سورة آل عمران: الآية 7 - هو الذي أنزل عليك الكتاب...

تفسير الآية 7, سورة آل عمران

هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ ۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَآءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِۦ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ ۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُو۟لُوا۟ ٱلْأَلْبَٰبِ

الترجمة الإنجليزية

Huwa allathee anzala AAalayka alkitaba minhu ayatun muhkamatun hunna ommu alkitabi waokharu mutashabihatun faamma allatheena fee quloobihim zayghun fayattabiAAoona ma tashabaha minhu ibtighaa alfitnati waibtighaa taweelihi wama yaAAlamu taweelahu illa Allahu waalrrasikhoona fee alAAilmi yaqooloona amanna bihi kullun min AAindi rabbina wama yaththakkaru illa oloo alalbabi

تفسير الآية 7

هو وحده الذي أنزل عليك القرآن: منه آيات واضحات الدلالة، هن أصل الكتاب الذي يُرجع إليه عند الاشتباه، ويُرَدُّ ما خالفه إليه، ومنه آيات أخر متشابهات تحتمل بعض المعاني، لا يتعيَّن المراد منها إلا بضمها إلى المحكم، فأصحاب القلوب المريضة الزائغة، لسوء قصدهم يتبعون هذه الآيات المتشابهات وحدها؛ ليثيروا الشبهات عند الناس، كي يضلوهم، ولتأويلهم لها على مذاهبهم الباطلة. ولا يعلم حقيقة معاني هذه الآيات إلا الله. والمتمكنون في العلم يقولون: آمنا بهذا القرآن، كله قد جاءنا من عند ربنا على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويردُّون متشابهه إلى محكمه، وإنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها الصحيح أولو العقول السليمة.

(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) واضحات الدلالة (هن أم الكتاب) أصله المعتمد عليه في الأحكام (و أخر متشابهات) لا تفهم معانيها كأوائل السور وجعله كله محكما في قوله "" أحكمت آياته "" بمعنى أنه ليس فيه عيب، ومتشابهًا في قوله (كتابا متشابهًا) بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن والصدق (فأما الذين في قلوبهم زيغ) ميل عن الحق (فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء) طلب (الفتنة) لجهالهم بوقوعهم في الشبهات واللبس (وابتغاء تأويله) تفسيره (وما يعلم تأويله) تفسيره (إلا الله) وحده (والراسخون) الثابتون المتمكنون (في العلم) مبتدأ خبره (يقولون آمنا به) أي بالمتشابه أنه من عند الله ولا نعلم معناه (كل) من المحكم والمتشابه (من عند ربنا وما يذكر) بادغام التاء في الأصل في الذال أي يتعظ (إلا أولوا الألباب) أصحاب العقول ويقولون أيضا إذا رأوا من يتبعه.

القرآن العظيم كله محكم كما قال تعالى كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير فهو مشتمل على غاية الإتقان والإحكام والعدل والإحسان ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون وكله متشابه في الحسن والبلاغة وتصديق بعضه لبعضه ومطابقته لفظا ومعنى، وأما الإحكام والتشابه المذكور في هذه الآية فإن القرآن كما ذكره الله منه آيات محكمات أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال هن أم الكتاب أي: أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره، و منه آيات أخر متشابهات أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان: لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد، وهي الأكثر التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض الناس، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة، ولكن الناس انقسموا إلى فرقتين فأما الذين في قلوبهم زيغ أي: ميل عن الاستقامة بأن فسدت مقاصدهم، وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد فيتبعون ما تشابه منه أي: يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه، ويعكسون الأمر فيحملون المحكم على المتشابه ابتغاء الفتنة لمن يدعونهم لقولهم، فإن المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الاشتباه الواقع فيه، وإلا فالمحكم الصريح ليس محلا للفتنة، لوضوح الحق فيه لمن قصده اتباعه، وقوله وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله للمفسرين في الوقوف على الله من قوله وما يعلم تأويله إلا الله قولان، جمهورهم يقفون عندها، وبعضهم يعطف عليها والراسخون في العلم وذلك كله محتمل، فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وكنهه كان الصواب الوقوف على إلا الله لأن المتشابه الذي استأثر الله بعلم كنهه وحقيقته، نحو حقائق صفات الله وكيفيتها، وحقائق أوصاف ما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك، فهذه لا يعلمها إلا الله، ولا يجوز التعرض للوقوف عليها، لأنه تعرض لما لا يمكن معرفته، كما سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله الرحمن على العرش [استوى ] فقال السائل: كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهكذا يقال في سائر الصفات لمن سأل عن كيفيتها أن يقال كما قال الإمام مالك، تلك الصفة معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، وقد أخبرنا الله بها ولم يخبرنا بكيفيتها، فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا، فأهل الزيغ يتبعون هذه الأمور المشتبهات تعرضا لما لا يعني، وتكلفا لما لا سبيل لهم إلى علمه، لأنه لا يعلمها إلا الله، وأما الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكلون المعنى إلى الله فيسلمون ويسلمون، وإن أريد بالتأويل التفسير والكشف والإيضاح، كان الصواب عطف الراسخون على الله فيكون الله قد أخبر أن تفسير المتشابه ورده إلى المحكم وإزالة ما فيه من الشبهة لا يعلمها إلا هو تعالى والراسخون في العلم يعلمون أيضا، فيؤمنون بها ويردونها للمحكم ويقولون كل من المحكم والمتشابه من عند ربنا وما كان من عنده فليس فيه تعارض ولا تناقض بل هو متفق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض وفيه تنبيه على الأصل الكبير، وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند الله، وأشكل عليهم مجمل المتشابه، علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم، وإن لم يفهموا وجه ذلك. ولما رغب تعالى في التسليم والإيمان بأحكامه وزجر عن اتباع المتشابه قال وما يذكر أي: يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه إلا أولوا الألباب أي: أهل العقول الرزينة لب العالم وخلاصة بني آدم يصل التذكير إلى عقولهم، فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه، وأما من عداهم فهم القشور الذي لا حاصل له ولا نتيجة تحته، لا ينفعهم الزجر والتذكير لخلوهم من العقول النافعة.

خبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب ، أي : بينات واضحات الدلالة ، لا التباس فيها على أحد من الناس ، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم ، فمن رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه ، وحكم محكمه على متشابهه عنده ، فقد اهتدى . ومن عكس انعكس ، ولهذا قال تعالى : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ) أي : أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه ( وأخر متشابهات ) أي : تحتمل دلالتها موافقة المحكم ، وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب ، لا من حيث المراد .وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه ، فروي عن السلف عبارات كثيرة ، فقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس [ أنه قال ] المحكمات ناسخه ، وحلاله وحرامه ، وحدوده وفرائضه ، وما يؤمر به ويعمل به .وكذا روي عن عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، والربيع بن أنس ، والسدي أنهم قالوا : المحكم الذي يعمل به .وعن ابن عباس أيضا أنه قال : المحكمات [ في ] قوله تعالى : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا ) [ الأنعام : 151 ] والآيتان بعدها ، وقوله تعالى : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [ الإسراء : 23 ] إلى ثلاث آيات بعدها . رواه ابن أبي حاتم ، وحكاه عن سعيد بن جبير [ ثم ] قال : حدثنا أبي ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا في هذه الآية : ( هن أم الكتاب ) فقال أبو فاختة : فواتح السور . وقال يحيى بن يعمر : الفرائض ، والأمر والنهي ، والحلال والحرام .وقال ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير : ( هن أم الكتاب ) يقول : أصل الكتاب ، وإنما سماهن أم الكتاب ، لأنهن مكتوبات في جميع الكتب .وقال مقاتل بن حيان : لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهن .وقيل في المتشابهات : إنهن المنسوخة ، والمقدم منه والمؤخر ، والأمثال فيه والأقسام ، وما يؤمن به ولا يعمل به . رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .وقيل : هي الحروف المقطعة في أوائل السور ، قاله مقاتل بن حيان .وعن مجاهد : المتشابهات يصدق بعضهن بعضا . وهذا إنما هو في تفسير قوله : ( كتابا متشابها مثاني ) [ الزمر : 23 ] هناك ذكروا : أن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد ، والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار ، وذكر حال الأبرار ثم حال الفجار ، ونحو ذلك ، فأما هاهنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم .وأحسن ما قيل فيه الذي قدمناه ، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله ، حيث قال : ( منه آيات محكمات هن أم الكتاب ) فيهن حجة الرب ، وعصمة العباد ، ودفع الخصوم والباطل ، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه .قال : والمتشابهات في الصدق ، لهن تصريف وتحريف وتأويل ، ابتلى الله فيهن العباد ، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ، ولا يحرفن عن الحق .ولهذا قال تعالى : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ ) أي : ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل ( فيتبعون ما تشابه منه ) أي : إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة ، وينزلوه عليها ، لاحتمال لفظه لما يصرفونه ، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه ، لأنه دامغ لهم وحجة عليهم ، ولهذا قال : ( ابتغاء الفتنة ) أي : الإضلال لأتباعهم ، إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن ، وهذا حجة عليهم لا لهم ، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى هو روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم ، وتركوا الاحتجاج بقوله [ تعالى ] ( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه ) [ الزخرف : 59 ] وبقوله : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) [ آل عمران : 59 ] وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله ، وعبد ورسول من رسل الله .وقوله : ( وابتغاء تأويله ) أي : تحريفه على ما يريدون ، وقال مقاتل والسدي : يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن .وقد قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن عائشة قالت : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ فأما الذين في قلوبهم زيغ ] ) إلى قوله : ( أولو الألباب ) فقال : " فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم .هكذا وقع هذا الحديث في مسند الإمام أحمد ، رحمه الله ، من رواية ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، ليس بينهما أحد .وهكذا رواه ابن ماجه من طريق إسماعيل ابن علية وعبد الوهاب الثقفي ، كلاهما عن أيوب ، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة ، عنها .ورواه محمد بن يحيى العبدي في مسنده عن عبد الوهاب الثقفي ، عن أيوب ، به . وكذا رواه عبد الرزاق ، عن معمر عن أيوب . وكذا رواه غير واحد عن أيوب . وقد رواه ابن حبان في صحيحه ، من حديث أيوب ، به .وتابع أيوب أبو عامر الخزاز وغيره عن ابن أبي مليكة ، فرواه الترمذي عن بندار ، عن أبي داود الطيالسي ، عن أبي عامر الخزاز ، فذكره . وهكذا رواه سعيد بن منصور في سننه ، عن حماد بن يحيى الأبح ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن عائشة . ورواه ابن جرير ، من حديث روح بن القاسم ونافع بن عمر الجمحي ، كلاهما عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، به . وقال نافع في روايته عن ابن أبي مليكة : حدثتني عائشة ، فذكره .وقد روى هذا الحديث البخاري ، رحمه الله ، عند تفسير هذه الآية ، ومسلم في كتاب القدر من صحيحه ، وأبو داود في السنة من سننه ، ثلاثتهم ، عن القعنبي ، عن يزيد بن إبراهيم التستري ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات [ هن أم الكتاب وأخر متشابهات ] ) إلى قوله : ( وما يذكر إلا أولو الألباب ) قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " لفظ البخاري .وكذا رواه الترمذي أيضا ، عن بندار ، عن أبي داود الطيالسي ، عن يزيد بن إبراهيم التستري ، به . وقال : حسن صحيح . وذكر أن يزيد بن إبراهيم التستري تفرد بذكر القاسم في هذا الإسناد ، وقد رواه غير واحد عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، ولم يذكروا القاسم . كذا قال .ورواه ابن المنذر في تفسيره من طريقين عن النعمان بن محمد بن الفضل السدوسي - ولقبه عارم - حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا أيوب ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، به .وقد رواه ابن أبي حاتم فقال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري وحماد بن سلمة ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله ، فاحذروهم " .وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية : ( فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد حذركم الله ، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم " . ورواه ابن مردويه من طريق أخرى ، عن القاسم ، عن عائشة به .وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو كامل ، حدثنا حماد ، عن أبي غالب قال : سمعت أبا أمامة يحدث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ) قال : " هم الخوارج " ، وفي قوله : ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) . [ آل عمران : 106 ] قال : " هم الخوارج " .وقد رواه ابن مردويه من غير وجه ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة مرفوعا ، فذكره .وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفا من كلام الصحابي ، ومعناه صحيح ، فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج ، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين ، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة ، ففاجئوه بهذه المقالة ، فقال قائلهم - وهو ذو الخويصرة - بقر الله خاصرته - اعدل فإنك لم تعدل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني " . فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب - وفي رواية : خالد بن الوليد - [ ولا بعد في الجمع ] - رسول الله في قتله ، فقال : " دعه فإنه يخرج من ضئضئ هذا - أي : من جنسه - قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم .ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب ، وقتلهم بالنهروان ، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونحل كثيرة منتشرة ، ثم نبعت القدرية ، ثم المعتزلة ، ثم الجهمية ، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق في قوله : " وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة " قالوا : [ من ] هم يا رسول الله ؟ قال : " من كان على ما أنا عليه وأصحابي " أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة .وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو موسى ، حدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن قتادة ، عن الحسن عن جندب بن عبد الله أنه بلغه ، عن حذيفة - أو سمعه منه - يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر : " إن في أمتي قوما يقرءون القرآن ينثرونه نثر الدقل ، يتأولونه على غير تأويله " . [ لم ] يخرجوه .[ وقوله ] ( وما يعلم تأويله إلا الله ) اختلف القراء في الوقف هاهنا ، فقيل : على الجلالة ، كما تقدم عن ابن عباس أنه قال : التفسير على أربعة أنحاء : فتفسير لا يعذر أحد في فهمه ، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها ، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم ، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل . ويروى هذا القول عن عائشة ، وعروة ، وأبي الشعثاء ، وأبي نهيك ، وغيرهم .وقد قال الحافظ أبو القاسم في المعجم الكبير : حدثنا هاشم بن مرثد حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثني أبي ، حدثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا ، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله ، ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به [ كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ] ) الآية ، وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يبالون عليه " غريب جدا . وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، أخبرنا أحمد بن عمرو ، أخبرنا هشام بن عمار ، أخبرنا ابن أبي حاتم عن أبيه ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن ابن العاص ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما تشابه منه فآمنوا به " .وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : كان ابن عباس يقرأ : " وما يعلم تأويله إلا الله ، ويقول الراسخون : آمنا به " وكذا رواه ابن جرير ، عن عمر بن عبد العزيز ، ومالك بن أنس : أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله . وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود : " إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به " . وكذا عن أبي بن كعب . واختار ابن جرير هذا القول .ومنهم من يقف على قوله : ( والراسخون في العلم ) وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول ، وقالوا : الخطاب بما لا يفهم بعيد .وقد روى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه قال : أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله . وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به . وكذا قال الربيع بن أنس .وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : ( وما يعلم تأويله ) الذي أراد ما أراد ( إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد ، فاتسق بقولهم الكتاب ، وصدق بعضه بعضا ، فنفذت الحجة ، وظهر به العذر ، وزاح به الباطل ، ودفع به الكفر .وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال : " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " .ومن العلماء من فصل في هذا المقام ، فقال : التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان ، أحدهما : التأويل بمعنى حقيقة الشيء ، وما يئول أمره إليه ، ومنه قوله تعالى : ( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ) [ يوسف : 100 ] وقوله ( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله ) [ الأعراف : 53 ] أي : حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد ، فإن أريد بالتأويل هذا ، فالوقف على الجلالة ، لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل ، ويكون قوله : ( والراسخون في العلم ) مبتدأ و ( يقولون آمنا به ) خبره . وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والتعبير والبيان عن الشيء كقوله تعالى : ( نبئنا بتأويله ) [ يوسف : 36 ] أي : بتفسيره ، فإن أريد به هذا المعنى ، فالوقف على : ( والراسخون في العلم ) لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار ، وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه ، وعلى هذا فيكون قوله : ( يقولون آمنا به ) حالا منهم ، وساغ هذا ، وهو أن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه ، كقوله : ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ) إلى قوله : ( [ والذين جاءوا من بعدهم ] يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا [ الذين سبقونا بالإيمان ] ) الآية [ الحشر : 8 - 10 ] ، وكقوله تعالى : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) [ الفجر : 22 ] أي : وجاءت الملائكة صفوفا صفوفا .وقوله إخبارا عنهم أنهم ( يقولون آمنا به ) أي : بالمتشابه ( كل من عند ربنا ) أي : الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق ، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له ، لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد لقوله : ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) [ النساء : 82 ] ولهذا قال تعالى : ( وما يذكر إلا أولو الألباب ) أي : إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة .وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا فياض الرقي ، حدثنا عبد الله بن يزيد - وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أنسا ، وأبا أمامة ، وأبا الدرداء ، رضي الله عنهم ، قال : حدثنا أبو الدرداء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم ، فقال : " من برت يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام قلبه ، ومن أعف بطنه وفرجه ، فذلك من الراسخين في العلم " .وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده قال : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتدارءون فقال : " إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضا ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوا ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه " .و [ قد ] تقدم رواية ابن مردويه لهذا الحديث ، من طريق هشام بن عمار ، عن ابن أبي حازم عن أبيه ، عن عمرو بن شعيب ، به .وقد قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده ، حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا أنس بن عياض ، عن أبي حازم ، عن أبي سلمة قال : لا أعلمه إلا عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نزل القرآن على سبعة أحرف ، والمراء في القرآن كفر - ثلاثا - ما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه " .وهذا إسناد صحيح ، ولكن فيه علة بسبب قول الراوي : " لا أعلمه إلا عن أبي هريرة " .وقال ابن المنذر في تفسيره : أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني نافع بن يزيد قال : يقال : الراسخون في العلم المتواضعون لله ، المتذللون لله في مرضاته ، لا يتعاطون من فوقهم ، ولا يحقرون من دونهم . [ ولهذا قال تعالى : ( وما يذكر إلا أولو الألباب ) أي : إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة أو الفهوم المستقيمة ] .

قوله- تعالى-: مُحْكَماتٌ من الإحكام- بكسر الهمزة- وهذه المادة تستعمل في اللغة لمعان متعددة، ترجع إلى شيء واحد هو المنع يقال: أحكم الأمر أى أتقنه ومنعه عن الفساد ويقال: أحكمه عن الشيء أى أرجعه عنه ومنعه منه. ويقال حكم نفسه وحكم الناس، أى منع نفسه ومنع الناس عما لا يليق. ويقال أحكم الفرس أى جعل له حكمة تمنعه من الجموح والاضطراب.وقوله: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أى أصله الذي فيه عماد الدين وفرائضه وحدوده وما يحتاج إليه الناس في دنياهم وآخرتهم. وأم كل شيء: أصله وعماده.قال ابن جرير: والعرب تسمى الأمر الجامع المعظم الشيء أما له. فيسمون راية القوم التي تجمعهم في العساكر أمهم. ويسمون المدبر لمعظم أمر البلدة والقرية أمها» .وقوله مُتَشابِهاتٌ من التشابه بمعنى أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر ومماثلا ومشاكلا له مشاكلة تؤدى إلى الالتباس غالبا. قال: أمور مشتبهة ومشبهة- كمعظمة-: أى مشكلة.ويقال: شبه عليه الأمر تشبيها: لبس عليه.ولقد جاء في القرآن ما يدل على أنه كله محكم كما في قوله- تعالى- كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ وجاء فيه ما يدل على أنه كله متشابه كما في قوله- تعالى- اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً.وجاء فيه ما يدل على أن بعضه متشابه كما في الآية التي نحن بصدد تفسيرها. ولا تعارض بين هذه الإطلاقات الثلاثة، لأن معنى إحكامه كله: أنه متقن متين لا يتطرق إليه خلل أو اضطراب. ومعنى كونه كله متشابها أنه يشبه بعضه بعضا في بلاغته وفصاحته وإعجازه وهدايته، ومعنى أن بعضه محكم وبعضه متشابه، فسنبينه بعد سرد بعض الأقوال التي قالها العلماء في تحديد معنى كل منهما.فمنهم من يرى أن المحكم هو الواضح الدلالة الذي لا يحتمل النسخ، والمتشابه هو الخفى الذي لا يدرك معناه وهو ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة والروح.ومنهم من يرى أن المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. والمتشابه هو الذي لا يستقل بنفسه، بل يحتاج إلى بيان، فتارة يبين بكذا، وتارة يبين بكذا، لحصول الاختلاف في تأويله.ومنهم من يرى أن المحكم هو الذي لا يحتمل في تأويله إلا وجها واحدا والمتشابه هو الذي يحتمل أوجها. ومنهم من يرى أن المحكم ما كانت دلالته راجحة وهو النص والظاهر. أما المتشابه فهو ما كانت دلالته غير راجحة، وهو المجمل والمؤول والمشكل.هذه بعض الأقوال في تحديد معنى المحكم والمتشابه . وقد اختار كثير من المحققين هذا القول الأخير، ومعنى الآية الكريمة- بعد هذا التمهيد الموجز:الله- عز وجل- الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، والذي أنزل الكتب السماوية لهداية الناس، والذي صورهم في الأرحام كيف يشاء، وهو الذي أنزل عليك- يا محمد- هذا الكتاب الكريم المعجز العظيم الشأن، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، وقد اقتضت حكمة الله- تعالى- أن يجعل هذا الكتاب مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ أى واضحات الدلالة، محكمات التراكيب، جليات المعاني، متقنات النظم والتعبير حاويات لكل ما يسعد الناس في معاشهم ومعادهم، بينات لا التباس فيها ولا اشتباه.وقوله هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أى هذه الآيات المحكمات الواضحات الدلالة المانعات من الوقوع في الالتباس لانكشاف معانيها لكل ذي عقل سليم، هن أصل الكتاب الذي يعول عليه في معرفة الأحكام، ويرجع إليه في التمييز بين الحلال والحرام، ويرد إليه ما تشابه من آياته، وما استشكل من معانيها.والجار والمجرور مِنْهُ خبر مقدم، وآياتٌ مبتدأ مؤخر، ومُحْكَماتٌ صفة لآيات.وقوله هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ صفة ثانية للآيات.قال الجمل: وأخبر بلفظ الواحد وهو أُمُّ عن الجمع وهو هُنَّ لأن الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة، وكلام الله واحد. أو أن كل واحدة منهن أم الكتاب كما قال- تعالى-: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً أى كل واحد منهما. أو لأنه مفرد واقع موقع الجمع» «2» .وقوله وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ أى ومنه آيات أخر متشابهات وذلك كالآيات التي تتحدث عن صفات الله- تعالى- مثل: الاستواء، واليد والغضب، ونحو ذلك من الآيات التي تحدثت عن صفاته- سبحانه- وكالآيات التي تتحدث عن وقت الساعة، وعن الروح وعن حقيقة الجن والملائكة وكالحروف المقطعة في أوائل السور.قال الشيخ الزرقانى ما ملخصه: ومنشأ التشابه إجمالا هو خفاء مراد الشارع من كلامه.أما تفصيلا فنذكر أن منه ما يرجع خفاؤه إلى اللفظ من جهة غرابته كلفظ الأب في قوله تعالى:وَفاكِهَةً وَأَبًّا أو من جهة اشتراكه بين معان عدة كما في قوله- تعالى- فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ أى فأقبل إبراهيم على الأصنام يضربها بيمينه، أو بقوة، أو بسبب اليمين التي حلفها.ومن هذا النوع فواتح السور المبدوءة بحروف التهجي لأن التشابه والخفاء في المراد منها جاء من ناحية ألفاظها.ومنه ما يرجع خفاؤه إلى المعنى، ومثاله كل ما جاء في القرآن وصفا الله- تعالى- أو لأهوال القيامة، أو لنعيم الجنة.. فإن العقل البشرى لا يمكن أن يحيط بحقائق صفات الخالق، ولا بأهوال يوم القيامة، ولا بنعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار.ثم قال- رحمه الله- ويمكننا أن ننوع المتشابهات ثلاثة أنواع:النوع الأول: مالا يستطيع البشر جميعا أن يصلوا إليه كالعلم بذات الله وحقائق صفاته، وكالعلم بوقت القيامة ونحوه مما استأثر الله بعلمه.النوع الثاني: ما يستطيع كل إنسان أن يعرفه عن طريق البحث والدرس، كالمتشابهات التي نشأ التشابه فيها من جهة الإجمال والبسط والترتيب. والأمثلة على ذلك كثيرة، فمثال التشابه بسبب الإجمال قوله- تعالى:وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ.فإن خفاء المراد فيه جاء من ناحية إيجازه. والأصل: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى لو تزوجتموهن فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء.النوع الثالث: ما يعلمه خواص العلماء دون عامتهم ولذلك أمثلة كثيرة من المعاني العالية التي تفيض على قلوب أهل الصفاء والاجتهاد عند تدبرهم لكتاب الله» .ثم بين- سبحانه- موقف الذين في قلوبهم مرض وانحراف عن الحق من متشابه القرآن فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ فالجملة الكريمة تفصيل لإجمال اقتضاه الكلام السابق.والزيغ- كما يقول القرطبي- الميل، ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار، ويقال: زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد، ومنه قوله- تعالى-: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ. وهذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران.والابتغاء: الاجتهاد في الطلب. يقال: بغيت الشيء وابتغيته، إذا طلبته بجد ونشاط.والفتنة: من الفتن: وأصل الفتن إدخال الذهب للنار لتظهر جودته من رداءته. والمراد بها هنا الإضلال وإثارة الشكوك حول الحق.والتأويل: يطلق بمعنى التفسير والتوضيح والبيان. ويطلق بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول إليه أمره، مأخوذ من الأول وهو الرجوع إلى الأصل.يقال: آل الأمر إلى كذا يؤول أولا أى رجع. وأولته إليه: رجعته.المعنى: لقد اقتضت حكمتنا- يا محمد- أن ننزل عليك القرآن مشتملا على آيات محكمات هن أم الكتاب، وعلى أخر متشابهات. فأما الفاسقون الذين في قلوبهم انحراف عن طلب الحق، وميل عن المنهج القويم، وانصراف عن القصد السوى فيتبعون ما تشابه منه، أى:يتعلقون بذلك وحده. ويعكفون على الخوض فيه. ولا تتجه عقولهم إلى المحكم ليردوا المتشابه إليه، وإنما يلازمون الأخذ بالمتشابه كما يلازم التابع متبوعه، لأنه يوافق اعوجاج نفوسهم وسوء نياتهم. وتحكم أهوائهم وشهواتهم.وقد بين- سبحانه- أن اتباع هؤلاء الزائغين للمتشابه إنما يقصدون من ورائه أمرين:أولهما: «ابتغاء الفتنة» أى طلبا لفتنة المؤمنين في دينهم. وتشكيكهم في عقيدتهم، وإثارة الريب في قلوبهم بأوهام يلقونها حول المتشابه الذي جاء به القرآن، بأن يقولوا- كما حكى القرآن عنهم- أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وبأن يقولوا: كيف يكون نعيم الجنة، وما حقيقة الروح ولماذا يعذبنا الله على أعمالنا مع أنه هو الخالق لكل شيء، إلى غير ذلك من الشبهات الزائفة التي يثيرها الذين في قلوبهم زيغ طلبا لتشكيك المؤمنين في دينهم.وثانيهما: «وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أى: ويتعلقون بالمتشابه ويتبعونه طلبا لتأويل آيات القرآن تأويلا باطلا، وتفسيرها تفسيرا فاسدا بعيدا عن الحق زاعمين أن تفسيرهم هذا هو الحق بعينه، لأنه يتفق مع أهوائهم وشهواتهم وميولهم الأثيمة.وفي جعل قلوبهم مقرا للزيغ مبالغة في عدولهم عن سنن الرشاد وإصرارهم على الشر والفساد.وفي تعليل الاتباع- كما يقول الآلوسى- «بابتغاء تأويله دون نفس تأويله وتجريد التأويل عن الوصف بالصحة أو الحقيقة. إيذان بأنهم ليسوا من أهل التأويل- في عير ولا نفير ولا قبيل ولا دبير- وأن ما يبتغونه ليس بتأويل أصلا لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر صاحبه» .وقد ذم النبي صلّى الله عليه وسلّم هؤلاء الذين يتبعون ما تشابه من القرآن طلبا للفتنة والتأويل الباطل، وحذر منهم في أحاديث كثيرة. ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ.. إلخ الآيات قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم».وقد استجاب الصحابة- رضى الله عنهم- لوصايا الرسول صلّى الله عليه وسلّم فكانوا يتباعدون عن الذين في قلوبهم زيغ. ويزجرونهم ويكشفون عن أباطيلهم.قال القرطبي: «حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي: قال: أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم، عن سليمان بن يسار أن صبيغ بن عسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء: فبلغ ذلك عمر- رضى الله عنه- فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل. فلما حضر قال له عمر: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ. فقال عمر- وأنا عبد الله عمر: ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه فقال حسبك يا أمير المؤمنين!! فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسى» «2» .ثم بين- سبحانه- أن تأويل المتشابه مرده إلى الله- تعالى- وأن الراسخين في العلم يعلمون منه ما يوفقهم الله لمعرفته فقال، وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.وقوله- تعالى- وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ من الرسوخ وهو الثبات والتمكن وأصله في الأجرام، أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض، واستعمل في المعاني ومنه رسخ الإيمان في القلب. أى ثبت واستقر وتمكن.والألباب، جمع لب وهو- كما يقول الراغب- العقل الخالص من الشوائب وسمى بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من معانيه، كاللباب واللب من الشيء وقيل هو ما زكا من العقل، فكل لب عقل وليس كل عقل لبا، ولهذا علق الله- تعالى- الأحكام التي لا يدركها إلا العقول الزكية بأولى الألباب» «3» .قال الآلوسى: «وقوله وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ في موضع الحال من ضمير يتبعون باعتبار العلة الأخيرة. أى يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله- تأويلا فاسدا- والحال أن التأويل المطابق للواقع- كما يشعر به التعبير بالعلم والإضافة إلى الله- تعالى- مخصوص به- سبحانه- وبمن وفقه- عز شأنه- من عباده الراسخين في العلم. أى الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم يتزلزلوا في مزال الأقدام، ومداحض الأفهام، دونهم حيث إنهم بمعزل عن تلك الرتبة، هذا ما يقتضيه الظاهر في تفسير الراسخين» .وقوله. يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا جملة موضحة لحال الراسخين في العلم، ومبينة لما هم عليهم من قوة الإيمان، وصدق اليقين.أى يقول الراسخون في العلم عند ما يقرءون ما تشابه من آيات القرآن آمنا به وصدقنا وأذعنا فنحن لا نشك في أن كلا من الآيات المتشابهة والآيات المحكمة من عند الله وحده فهو الذي أنزلها على نبيه صلّى الله عليه وسلّم بمقتضى حكمته ومشيئته.وقوله وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ، معطوف على جملة يَقُولُونَ وقد ختم به- سبحانه- هذه الآية على سبيل المدح لهؤلاء الراسخين في العلم.أى: وما يدرك هذه الحقائق الدينية ويعتبر بها ويتذكر ما اشتمل عليه القرآن من أحكام وآداب وهدايات وتشريعات إلا أصحاب العقول السليمة، والألباب المستنيرة التي لا تتأثر بالأهواء والشهوات، ولا تركن إلى البدع الزائفة والأفكار الفاسدة.قال ابن كثير: «وقوله- تعالى- وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ اختلف القراء في الوقف هنا فقيل الوقف على لفظ الجلالة، فقد ورد عن ابن عباس أنه قال: «التفسير على أربعة أنحاء فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله» . وعن أبى مالك الأشعرى أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:«لا أخاف على أمتى إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغى تأويله وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ الآية وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يسألون عنه» .وحكى ابن جرير أن قراءة عبد الله بن مسعود، إن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به. واختار هذا القول ابن جرير- وهو مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين وأتباعهم خصوصا أهل السنة.ومنهم من يقف على قوله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول، وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد. وقد روى عن ابن عباس أنه قال. أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله، وروى عن مجاهد أنه قال والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به.وفي الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا لابن عباس فقال: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» .والذي نراه أنه إذا فسر المتشابه بما استأثر الله- تعالى- بعلمه كقيام الساعة وحقيقة الروح، كان الوقف على لفظ الجلالة وكانت الواو في قوله وَالرَّاسِخُونَ للاستئناف، والراسخون مبتدأ وجملة «يقولون» خبر عنه.أى والراسخون في العلم يقولون آمنا به ويفوضون علمه إليه- سبحانه- ولا يقتحمون أسواره، كأهل الزيغ والضلال الذين أولوه تأويلا فاسدا.. وإذا فسر المتشابه بما لا يتبين معناه إلا بعد نظر دقيق بحيث يتناول المجمل ونحوه كان الوقف على لفظ العلم، وكانت الواو في قوله وَالرَّاسِخُونَ للعطف.أى: لا يعلم تأويل المتشابه تأويلا حقا سليما إلا الله والراسخون في العلم أما أولئك الذين في قلوبهم زيغ فهم أبعد ما يكونون عن ذلك.ويجوز الوقف على هذا الرأى أيضا على لفظ الجلالة لأنه لا يعلم تأويل هذا المتشابه علما كاملا إلا الله. أولا يعلم كنهه وحقيقته أحد سواه.وإذا فسر المتشابه بما قام الدليل القاطع على أن ظاهره غير مراد. مع عدم قيام الدليل على تعيينه، كمتشابه الصفات أو ما يسمى بآيات الصفات مثل قوله- تعالى- الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى. جاز الوقف والعطف عند من يؤولون هذه الصفات تأويلا يليق بذاته- تعالى- وهم جمهور علماء الخلف ووجب الوقف على لفظ الجلالة عند من يفوض معاني هذه المتشابهات إلى الله- تعالى- مع تنزيهه عن ظواهرها المستحيلة وهم جمهور علماء السلف وهذه المسألة من المسائل التي أفاض القول فيها الباحثون في علم الكلام.هذا وقد ذكر العلماء حكما متعددة لاشتمال القرآن على المحكم والمتشابه، منها: الابتلاء والاختبار، لأن الراسخين في العلم سيؤمنون به وإن لم يعرفوا تأويله، ويخضعون لسلطان الربوبية، ويقرون بالعجز والقصور، وفي ذلك غاية التربية ونهاية المصلحة. وأما الذين في قلوبهم زيغ فيؤولونه تأويلا باطلا طلبا لإضلال الناس وتشكيكهم في دينهم.ومنها: رحمة الله بهذا الإنسان الضعيف الذي لا يطيق معرفة كل شيء. فقد أخفى- سبحانه- على الناس معرفة وقت قيام الساعة لكيلا يتكاسلوا ويقعدوا عن الاستعداد لها، ولكيلا يفتك بهم الخوف فيما لو أدركوا بالتحديد قرب قيامها.ومنها- كما يقول الفخر الرازي: «أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب، ومنها: أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل، وحينئذ يتخلص من ظلمة التقليد، ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة، أما لو كان كله محكما لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية، فحينئذ يبقى في الجهل والتقليد. ومنها أن اشتماله على المحكم والمتشابه يحمل الإنسان على تعلم علوم كثيرة كعلم اللغة والنحو وأصول الفقه وغير ذلك من أنواع العلوم، ومنها: أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه، ظن أن هذا عدم ونفى فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه، وبذلك يكون مخلوطا بما يدل على الحق الصريح. فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من المتشابهات، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات» .ومنها- كما يقول الجمل نقلا عن الخازن: «فإن قيل القرآن نزل لإرشاد الناس فهلا كان كله محكما؟ فالجواب أنه نزل بألفاظ العرب وعلى أسلوبهم. وكلامهم على ضربين: الموجز الذي لا يخفى على سامع هذا هو الضرب الأول، والثاني المجاز والكنايات والإرشادات والتلويحات وهذا هو المستحسن عندهم، فأنزل القرآن على ضربين ليتحقق عجزهم فكأنه قال: عارضوه بأى الضربين شئتم، ولو نزل كله محكما لقالوا: هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا» .قال بعض العلماء: والذي يستخلص من مصادر الشريعة ومواردها، أن الآيات المتشابهة لا يمكن أن يكون موضوعها حكما تكليفيا من الأحكام التي كلف عامة المسلمين أن يقوموا بها، وأنه لا يمكن أن تكون آية من آيات الأحكام التكليفية قد انتقل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى دون أن بينها، ولا تشابه فيها بعد أن بينتها السنة النبوية، لأن الله- تعالى- يقول: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ولا شك من أول بيان ما نزل إليهم بيان الأحكام التكليفية.لذلك نقول جازمين: إنه ليس في آيات الأحكام آية متشابهة، وإن اشتبه فهمها على بعض العقول، لأنه لم يطلع على موضوعها، فليس ذلك لأنها متشابهة في ذاتها، بل لاشتباه عند من لا يعلم، واشتباه من لا يعلم لا يجعل آية في القرآن متشابهة».وبعد أن بين- سبحانه- موقف الناس من محكم القرآن ومتشابهه، شرع في بيان ما يتضرع به المؤمنون الصادقون الذين يؤمنون بكل ما أنزله الله- تعالى- فقال:

قوله تعالى ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ) مبينات مفصلات ، سميت محكمات من الإحكام ، كأنه أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها ( هن أم الكتاب ) أي أصله الذي يعمل عليه في الأحكام وإنما قال : ( هن أم الكتاب ) ولم يقل أمهات الكتاب لأن الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة ، وكلام الله واحد وقيل : معناه كل آية منهن أم الكتاب كما قال : " وجعلنا ابن مريم وأمه آية " ( 50 - المؤمنون ) أي كل واحد منهما آية ( وأخر ) جمع أخرى ولم يصرفه لأنه معدول عن الآخر ، مثل : عمر وزفر ( متشابهات ) فإن قيل كيف فرق هاهنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل كل القرآن محكما في مواضع أخر؟ . فقال : " الر كتاب أحكمت آياته " ( 1 - هود ) وجعله كله متشابها [ في موضع آخر ] فقال : " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها " ( 23 - الزمر .قيل : حيث جعل الكل محكما ، أراد أن الكل حق ليس فيه عبث ولا هزل ، وحيث جعل الكل متشابها أراد أن بعضه يشبه بعضا في الحق والصدق وفي الحسن وجعل هاهنا بعضه محكما وبعضه متشابهاواختلف العلماء فيهما فقال ابن عباس رضي الله عنهما : المحكمات هن الآيات الثلاث في سورة الأنعام " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " ( 151 ) ونظيرها في بني إسرائيل " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " ( 23 - الإسراء ) الآيات وعنه أنه قال : المتشابهات حروف التهجي في أوائل السور .وقال مجاهد وعكرمة : المحكم ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه يشبه بعضه بعضا في الحق ويصدق بعضه بعضا ، كقوله تعالى : " وما يضل به إلا الفاسقين " ( 26 - البقرة ) " ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون " ( 100 - يونس .وقال قتادة والضحاك والسدي : المحكم الناسخ الذي يعمل به ، والمتشابه المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : محكمات القرآن ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به ، والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به ، وقيل : المحكمات ما أوقف الله الخلق على معناه والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه لا سبيل لأحد إلى علمه ، نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجال ، ونزول عيسى عليه السلام ، وطلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة وفناء الدنيا .وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المحكم ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد والمتشابه ما احتمل أوجهاوقيل : المحكم ما يعرف معناه وتكون حججها واضحة ودلائلها لائحة لا تشتبه ، والمتشابه هو الذي يدرك علمه بالنظر ، ولا يعرف العوام تفصيل الحق فيه من الباطل وقال بعضهم : المحكم ما يستقل بنفسه في المعنى والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيرهقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية [ باذان ] المتشابه حروف التهجي في أوائل السور ، وذلك أن رهطا من اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له حيي : بلغنا أنه أنزل عليك ( الم ) فننشدك الله أنزلت عليك؟ قال : " نعم " قال : فإن كان ذلك حقا فإني أعلم مدة ملك أمتك ، هي إحدى وسبعون سنة فهل أنزل غيرها؟ قال : " نعم ( المص ) " قال : فهذه أكثر هي إحدى وستون ومائة سنة ، قال : فهل غيرها؟ قال : " نعم ( الر ) " . قال : هذه أكثر هي مائتان وإحدى وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليله ونحن ممن لا يؤمن بهذا فأنزل الله تعالى : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) .( فأما الذين في قلوبهم زيغ ) أي ميل عن الحق وقيل شك ( فيتبعون ما تشابه منه ) واختلفوا في المعني بهذه الآية . قال الربيع : هم وفد نجران خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام ، وقالوا له : ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال : " بلى " قالوا : حسبنا ، فأنزل الله هذه الآية .وقال الكلبي : هم اليهود طلبوا علم أجل هذه الأمة واستخراجها بحساب الجمل وقال ابن جريج : هم المنافقون وقال الحسن : هم الخوارج ، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ ) قال : إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري من هم ، وقيل : هم جميع المبتدعة .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن مسلمة ، أنا يزيد بن إبراهيم التستري ، عن ابن أبي مليكة ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنهما قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) - إلى قوله ( أولو الألباب ) قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " .قوله تعالى : ( ابتغاء الفتنة ) طلب الشرك قاله الربيع والسدي ، وقال مجاهد : ابتغاء الشبهات واللبس ليضلوا بها جهالهم ( وابتغاء تأويله ) تفسيره وعلمه ، دليله قوله تعالى " سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " ( 78 - الكهف ) وقيل : ابتغاؤه عاقبته ، وهو طلب أجل هذه الأمة من حساب الجمل ، دليله قوله تعالى " ذلك خير وأحسن تأويلا " ( 35 - الإسراء ) أي عاقبة .قوله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) اختلف العلماء في نظم هذه الآية فقال قوم : الواو في قوله والراسخون واو العطف يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم ( يقولون آمنا به ) وهذا قول مجاهد والربيع ، وعلى هذا يكون قوله " يقولون " حالا معناه : والراسخون في العلم قائلين آمنا به ، هذا كقوله تعالى : " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى " ( 7 - الحشر ) ثم قال : " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم " ( 8 - الحشر ) إلى أن قال : " والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم " ( 9 - الحشر ) ثم قال " والذين جاءوا من بعدهم " ( 10 - الحشر ) وهذا عطف على ما سبق ، ثم قال : " يقولون ربنا اغفر لنا " ( 10 - الحشر ) يعني هم مع استحقاقهم الفيء يقولون ربنا اغفر لنا ، أي قائلين على الحال .وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول في هذه الآية : أنا من الراسخين في العلم ، وروي عن مجاهد : أنا ممن يعلم تأويلهوذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله " والراسخون " واو الاستئناف ، وتم الكلام عند قوله : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) وهو قول أبي بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير رضي الله عنهم ورواية طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وبه قال الحسن وأكثر التابعين واختاره الكسائي والفراء والأخفش ، وقالوا : لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ويجوز أن يكون للقرآن تأويل استأثر الله بعلمه لم يطلع عليه أحدا من خلقه كما استأثر بعلم الساعة ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدجال ، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوها ، والخلق متعبدون في المتشابه بالإيمان به وفي المحكم بالإيمان به والعمل ، ومما يصدق ذلك قراءة عبد الله إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ، وفي حرف أبي : ويقول الراسخون في العلم آمنا بهوقال عمر بن عبد العزيز : في هذه الآية انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به كل من عند ربنا وهذا قول أقيس في العربية وأشبه بظاهر الآية .قوله تعالى ( والراسخون في العلم ) أي الداخلون في العلم هم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في معرفتهم شك ، وأصله من رسوخ الشيء في الشيء وهو ثبوته يقال : رسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسخا ورسوخا وقيل : الراسخون في العلم علماء مؤمني أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه دليله قوله تعالى " لكن الراسخون في العلم منهم " ( 162 - النساء ) يعني ( المدارسين ) علم التوراة وسئل مالك بن أنس رضي الله عنه عن الراسخين في العلم قال : العالم العامل بما علم المتبع له وقيل : الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسهوقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والسدي : بقولهم آمنا به سماهم الله تعالى راسخين في العلم ، فرسوخهم في العلم قولهم : آمنا به ، أي بالمتشابه ( كل من عند ربنا ) المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا وما لم نعلم ( وما يذكر ) وما يتعظ بما في القرآن ( إلا أولو الألباب ) ذوو العقول

قوله : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيمفيه تسع مسائل :الأولى : خرج مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم . وعن أبي غالب قال : كنت أمشي مع أبي أمامة وهو على حمار له ، حتى إذا انتهى إلى درج مسجد دمشق فإذا رءوس منصوبة ، فقال : ما هذه الرءوس ؟ قيل : هذه رءوس خوارج يجاء بهم من العراق فقال أبو أمامة : ( كلاب النار ، كلاب النار ، كلاب النار ، شر قتلى تحت ظل السماء ، طوبى لمن قتلهم وقتلوه - يقولها ثلاثا - ثم بكى ) فقلت : ما يبكيك يا أبا أمامة ؟ قال : رحمة لهم ( إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه ، ثم قرأ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات . . . " إلى آخر الآيات . ثم قرأ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات . فقلت : يا أبا أمامة هم هؤلاء ؟ قال نعم . قلت : أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : إني إذا لجريء إني إذا لجريء بل سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس ولا ست ولا سبع ، ووضع أصبعيه في أذنيه ، قال : وإلا فصمتا - قالها ثلاثا - ) ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة واحدة في الجنة وسائرهم في النار ، ولتزيدن عليهم هذه الأمة واحدة واحدة في الجنة وسائرهم في النار .الثانية : اختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة ; فقال جابر بن عبد الله - وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري وغيرهما - : ( المحكمات من آي القرآن ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره ، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه . قال بعضهم : وذلك مثل وقت قيام الساعة ، وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى ، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور )قلت : هذا أحسن ما قيل في المتشابه . وقد قدمنا في أوائل سورة البقرة عن الربيع بن خثيم ( إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء . . . ) الحديث . وقال أبو عثمان : المحكم فاتحة الكتاب التي لا تجزئ الصلاة إلا بها . وقال محمد بن الفضل : سورة الإخلاص ؛ لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط . وقد قيل : القرآن كله محكم ؛ لقوله تعالى : كتاب أحكمت آياته . وقيل : كله متشابه ; لقوله : كتابا متشابها .قلت : وليس هذا من معنى الآية في شيء ، فإن قوله تعالى : كتاب أحكمت آياته أي في النظم والرصف وأنه حق من عند الله ، ومعنى كتابا متشابها أي يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا . وليس المراد بقوله : آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات هذا المعنى ، وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه من قوله : إن البقر تشابه علينا أي التبس علينا ، أي يحتمل أنواعا كثيرة من البقر . والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا ، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجها واحدا . وقيل : إن المتشابه ما يحتمل وجوها ، ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما . فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع ، والمتشابه هو الفرع . وقال ابن عباس : ( المحكمات هو قوله في سورة الأنعام قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى ثلاث آيات ، وقوله في بني إسرائيل : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا قال ابن عطية : وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات . وقال ابن عباس أيضا : ( المحكمات ناسخه وحرامه وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به ، والمتشابهات المنسوخات ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به ) وقال ابن مسعود وغيره : ( المحكمات الناسخات ، والمتشابهات المنسوخات ) وقاله قتادة والربيع والضحاك . وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه . والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل ، ابتلى الله فيهن العباد ، وقاله مجاهد وابن إسحاق . قال ابن عطية : وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية . قال النحاس : أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات : أن المحكمات ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره نحو لم يكن له كفوا أحد وإني لغفار لمن تاب . والمتشابهات نحو إن الله يغفر الذنوب جميعا يرجع فيه إلى قوله جل وعلا : وإني لغفار لمن تاب وإلى قوله عز وجل : إن الله لا يغفر أن يشرك به .قلت : ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية ، وهو الجاري على وضع اللسان ؛ وذلك أن المحكم اسم مفعول من أحكم ، والإحكام الإتقان ، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى - لا إشكال فيه ولا تردد - إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها ، ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال ، والله أعلم . وقال ابن خويزمنداد : للمتشابه وجوه ، والذي يتعلق به الحكم ما اختلف فيه العلماء : أي الآيتين نسخت الأخرى كقول علي وابن عباس في الحامل المتوفى عنها زوجها ( تعتد أقصى الأجلين ) فكان عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم يقولون ( وضع الحمل ) ويقولون : ( سورة النساء القصرى نسخت أربعة أشهر وعشرا ) وكان علي وابن عباس يقولان لم تنسخ . وكاختلافهم في الوصية للوارث هل نسخت أم لم تنسخ . وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن تقدم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه ، كقوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم يقتضي الجمع بين الأقارب من ملك اليمين ، وقوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف يمنع ذلك . ومنه أيضا تعارض الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعارض الأقيسة ، فذلك المتشابه . وليس من المتشابه أن تقرأ الآية بقراءتين ويكون الاسم محتملا أو مجملا يحتاج إلى تفسير ؛ لأن الواجب منه قدر ما يتناول الاسم أو جميعه . والقراءتان كالآيتين يجب العمل بموجبهما جميعا كما قرئ : وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم بالفتح والكسر ، على ما يأتي بيانه " في المائدة " إن شاء الله تعالى .الثالثة : روى البخاري عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي ، قال : ما هو ؟ قال : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون وقال : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون وقال : ولا يكتمون الله حديثا وقال : والله ربنا ما كنا مشركين فقد كتموا في هذه الآية ، وفي النازعات أم السماء بناها إلى قوله دحاها فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض ، ثم قال : أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين . . . إلى : طائعين فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء . وقال : وكان الله غفورا رحيما وكان الله عزيزا حكيما . وكان الله سميعا بصيرا فكأنه كان ثم مضى . فقال ابن عباس : ( فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى ، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون . وأما قوله : ما كنا مشركين ولا يكتمون الله حديثا فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، وقال المشركون : تعالوا نقول : لم نكن مشركين ; فختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم ، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا ، وعنده يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين . وخلق الله الأرض في يومين ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات في يومين ، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى ، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين ; فذلك قوله : والأرض بعد ذلك دحاها . فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام ، وخلقت السماء في يومين . وقوله : وكان الله غفورا رحيما يعني نفسه ذلك ، أي لم يزل ولا يزال كذلك ; فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد . ويحك فلا يختلف عليك القرآن ؛ فإن كلا من عند الله )الرابعة : قوله تعالى : وأخر متشابهات لم تصرف ( أخر ) لأنها عدلت عن الألف واللام ; لأن أصلها أن تكون صفة بالألف واللام كالكبر والصغر ، فلما عدلت عن مجرى الألف واللام منعت الصرف . أبو عبيد : لم يصرفوها لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة . وأنكر ذلك المبرد وقال : يجب على هذا ألا ينصرف غضاب وعطاش . الكسائي : لم تنصرف لأنها صفة ، وأنكره المبرد أيضا وقال : إن لبدا وحطما صفتان وهما منصرفان . سيبويه : لا يجوز أن تكون أخر معدولة عن الألف واللام ; لأنها لو كانت معدولة عن الألف واللام لكان معرفة ، ألا ترى أن سحر معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة عن السحر ، وأمس في قول من قال : ذهب أمس معدولا عن الأمس ; فلو كان أخر معدولا أيضا عن الألف واللام لكان معرفة ، وقد وصفه الله تعالى بالنكرة .الخامسة : قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ الذين رفع بالابتداء ، والخبر فيتبعون ما تشابه منه ، والزيغ الميل ، ومنه زاغت الشمس ، وزاغت الأبصار . ويقال : زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد ، ومنه قوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم . وهذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة ، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران . وقال قتادة في تفسير قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ : إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج فلا أدري من هم .قلت : قد مر هذا التفسير عن أبي أمامة مرفوعا ، وحسبك .السادسة قوله تعالى : فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله قال شيخنا أبو العباس رحمة الله عليه : متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوام ، كما فعلته الزنادقة والقرامطة الطاعنون في القرآن ، أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه ، كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع ، تعالى الله عن ذلك ، أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها ، أو كما فعل صبيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال . فهذه أربعة أقسام : ( الأول ) لا شك في كفرهم ، وأن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة . ( الثاني ) الصحيح : القول بتكفيرهم ، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور ، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد . ( الثالث ) اختلفوا في جواز ذلك بناءا على الخلاف في جواز تأويلها . وقد عرف أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلها مع قطعهم باستحالة ظواهرها ، فيقولون أمروها كما جاءت . وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين مجمل منها .( الرابع ) الحكم فيه الأدب البليغ ، كما فعله عمر بصبيغ . وقال أبو بكر الأنباري : وقد كان الأئمة من السلف يعاقبون من يسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن ؛ لأن السائل إن كان يبغي بسؤاله تخليد البدعة وإثارة الفتنة فهو حقيق بالنكير وأعظم التعزير ، وإن لم يكن ذلك مقصده فقد استحق العتب بما اجترم من الذنب ، إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلا إلى أن يقصدوا ضعفة المسلمين بالتشكيك والتضليل في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل وحقائق التأويل . فمن ذلك ما حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن صبيغ بن عسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء ، فبلغ ذلك عمر - رضي الله عنه - فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل . فلما حضر قال له عمر : من أنت ؟ قال : أنا عبد الله صبيغ . فقال عمر - رضي الله عنه - : وأنا عبد الله عمر ، ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه ، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه ، فقال : حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي . وقد اختلفت الروايات في أدبه ، وسيأتي ذكرها في ( الذاريات ) . ثم إن الله تعالى ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته .ومعنى ابتغاء الفتنة طلب الشبهات واللبس على المؤمنين حتى يفسدوا ذات بينهم ، ويردوا الناس إلى زيغهم .وقال أبو إسحاق الزجاج : معنى وابتغاء تأويله أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم ، فأعلم الله جل وعز أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله . قال : والدليل على ذلك قوله تعالى : هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب يقول الذين نسوه من قبل أي تركوه - قد جاءت رسل ربنا بالحق أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل . قال : فالوقف على قوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله أي لا يعلم أحد متى البعث إلا الله .السابعة : وما يعلم تأويله إلا الله يقال : إن جماعة من اليهود منهم حيي بن أخطب دخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : بلغنا أنه نزل عليك الم فإن كنت صادقا في مقالتك فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة ; لأن الألف في حساب الجمل واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فنزل وما يعلم تأويله إلا الله . والتأويل يكون بمعنى التفسير ، كقولك : تأويل هذه الكلمة على كذا . ويكون بمعنى ما يئول الأمر إليه . واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يئول إليه ، أي صار . وأولته تأويلا أي صيرته . وقد حده بعض الفقهاء فقالوا : هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه . فالتفسير بيان اللفظ ، كقوله لا ريب فيه أي لا شك . وأصله من الفسر وهو البيان ، يقال : فسرت الشيء ( مخففا ) أفسره ( بالكسر ) فسرا . والتأويل بيان المعنى ، كقوله لا شك فيه عند المؤمنين أو لأنه حق في نفسه فلا يقبل ذاته الشك وإنما الشك وصف الشاك . وكقول ابن عباس في الجد أبا لأنه تأول قول الله عز وجل : يابني آدم .الثامنة قوله تعالى : والراسخون في العلم اختلف العلماء في والراسخون في العلم هل هو ابتداء كلام مقطوع مما قبله ، أو هو معطوف على ما قبله فتكون الواو للجمع . فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله ، وأن الكلام تم عند قوله إلا الله هذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وغيرهم ، وهو مذهب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد وغيرهم . قال أبو نهيك الأسدي : إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة . وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم آمنا به كل من عند ربنا . وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز ، وحكى الطبري نحوه عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس . و ( يقولون ) على هذا خبر ( الراسخون ) . قال الخطابي : وقد جعل الله تعالى آيات كتابه الذي أمرنا بالإيمان به والتصديق بما فيه قسمين : محكما ومتشابها ، فقال عز من قائل : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . . . إلى قوله : كل من عند ربنا فاعلم أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله بعلمه ، فلا يعلم تأويله أحد غيره ، ثم أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به . ولولا صحة الإيمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه . ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله وأن ما بعده استئناف كلام آخر ، وهو قوله والراسخون في العلم يقولون آمنا به . وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعائشة . وإنما روي عن مجاهد أنه نسق الراسخون على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه . واحتج له بعض أهل اللغة فقال : معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا ، وزعم أن موضع يقولون نصب على الحال . وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه ; لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا ، ولا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل ، فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال . ولو جاز ذلك لجاز أن يقال : عبد الله راكبا ، بمعنى أقبل عبد الله راكبا ; وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله : عبد الله يتكلم يصلح بين الناس ، فكان ( يصلح ) حالا ، كقول الشاعر - أنشدنيه أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس ثعلب - :أرسلت فيها قطما لكالكا يقصر يمشي ويطول باركاأي يقصر ماشيا ، فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده . وأيضا فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئا عن الخلق ويثبته لنفسه ثم يكون له في ذلك شريك . ألا ترى قوله عز وجل : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وقوله : لا يجليها لوقتها إلا هو وقوله : كل شيء هالك إلا وجهه فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه بعلمه لا يشركه فيه غيره . وكذلك قوله تبارك وتعالى : وما يعلم تأويله إلا الله . ولو كانت الواو في قوله : والراسخون للنسق لم يكن لقوله : كل من عند ربنا فائدة ، والله أعلم .قلت : ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل ، وأنهم داخلون في علم المتشابه ، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به . وقال الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم : و يقولون على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين ، كما قال :الريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامهوهذا البيت يحتمل المعنيين ; فيجوز أن يكون ( والبرق ) مبتدأ ، والخبر ( يلمع ) على التأويل الأول ، فيكون مقطوعا مما قبله ، ويجوز أن يكون معطوفا على الريح ، و ( يلمع ) في موضع الحال على التأويل الثاني أي لامعا . واحتج قائلو هذه المقالة أيضا بأن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم ، فكيف يمدحهم وهم جهال وقد قال ابن عباس : ( أنا ممن يعلم تأويله ) وقرأ مجاهد هذه الآية وقال : أنا ممن يعلم تأويله ، حكاه عنه إمام الحرمين أبو المعالي .قلت : وقد رد بعض العلماء هذا القول إلى القول الأول فقال : وتقدير تمام الكلام ( عند الله ) أن معناه وما يعلم تأويله إلا الله يعني تأويل المتشابهات ، والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين آمنا به كل من عند ربنا بما نصب من الدلائل في المحكم ومكن من رده إليه . فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنا بالجميع كل من عند ربنا ، وما لم يحط به علمنا من الخفايا مما في شرعه الصالح فعلمه عند ربنا . فإن قال قائل : قد أشكل على الراسخين بعض تفسيره حتى قال ابن عباس : ( لا أدري ما الأواه ولا ما غسلين ) قيل له : هذا لا يلزم ; لأن ابن عباس قد علم بعد ذلك ففسر ما وقف عليه . وجواب أقطع من هذا وهو أنه سبحانه لم يقل : وكل راسخ فيجب هذا ، فإذا لم يعلمه أحد علمه الآخر . ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك . وفي قوله عليه السلام لابن عباس : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ما يبين لك ذلك ، أي علمه معاني كتابك .والوقف على هذا يكون عند قوله والراسخون في العلم . قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر : وهو الصحيح ; فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب . وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع .لكن المتشابه يتنوع ، فمنه ما لا يعلم البتة كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بغيبه ، وهذا لا يتعاطى علمه أحد لا ابن عباس ولا غيره . فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه فإنما أراد هذا النوع ، وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب فيتأول ويعلم تأويله المستقيم ، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق من تأويل غير مستقيم ، كقوله في عيسى : وروح منه إلى غير ذلك فلا يسمى أحد راسخا إلا أن يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له .وأما من يقول : إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل ، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح .والرسوخ : الثبوت في الشيء ، وكل ثابت راسخ . وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض ، قال الشاعر :لقد رسخت في الصدر مني مودة لليلى أبت آياتها أن تغيراورسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسوخا . وحكى بعضهم : رسخ الغدير : نضب ماؤه ، حكاه ابن فارس فهو من الأضداد . ورسخ ورضخ ورصن ورسب كله ثبت فيه . وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الراسخين في العلم فقال : هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه . فإن قيل : كيف كان في القرآن متشابه والله يقول : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم فكيف لم يجعله كله واضحا ؟ قيل له : الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن يظهر فضل العلماء ; لأنه لو كان كله واضحا لم يظهر فضل بعضهم على بعض . وهكذا يفعل من يصنف تصنيفا يجعل بعضه واضحا وبعضه مشكلا ، ويترك للجثوة موضعا ; لأن ما هان وجوده قل بهاؤه ، والله أعلم .التاسعة : قوله تعالى : كل من عند ربنا فيه ضمير عائد على كتاب الله تعالى محكمه ومتشابهه ; والتقدير : كله من عند ربنا . وحذف الضمير لدلالة ( كل ) عليه ; إذ هي لفظة تقتضي الإضافة . ثم قال : وما يذكر إلا أولو الألباب أي ما يقول هذا ويؤمن ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب ، وهو العقل . ولب كل شيء خالصه ; فلذلك قيل للعقل لب . و أولو جمع ذو .

هو الذي أنزل عليك الكتابالقول في تأويل قوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب يعني بقوله جل ثناؤه : هو الذي أنزل عليك الكتاب أن الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء , هو الذي أنزل عليك الكتاب يعني بالكتاب : القرآن . وقد أتينا على البيان فيما مضى عن السبب الذي من أجله سمي القرآن كتابا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهاتوأما قوله : منه آيات محكمات فإنه يعني من الكتاب آيات , يعني بالآيات آيات القرآن . وأما المحكمات : فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل , وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلال وحرام , ووعد ووعيد , وثواب وعقاب , وأمر وزجر , وخبر ومثل , وعظة وعبر , وما أشبه ذلك . ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات بأنهن هن أم الكتاب , يعني بذلك أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود , وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم , وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم . وإنما سماهن أم الكتاب , لأنهن معظم الكتاب , وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه , وكذلك تفعل العرب , تسمي الجامع معظم الشيء أما له , فتسمي راية القوم التي تجمعه في العساكر أمهم , والمدبر معظم أمر القرية والبلدة أمها . وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته . ووحد أم الكتاب , ولم يجمع فيقول : هن أمهات الكتاب , وقد قال هن لأنه أراد جميع الآيات المحكمات أم الكتاب , لا أن كل آية منهن أم الكتاب , ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن أم الكتاب , لكان لا شك قد قيل : هن أمهات الكتاب . ونظير قول الله عز وجل : هن أم الكتاب على التأويل الذي قلنا في توحيد الأم وهي خبر ل " هن " قوله تعالى ذكره : وجعلنا ابن مريم وأمه آية 23 50 ولم يقل آيتين , لأن معناه : وجعلنا جميعهما آية , إذ كان المعنى واحدا فيما حملا فيه للخلق عبرة . ولو كان مراده الخبر عن كل واحد منهما على انفراده , بأنه جعل للخلق عبرة , لقيل : وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين ; لأنه قد كان في كل واحد منهما لهم عبرة . وذلك أن مريم ولدت من غير رجل , ونطق ابنها فتكلم في المهد صبيا , فكان في كل واحد منهما للناس آية . وقد قال بعض نحويي البصرة : إنما قيل : هن أم الكتاب ولم يقل : " هن أمهات الكتاب " على وجه الحكاية , كما يقول الرجل : ما لي أنصار , فتقول : أنا أنصارك , أو ما لي نظير , فتقول : نحن نظيرك . قال : وهو شبيه " دعني من تمرتان " , وأنشد لرجل من فقعس : تعرضت لي بمكان حل تعرض المهرة في الطول تعرضا لم تأل عن قتلا لي حل أي يحل به , على الحكاية , لأنه كان منصوبا قبل ذلك , كما يقول : نودي : الصلاة الصلاة , يحكي قول القائل : الصلاة الصلاة ! وقال : قال بعضهم : إنما هي أن قتلا لي , ولكنه جعله " عن " لأن أن في لغته تجعل موضعها " عن " والنصب على الأمر , كأنك قلت : ضربا لزيد . وهذا قول لا معنى له , لأن كل هذه الشواهد التي استشهد بها , لا شك أنهن حكايات حالتهن بما حكى عن قول غيره وألفاظه التي نطق بهن , وأن معلوما أن الله جل ثناؤه لم يحك عن أحد قوله : أم الكتاب , فيجوز أن يقال : أخرج ذلك مخرج الحكاية عمن قال ذلك كذلك . وأما قوله وأخر فإنها جمع أخرى . ثم اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم يصرف " أخر " , فقال بعضهم : لم يصرف أخر من أجل أنها نعت واحدتها أخرى , كما لم تصرف جمع وكتع , لأنهن نعوت . وقال آخرون : إنما لم تصرف الأخر لزيادة الياء التي في واحدتها , وأن جمعها مبني على واحدها في ترك الصرف , قالوا : وإنما ترك صرف أخرى , كما ترك صرف حمراء وبيضاء في النكرة والمعرفة لزيادة المدة فيها والهمزة بالواو , ثم افترق جمع حمراء وأخرى , فبني جمع أخرى على واحدته , فقيل : فعل أخر , فترك صرفها كما ترك صرف أخرى , وبني جمع حمراء وبيضاء على خلاف واحدته , فصرف , فقيل حمر وبيض . فلاختلاف حالتيهما في الجمع اختلف إعرابهما عندهم في الصرف , ولاتفاق حالتيهما في الواحدة اتفقت حالتاهما فيها . وأما قوله : متشابهات فإن معناه : متشابهات في التلاوة , مختلفات في المعنى , كما قال جل ثناؤه : وأتوا به متشابها 2 25 يعني في المنظر : مختلفا في المطعم , وكما قال مخبرا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال : إن البقر تشابه علينا 2 70 يعنون بذلك : تشابه علينا في الصفة , وإن اختلفت أنواعه . فتأويل الكلام إذا : إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء , هو الذي أنزل عليك يا محمد القرآن , منه آيات محكمات بالبيان , هن أصل الكتاب الذي عليه عمادك وعماد أمتك في الدين , وإليه مفزعك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام , وآيات أخر هن متشابهات في التلاوة , مختلفات في المعاني . وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات وما المحكم من آي الكتاب , وما المتشابه منه ؟ فقال بعضهم : المحكمات من آي القرآن : المعمول بهن , وهن الناسخات , أو المثبتات الأحكام ; والمتشابهات من آيه : المتروك العمل بهن , المنسوخات . ذكر من قال ذلك : 5163 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا العوام , عمن حدثه , عن ابن عباس في قوله : منه آيات محكمات قال : هي الثلاث الآيات التي ههنا : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم 6 151 إلى ثلاث آيات , والتي في بني إسرائيل : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه 17 23 إلى آخر الآيات . 5164 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثنا معاوية بن صالح , عن على بن أبي طلحة , عن ابن عباس قوله : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب المحكمات : ناسخه , وحلاله , وحرامه , وحدوده , وفرائضه , وما يؤمن به , ويعمل به . قال : وأخر متشابهات والمتشابهات : منسوخه , ومقدمه , ومؤخره , وأمثاله , وأقسامه , وما يؤمن به , ولا يعمل به . 5165 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس في قوله : هو الذي أنزل عليك الكتاب إلى : وأخر متشابهات فالمحكمات التي هي أم الكتاب : الناسخ الذي يدان به ويعمل به ; والمتشابهات : هن المنسوخات التي لا يدان بهن . 5166 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره , عن أبي مالك , وعن أبي صالح , عن ابن عباس , وعن مرة الهمداني , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب إلى قوله : كل من عند ربنا أما الآيات المحكمات : فهن الناسخات التي يعمل بهن ; وأما المتشابهات : فهن المنسوخات . 5167 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب والمحكمات : الناسخ الذي يعمل به ما أحل الله فيه حلاله وحرم فيه حرامه ; وأما المتشابهات : فالمنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن 5168 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : آيات محكمات قال : المحكم : ما يعمل به . 5169 - حدثنا المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات قال : المحكمات : الناسخ الذي يعمل به , والمتشابهات : المنسوخ الذي لا يعمل به , ويؤمن به . 5170 - حدثني المثنى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا هشيم , عن جويبر , عن الضحاك في قوله : آيات محكمات هن أم الكتاب قال : الناسخات , وأخر متشابهات قال : ما نسخ وترك يتلى . * - حدثني ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن سلمة بن نبيط , عن الضحاك بن مزاحم , قال : المحكم ما لم ينسخ , وما تشابه منه : ما نسخ . * - حدثني يحيى بن أبي طالب , قال : أخبرنا يزيد , قال : أخبرنا جويبر , عن الضحاك في قوله : آيات محكمات هن أم الكتاب قال : الناسخ , وأخر متشابهات قال : المنسوخ . 5171 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات قال : المحكمات : الذي يعمل به . * - حدثت عن الحسين بن الفرج , قال : سمعت أبا معاذ يحدث , قال : أخبرنا عبيد بن سليمان , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : منه آيات محكمات يعني : الناسخ الذي يعمل به , وأخر متشابهات يعني المنسوح , يؤمن به ولا يعمل به . * - حدثني أحمد بن حازم , قال : ثنا أبو نعيم , قال : ثنا سلمة , عن الضحاك : منه آيات محكمات قال : ما لم ينسخ , وأخر متشابهات قال : ما قد نسخ . وقال آخرون : المحكمات من آي الكتاب : ما أحكم الله فيه بيان حلاله وحرامه ; والمتشابه منها : ما أشبه بعضه بعضا في المعاني وإن اختلفت ألفاظه . ذكر من قال ذلك : 5172 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قوله : منه آيات محكمات ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك , فهو متشابه يصدق بعضه بعضا , وهو مثل قوله : وما يضل به إلا الفاسقين 2 26 ومثل قوله : كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون 6 125 ومثل قوله : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم 47 17 * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد . مثله . وقال آخرون : المحكمات من آي الكتاب : ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد ; والمتشابه منه : ما احتمل من التأويل أوجها . ذكر من قال ذلك : 5173 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن محمد بن إسحاق , قال : ثني محمد بن جعفر بن الزبير : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات فيهن حجة الرب , وعصمة العباد , ودفع الخصوم والباطل , ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه . وأخر متشابهة في الصدق , لهن تصريف وتحريف وتأويل , ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام , لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق . وقال آخرون : معنى المحكم : ما أحكم الله فيه من آي القرآن وقصص الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم , ففصله ببيان ذلك لمحمد وأمته . والمتشابه : هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور فقصة باتفاق الألفاظ واختلافه المعاني , وقصة باختلاف الألفاظ واتفاق المعانى . ذكر من قال ذلك : 5174 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد وقرأ : الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير 11 1 قال . وذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين آية منها , وحديث نوح في أربع وعشرين آية منها . ثم قال : تلك من أنباء الغيب 11 49 ثم ذكر : وإلى عاد فقرأ حتى بلغ : واستغفروا ربكم 11 90 ثم مضى ثم ذكر صالحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا , وفرغ من ذلك . وهذا يقين , ذلك يقين أحكمت آياته ثم فصلت . قال : والمتشابه ذكر موسى في أمكنة كثيرة , وهو متشابه , وهو كله معنى واحد ومتشابه : اسلك فيها 23 27 احمل فيها 11 40 اسلك يدك 28 32 أدخل يدك 27 12 حية تسعى 20 20 ثعبان مبين 7 107 قال . ثم ذكر هودا في عشر آيات منها , وصالحا في ثماني آيات منها وإبراهيم في ثماني آيات أخرى , ولوطا في ثماني آيات منها , وشعيبا في ثلاث عشرة آية , وموسى في أربع آيات , كل هذا يقضي بين الأنبياء وبين قومهم في هذه السورة , فانتهى ذلك إلى مائة آية من سورة هود , ثم قال : ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد 11 100 وقال في المتشابه من القرآن : من يرد الله به البلاء والضلالة , يقول : ما شأن هذا لا يكون هكذا , وما شأن هذا لا يكون هكذا ؟ وقال آخرون : بل المحكم من آي القرآن : ما عرف العلماء تأويله , وفهموا معناه وتفسيره ; والمتشابه : ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه , وذلك نحو الخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريم , ووقت طلوع الشمس من مغربها , وقيام الساعة , وفناء الدنيا , وما أشبه ذلك , فإن ذلك لا يعلمه أحد . وقالوا : إنما سمى الله من آي الكتاب المتشابه الحروف المقطعة التي في أوائل بعض سور القرآن من نحو الم , والمص , والمر , والر , وما أشبه ذلك , لأنهن متشابهات في الألفاظ , وموافقات حروف حساب الجمل . وكان قوم من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الإسلام وأهله , ويعلموا نهاية أكل محمد وأمته , فأكذب الله أحدوثتهم بذلك , وأعلمهم أن ما ابتغوا علمه من ذلك من قبل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها , وأن ذلك لا يعلمه إلا الله . وهذا قول ذكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب أن هذه الآية نزلت فيه , وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته في تأويل ذلك في تفسير قوله : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه 2 1 : 2 وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية , وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم , فإنما أنزله عليه بيانا له ولأمته وهدى للعالمين , وغير جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه , ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجة , ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل . فإذا كان ذلك كذلك , فكل ما فيه لخلقه إليه الحاجة , وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى , وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة , وذلك كقول الله عز وجل : يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا 6 158 فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عباده أنها إذا جاءت لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك , هي طلوع الشمس من مغربها . فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك هو العلم منهم بوقت نفع التوبة بصفته بغير تحديده بعد بالسنين والشهور والأيام , فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب , وأوضحه لهم على لسان رسول صلى الله عليه وسلم مفسرا . والذي لا حاجة لهم إلى علمه منه هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية , فإن ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا , وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل ثناؤه به دون خلقه , فحجبه عنهم , وذلك وما أشبهه هو المعنى الذي طلبت اليهود معرفته في مدة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من قبل قوله : الم , والمص , والر , والمر , ونحو ذلك من الحروف المقطعة المتشابهات , التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله , وأنه لا يعلم تأويله إلا الله . فإذا كان المتشابه هو ما وصفنا , فكل ما عداه فمحكم , لأنه لن يخلو من أن يكون محكما بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد , وقد استغني بسماعه عن بيان يبينه , أو يكون محكما , وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف في معان كثيرة , فالدلالة على المعنى المراد منه إما من بيان الله تعالى ذكره عنه أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته , ولن يذهب علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بينا . القول في تأويل قوله تعالى : هن أم الكتاب قد أتينا على البيان عن تأويل ذلك بالدلالة الشاهدة على صحة ما قلنا فيه , ونحن ذاكرو اختلاف أهل التأويل فيه . وذلك أنهم اختلفوا في تأويله , فقال بعضهم : معنى قوله : هن أم الكتاب هن اللائي فيهن الفرائض والحدود والأحكام , نحو قيلنا الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك : 5175 - حدثنا عمران بن موسى القزاز , قال : ثنا عبد الوارث بن سعيد , قال : ثنا إسحاق بن سويد , عن يحيى بن يعمر أنه قال في هذه الآية : محكمات هن أم الكتاب قال يحيى : هن اللاتي فيهن الفرائض والحدود وعماد الدين , وضرب لذلك مثلا فقال : أم القرى مكة , وأم خراسان مرو , وأم المسافرين الذين يجعلون إليه أمرهم , ويعنى بهم في سفرهم , قال : فذاك أمهم . 5176 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : هن أم الكتاب قال : هن جماع الكتاب . وقال آخرون : بل معني بذلك فواتح السور التي منها يستخرج القرآن . ذكر من قال ذلك : 5177 - حدثنا عمران بن موسى , قال : ثنا عبد الوارث بن سعيد , قال : ثنا إسحاق بن سويد , عن أبي فاختة أنه قال في هذه الآية : منه آيات محكمات هن أم الكتاب قال : أم الكتاب : فواتح السور , منها يستخرج القرآن ; الم ذلك الكتاب 2 1 : 2 منها استخرجت البقرة , و الم الله لا إله إلا هو منها استخرجت آل عمران .فأما الذين في قلوبهم زيغالقول في تأويل قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ يعني بذلك جل ثناؤه : فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق , وانحراف عنه . يقال منه : زاغ فلان عن الحق , فهو يزيغ عنه زيغا وزيغانا وزيوغة وزيوغا , وأزاغه الله : إذا أماله , فهو يزيغه , ومنه قوله جل ثناؤه : ربنا لا تزغ قلوبنا لا تملها عن الحق بعد إذ هديتنا 3 8 وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 5178 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , قال : ثني ابن إسحاق , عن محمد بن جعفر بن الزبير : فأما الذين في قلوبهم زيغ أي ميل عن الهدى . 5179 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله : في قلوبهم زيغ قال : شك . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله . 5180 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : فأما الذين في قلوبهم زيغ قال : من أهل الشك . 5181 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك , وعن أبي صالح , عن ابن عباس , وعن مرة الهمداني , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فأما الذين في قلوبهم زيغ أما الزيغ : فالشك . 5182 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد , قال : زيغ شك . قال ابن جريج الذين في قلوبهم زيغ المنافقون .فيتبعون ما تشابه منهالقول في تأويل قوله تعالى : فيتبعون ما تشابه منه يعني بقوله جل ثناؤه : فيتبعون ما تشابه منه ما تشابهت ألفاظه وتصرفت معانيه بوجوه التأويلات , ليحققوا بادعائهم الأباطيل من التأويلات في ذلك ما هم عليه من الضلالة والزيغ عن محجة الحق تلبيسا منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه . كما : 5183 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس : فيتبعون ما تشابه منه فيحملون المحكم على المتشابه , والمتشابه على المحكم , ويلبسون , فلبس الله عليهم . 5184 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن محمد بن جعفر بن الزبير : فيتبعون ما تشابه منه أي ما تحرف منه وتصرف , ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا , ليكون لهم حجة على ما قالوا وشبهة . 5185 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد في قوله : فيتبعون ما تشابه منه قال : الباب الذي ضلوا منه وهلكوا فيه ابتغاء تأويله . وقال آخرون في ذلك بما : 5186 - حدثني به موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي في قوله : فيتبعون ما تشابه منه يتبعون المنسوخ والناسخ , فيقولون : ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا مجاز هذه الآية , فتركت الأولى وعمل بهذه الأخرى ؟ هلا كان العمل بهذه الآية قبل أن تجيء الأولى التي نسخت . وما باله يعد العذاب من عمل عملا يعد به النار وفي مكان آخر من عمله فإنه لم يوجب النار . واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية , فقال بعضهم : عني به الوفد من نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم , فحاجوه بما حاجوه به , وخاصموه بأن قالوا : ألست تزعم أن عيسى روح الله وكلمته ؟ وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر . ذكر من قال ذلك : 5187 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع , قال : عمدوا - يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى نجران - فخاصموا النبي صلى الله عليه وسلم , قالوا : ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ قال : " بلى " , قالوا : فحسبنا ! فأنزل الله عز وجل : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة ثم إن الله جل ثناؤه أنزل : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم . .. الآية . 3 59 وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية في أبي ياسر بن أخطب , وأخيه حيي بن أخطب , والنفر الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدر مدة أكله وأكل أمته , وأرادوا علم ذلك من قبل قوله : الم , والمص والمر , والر فقال الله جل ثناؤه فيهم : فأما الذين في قلوبهم زيغ يعني هؤلاء اليهود الذين قلوبهم مائلة عن الهدى والحق , فيتبعون ما تشابه منه يعني معاني هذه الحروف المقطعة المحتملة التصريف في الوجوه المختلفة التأويلات ابتغاء الفتنة . وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى قبل في أول السورة التي تذكر فيها البقرة . وقال آخرون : بل عنى الله عز وجل بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفة لما ابتعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المحتملة التأويلات , وإن كان الله قد أحكم بيان ذلك , أما في كتابه وإما على لسان رسوله . ذكر من قال ذلك : 5188 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة . وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية : فأما الذين في قلوبهم زيغ قال : إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري من هم . ولعمري لقد كان في أهل بدر والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان من المهاجرين والأنصار , خبر لمن استخبر , وعبرة لمن استعبر , لمن كان يعقل أو يبصر . إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ كثير بالمدينة والشام والعراق وأزواجه يومئذ أحياء , والله إن خرج منهم ذكر ولا أنثى حروريا قط , ولا رضوا الذي هم عليه ولا مالئوهم فيه , بل كانوا يحدثون بعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه ونعته الذي نعتهم به , وكانوا يبغضونهم بقلوبهم ويعادونهم بألسنتهم وتشتد والله عليهم أيديهم إذا لقوهم . ولعمري لو كان أمر الخوارج هدى لاجتمع , ولكنه كان ضلالا فتفرق , وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافا كثيرا , فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويل , فهل أفلحوا فيه يوما أو أنجحوا ؟ يا سبحان الله كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأولهم ؟ لو كانوا على هدى قد أظهره الله وأفلجه ونصره , ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه , فهم كما رأيتهم كلما خرج لهم قرن أدحض الله حجتهم , وأكذب أحدوثتهم , وأهرق دماءهم ; وإن كتموا كان قرحا في قلوبهم وغما عليهم , وإن أظهروه أهرق الله دماءهم , ذاكم والله دين سوء فاجتنبوه . والله إن اليهود لبدعة , وإن النصرانية لبدعة , وإن الحرورية لبدعة , وإن السبئية لبدعة , ما نزل بهن كتاب ولا سنهن نبي . * - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله طلب القوم التأويل فأخطئوا التأويل , وأصابوا الفتنة , فاتبعوا ما تشابه منه فهلكوا من ذلك . لعمري لقد كان في أصحاب بدر والحديبية الذين شهدوا بيعة الرضوان . وذكر نحو حديث عبد الرزاق , عن معمر , عنه . 5189 - حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم , قالا : ثنا إسماعيل بن علية , عن أيوب , عن عبد الله بن أبي مليكة , عن عائشة قالت : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو الذي أنزل عليك الكتاب إلى قوله : وما يذكر إلا أولوا الألباب فقال : " فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم " . * - حدثنا ابن عبد الأعلى , قال : ثنا المعتمر بن سليمان , قال : سمعت أيوب , عن عبد الله بن أبي مليكة , عن عائشة أنها قالت : قرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : هو الذي أنزل عليك الكتاب إلى : وما يذكر إلا أولوا الألباب . قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه " أو قال : ويتجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم قال مطر , عن أيوب أنه قال : " فلا تجالسوهم , فهم الذين عنى الله فاحذروهم " . * - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا عبد الوهاب , قال : ثنا أيوب , عن ابن أبي مليكة , عن عائشة , عن النبي صلى الله عليه وسلم , بنحو معناه . * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن أيوب , عن ابن أبي مليكة , عن عائشة , عن النبي صلى الله عليه وسلم , نحوه . 5190 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : أخبرنا الحارث , عن أيوب , عن ابن أبي مليكة عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : قرأ رسول الله هذه الآية : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . .. الآية كلها , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه والذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله أولئك الذين قال الله : فلا تجالسوهم " . 5191 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبو أسامة , عن يزيد بن إبراهيم , عن ابن أبي مليكة , قال : سمعت القاسم بن محمد يحدث عن عائشة , قالت : تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ثم قرأ إلى آخر الآيات , فقال : " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه , فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " . 5192 - حدثنا علي بن سهل , قال : ثنا الوليد بن مسلم , عن حماد بن سلمة , عن عبد الرحمن بن القاسم , عن أبيه , عن عائشة , قالت : نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم : يتبعون ما تشابه منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد حذركم الله , فإذا رأيتموهم فاعرفوهم " . 5193 - حدثنا علي , قال : ثنا الوليد , عن نافع , عن عمر , عن عائشة , قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيتموهم فاحذروهم ! " , ثم نزع : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه " ولا يعلمون بمحكمه " . * - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب , قال : أخبرنا عمي , قال : أخبرني شبيب بن سعيد , عن روح بن القاسم , عن ابن أبي مليكة , عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم فقال : " فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم " . * - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم , قال : ثنا خالد بن نزار , عن نافع , عن ابن أبي مليكة , عن عائشة في هذه الآية : هو الذي أنزل عليك الكتاب . .. الآية . يتبعها : يتلوها , ثم يقول : " فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فاحذروهم فهم الذين عنى الله " . * - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا يزيد بن هارون , عن حماد بن سلمة , عن ابن أبي مليكة , عن القاسم , عن عائشة , عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب إلى آخر الآية , قال : " هم الذين سماهم الله , فإذا رأيتموهم فاحذروهم " . قال أبو جعفر : والذي يدل عليه ظاهر هذه الآية أنها نزلت في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتشابه ما أنزل إليه من كتاب الله إما في أمر عيسى , وإما في مدة أكله وأكل أمته , وهو بأن تكون في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتشابهه في مدته ومدة أمته أشبه , لأن قوله : وما يعلم تأويله إلا الله دال على أن ذلك إخبار عن المدة التي أرادوا علمها من قبل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله . فأما أمر عيسى وأسبابه , فقد أعلم الله ذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته وبينه لهم , فمعلوم أنه لم يعن إلا ما كان خفيا عن الآحاد .ابتغاء الفتنةالقول في تأويل قوله تعالى : ابتغاء الفتنة اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك , فقال بعضهم : معنى ذلك : ابتغاء الشرك . ذكر من قال ذلك : 5194 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي : ابتغاء الفتنة قال : إرادة الشرك . 5195 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله : ابتغاء الفتنة يعني الشرك . وقال آخرون : معنى ذلك ابتغاء الشبهات . ذكر من قال ذلك : 5196 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : ابتغاء الفتنة قال : الشبهات بها أهلكوا . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قوله : ابتغاء الفتنة الشبهات , قال : هلكوا به . * - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثنا حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد : ابتغاء الفتنة قال : الشبهات , قال : والشبهات ما أهلكوا به . 5197 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن محمد بن جعفر بن الزبير : ابتغاء الفتنة أي اللبس . وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : إرادة الشبهات واللبس . فمعنى الكلام إذا : فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق وحيف عنه , فيتبعون من آي الكتاب ما تشابهت ألفاظه , واحتمل صرفه في وجوه التأويلات , باحتماله المعاني المختلفة إرادة اللبس على نفسه وعلى غيره , احتجاجا به على باطله الذي مال إليه قلبه دون الحق الذي أبانه الله فأوضحه بالمحكمات من آي كتابه . وهذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من أهل الشرك , فإنه معني بها كل مبتدع في دين الله بدعة , فمال قلبه إليها , تأويلا منه لبعض متشابه آي القرآن , ثم حاج به وجادل به أهل الحق , وعدل عن الواضح من أدلة آيه المحكمات إرادة منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين , وطلبا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك كائنا من كان , وأي أصناف البدعة كان من أهل النصرانية كان أو اليهودية أو المجوسية , أو كان سبئيا , أو حروريا , أو قدريا , أو جهميا , كالذي قال صلى الله عليه وسلم : " فإذا رأيتم الذين يجادلون به فهم الذين عنى الله فاحذروهم " . وكما : 5198 - حدثني يونس , قال : أخبرنا سفيان , عن معمر , عن ابن طاوس , عن أبيه , عن ابن عباس : وذكر عنده الخوارج , وما يلقون عند الفرار , فقال : يؤمنون بمحكمه , ويهلكون عند متشابهه . وقرأ ابن عباس : وما يعلم تأويله إلا الله . .. الآية . وإنما قلنا : القول الذي ذكرنا أنه أولى التأويلين بقوله : ابتغاء الفتنة لأن الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا أهل شرك , وإنما أرادوا بطلب تأويل ما طلبوا تأويله اللبس على المسلمين والاحتجاج به عليهم ليصدوهم عما هم عليه من الحق , فلا معنى لأن يقال : فعلوا ذلك إرادة الشرك , وهم قد كانوا مشركين .وابتغاء تأويلهالقول في تأويل قوله تعالى : وابتغاء تأويله اختلف أهل التأويل في معنى التأويل الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله : وابتغاء تأويله فقال بعضهم معنى ذلك : الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من انقضاء مدة أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر أمته من قبل الحروف المقطعة من حساب الجمل " الم " , و " المص " , و " الر " , و " المر " وما أشبه ذلك من الآجال . ذكر من قال ذلك : 5199 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس : أما قوله : وما يعلم تأويله إلا الله يعني تأويله يوم القيامة إلا الله . وقال آخرون : بل معنى ذلك . عواقب القرآن . وقالوا : إنما أرادوا أن يعلموا متى يجيء ناسخ الأحكام التي كان الله جل ثناؤه شرعها لأهل الإسلام قبل مجيئه , فنسخ ما قد كان شرعه قبل ذلك . ذكر من قال ذلك : 5200 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : وابتغاء تأويله أرادوا أن يعلموا تأويل القرآن , وهو عواقبه , قال الله : وما يعلم تأويله إلا الله , وتأويله عواقبه , متى يأتي الناسخ منه فينسخ المنسوخ . وقال آخرون : معنى ذلك : وابتغاء تأويل ما تشابه من آي القرآن يتأولونه - إذ كان ذا وجوه وتصاريف في التأويلات - على ما في قلوبهم من الزيغ , وما ركبوه من الضلالة . ذكر من قال ذلك : 5201 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن محمد بن جعفر بن الزبير : وابتغاء تأويله وذلك على ما ركبوا من الضلالة في قولهم , خلقنا وقضينا . والقول الذي قاله ابن عباس من أن ابتغاء التأويل الذي طلبه القوم من المتشابه هو معرفة انقضاء المدة , ووقت قيام الساعة , والذي ذكرنا عن السدي من أنهم طلبوا وأرادوا معرفة وقت هو جاء قبل مجيئه أولى بالصواب , وإن كان السدي قد أغفل معنى ذلك من وجه صرفه إلى حصره على أن معناه : إن القوم طلبوا معرفة وقت مجيء الناسخ لما قد أحكم قبل ذلك . وإنما قلنا : إن طلب القوم معرفة الوقت الذي هو جاء قبل مجيئه المحجوب علمه عنهم وعن غيرهم بمتشابه آي القرآن , أولى بتأويل قوله : وابتغاء تأويله لما قد دللنا عليه قبل من إخبار الله جل ثناؤه أن ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله , ولا شك أن معنى قوله : " قضينا " و " فعلنا " , قد علم تأويله كثير من جهلة أهل الشرك , فضلا عن أهل الإيمان وأهل الرسوخ في العلم منهم .وما يعلم تأويله إلا اللهالقول في تأويل قوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله يعني جل ثناؤه بذلك : وما يعلم وقت قيام الساعة وانقضاء مدة أكل محمد وأمته وما هو كائن , إلا الله , دون من سواه من البشر الذين أملوا إدراك علم ذلك من قبل الحساب والتنجيم والكهانة . وأما الراسخون في العلم , فيقولون : آمنا به كل من عند ربنا , لا يعلمون ذلك , ولكن فضل علمهم في ذلك على غيرهم العلم بأن الله هو العالم بذلك دون من سواه من خلقه . واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك , وهل الراسخون معطوف على اسم الله , بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه , أو هم مستأنف ذكرهم بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون آمنا بالمتشابه , وصدقنا أن علم ذلك لا يعلمه إلا الله ؟ فقال بعضهم : معنى ذلك : وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفردا بعلمه . وأما الراسخون في العلم فإنهم ابتدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون : آمنا بالمتشابه والمحكم , وأن جميع ذلك من عند الله . ذكر من قال ذلك : 5202 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم , قال : ثنا خالد بن نزار , عن نافع , عن ابن أبي مليكة , عن عائشة , قوله : والراسخون في العلم يقولون آمنا به قالت : كان من رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه , ولم يعلموا تأويله . 5203 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن ابن طاوس , عن أبيه , قال : كان ابن عباس يقول : وما يعلم تأويله إلا الله يقول الراسخون : آمنا به . 5204 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : أخبرني ابن أبي الزناد , قال : قال هشام بن عروة : كان أبي يقول في هذه الآية : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله , ولكنهم يقولون : آمنا به كل من عند ربنا 5205 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا يحيى بن واضح , قال : ثنا عبيد الله , عن أبي نهيك الأسدي قوله : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم فيقول : إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا . 5206 - حدثنا المثنى , قال : ثنا ابن دكين , قال : ثنا عمرو بن عثمان بن عبد الله بن موهب , قال : سمعت عمر بن عبد العزيز يقول : الراسخون في العلم انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا : آمنا به كل من عند ربنا 5207 - حدثني يونس , قال : أخبرنا أشهب , عن مالك في قوله : وما يعلم تأويله إلا الله قال : ثم ابتدأ فقال : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وليس يعلمون تأويله . وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم , وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ذكر من قال ذلك : 5208 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , عن ابن عباس أنه قال : أنا ممن يعلم تأويله . 5209 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد . والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به . حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به . 5210 - حدثت عن عمار بن الحسن , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به . 5211 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن محمد بن جعفر بن الزبير : وما يعلم تأويله الذي أراد ما أراد إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به . ( فكيف يختلف وهو قول واحد من رب واحد ؟ ) ثم ردوا تأويل المتشابهة على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد , فاتسق بقولهم الكتاب , وصدق بعضه بعضا , فنفذت به الحجة , وظهر به العذر , وزاح به الباطل , ودمغ به الكفر . فمن قال القول الأول في ذلك , وقال : إن الراسخين لا يعلمون تأويل ذلك , وإنما أخبر الله عنهم بإيمانهم وتصديقهم بأنه من عند الله , فإنه يرفع " الراسخين في العلم " بالابتداء في قول البصريين , ويجعل خبره " يقولون آمنا به " . وأما في قول بعض الكوفيين فبالعائد من ذكرهم في " يقولون " , وفي قول بعضهم بجملة الخبر عنهم , وهي ويقولون " . ومن قال القول الثاني , وزعم أن الراسخين يعلمون تأويله عطف بالراسخين على اسم الله فرفعهم بالعطف عليه . والصواب عندنا في ذلك , أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو " يقولون " , لما قد بينا قبل من أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية , وهو فيما بلغني مع ذلك في قراءة أبي : " ويقول الراسخون في العلم " كما ذكرناه عن ابن عباس أنه كان يقرؤه ; وفي قراءة عبد الله : إن تأويله إلا عند الله " والراسخون في العلم يقولون " . وأما معنى التأويل في كلام العرب : فإنه التفسير والمرجع والمصير , وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى : على أنها كانت تأول حبها تأول ربعي السقاب فأصحبا وأصله من آل الشيء إلى كذا , إذا صار إليه ورجع يئول أولا وأولته أنا : صيرته إليه . وقد قيل : إن قوله : وأحسن تأويلا 4 59 أي جزاء , وذلك أن الجزاء هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه . ويعني بقوله : وتأول حبها " : تفسير حبها ومرجعه , وإنما يريد بذلك أن حبها كان صغيرا في قلبه , فآل من الصغر إلى العظم , فلم يزل ينبت حتى أصحب فصار قديما كالسقب الصغير الذي لم يزل يشب حتى أصحب فصار كبيرا مثل أمه . وقد ينشد هذا البيت : على أنها كانت توابع حبها توالى ربعي السقاب فأصحباوالراسخون في العلم يقولون آمنا بهالقول في تأويل قوله تعالى : والراسخون في العلم يقولون آمنا به يعني بالراسخين في العلم : العلماء الذين قد أتقنوا علمهم ووعوه فحفظوه حفظا لا يدخلهم في معرفتهم وعلمهم بما علموه شك ولا لبس , وأصل ذلك من رسوخ الشيء في الشيء , وهو ثبوته وولوجه فيه , يقال منه : رسخ الإيمان في قلب فلان فهو يرسخ رسخا ورسوخا . وقد روي في نعتهم خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم , وهو ما : 5212 - حدثنا موسى بن سهل الرملي , قال : ثنا محمد بن عبد الله , قال : ثنا فياض بن محمد الرقي , قال : ثنا عبد الله بن يزيد بن آدم , عن أبي الدرداء وأبي أمامة , قالا : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الراسخ في العلم ؟ قال : " من برت يمينه , وصدق لسانه , واستقام له قلبا , وعف بطنه , فذلك الراسخ في العلم " . 5213 - حدثني المثنى وأحمد بن الحسن الترمذي , قالا : ثنا نعيم بن حماد , قال : ثنا فياض الرقي , قال : ثنا عبد الله بن يزيد الأودي - قال : وكان أدرك أصحاب رسول الله - قال : حدثنا أنس بن مالك وأبو أمامة وأبو الدرداء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم , فقال : " من برت يمينه , وصدق لسانه , واستقام به قلبه , وعف بطنه وفرجه ; فذلك الراسخ في العلم " . وقد قال جماعة من أهل التأويل : إنما سمى الله عز وجل هؤلاء القوم الراسخين في العلم بقولهم : آمنا به كل من عند ربنا . ذكر من قال ذلك : 5214 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن سفيان , عن جابر , عن مجاهد , عن ابن عباس , قال : الراسخون في العلم يقولون آمنا به قال : الراسخون الذين يقولون آمنا به كل من عند ربنا . 5215 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : والراسخون في العلم هم المؤمنون , فإنهم يقولون آمنا به بناسخه ومنسوخه كل من عند ربنا 5216 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : ثني حجاج , قال : قال ابن جريج : قال ابن عباس : قال عبد الله بن سلام : الراسخون في العلم وعلمهم قولهم . قال ابن جريج : الراسخون في العلم يقولون آمنا به وهم الذين يقولون : ربنا لا تزغ قلوبنا ويقولون : ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه . .. الآية . وأما تأويل قوله : يقولون آمنا به فإنه يعني : أن الراسخين في العلم يقولون صدقنا بما تشابه من آي الكتاب , وأنه حق , وإن لم نعلم تأويله . وقد : 5217 - حدثني أحمد بن حازم , قال : ثنا أبو نعيم , قال : ثنا سلمة بن نبيط , عن الضحاك : والراسخون في العلم يقولون آمنا به قال : المحكم والمتشابه .كل من عند ربناالقول في تأويل قوله تعالى : كل من عند ربنا يعني بقوله جل ثناؤه : كل من عند ربنا كل المحكم من الكتاب والمتشابه منه من عند ربنا , وهو تنزيله ووحيه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كما : 5218 - حدثنا ابن وكيع , قال : ثنا أبي , عن سفيان , عن جابر , عن مجاهد , عن ابن عباس في قوله : كل من عند ربنا قال : يعني ما نسخ منه , وما لم ينسخ . 5219 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم قالوا : كل من عند ربنا آمنوا بمتشابهه , وعملوا بمحكمه . 5220 - حدثت عن عمار بن الحسن , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله : كل من عند ربنا يقولون : المحكم والمتشابه من عند ربنا . 5221 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا يؤمن بالمحكم ويدين به , ويؤمن بالمتشابه ولا يدين به , وهو من عند الله كله . 5222 - حدثنا يحيى بن أبي طالب , قال : ثنا يزيد , قال : أخبرنا جويبر , عن الضحاك في قوله : والراسخون في العلم يعملون به , يقولون : نعمل بالمحكم ونؤمن به , ونؤمن بالمتشابه ولا نعمل به , وكل من عند ربنا . واختلف أهل العربية في حكم " كل " إذا أضمر فيها . فقال بعض نحويي البصريين : إذا جاز حذف المراد الذي كان معها الذي " الكل " إليه مضاف في هذا الموضع لأنها اسم , كما قال : إنا كل فيها 40 48 بمعنى : إنا كلنا فيها , قال : ولا يكون " كل " مضمرا فيها وهي صفة , لا يقال : مررت بالقوم كل , وإنما يكون فيها مضمر إذا جعلتها اسما لو كان إنا كلا فيها على الصفة , لم يجز , لأن الإضمار فيها ضعيف لا يتمكن في كل مكان . وكان بعض نحويي الكوفيين يرى الإضمار فيها وهي صفة أو اسم سواء , لأنه غير جائز أن يحذف ما بعدها عنده إلا وهي كافية بنفسها عما كانت تضاف إليه من المضمر , وغير جائز أن تكون كافية منه في حال , ولا تكون كافية في أخرى , وقال : سبيل الكل والبعض في الدلالة على ما بعدهما بأنفسهما وكفايتهما منه , بمعنى واحد في كل حال , صفة كانت أو اسما , وهذا القول الثاني أولى بالقياس , لأنها إذا كانت كافية بنفسها مما حذف منها في حال لدلالتها عليه , فالحكم فيها أنها كلما وجدت دالة على ما بعدها , فهي كافية منه .وما يذكر إلا أولو الألبابالقول في تأويل قوله تعالى : وما يذكر إلا أولوا الألباب يعني بذلك جل ثناؤه : وما يتذكر ويتعظ وينزجر عن أن يقول في متشابه آي كتاب الله ما لا علم له به إلا أولو العقول والنهى . وقد : 5223 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن محمد بن جعفر بن الزبير : وما يذكر إلا أولوا الألباب يقول : وما يتذكر في مثل هذا , يعني في رد تأويل المتشابه إلى ما قد عرف من تأويل المحكم حتى يتسقا على معنى واحد , إلا أولو الألباب .

استئناف ثالث بإخبار عن شأن من شؤون الله تعالى ، متعلّق بالغرض المسوق له الكلام : وهو تحقيق إنزاله القرآنَ والكتابيننِ من قبله ، فهذا الاستئناف مؤكّد لمضمون قوله : { نزل عليك الكتاب بالحق } [ آل عمران : 3 ] هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات } وتمهيد لقوله : { منه آيات محكمات } لأنّ الآيات نزلت في مجادلة وفد نجران ، وصُدّرت بإبطال عقيدتهم في إلاهية المسيح : تالإشارة إلى أوصاف الإله الحقّة ، تَوَجَّه الكلام هنا إلى إزالة شبهتهم في شأن زعمهم اعترافَ نصوص القرآن بإلهية المسيح؛ إذ وُصف فيها بأنّه روح الله؛ وأنّه يُحي الموتى وأنّه كلمة الله ، وغير ذلك فنودي عليهم بأن ما تعلّقوا به تعلّق اشتباه وسوء بأويل .وفي قوله : { هو الذي أنزل الكتاب } قصر صفة إنزال القرآن على الله تعالى : لتكون الجملة ، مع كونها تأكيداً وتمهيداً ، إبطالاً أيضاً لقول المشركين : { إنّما يعلّمه بَشَر } [ النحل : 103 ] وقولهم : { أساطير الأوّلين اكتَتبها فهي تُمْلَى عليه بُكْرَةً وأصيلا } [ الفرقان : 5 ] . وكقوله : { وما تنزلت به الشياطين وما ينبغِي لهم وما يستطيعون إنّهم عن السمع لمعزولون } [ الشعراء : 210 212 ] ذلك أنّهم قالوا : هو قول كاهن ، وقول شاعر ، واعتقدوا أنّ أقوال الكهّان وأقوال الشعراء من إملاء الأرْئِياء ( جمعَ رئي ) .ومن بدائع البلاغة أن ذكر في القصر فعل أنزل ، الذي هو مختصّ بالله تعالى ولو بدون صيغة القصر ، إذ الإنزال يرادف الوحي ولا يكون إلاّ من الله بخلاف ما لو قال هو الذي آتاك الكتاب .وضمير { منه } عائد إلى القرآن . و«منه» خبر مقدم و { آيات محكمات } مبتدأ .والإحكام في الأصل المنع ، قال جرير: ... أبني حنيفة أحْكِموا سُفَهَاءَكمإنّي أخاف عليكُم أنْ أغضبَا ... واستعمل الإحكام في الإتقان والتوثيق؛ لأنّ ذلك يمنع تطرّق ما يضادّ المقصود ، ولذا سمّيت الحِكْمة حكْمَة ، وهو حقيقة أو مجاز مشهور .أطلق المحكم في هذه الآية على واضح الدلالة على سبيل الاستعارة لأنّ في وضوح الدلالة ، منعاً لتطرّق الاحتمالات الموجبة للتردّد في المراد .وأطلق التشابه هنا على خفاء الدلالة على المعنى ، على طريقة الاستعارة لأنّ تطرّق الاحتمال في معاني الكلام يفضي إلى عدم تعيّن أحد الاحتمالات ، وذلك مثل تشابُه الذوات في عدم تمييز بعضها عن بعض .وقوله : { أم الكتاب } أمّ الشيء أصله وما ينضمّ إليه كثيره وتتفرّع عنه فروعه ، ومنه سمّيت خريطة الرأس ، الجامعة له : أمّ الرأس وهي الدمَاغ ، وسمّيت الراية الأمّ لأنّ الجيْش ينضوي إليها ، وسمّيت المدينة العظيمة أمّ القرى ، وأصل ذلك أنّ الأمّ حقيقة في الوالدة ، وهي أصل للمولود وجامع للأولاد في الحضانة ، فباعتبار هذين المعنيين ، أطلق اسم الأمّ على ما ذكرنا ، على وجه التشبيه البليغ . ثم شاع ذلك الإطلاق حتى ساوى الحقيقة ، وتقدّم ذلك في تسمية الفاتحة أمّ القرآن .والكتاب : القرآن لا محالة؛ لأنّه المتحدّث عنه بقوله : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } فليس قوله : { أم الكتاب } هنا بمثللِ قوله : { وعنده أم الكتاب } [ الرعد : 39 ] .وقوله : { وأُخر متشابهات } المتشابهات المتماثلات ، والتماثل يكون في صفات كثيرة فيبين بما يدل على وجه التماثل ، وقد يترك بيانه إذا كان وجه التماثل ظاهراً ، كما في قوله تعالى : { إن البقر تشابه علينا } [ البقرة : 70 ] ولم يذكر في هذه الآية جهة التشابه .وقد أشارت الآية : إلى أنّ آيات القرآن صنفان : محكمات وأضدادها ، التي سميت متشابهات ، ثم بيّن أنّ المحكمات هي أمّ الكتاب ، فعلمنا أنّ المتشابهات هي أضداد المحكمات ، ثم أعقب ذلك بقوله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } [ آل عمران : 7 ] أي تأويله الذي لا قبل لأمثالهم به فعلمنا أنّ المتشابهات هي التي لم يتّضح المقصود من معانيها ، فعلمنا أنّ صفة المحكمات ، والمتشابهات ، راجعة إلى ألفاظ الآيات .ووصف المحكمات بأنّها أمُّ الكتاب فاحتمل أن يكون المراد من الأمّ الأصل ، أو المرجع ، وهما متقاربان : أي هنّ أصل القرآن أو مرجعه ، وليس يناسب هذين المعنيين إلاّ دلالةُ القرآن؛ إذ القرآن أنزل للإرشاد والهدي ، فالمحكمات هي أصول الاعتقاد والتشريع والآداب والمواعظ ، وكانت أصولاً لذلك : باتّضاح دلالتها ، بحيث تدل على معاننٍ لا تحتمل غيرها أو تحتمله احتمالاً ضعيفاً غير معتدَ به ، وذلك كقوله : { ليس كمثله شي } [ الشورة : 11 ] { لا يُسأل عمّا يفعل } [ الأنبياء : 23 ] { يريد اللَّه بكم اليسر } [ البقرة : 185 ] { واللَّه لا يحبّ الفساد } [ البقرة : 205 ] { وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإنّ الجنة هي المأوى } [ النازعات : 40 ] . وباتّضاح معانيها بحيث تتناولها أفهام معظم المخاطبين بها وتتأهّل لفهمها فهي أصل القرآن المرجوعُ إليه في حمل معاني غيرها عليها للبيان أو التفريع .والمتشابهات مقابل المحكمات ، فهي التي دلّت على معاننٍ تشابهت في أن يكون كلُّ منها هو المرادَ . ومعنى تشابهها : أنّها تشابهت في صحة القصد إليها ، أي لم يكن بعضها أرجح من بعض . أو يكون معناها صادقاً بصور كثيرة متناقضة أو غير مناسبة لأن تكون مراداً ، فلا يتبيّن الغرض منها ، فهذا وجه تفسير الآية فيما أرى .وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين المقصود من المحكمات والمتشابهات على أقوال : مرجعها إلى تعيين مقدار الوضوح والخفاء ، فعن ابن عباس : أنّ المحكم ما لا تختلف فيه الشرائع كتوحيد الله تعالى ، وتحريم الفواحش ، وذلك ما تضمنته الآيات الثلاث من أواخر سورة [ الأنعام : 151 ] : { قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم } والآيات من سورة [ الإسراء : 23 ] : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } وأن المتشابه المجملات التي لم تبيّن كحروف أوائل السور .وعن ابن مسعود ، وابن عباس أيضاً : أنّ المحكم ما لم ينسخ والمتشابه المنسوخ وهذا بعيد عن أن يكون مراداً هنا لعدم مناسبتِه للوصفين ولا لبقية الآية .وعن الأصم : المحكم ما اتّضح دليلُه ، والمتشابه ما يحتاج إلى التدبّر ، وذلك كقوله تعالى : { والذي نزّل من السماء ما ء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتاً كذلك تخرجون } [ الزخرف : 11 ] فأولها محكم وآخرها متشابه .وللجمهور مذهبان : أولهما أنّ المحكم ما اتّضحت دلالته ، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه ، ونسب هذا القول لمالك ، في رواية أشهب ، من جامع العتبيَّة ، ونسبه الخفاجي إلى الحنفية وإليه مال الشاطبي في الموافقات .وثانيهما أنّ المحكم الواضح الدلالة ، والمتشابه الخفيُها ، وإليه مال الفخر : فالنص والظاهر هنا المحكم ، لاتّضاح دلالتهما ، وإن كان أحدهما أي الظاهر يتطرّقه احتمال ضعيف ، والمجمل والمؤوّل هما المتشابه ، لاشتراكهما في خفاء الدلالة وإن كان أحدهما : أي المؤول دالاً على معنى مرجوح ، يقابله معنى راجح ، والمجمل دالاً على معنى مرجوح يقابله مرجوح آخر ، ونسبت هذه الطريقة إلى الشافعية .قال الشاطبي : فالتشابه : حقيقي ، وإضافي ، فالحقيقي : ما لا سبيل إلى فهم معناه ، وهو المراد من الآية ، والإضافي : ما اشتبه معناه ، لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر . فإذا تقصّى المجتهد أدلّة الشريعة وجد فيها ما يبيّن معناه ، والتشابه بالمعنى الحقيقي قليل جدّاً في الشريعة وبالمعنى الإضافي كثير .وقد دل هذه الآية على أنّ من القرآن محكماً ومتشابهاً ، ودلت آيات أخر على أنّ القرآن كلَّه محكم ، قال تعالى : { كتاب أحكمت آياته } [ هود : 1 ] وقال : { تلك آيات الكتاب الحكيم } [ يونس : 1 ] والمراد أنّه أحكم وأتقنَ في بلاغته ، كما دلت آيات على أنّ القرآن كلّه متشابه ، قال تعالى : { اللَّهُ نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً } [ الزمر : 23 ] والمعنى أنّه تشابه في الحسن والبلاغة والحقيّة ، وهو معنَى : «ولو كان من عند غير الله لوَجدوا فيه اختلافاً كثيراً» فلا تعارض بين هذه الآيات : لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها ، بحسب ما تقتضيه المقامات .وسبب وقوع المتشابهات في القرآن : هو كونه دعوة ، وموعظة ، وتعليماً ، وتشريعاً باقياً ، ومعجزة ، وخوطب به قوم لم يسبق لهم عهد بالتعليم والتشريع ، فجاء على أسلوب مناسب لِجمع هذه الأمور ، بحسب حال المخاطبين الذين لم يعتادوا الأساليب التدريسية ، أو الأمالي العلمية ، وإنّما كانت هجّيراهم الخطابة والمقاولة ، فأسلوب المواعظ والدعوةِ قريب من أسلوب الخطابة ، وهو لذلك لا يأتي على أساليب الكتب المؤلَّفة لِلعلم ، أو القوانين الموضوعة للتشريع ، فأودعت العلوم المقصود منه في تضاعيف الموعظة والدعوة ، وكذلك أودع فيه التشريع ، فلا تجد أحكام نوع من المعاملات ، كالبيع ، متّصلاً بعضها ببعض ، بل تلفيه موزّعاً على حسب ما اقتضته مقامات الموعظة والدعوة ، ليخفّ تلقّيه على السامعين ، ويعتادُوا علم ما لم يألفوه في أسلوب قد ألفوه فكانت متفرّقة يضمّ بعضها إلى بعض بالتدبّر . ثم إنّ إلقاء تلك الأحكام كان في زمان طويل ، يزيد على عشرين سنة ، ألقِي إليهم فيها من الأحكام بمقدار ما دعت إليه حاجتهم ، وتحمّلته مقدرتهم ، على أنّ بعض تشريعه أصول لا تتغيّر ، وبعضه فروع تختلف باختلاف أحوالهم ، فلذلك تجد بعضها عاماً ، أو مطلقاً ، أو مجملاً ، وبعضها خاصاً ، أو مقيداً ، أو مبيَّناً ، فإذا كان بعض المجتهدين يرى تخصيص عموم بعض عموماته بخصوص بعض الخصوصات مثلاً ، فلعلّ بعضاً منهم لا يتمسّك إلاّ بعمومه ، حينئذ ، كالذي يرى الخاص الوارد بعد العام ناسخاً ، فيحتاج إلى تعيين التاريخ ، ثم إنّ العلوم التي تعرّض لها القرآن هي من العلوم العليا : وهي علوم فيما بعد الطبيعة ، وعلوم مراتب النفوس ، وعلوم النظام العمراني ، والحكمة ، وعلوم الحقوق .وفي ضيق اللغة الموضوعة عن الإيفاء بغايات المرادات في هاته العلوم ، وقصور حالة استعداد أفهام عموم المخاطبين لها ، مَا أوجب تشابهاً في مدلولات الآيات الدالة عليها . وإعجازُ القرآن : منه إعجاز نظمي ومنه إعجاز علمي ، وهو فنّ جليل من الإعجاز بيّنته في المقدمة العاشرة من مقدّمات هذا التفسير . فلمّا تعرض القرآن إلى بعض دلائل الأكوان وخصائصها ، فيما تعرّض إليه ، جاء به محكياً بعبارة تصلح لحكاية حالته على ما هو في نفس الأمر ، وربّما كان إدراك كنه حالته في نفس الأمر مجهولاً لأقوام ، فيعدّون تلك الآي الدالة عليه من المتشابه فإذا جاء من بَعْدهم علموا أنّ ما عدّه الذين قبلهم متشابهاً ما هو إلاّ محكم .على أنّ من مقاصد القرآن أمرين آخرين :أحدَهما كونه شريعة دائمة ، وذلك يقتضي فتح أبواب عباراته لِمختلِف استنباط المستنبطين ، حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين ، وثانيهما تعويد حَمَلة هذه الشريعة ، وعلماء هذه الأمة ، بالتنقيب ، والبحث ، واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة ، حتى تكون طبقات علماء الأمة صالحة في كلّ زمان لفهم تشريع الشارع ومقصده من التشريع ، فيكونوا قادرين على استنباط الأحكام التشريعية ، ولو صيغ لهم التشريع في أسلوب سهل التناول لاعتادوا العكوف على ما بينَ أنظارهم في المطالعة الواحدة . من أجل هذا كانت صلوحية عباراته لاختلاف منازع المجتهدين ، قائمة مقام تلاحق المؤلّفين في تدوين كتب العلوم ، تبعاً لاختلاف مراتب العصور .فإذا علمت هذا علمت أصل السبب في وجود ما يسمّى بالمتشابه في القرآن . وبقي أن نذكر لك مراتب التشابه وتفاوت أسبابها . وأنّها فيما انتهى إليه استقراؤنا الآن عشر مراتب :أولاها : معاننٍ قُصِد إيداعها في القرآن ، وقُصد إجمالها : إمّا لعدم قابلية البشر لفهمها ، ولو في الجملة ، إن قلنا بوجود المجمل ، الذي استأثر الله بعلمه ، على ما سيأتي ، ونحن لا نختاره . وإمّا لعدم قابليتهم لكنه فهمها ، فألقيت إليهم على وجه الجملة أو لعدم قابلية بعضهم في عصر ، أو جهةٍ ، لفهمها بالكنة ومن هذا أحوال القيامة ، وبعضُ شؤون الربوبية كالإتيان في ظُلل من الغمام ، والرؤية ، والكلاممِ ، ونحو ذلك .وثانيتها : معاننٍ قصد إشعار المسلمين بها ، وتَعيّن إجمالها ، مع إمكان حملها على معاننٍ معلومةٍ لكن بتأويلات : كحُروف أوائل السور ، ونحوِ { الرحمانُ على العرش استوى } [ طه : 5 ]{ ثم استوى إلى السماء } [ البقرة : 29 ] .ثالثتها : معاننٍ عاليةً ضاقت عن إيفاء كنهها اللغةُ الموضوعةُ لأقصى ما هو متعارَف أهلها ، فعبّر عن تلك المعاني بأقصى ما يقرِّب معانيَها إلى الأفهام ، وهذا مثل أكثر صفات الله نحو الرحمان ، الرؤوف ، المتكبّر ، نورُ السموات والأرض .رابعتها : معاننٍ قَصُرت عنها الأفهام في بعض أحوال العصور ، وأودعت في القرآن ليكون وجودها معجزة قُرآنيَّة عند أهل العلم في عصور قد يضعف فيها إدراك الإعجاز النظمي ، نحو قوله : { والشمس تجري لمستقر لها } [ يس : 38 ] { وأرسلنا الرياح لواقح } [ الحجر : 22 ] { يكور الليل على النهار } [ الزمر : 5 ] { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب } [ النمل : 88 ] { تنبت بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] { زيتونة لا شرقية ولا غربية } [ النور : 35 ] { وكان عرشه على الماء } [ هود : 7 ] { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } [ فصلت : 11 ] وذكرِ سُدِّ يأجوج ومأجوج .خامستها : مَجازات وكنايات مستعملة في لغة العرب ، إلاّ أنّ ظاهرها أوهم معاني لا يليق الحمل عليها في جانب الله تعالى : لإشعارها بصفات تخالف كمال الإلهية ، وتوقّف فريق في محملها تنزيهاً ، نحو : { فإنّك بأعيننا } [ الطور : 48 ] { والسماء بنيناها بأيدٍ } [ الذاريات : 47 ] { ويبقى وجه ربّك } [ الرحمن : 27 ] .وسادستها : ألفاظ من لغات العرب لم تُعرف لدى الذين نزل القرآن بينهم : قريش والأنصار مثل : { وفاكهة وأبّا } [ عبس : 31 ] ومثل { أو يأخذهم على تخوف } [ النحل : 47 ] { إنّ إبراهيم لأوّاه حليم } [ التوبة : 114 ] { ولا طعامٌ إلاّ مِنْ غِسْلِينٍ } [ الحاقة : 36 ] .سابعتها : مصطلحات شرعية لم يكن للعرب علم بخصوصها ، فما اشتهر منها بين المسلمين معناه ، صار حقيقة عرفية : كالتيمّم ، والزكاة ، وما لم يشتهر بقي فيه إجمال : كالربا قال عمر : «نزلت آيات الربا فِي آخر ما أنزل فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبيّنها» وقد تقدم في سورة البقرة .ثامنتها : أساليب عربية خفيت على أقوام فظنّوا الكلام بها متشابهاً ، وهذا مثل زيادة الكاف في قوله تعالى : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] ومثل المشاكلة في قوله : { يخادعون اللَّه وهو خادعهم } [ النساء : 142 ] فيعلم السامع أنّ إسناد خادع إلى ضمير الجلالة إسناد بمعنى مجازي اقتضته المشاكلة .وتاسعتها : آيات جاءت على عادات العرب ، ففهمها المخاطبون ، وجاء مَن بعدهم فلم يفهموها ، فظنّوها من المتشابه ، مثل قوله : { فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أَنْ يَطَّوّفَ بهما } [ البقرة : 158 ] ، في «الموطأ» قال ابن الزبير : «قلت لعائشة وكنت يومئذ حدثاً لم أتفقّه لا أرى بأساً على أحدٍ ألاّ يطوف بالصفا والمروة» فقالت له : «ليس كما قلت إنّما كان الأنصار يهلون لمناةَ الطاغية» إلخ . ومنه : { عَلِم اللَّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم } [ البقرة : 187 ] { ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتّقوا وءامنوا } [ المائدة : 93 ] الآية فإنّ المراد فيما شربوا من الخمر قبل تحريمها .عاشرتها : أفهام ضعيفة عَدت كثيراً من المتشابه وما هو منه ، وذلك أفهام الباطنية ، وأفهام المشبِّهة ، كقوله تعالى : { يوم يكشف عن شاق } [ القلم : 42 ] .وليس من المتشابه ما صرّح فيه بأنّا لا نصل إلى علمه كقوله : { قل الروح من أمر ربي }[ الإسراء : 85 ] ولا ما صرّح فيه بجهل وقته كقوله : { لا تأتيكم إلاّ بغتة } [ الأعراف : 187 ] .وليس من المتشابه ما دلّ على معنى يعارض الحملَ عليه دليل آخر ، منفصل عنه؛ لأنّ ذلك يرجع إلى قاعدة الجمع بين الدليلين المتعارضين ، أو ترجيح أحدهما على الآخر ، مثل قوله تعالى خطاباً لإبليس : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } الآية في سورة [ الإسراء : 64 ] مع ما في الآيات المقتضية { فإنّ الله غني عنكم ولا يرضَى لعباده الكفر } [ الزمر : 7 ] إنه لا يحبّ الفساد .وقد علمتم من هذا أنّ مِلاك التشابه هو عدم التواطؤ بين المعاني واللغة : إمّا لضيقها عن المعاني ، وإمّا لضيق الأفهام عن استعمال اللغة في المعنى ، وإمّا لتناسي بعض اللغة ، فيتبيّن لك أنّ الإحكام والتشابه : صفتان للألفاظ ، باعتبار فهم المعاني .وإنّما أخبر عن ضمير آياتتٍ محكمات ، وهو ضمير جمع ، باسم مفرد ليس دالاً على أجزاءٍ وهو { أمّ } ، لأنّ المراد أنّ صنف الآيات المحكمات يتنزّل من الكتاببِ منزلة أمّه أي أصله ومرجِعه الذي يُرجّع إليه في فهم الكتاب ومقاصده . والمعنى : هنّ كأمِّ للكتاب . ويعلم منه أنّ كل آية من المحكمات أم للكتاب في ما تتضمّنه من المعنى . وهذا كقول النابغة يَذْكُر بني أسد: ... فَهُمْ دِرْعِي التِي استلأمْتُ فيهاأي مجموعهم كالدِّرع لي ، ويعلم منه أنّ كلّ أحد من بني أسد بمنزلة حلقة من حلق الدرع . ومن هذا المعنى قوله تعالى : { واجعلنا للمتقين إماما } [ الفرقان : 74 ] .والكلام على ( أخَر ) تقدّم عند قوله تعالى : { فعدة من أيام أخر } [ البقرة : 184 ] .{ ه4س3ش7ن14/ن26-->فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ ابتغآء الفتنة وابتغآء تَأْوِيلِهِ } .تفصيل لإجمال اقتضاه الكلام السابق؛ لأنّه لما قسّم الكتاب إلى محكم ومتشابه ، وكان ذلك التقسيم باعتبار دلالة الألفاظ على المعاني ، تشوّفت النفس إلى معرفة تلقّي الناس للمتشابه . أمّا المحكم فتلقّي الناس له على طريقة واحدة ، فلا حاجة إلى تفصيل فيه ، واقتصر في التفصيل على ذكر قسم من أقسامه : وهو حال الذين في قلوبهم زيغ كيف تلقّيهم للمتشابهات؛ لأنّ بيان هذا هو الأهمّ في الغرض المسوق له الكلام ، وهو كشف شبهة الذين غرّتهم المتشابهات ولم يهتدوا إلى حقّ تأويلها ، ويعرف حال قسيمهم وهم الذين لا زيغ في قلوبهم بطريق المقابلة ثم سيُصرّح بإجمال حال المهتدين في تلقّي ومتَشبهات القرآن .والقلوب محالُّ الإدراك ، وهي العقول ، وتقدّم ذلك عند قوله تعالى : { ومن يكتمها فإنّه آثم قلبه } في سورة [ البقرة : 283 ] .والزيغ : الميل والانحراف عن المقصود : { ما زاغ البصر } [ النجم : 17 ] ويقال : زاغت الشمس . فالزيغ أخصّ من الميل؛ لأنّه ميل عن الصواب والمقصودِ .والاتّباع هنا مجاز عن الملازمة والمعاودة ، أي يعكفون على الخوض في المتشابه ، يحصونه ، شبهت تلك الملازمة بملازمة التابع متبوعَهُ .وقد ذكر علة الاتّباع ، وهو طلب الفتنة ، وطَلبُ أن يؤوّلوه ، وليس طلبُ تأويله في ذاته بمذمّة ، بدليل قوله : { وما يعلم تأويله إلاّ اللَّهُ والراسخون في العلم } كما سنبيِّنه وإنّما محلّ الذم أنّهم يطلبون تأويلاً ليسوا أهلاً له فيؤوّلونه بما يُوافق أهواءهم .وهذا ديدن الملاحِدة وأهللِ الأهواء : الذين يتعمّدون حمل الناس على متابعتهم تكثيراً لسوادهم .ولما وَصَف أصحَاب هذا المقصد بالزيغ في قلوبهم ، علمنا أنّه ذمهم بذلك لهذا المقصد ، ولا شك أنّ كل اشتغال بالمتشابه إذا كان مفضياً إلى هذا المقصد يناله شيء من هذا الذم . فالذين اتّبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله المنافقون ، والزنادقة ، والمشركون مثال تأويل المشركين : قصةُ العاصي بن وائل من المشركين إذْ جاءه خباب بن الأرت من المسلمين يتقاضاه أجراً ، فقال العاصي متهكّما به «وإنِّي لمبعوثٌ بعد الموت أي حَسْب اعتقادكم فسوفَ أقضيك إذا رجعتُ إلى مال وولد» فالعاصي توهّم ، أو أراد الإيهام ، أنّ البعث بعد الموت رجوع إلى الدنيا ، أو أراد أن يوهم دهماء المشركين ذلك ليكون أدْعَى إلى تكذيب الخبر بالبعث ، بمشاهدة عدم رجوع أحد من الأموات ، ولذلك كانوا يقولون : { فأتُوا بآبائنا إن كُنتم صادقين } [ الدخان : 36 ] .ومثال تأويل الزنادقة : ما حكاه محمد بن علي بن رزام الطائي الكوفي قال : كنت بمكة حين كان الجَنَّابي زعيم القرامطة بمكة ، وهم يقتلون الحجاج ، ويقولون : أليس قد قال لكم محمد المكي «ومن دخله كان آمناً فأيُّ أمْن هنا؟» قال : فقلت له : هذا خرج في صورة الخبر ، والمراد به الأمرُ أي ومن دخله فأمِّنُوه ، كقوله : { والمطلقات يتربّصن } [ البقرة : 228 ] . والذين شابهوهم في ذلك كلّ قوم يجعلون البحث في المتشابه ديدنهم ، ويفضون بذلك إلى خلافات وتعصّبات . وكلّ من يتأوّل المتشابه على هواه ، بغير دليل على تأويله مستند إلى دليل واستعمال عربي .وقد فُهم أنّ المراد : التأويل بحسب الهوى ، أو التأويل المُلْقِي في الفتنة ، بقرينة قوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا اللَّه والراسخون في العلم يقولون ءامنّا به } الآية ، كما فهم من قوله : { فيتّبعون } أنّهم يهْتَمُّون بذلك ، ويستهترون به ، وهذا ملاك التفرقة بين حال من يتيع المتشابه للإيقاع في الشك والإلحاد ، وبين حال من يفسّر المتشابه ويؤوّله إذا دعاه داع إلى ذلك . وفي «البخاري» عن سعيد بن جُبير أنّ رجلاً قال لابن عباس : «إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ» قال : ما هو قال : «فلا أنسَابَ بينهم يومئذ ولا يتساءلون» وقال «وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون» وقال : «ولا يكتمون الله حديثاً» وقال : «قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين» قال ابن عباس : «فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى ثم النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون ، فأما قوله : { والله ربّنا ما كنّا مشركين } [ الأنعام : 23 ] فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون : تعالَوا نقلْ : «ما كنا مشركين ، فيختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم فعند ذلك لا يكتمون الله حديثاً» .وأخرج البخاري ، عن عائشة : قالت «تلا رسول الله هذه الآية إلى قوله : { أولوا الألباب } [ البقرة : 269 ] قالت قال رسول الله : » " فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم " . ويقصد من قوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } التعريض بنصارى نجران ، إذ ألزموا المسلمين بأنّ القرآن يشهد لكون الله ثالث ثلاثة بما يقع في القرآن من ضمير المتكلم ومعه غيره من نحو خلقنا وأمرنا وقضينا ، وزعموا أنّ ذلك الضمير له وعيسى ومريم ولا شك أنّ هذا إن صح عنهم هو تمويه؛ إذ من المعروف أنّ في ذلك الضمير طريقتين مشهورتين إما إرادة التشريك أو إرادة التعظيم فما أرادوا من استدلالهم هذا إلا التمويه على عامة الناس .{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } .جملة حال أي وهم لا قِبل لهم بتأويله؛ إذ ليس تأويله لأمثالهم ، كما قيل في المثل : «ليس بعشّك فادرجي» .ومن هنا أمسك السلف عن تأويل المتشابهات ، غير الراجعة إلى التشريع ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : «أيُّ أرضضٍ تُقِلّنِي وأيُّ سماء تُظِلُّنِي إن قلتُ في كتاب الله بما لا أعلم» . وجاء في زمن عمر رضي الله عنه رجل إلى المدينة من البصرة ، يقال له صَبِيغ بن شريك أو ابن عِسْل التميمي فجعل يسأل الناس عن متشابه القرآن ، وعن أشياء فأحضره عمر ، وضربه ضرباً موجعاً ، وكرّر ذلك أياماً ، فقال : «حسبُك يا أمير المؤمنين فقد ذهب ما كنتُ أجد في رأسي» ثم أرجعه إلى البصرة وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يمنع الناس من مخالطته . ومن السلف من تأوّل عند عروض الشبهة لبعض الناس ، كما فعل ابن عباس فيما ذكرناه آنفا .قال ابن العربي في «العواصم من القواصم» «من الكائدين للإسلام الباطنية والظاهرية» . قلت : أمَّا الباطنية فقد جعلوا معظم القرآن متشابهاً ، وتأوّلوه بحسب أهوائهم ، وأمّا الظاهريون فقد أكثروا في متشابهه ، واعتقدوا سبب التشابه واقعاً ، فالأوّلون دخلوا في قوله : { وابتغاء تأويله } ، والأخيرون خرجوا من قوله : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } أو وما يعلم تأويله إلا الله ، فخالفوا الخلف والسلف . قال ابن العربي «في العواصم» «وأصل الظاهريين الخوارج الذين قالوا : لا حُكْم إلاّ لله» يعني أنّهم أخذوا بظاهر قوله تعالى : { إننِ الحُكْمُ إلا لله } ولم يتأولوه بما هو المراد من الحكم .والمراد بالراسخين في العلم : الذين تمكّنوا في علم الكتاب ، ومعرفة محامله ، وقام عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله تعالى ، بحيث لا تروج عليهم الشبه . والرسوخ في كلام العرب : الثبات والتمكن في المكان ، يقال : رسخت القدم ترسخ رسوخاً إذا ثبتت عند المشي ولم تتزلزل ، واستعير الرسوخ لكمال العقل والعلم بحيث لا تضلّله الشبه ، ولا تتطرّقه الأخطاء غالباً ، وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت كالحقيقة .فالراسخون في العلم : الثابتون فيه العارفون بدقائقه ، فهم يحسنون مواقع التأويل ، ويعلمونه .ولذا فقوله : { والراسخون } معطوف على اسم الجلالة ، وفي هذا العطف تشريف عظيم : كقوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } [ آل عمران : 18 ] وإلى هذا التفسير مَال ابن عباس ، ومجاهد ، وَالربيع بن سليمان ، والقاسم بن محمد ، والشافعية ، وابن فورك ، والشيخ أحمد القرطبي ، وابن عطية ، وعلى هذا فليس في القرآن آية استأثر الله بعلمها . ويؤيّد هذا أن الله أثبت للراسخين في العلم فضيلة . ووصفهم بالرسوخ ، فآذن بأنّ لهم مزية في فهم المتشابه : لأنّ المحكم يستوي في علمه جميع من يفهم الكلام ، ففي أيِّ شيء رسوخهم ، وحكى إمام الحرمين ، عن ابن عباس : أنّه قال في هاته الآية : «أنا ممّن يعلم تأويله» .وقيل : الوقف على قوله : { إلا الله } وإنّ جملة { والراسخون في العلم } مستأنفة ، وهذا مروي عن جمهور السلف ، وهو قول ابن عمر ، وعائشة ، وابن مسعود ، وأبي ، ورواه أشهب عن مالك في جامع العتبية ، وقاله عروة بن الزبير ، والكسائي ، والأخفش والفرّاء ، والحنفية ، وإليه مال فخر الدين .ويؤيّد الأول وصفهم بالرسوخ في العلم؛ فإنّه دليل بيّن على أنّ الحُكم الذي أثبت لهذا الفريق ، هو حكم من معنى العلم والفهم في المعضِلات ، وهو تأويل المتشابه ، على أنّ أصل العطف هو عطف المفردات دون عطف الجمل ، فيكون الراسخون معطوفاً على اسم الجلالة فيدخلون في أنّهم يعلمون تأويله . ولو كان الراسخون مبتدأ وجملةُ : «يقولون ءامّنا به» خبراً ، لكان حاصل هذا الخبر ممّا يستوي فيه سائر المسلمين الذين لا زيغ في قلوبهم ، فلا يكون لتخصيص الراسخين فائدة . قال ابن عطية : «تسميتهم راسخين تقتضي أنّهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أيّ شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلاّ ما يعلمه الجميع وما الرسوخ إلاّ المعرفةُ بتصاريف الكلام بقريحة معدة» وما ذكرناه وذكره ابن عطية لا يعد وأن يكون ترجيحاً لأحد التفسيرين ، وليس إبطالاً لمقابله إذ قد يوصف بالرسوخ من يفرق بين ما يستقيم تأويله ، وما لا مطمع في تأويله .وفي قوله : { وما يذكر إلا أولوا الألباب } إشعار بأنّ الراسخين يعلمون تأويل المتشابه .واحتجّ أصحاب الرأي الثاني ، وهو رأي الوقف على اسم الجلالة : بأنّ الظاهر أن يكون جملة ( والراسخون ) مستأنفة لتكون معادِلاً لجملة : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } ، والتقدير : وأمّا الراسخون في العلم . وأجاب التفتازاني بأنّ المعادِل لا يلزم أن يكون مذكوراً ، بل قد يحذف لدلالة الكلام عليه . واحتجّوا أيضاً بقوله تعالى : { يقولون آمنا به كل من عند ربنا } قال الفخر : لو كانوا عالمين بتأويله لم يكن لهذا الكلام فائدة؛ إذ الإيمان بما ظهر معناه أمر غير غريب وسنجيب عن هذا عند الكلام على هذه الجملة .وذكر الفخر حججاً أخر غير مستقيمة .ولا يخفى أنّ أهل القول الأول لا يثبتون متشابهاً غير ما خفي المراد منه ، وأنّ خفاء المراد متفاوت ، وأنّ أهل القول الثاني يثبتون متشابهاً استأثر الله بعلمه ، وهو أيضاً متفاوت؛ لأنّ منه ما يقبل تأويلات قريبَة ، وهو ممّا ينبغي ألاّ يعدّ من المتشابه في اصطلاحهم ، لكنّ صنيعهم في الإمساك عن تأويل آيات كثيرة سَهْللٍ تأويلُها مثل { فإنّك بأعيننا } [ الطور : 48 ] دلّ على أنّهم يسدّون باب التأويل في المتشابه ، قال الشيخ ابن عطية «إنّ تأويل ما يمكن تأويله لا يَعلم تأويلَه على الاستيفاء إلاّ الله تعالى فمَن قالَ ، من العلماء الحذّاق : بأنّ الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه ، فإنّما أراد هذا النوع ، وخافوا أن يظنّ أحد أنّ الله وصف الراسخين بعلم التأويل على الكمال» .وعلى الاختلاف في محمل العطف في قوله تعالى : { والراسخون في العلم } انبنى اختلاف بين علماء الأمة في تأويل ما كان متشابهاً : من آيات القرآن ، ومن صحاح الأخبار ، عن النبي صلى الله عليه وسلمفكان رأي فريق منهم الإيمانَ بها ، على إبهامها وإجمالها ، وتفويضَ العلم بكنه المراد منها إلى الله تعالى ، وهذه طريقة سلَف علمائنا ، قبل ظهور شكوك الملحدين أو المتعلِّمين ، وذلك في عصر الصحابة والتابعين وبعض عصر تابعيهم ، ويُعبّر عنها بطريقة السلف ، ويقولون : طريقة السلف أسْلَمُ ، أي أشدُّ سلامة لهم من أن يَتأوّلوا تأويلات لا يدرَى مدى ما تفضِي إليه من أمور لا تليق بجلال الله تعالى ولا تتّسق مع ما شرعه للناس من الشرائع ، مع ما رأوا من اقتناع أهل عصرهم بطريقتهم ، وانصرافهم عن التعمّق في طلب التأويل .وكان رأي جمهور من جاء بعد عصر السلف تأويلها بمعاننٍ من طرائق استعمال الكلام العربي البليغ من مجاز ، واستعارة ، وتمثيل ، مع وجود الدّاعي إلى التأويل ، وهو تعطّش العلماء الذين اعتادوا التفكر والنظر وفهم الجمع بين أدلّة القرآن والسنة ، ويعبّر عن هذه الطريقة بطريقة الخلف ، ويقولون : طريقة الخلف أعم ، أي أنسب بقواعد العلم وأقوى في تحصيل العلم القاطع لِجدال الملحدين ، والمقنع لمن يتطلّبون الحقائق من المتعلّمين ، وقد يصفونها بأنّها أحْكَمُ أي أشدّ إحكاماً؛ لأنّها تقنع أصحاب الأغراض كلّهم . وقد وقع هذان الوصفان في كلام المفسّرين وعلماءِ الأصول ، ولم أقف على تعيين أوّللِ من صدَرا عنه ، وقد تعرّض الشيخ ابن تيمية في «العقيدة الحموية» إلى ردّ هذين الوصفين ولم ينسبهما إلى قائل . والموصوف بأسْلَم وبأعلَم الطريقةُ لا أهلُها؛ فإنّ أهل الطريقتين من أئمة العلم ، وممّن سلموا في دينهم من الفِتن .وليس في وصف هذه الطريقة ، بأنّها أعْلَمُ أوْ أحْكَمُ ، غضاضة من الطريقة الأولى؛ لأنّ العصور الذين درجوا على الطريقة الأولى ، فيهم من لا تخفى عليهم محاملها بسبب ذوقهم العربي ، وهديهم النبوي ، وفيهم من لا يُعير البحثَ عنها جانباً من همّته ، مثل سائر العامة . فلا جرم كان طَيّ البحث عن تفصيلها أسلم للعموم ، وكان تفصيلها بعد ذلك أعْلَم لمن جاء بعدهم ، بحيث لو لم يؤوِّلوها به لأوسعوا ، للمتطلّعين إلى بيانها ، مجالاً للشك أو الإلحاد ، أو ضيققِ الصدر في الاعتقاد .واعلم أنّ التأويل منه ما هو واضح بيِّن ، فصرف اللفظ المتشابه عن ظاهره إلى ذلك التأويل يُعادِل حملَ اللفظ على أحد معنييه المشهورين لأجل كثرة استعمال اللفظ في المعنى غير الظاهر منه . فهذا القسم من التأويل حقيق بألاّ يسمّى تأويلاً وليس أحدُ مَحْمَلَيْه بأقوى من الآخر إلاّ أنّ أحدهما أسبقُ في الوضع من الآخر ، والمحملان متساويان في الاستعمال وليس سبقُ إطلاق اللفظ على أحد المعنيين بمقتضضٍ ترجيحَ ذلك المعنى ، فكم من إطلاق مجازي للفظٍ هو أسبق إلى الأفهام من إطلاقه الحقيقي . وليس قولهم في علم الأصول بأنّ الحقيقة أرجحُ من المجاز بمقبول على عمومه .وتسميةُ هذا النوع بالمتشابه ليست مرادة في الآية . وعدّه من المتشابه جمود .ومن التأويل ما ظاهر معنى اللفظ فيه أشهر من معنى تأويله ولكنّ القرائن أو الأدلةَ أوجبت صرف اللفظ عن ظاهر معناه فهذا حقيق بأن يعدّ من المتشابه .ثم إنّ تأويل اللفظ في مِثله قد يتيسّر بمعنى مستقيم يغلب على الظن أنّه المراد إذا جَرى حمل اللفظ على ما هو من مستعملاته في الكلام البليغ مثل الأيدي والأعين في قوله : { بَنيناها بأيدٍ } [ الذاريات : 47 ] وقوله : { فإنَّك بأعيننا } [ الطور : 48 ] فمَن أخذوا من مثله أنّ لله أعيناً لا يُعرف كنهها ، أوْ له يداً ليست كأيدينا ، فقد زادوا في قوة الاشتباه .ومنه ما يعتبر تأويله احتمالاً وتجويزاً بأن يكون الصرف عن الظاهر متعيّناً وأمّا حمله على ما أوّلوه به فعلى وجه الاحتمال والمثاللِ ، وهذا مثل قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] وقوله : { هل ينظرون إلاّ أن يأتيَهم الله في ظُلَل من الغمام } [ البقرة : 210 ] فمثل ذلك مقطوع بوجوب تأويله ولا يَدعي أحد ، أن ما أوّلَه به هو المرادُ منه ولكنّه وجه تابع لإمكان التأويل ، وهذا النوع أشدّ مواقع التشابه والتأويل .وقد استبان لك من هذه التأويلات : أنّ نظم الآية جاء على أبلغ ما يعبّر به في مقام يسع طائفتين من علماء الإسلام في مختلف العصور .وقوله : { يقولون آمنا به } حال من ( الراسخون ) أي يعلمون تأويله في هذه الحالة والمعنى عليه : يحتمل أن يكون المراد من القول الكناية عن الاعتقاد؛ لأنّ شأن المعتقد أن يقول معتَقَده ، أي يعلمون تأويله ولا يهجس في نفوسهم شك من جهة وقوع المتشابه حتى يقولوا : لماذا لم يجىء الكلام كلّه واضحاً ، ويتطرّقهم من ذلك إلى الرّيبة في كونه من عند الله ، فلذلك يقولون : { كل من عند ربنا } .ويحتمل أنّ المراد يقولون لغيرهم : أي من لم يبلغ مرتبة الرسوخ من عامة المسلمين ، الذين لا قِبل لهم بإدراك تأويله ، ليعلّموهم الوقوف عند حدود الإيمان ، وعدمَ التطلّع إلى ما ليس في الإمكان ، وهذا يقرب ممّا قاله أهل الأصول : إنّ المجتهد لا يلزمه بيانُ مُدركه للعامي ، إذا سأله عن مأخذ الحكم ، إذا كان المدرَك خفياً . وبهذا يحصل الجواب عن احتجاج الفخر بهذه الجملة لترجيح الوقففِ على اسم الجلالة .وعلى قول المتقدّمين يكون قوله : { يقولون } خبراً ، وقولهم : { آمنا به } آمنّا بكونه من عند الله ، وإن لم نفهم معناه .وقوله : { كل من عند ربنا } أي كلٌ من المحكَم والمتشابه . وهو على الوجهين بيان لمعنى قولهم : { آمنا به } ، فلذلك قطعت الجملة . أي كلّ من المحكم والمتشابه ، مُنزل من الله .وزيدت كلمة ( عند ) للدلالة على أنّ مِن هنا للابتداء الحقيقي دون المجازي ، أي هو منزل من وحي الله تعالى وكلامِه ، وليس كقوله : { ما أصابك مِن حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك } [ النساء : 197 ] .وجملة { وما يذَّكَّر إلاّ أولوا الألباب } تذييل ، ليس من كلام الراسخين ، مَسوق مَساق الثناء عليهم في اهتدائهم إلى صحيح الفهم .والألبابُ : العقول . وتقدّم عند قوله تعالى : { واتقون يا أولي الألباب } في سورة [ البقرة : 197 ] .
الآية 7 - سورة آل عمران: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ۖ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون...)