" فيما سلف قريبًا: 211 = وتفسير"الغيب" 1: 236 ، 237/6 : 405/10 : 585.

{ وَإِذْ قَالَ الله } عطف على قوله : { إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك } [ المائدة : 110 ] فهو ما يقوله الله يوم يجمع الرسل وليس ممّا قاله في الدنيا ، لأنّ عبادة عيسى حدثت بعد رفعه ، ولقوله : { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } . فقد أجمع المفسّرون على أنّ المراد به يوم القيامة . وأنّ قوله : { وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس } قول يقوله يوم القيامة . وهذا مبدأ تقريع النصارى بعد أن فُرغ من تقريع اليهود من قوله : { إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك } [ المائدة : 110 ] إلى هنا . وتقريع النصارى هو المقصود من هذه الآيات كما تقدّم عند قوله تعالى : { يوم يجمع الله الرسل } [ المائدة : 109 ] الآية ، فالاستفهام هنا كالاستفهام في قوله تعالى للرسل { ماذا أجبتم } [ المائدة : 109 ] والله يعلم أنّ عيسى لم يقل ذلك ولكن أريد إعلان كذب من كفر من النصارى .وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : { أأنت قلت للناس } يدلّ على أنّ الاستفهام متوجّه إلى تخصيصه بالخبر دون غيره مع أنّ الخبر حاصل لا محالة . فقول قائلين : اتّخِذوا عيسى وأمّه إلهين ، واقع . وإنّما ألقي الاستفهام لعيسى أهو الذي قال لهم ذلك تعريضاً بالإرهاب والوعيد بتوجّه عقوبة ذلك إلى من قال هذا القول إن تنصّل منه عيسى فيعلم أحبارهم الذين اخترعوا هذا القول أنّهم المراد بذلك .والمعنى أنّه إن لم يكن هو قائل ذلك فلا عذر لمن قاله لأنّهم زعموا أنّهم يتّبعون أقوال عيسى وتعاليمه ، فلو كان هو القائل لقال : اتّخذوني وأمّي ، ولذلك جاء التعبير بهذين اللفظين في الآية . والمراد بالناس أهل دينه .وقوله : { من دون الله } متعلّق بِ { اتّخذوني } ، وحرف { من } صلة وتوكيد . وكلمة { دون } اسم للمكان المجاوز ، ويكثر أن يكون مكاناً مجازياً مراداً به المغايرة ، فتكون بمعنى ( سوى ) . وانظر ما تقدّم آنفاً عند قوله تعالى : { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً } [ المائدة : 76 ] . والمعنى اتّخذوني وأمّي إلهين سوى الله .وقد شاع هذا في استعمال القرآن قال تعالى : { ومن الناس من يتّخذ من دون الله أنداداً يحبّونهم كحبّ الله } [ البقرة : 165 ] ، وقال : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] ، وغير ذلك من الآيات التي خوطب بها المشركون مع أنّهم أشركوا مع الله غيره ولم ينكروا إلهيّة الله .وذُكر هذا المتعلّق إلزاماً لهم بشناعة إثبات إلهية لغير الله لأنّ النصارى لمّا ادّعوا حلول الله في ذات عيسى توزّعت الإلهية وبطلت الوحدانية . وقد تقدّم بيان هذا المذهب عند تفسير قوله تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم } في هذه السورة ( 17 ) .وجواب عيسى عليه السلام بقوله : { سبحانك } تنزيه لله تعالى عن مضمون تلك المقالة .وكانت المبادرة بتنزيه الله تعالى أهمّ من تبرئته نفسه ، على أنّها مقدّمة للتبرّي لأنّه إذا كان ينزّه الله عن ذلك فلا جرم أنّه لا يأمر به أحداً . وتقدّم الكلام على { سبحانك } في قوله تعالى : { قالوا سبحانك لا علم لنا } في سورة البقرة ( 32 ) .وبرّأ نفسه فقال : ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } ؛ فجملة { ما يكون لي أن أقول } مستأنفة لأنّها جواب السؤال . وجملة { سبحانك } تمهيد .وقوله : { ما يكون لي } مبالغة في التبرئة من ذلك ، أي ما يوجد لديّ قول ما ليس لي بحقّ ، فاللام في قوله : { ما يكون لي } للاستحقاق ، أي ما يوجد حقّ أن أقول . وذلك أبلغ من لم أقله لأنّه نفى أن يوجد استحقاقه ذلك القول .والباء في قوله { بحقّ } زائدة في خبر { ليس } لتأكيد النفي الذي دلّت عليه { ليس } . واللام في قوله { ليس لي بحقّ } متعلّقة بلفظ { حقّ } على رأي المحقّقين من النحاة أنّه يجوز تقديم المتعلّق على متعلّقه المجرور بحرف الجرّ . وقدّم الجارّ والمجرور للتنصيص على أنّه ظرف لغو متعلّق { بحقّ } لئلا يتوهّم أنّه ظرف مستقرّ صفة ل { حقّ } حتى يفهم منه أنّه نفى كون ذلك حقّاً له ولكنّه حقّ لغيره الذين قالوه وكفروا به ، وللمبادرة بما يدلّ على تنصّله من ذلك بأنّه ليس له . وقد أفاد الكلام تأكيدَ كون ذلك ليس حقّاً له بطريق المذهب الكلامي لأنّه نفى أن يباح له أن يقول ما لا يحقّ له ، فعُلم أنّ ذلك ليس حقّاً له وأنّه لم يقله لأجل كونه كذلك . فهذا تأكيد في غاية البلاغة والتفنّن .ثم ارتقى في التبرّىء فقال : { إن كنت قلته فقد علمته } ، فالجملة مستأنفة لأنّها دليل وحجّة لمضمون الجملة التي قبلها ، فكانت كالبيان فلذلك فصلت . والضمير المنصوب في { قلته } عائد إلى الكلام المتقدّم . ونصْب القول للمفرد إذا كان في معنى الجملة شائع كقوله تعالى : { كلاّ إنّها كلمة هو قائلها } [ المؤمنون : 100 ] ، فاستدلّ على انتفاء أن يقوله بأنّ الله يعلم أنّه لم يقله ، وذلك لأنّه يتحقّق أنّه لم يقله ، فلذلك أحال على علم الله تعالى . وهذا كقول العرب : يعلم الله أني لم أفعل ، كما قال الحارث بن عبّاد :لَم أكُنْ من جُنَاتِعَا عَلِمَ الله وأني لِحرّها اليومَ صالٍ ... ولذلك قال : { تعلم ما في نفسي } ، فجملة { تعلم ما في نفسي } بيان لجملة الشرط { إن كنت قلته فقد علمته } فلذلك فُصلت .والنفس تطلق على العقل وعلى ما به الإنسان ، إنسان وهي الروح الإنساني ، وتطلق على الذات . والمعنى هنا : تعلم ما أعتقده ، أي تعلم ما أعلمه لأنّ النفس مقرّ العلوم في المتعارف .وقوله : { ولا أعلم ما في نفسك } اعتراض نشأ عن { تعلم ما في نفسي } لقصد الجمع بين الأمرين في الوقت الواحد وفي كلّ حال .وذلك مبالغة في التنزيه وليس له أثر في التبرّىء ، والتنصّل ، فلذلك تكون الواو اعتراضية .وإضافة النفس إلى اسم الجلالة هنا بمعنى العلم الذي لم يُطلع عليه غيره ، أي ولا أعلم ما تعلمه ، أي ممّا انفردت بعمله . وقد حسّنه هنا المشاكلة كما أشار إليه في «الكشاف» .وفي جواز إطلاق النفس على ذات الله تعالى بدون مشاكلة خلاف؛ فمن العلماء من منع ذلك وإليه ذهب السعد والسيد وعبد الحكيم في شروح «المفتاح» و«التخليص» . وهؤلاء يجعلون ما ورد من ذلك في الكتاب نحو { ويحذّركم الله نفسه } [ آل عمران : 28 ] من قبيل المتشابه . ومن العلماء من جوّز ذلك مثل إمام الحرمين كما نقله ابن عرفة في «التفسير» عند قوله تعالى : { كتب ربّكم على نفسه الرحمة } في سورة الأنعام ( 54 ) ، ويشهد له تكرّر استعماله في القرآن وكلام النبي كما في الحديث القدسي فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي } .وقوله : { إنّك أنت علاّم الغيوب } علّة لقوله : { تعلم ما في نفسي } ولذلك جيء بِ ( إنّ ) المفيدة التعليل . وقد جمع فيه أربع مؤكّدات وطريقة حصر ، فضمير الفصل أفاد الحصر ، وإنّ وصيغة الحصر ، وجمع الغيوب ، وأداة الاستغراب .
الآية 116 - سورة المائدة: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ۖ قال سبحانك ما...)