تحتوي هذه الصفحة على جميع آيات سورة المؤمنون بالإضافة إلى تفسير جميع الآيات من قبل تنوير المقباس من تفسير ابن عباس (عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي). في الجزء الأول يمكنك قراءة سورة المؤمنون مرتبة في صفحات تماما كما هو موجود في القرآن. لقراءة تفسير لآية ما انقر على رقمها.
معلومات عن سورة المؤمنون
نوع سورة المؤمنون: مكية
عدد الآيات في سورة المؤمنون: 118
ترتيب سورة المؤمنون في القرآن الكريم: 23
ترتيب نزول الوحي: 74
اسم السورة باللغة الإنجليزية: The Believers
أرقام الصفحات في القرآن الكريم: من الصفحة 342 إلى 349
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)افتتاح بديع لأنه من جوامع الكلم فإن الفلاح غاية كل ساع إلى عمله ، فالإخبار بفلاح المؤمنين دون ذكر متعلِّق بفعل الفلاح يقتضي في المقام الخطابي تعميم ما به الفلاح المطلوب ، فكأنه قيل : قد أفلح المؤمنون في كل ما رغبوا فيه .ولما كانت همة المؤمنين منصرفة إلى تمكن الإيمان والعمَللِ الصالح من نفوسهم كان ذلك إعلاماً بأنهم نجحوا فيما تعلقت به هممهم من خير الآخرة وللحق من خيْر الدنيا ، ويتضمن بشارة برضى الله عنهم ووعداً بأن الله مكمل لهم ما يتطلبونه من خير .وأكد هذا الخبر بحرف ( قد ) الذي إذا دخل على الفعل الماضي أفاد التحقيق أي التوكيد ، فحرف ( قد ) في الجملة الفعلية يفيد مفاد ( إنّ واللام ) في الجملة الاسميَّة ، أي يفيد توكيداً قويّاً .ووجه التوكيد هنا أن المؤمنين كانوا مؤملين مثل هذه البشارة فيما سبق لهم من رجاء فلاحِهم كالذي في قوله : { وافعلوا الخير لعلكم تفلحون } [ الحج : 77 ] ، فكانوا لا يعرفون تحقق أنهم أتوا بما أرضى ربهم ويخافون أن يكونوا فرطوا في أسبابه وما علق عليه وعده إياهم ، بلْهَ أن يعرفوا اقتراب ذلك؛ فلما أخبروا بأن ما ترجَّوه قد حصل حقق لهم بحرف التحقيق وبفعل المضي المستعمل في معنى التحقق . فالإتيان بحرف التحقيق لتنزيل ترقبهم إياه لفرط الرغبة والانتظار منزلة الشك في حصوله ، ولعل منه : قد قامت الصلاة ، إشارة إلى رغبة المصلين في حلول وقت الصلاة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم « أرِحْنَا بها يا بلال » وشأن المؤمنين التشوق إلى عبادتهم كما يشاهد في تشوق كثير إلى قيام رمضان .وحُذِف المتعلق للإشارة إلى أنهم أفلحوا فلاحاً كاملاً .والفلاح : الظفَر بالمطلوب من عمل العامل ، وقد تقدم في أول البقرة . ونيط الفلاح بوصف الإيمان للإشارة إلى أنه السبب الأعظم في الفلاح فإن الإيمان وصف جامع للكمال لتفرع جميع الكمالات عليه .
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)إجراء الصفات على { المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] بالتعريف بطريق الموصول وبتكريره للإيماء إلى وجه فلاحهم وعلتِهِ ، أي أن كل خصلة من هاته الخصال هي من أسباب فلاحهم . وهذا يقتضي أن كل خصلة من هذه الخصال سبب للفلاح لأنه لم يقصد أن سبب فلاحهم مجموع الخصال المعدودة هنا فإن الفلاح لا يتم إلاّ بخصال أخرى مما هو مرجع التقوى ، ولكن لما كانت كل خصلة من هذه الخصال تنبىء عن رسوخ الإيمان من صاحبها اعتبرت لذلك سبباً للفلاح ، كما كانت أضدادها كذلك في قوله تعالى { مَا سَلَكَكُمْ فَي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِم المسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِين وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْممِ الدّينِ } [ المدثر : 42 46 ] على أن ذكر عدة أشياء لا يقتضي الاقتصار عليها في الغرض المذكور .والخشوع تقدم في قوله تعالى : { وإنَّها لَكَبِيرَةٌ إلاّ عَلَى الخَاشِعِينَ } في سورة البقرة ( 45 ) وفي قوله : { وكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } في سورة الأنبياء ( 90 ) . وهو خوف يوجب تعظيم المخوف منه ، ولا شك أن الخشوع ، أي الخشوع لله ، يقتضي التقوى فهو سبب فلاح .وتقييده هنا بكونه في الصلاة لقصد الجمع بين وصفهم بأداء الصلاة وبالخشوع وخاصة إذا كان في حال الصلاة لأنّ الخشوع لله يكون في حالة الصلاة وفي غيرها ، إذ الخشوع محلّهُ القلب فليس من أفعال الصلاة ولكنه يتلبس به المصلي في حالة صلاته . وذكر مع الصلاة لأن الصلاة أولى الحالات بإثارة الخشوع وقوّته ولذلك قدمت ، ولأنه بالصلاة أعلق فإن الصلاة خشوع لله تعالى وخضوع له ، ولأن الخشوع لما كان لله تعالى كان أولى الأحوال به حال الصلاة لأن المصلي يناجي ربه فيشعر نفسه أنه بين يدي ربه فيخشع له . وهذا من آداب المعاملة مع الخالق تعالى وهي رأس الآداب الشرعية ومصدر الخيرات كلها .ولهذا الاعتبار قدم هذا الوصف على بقية أوصاف المؤمنين وجعل موالياً للإيمان فقد حصل الثناء عليهم بوصفين .وتقديمُ في صلاتهم } على { خاشعون } للاهتمام بالصلاة للإيذان بأن لهم تعلقاً شديداً بالصلاة لأن شأن الإضافة أن تفيد شدة الاتصال بين المضاف والمضاف إليه لأنها على معنى لاَم الاختصاص . فلو قيل : الذين إذا صلوا خشعوا ، فات هذا المعنى ، وأيضاً لم يتأت وصفهم بكونهم خاشعين إلاّ بواسطة كلمة أخرى نحو : كانوا خاشعين . وإلاّ يفتْ ما تدل عليه الجملة الاسميّة من ثبات الخشوع لهم ودوَامِهِ ، أي كون الخشوع خُلقاً لهم بخلاف نحو : الذين خشعوا ، فحصل الإيجاز ، ولم يفت الإعجاز .
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)العطف من عطف الصفات لموصوف واحد كقول بعض الشعراء وهو من شواهد النحو :إلى المَلِككِ القرْم وابننِ الهُماموليث الكتيبة في المزدحموتكرير الصفات تقوية للثناء عليهم .والقول في تركيب جملة { هم عن اللغو معرضون } كالقول في { هم في صلاتهم خاشعون } [ المؤمنون : 2 ] ، وكذلك تقديم { عن اللغو } على متعلقه .وإعَادَةُ اسم الموصول دون اكتفاء بعطف صلة على صلة للإشارة إلى أن كل صفة من الصفات موجبة للفلاح فلا يتوهم أنهم لا يفلحون حتى يجمعوا بين مضامين الصلاة كلها ، ولما في الإظهار في مقام الإضمار من زيادة تقرير للخبر في ذهن السامع .واللغو : الكلام الباطل . وتقدم في قوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } في البقرة ( 225 ) ، وقوله : { لا يسمعون فيها لغواً } في سورة مريم ( 62 ) .والإعراض : الصد أي عدم الإقبال على الشيء ، من العُرض بضم العين وهو الجانب ، لأن من يترك الشيء يوليه جانبه ولا يقبل عليه فيشمل الإعراضُ إعْرَاضَ السمع عن اللغو ، وتقدم عند قوله : { فَأعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ } في سورة النساء ( 63 ) ، وقوله : { وإذَا رَأيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأعْرِضْ عَنْهُمْ } في سورة الأنعام ( 68 ) ، وأهمه الإعراض عن لغو المشركين عند سماع القرآن { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فِيهِ لعلكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] وقال تعالى : { وإذا مَرّوا باللَّغْوِ مَرّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] . ويشمل الإعراض عن اللغو بالألسنة ، أي أن يَلْغُوا في كلامهم .وعقب ذكر الخشوع بذكر الإعراض عن اللغو لأن الصلاة في الأصْل الدعاء ، وهو من الأقوال الصالحة ، فكان اللغو مما يخطر بالبال عند ذكر الصلاة بجامع الضدية ، فكان الإعراض عن اللغو بمعنَيي الإعراض مما تقتضيه الصلاة والخشوع لأن من اعتاد القول الصالح تجنب القول الباطل ومن اعتاد الخشوع لله تجنب قول الزور ، وفي الحديث « إنّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم » .والإعراض عن جنس اللغو من خُلق الجِدِّ ومن تخلق بالجد في شؤونه كملت نفسه ولم يصدر منه إلاّ الأعمال النافعة ، فالجد في الأمور من خلق الإسلام كما أفصح عن ذلك قول أبي خراش الهذلي بذكر الإسلام: ... وعاد الفتى كالكهل ليس بقائلسوى العَدل شيئاً فاستراح العواذل ... والإعراض عنه يقتضي بالأولى اجتناب قول اللغو ويقتضي تجنب مجالس أهله .واعلم أن هذا أدب عظيم من آداب المعاملة مع بعض الناس وهم الطبقة غير المحترمة لأن أهل اللغو ليسوا بمرتبة التوقير ، فالإعراض عن لغوهم رَبْءٌ عن التسفل معهم .
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)أصل الزكاة أنها اسم مصدر ( زكَّى ) المشدّد ، إذا طهَّرَ النفس من المذمات . ثم أطلقت على إنفاق المال لوجه الله مجازاً لأن القصد من ذلك المال تزكية النفس أو لأن ذلك يزيد في مال المعطي . فأطلق اسم المُسَبَّب على السبب . وأصله قوله تعالى : { خُذْ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } [ التوبة : 103 ] ، وأطلقت على نفس المال المنفَق من إطلاق اسم المصدر على المفعول لأنه حاصل به وهو المتعين هنا بقرينة تعليقه ب { فاعلون } المقتضي أن الزكاة مفعول . وأما المصدر فلا يكون مفعولاً به لفعل من مادة ( ف . ع . ل ) لأن صوغ الفعل من مادة ذلك المصدر يغني عن الإتيان بفعل مبْهم ونصببِ مصدره على المفعوليَّة به . فلو قال أحد : فعلت مشياً ، إذا أراد أن يقول : مَشَيْتُ ، كان خارجاً عن تركيب العربية ولو كان مفيداً ، ولو قال أحد : فعلت ممَّا تريده ، لصح التركيب قال تعالى : { مَن فعلَ هذا بآلهتنا } [ الأنبياء : 59 ] ، أي هذا المشاهَد من الكَسْر والحطم ، أي هذا الحاصل بالمصدر . وليس المراد المصدر لأنه لا يشار إليه ولا سيما بعد غَيْبَةِ فاعله .والمراد بالفعل هنا الفعل المناسب لهذا المفعول وهو الإيتاء ، فهو كقوله { ويؤتون الزكاة } [ المائدة : 55 ] فلا حاجة إلى تقدير أداء الزكاة .وإنما أوثر هنا الاسم الأعمّ وهو { فاعلون } لأن مادة ( ف ع ل ) مشتهرة في إسداء المعروف ، واشتق منها الفَعال بفتح الفاء ، قال محمد بن بشير الخارجي: ... إن تنفق المال أو تكلَفْ مساعيَهيَشْقُقْ عليك وتفعل دون ما فعلا ... وعلى هذا الاعتبار جاء ما نسب إلى أمية بن أبي الصلت: ... المطعمون الطعام في السَّنَة الأزمة والفاعلون للزكوات ... أنشده في «الكشاف» . وفي نفسي من صحة نسبته تردد لأني أحسب استعمال الزكاة في معنى المال المبذول لوجه الله إلاّ من مصطلحات القرآن ، فلعل البيت مما نحل من الشعر على ألسنة الشعراء . قال ابن قتيبة في كتاب «الشعر والشعراء» «وعلماؤنا لا يرون شعر أمية حجة على الكتاب» .واللام على هذا الوجه لام التقوية لضعف العامل بالفرعيَّة وبالتأخير عن معموله .وقال أبو مسلم والراغب : اللام للتعليل وجعلا الزكاة تزكية النفس . ومعنى { فاعلون } فاعلون الأفعال الصالحات فحذف معمول { فاعلون } بدلالة علته عليه .وفي «الكشاف» أن الزكاة هنا مصدر وهو فعل المزكي ، أي إعطاء الزكاة وهو الذي يحسن أن يتعلق ب { فاعلون } لأنه ما من مصدر إلاّ ويعبر عن معناه بمادة فَعَلَ فيقال للضارب : فَاعل الضرب ، وللقاتل : فاعل القتل . وإنما حاول بذلك إقامة تفسير الآية فغلَّب جانب الصناعة اللفظية على جانب المعنى وجوّز الوجه الآخر على شرط تقدير مضاف ، وكلا الاعتبارين غير ملتزَم .وعقب ذكر الصلاة بذكر الزكاة لكثرة التآخي بينهما في آيات القرآن ، وإنما فصل بينهما هنا بالإعراض عن اللغو للمناسبة التي سمعتَ آنفاً .وهذا من آداب المعاملة مع طبقة أهل الخصاصة وهي ترجع إلى آداب التصرف في المال . والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول كما تقدم آنفاً .
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) الحفظ : الصيانة والإمساك . وحفظ الفرج معلوم ، أي عن الوطء ، والاستثناء في قوله : { إلاّ على أزواجهم } الخ استثناء من عموم متعلَّقات الحفظ التي دلّ عليها حرف { على } ، أي حافظونها على كل ما يُحفظ عليه إلاّ المتعلَّق الذي هو أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ، فضمن { حافظون } معنى عدم البذل ، يقال : احفظ علي عنان فرسي كما يقال
Illa AAala azwajihim aw ma malakat aymanuhum fainnahum ghayru maloomeena
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) { أمسِكْ عَلَيْكَ زَوجك } [ الأحزاب : 37 ] . والمراد حِل الصنفين من بين بقية أصناف النساء . وهذا مجمل تبينه تفاصيل الأحكام في عدد الزوجات وما يحل منهن بمفرده أو الجمع بَيْنَهُ . وتفاصيل الأحوال من حال حِل الانتفاع أو حال عدة فذلك كله معلوم للمخاطبين ، وكذلك في الإماء .والتعبير عن الإماء باسم { ما } الموصولة الغالب استعمالها لغير العاقل جرى على خلاف الغالب وهو استعمال كثير لا يحتَاج معه إلى تأويل .وقوله : { فإنهم غير ملومين } تصريح بزائد على حكم مفهوم الاستثناء ، لأن الاستثناء لم يدل على أكثر من كون عدم الحفظ على الأزواج والمملوكات لا يمنع الفلاح فأريد زيادة بيان أنه أيضاً لا يوجب اللوم الشرعي ، فيدل هذا بالمفهوم على أن عدم الحفظ على من سواهن يوجب اللوم الشرعي ليحذره المؤمنون .والفاء في قوله : { فإنهم غيرُ ملومين } تفريع للتصريح على مفهوم الاستثناء الذي هو في قوة الشرط فأشبه التفريع عليه جواب الشرط فقرىء بالفاء تحقيقاً للاشتراط .
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)وزيد ذلك التحذير تقريراً بأن فرع عليه { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } لأن داعية غلبة شهوة الفرج على حفظ صاحبه إياه غريزة طبيعيَّة يُخشى أن تتغلَّب على حافظها ، فالإشارة بذلك إلى المذكور في قوله : { إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } أي وراء الأزواج والمملوكات ، أي غير ذينك الصّنفين .وذُكرَ حفظ الفرج هنا عطفاً على الإعراض عن اللغو لأن من الإعراض عن اللغو تركَ اللغو بالأحرى كما تقدم آنفاً؛ لأن زلة الصالح قد تأتيه من انفلات أحد هذين العضوين من جهة ما أُودع في الجبلة من شهوة استعمالهما فلذلك ضبطت الشريعة استعمالهما بأن يكون في الأمور الصالحة التي أرشدت إليها الديانة . وفي الحديث : « من يضمن لي ما بين لَحْيَيْهِ وما بين رِجْلَيْهِ أضمن له الجنَّة » .واللوم : الإنكار على الغير ما صدر منه من فعل أو قول لا يليق عند الملائم ، وهو مرادف العذل وأضعف من التعنيف .و { وراء } منصوب على المفعول به . وأصل الوراء اسم المكان الذي في جهة الظهر ، ويطلق على الشيء الخارج عن الحد المحدود تشبيهاً للمتجاوز الشيءَ بشيء موضوع خلف ظهر ذلك الشيء لأن ما كان من أعلاق الشخص يجعل بَيْنَ يَديْه وبمرأى منه وما كان غير ذلك ينبذ وراء الظهر ، وهذا التخيل شاع عنه هذا الإطلاق بحيث يقال : هو وراء الحد ، ولو كان مستقبله . ثم توسع فيه فصار بمعنى ( غير ) أو ( مَا عدا ) كما هنا ، أي فمن ابتغوا بفروجهم شيئاً غير الأزواج وما ملكت أيمانهم .وأتي لهم باسم الإشارة في قوله : { فأولئك هم العادون } لزيادة تمييزهم بهذه الخصلة الذميمة ليكون وصفهم بالعدوان مشهوراً مقرراً كقوله تعالى : { وأولئك هم المتقون } في سورة البقرة ( 177 ) ، والعادي هو المعتدي ، أي الظالم لأنه عدا على الأمر .وتوسيط ضمير الفصل لتقوية الحكم ، أي هم البالغون غاية العدوان على الحدود الشرعية .والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول كما مرّ .
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)هذه صفة أخرى من جلائل صفات المؤمنين تنحل إلىَ فضيلتين هما فضيلة أداء الأمانة التي يؤتمنون عليها وفضيلة الوفاء بالعهد .فالأمانة تكون غالباً من النفائس التي يخشى صاحبها عليها التلف فيجعلها عند من يظن فيه حفظها ، وفي الغالب يكون ذلك على انفراد بين المؤتمِننِ والأمين ، فهي لنفاستها قد تغري الأمين عليها بأن لا يردها وبأن يجحدها ربها ، ولكون دفعها في الغالب عَرِيّاً عن الإشهاد تبعث محبتها الأمينَ على التمسك بها وعدم ردها ، فلذلك جعل الله ردّها من شعب الإيمان .وقد جاء في الحديث عن حذيفة بن اليَمَان قال « حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمانة نزلت في جَذْرِ قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة » وحدثنا عن رفعها قال : « ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فَيَظَلّ أثَرُها مثل أثر الوكْت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المَجْل كجَمْرٍ دَحرجتَه على رِجلك فَنَفِطَ فتراه مُنْتَبِراً وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة ، فيقال : إن في بني فلان رجلاً أميناً ، ويقال للرجل : ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان » اه .الوكت : سواد يكون في قِشر التمر . والمَجْل : انتفاخ في الجلد الرقيق يكون شبه قِشر العِنبة ينشأ من مس النار الجلدَ ومن كثْرة العمل باليد وقوله : « مثقال حبة خردل من إيمان » هو مصدر آمنَه ، أي ومَا في قرارة نفسه شيء من إيمان الناس إيَّاه فلا يأتمنه إلاّ مغرور .وقد تقدم الكلام على الأمانة في قوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تُؤَدوا الأماناتتِ إلى أهلها } في سورة النساء ( 58 ) . وجمع { الأمانات باعتبار تعدد أنواعها وتعدد القائمين بالحفظ تنصيصاً على العموم .وقرأ الجمهور : لأماناتهم } بصيغة الجمع ، وقرأه ابن كثير { لأمانتهم } بالإفراد باعتبار المصدر مثل { الذين هم في صَلاتهم خاشعون } [ المؤمنون : 2 ] .والعهد : التزام بين اثنين أو أكثر على شيء يعامِل كل واحد من الجانبين الآخرَ به . وسمي عهداً لأنهما يتحَالفان بعهد الله ، أي بأن يكون الله رقيباً عليهما في ذلك لا يفيتهم المؤاخذة على تخلفه ، وتقدم عند قوله تعالى : { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } في سورة البقرة ( 27 ) .والوفاء بالعهد من أعظم الخلق الكريم لدلالته على شرف النفس وقوة العزيمة ، فإن المرأيْننِ قد يلتزم كل منهما للآخر عملاً عظيماً فيصادف أن يتوجه الوفاء بذلك الإلتزام على أحدهما فيصعب عليه أن يتجشم عملاً لنفع غيره بدون مقابل ينتفع به هو فتسول له نفسه الخَتْر بالعهد شحّاً أو خوراً في العزيمة ، فلذلك كان الوفاء بالعهد علامة على عظم النفس قال تعالى :{ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً } [ الإسراء : 34 ] .والرعي : مراقبة شيء بحفظه من التلاشي وبإصلاح ما يفسد منه ، فمنه رعي الماشية ، ومنه رَعي الناس ، ومنه أطلقت المراعاة على مَا يستحقه ذو الأخلاق الحميدة من حسن المعاملة . والقائم بالرعي رَاع .فرعي الأمانة : حفظها ، ولما كان الحفظ مقصوداً لأجل صاحبها كان ردها إليه أولى من حفظها . ورعي العهد مجاز ، أي ملاحظته عند كل مناسبة .والقول في تقديم { لأماناتهم وعهدهم } على { راعون } كالقول في نظايره السابقة ، وكذلك إعادة اسم الموصول .والجمع بين رعْي الأمانات ورعْي العهد لأن العهد كالأمانة لأن الذي عاهدك قد ائتمنك على الوفاء بما يقتضيه ذلك العهد .وذِكْرهما عقب أداء الزكاة لأن الزكاة أمانة الله عند الذين أنعم عليهم بالمال ، ولذلك سُميت : حقّ الله ، وحق المال ، وحق المسكين .
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)ثناء على المؤمنين بالمحافظة على الصلوات ، أي بعدم إضاعتها أو إضاعة بعضها ، والمحافظة مستعملة في المبالغة في الحفظ إذ ليست المفاعلة هنا حقيقيَّة كقوله تعالى : { حافظوا على الصلوات } [ البقرة : 238 ] وتقدّم معنى الحفظ قريباً .وجيء بالصلوات بصيغة الجمع للإشارة إلى المحافظة على أعدادها كلها تنصيصاً على العموم .وإنما ذكر هذا مع ما تقدم من قوله : { الذين هم في صلاتهم خاشعون } [ المؤمنون : 2 ] لأن ذكر الصلاة هنالك جاء تبعاً للخشوع فأريد ختم صفات مدحهم بصفة محافظتهم على الصلوات ليكون لهذه الخصلة كمالُ الاستقرار في الذهن لأنها آخر ما قرع السمع من هذه الصفات .وقد حصل بذلك تكرير ذكر الصلاة تنويهاً بها ، ورداً للعجز على الصدر تحسيناً للكلام الذي ذكرت فيه تلك الصفات لتزداد النفس قبولاً لسماعها ووعيها فتتأسى بها .والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول وإضافة الصلوات إلى ضميرهم مثل القول في نظيره ونظائره .وقرأ الجمهور { على صلواتهم } بصيغة الجمع ، وقرأه حمزة والكسائي وخلف { على صلاتهم } بالإفراد .وقد جمعت هذه الآية أصول التقوى الشرعية لأنها أتت على أعسر ما تُراض له النفس من أعمال القلب والجوارح .فجاءت بوصف الإيمان وهو أساس التقوى لقوله تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] وقوله : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } [ النور : 39 ] .ثم ذكرت الصلاة وهي عماد التقوى والتي تنهى عن الفحشاء والمنكر لما فيها من تكرر استحضار الوقوف بين يدي الله ومناجاته .وذكرت الخشوع وهو تمام الطاعة لأن المرء قد يعمل الطاعة للخروج من عهدة التكليف غيرَ مستحضر خشوعاً لربه الذي كلفه بالأعمال الصالحة ، فإذا تخلق المؤمن بالخشوع اشتدت مراقبتُه ربَّه فامتثل واجتنب . فهذان من أعمال القلب .وذكرت الإعراض عن اللغو ، واللغو من سوء الخلق المتعلق باللسان الذي يعسر إمساكه فإذا تخلق المؤمن بالإعراض عَننِ اللغو فقد سهل عليه ما هو دون ذلك . وفي الإعراض عن اللغو خُلُق للسمع أيضاً كما علمتَ .وذكرت إعطاء الصدقات وفي ذلك مقاومة داء الشح { ومن يُوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } [ التغابن : 16 ] .وذكرت حفظ الفرج ، وفي ذلك خلق مقاومة اطراد الشهوة الغريزية بتعديلها وضبطها والترفع بها عن حضيض مشابهة البهائم فمن تخلق بذلك فقد صار كبح الشهوة ملكة له وخُلقاً .وذكرت أداء الأمانة وهو مظهر للإنصاف وإعطاء ذي الحق حقه ومغالبة شهوة النفس لأمتعة الدنيا .وذكرت الوفاء بالعهد وهو مظهر لخلق العدل في المعاملة والإنصاف من النفس بأن يبذل لأخيه ما يحب لنفسه من الوفاء .وذكرت المحافظة على الصلوات وهو التخلق بالعناية بالوقوف عند الحدود والمواقيت وذلك يجعل انتظام أمر الحياتين ملكة وخلقاً راسخاً .وأنت إذا تأملت هذه الخصال وجدتها ترجع إلى حفظ ما من شأن النفوس إهماله مثل الصلاة والخشوع وترك اللغو وحفظ الفرج وحفظ العهد ، وإلى بذل ما من شأن النفوس إمساكه مثل الصدقة وأداء الأمانة .فكان في مجموع ذلك أعمال ملكتي الفعللِ والترك في المهمات ، وهما منبع الأخلاق الفاضلة لمن تتبعها .روى النسائي : أن عائشة قيل لها : كيف كان خُلق رسول الله؟ قالت : كان خُلقه القُرآن . وقرأت : { قد أفلح المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] حتى انتهت إلى قوله : { والذين هم على صلواتهم يحافظون } . وقد كان خُلق أهل الجاهليَّة على العكس من هذا ، فيما عدا حفظ العهد غالباً ، قال تعالى : { وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مُكاءً وتصديةً } [ الأنفال : 35 ] ، وقال في شأن المؤمنين مع الكافرين { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين } [ القصص : 55 ] ، وقال : { وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة } [ فصلت : 6 ، 7 ] ، وقد كان البغاء والزنى فاشيين في الجاهليَّة .
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) جيء لهم باسم الإشارة بعد أن أجريت عليهم الصفات المتقدمة ليفيد اسمُ الإشارة أن جدارتهم بما سيذكر بعد اسم الإشارة حصلتْ من اتصافهم بتلك الصفات على نحو قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] بعد قوله : { هدًى للمتقين } إلى آخره في سورة البقرة ( 2 ) . والمعنى : أولئك هم الأحقاء بأن يكونوا الوارثين بذلك .وتوسيط ضمير الفصل لتقوية الخبر عنهم بذلك ، وحذف معمول { الوارثون } ليحصل إبهام وإجمال فيترقب السامع بيانه
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)فبين بقوله : { الذين يرثون الفردوس } قصداً لتفخيم هذه الوراثة ، والإتيان في البيان باسم الموصول الذي شأنه أن يكون معلوماً للسامع بمضمون صلته إشارة إلى أن تعريف { الوارثون } تعريف العهد كأنه قيل : هم أصحاب هذا الوصف المعروفون به .واستعيرت الوراثة للاستحقاق الثابت لأن الإرث أقوى الأسباب لاستحقاق المال ، قال تعالى : { وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } [ الزخرف : 72 ] .والفردوس : اسم من أسماء الجنَّة في مصطلح القرآن ، أو من أسماء أشرف جهات الجنات ، وأصل الفردوس : البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر . وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم حارثة بن سُراقة لمّا أصابه سهم غرب يوم بدر فقتله ، وقالت أمّه : إن كان في الجنَّة أصبِرْ وأحتسِبْ فقال لها : " ويْحَككِ أهَبِلْتِ أوَ جَنَّةٌ واحدَةٌ هي ، إنَّها لجِنان كثيرة وإنه لفي الفردوس " .وقد ورد في فضل هذه الآيات حديث عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أُنْزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ { قد أفلح المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] حتى ختم عشر آيات " قال ابن العربي في «العارضة» : قوله : { الذين يرثون الفردوس } هي العاشرة ، رواه الترمذي وصححه .
Walaqad khalaqna alinsana min sulalatin min teenin
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) الواو عاطفة غرضاً على غرض ويسمى عطف القصّة على القصّة ، فللجملة حكم الاستيناف لأنها عطف على جملة { قد أفلح المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] التي هي ابتدائية وهذا شروع في الاستدلال على انفراد الله تعالى بالخلق وبعظيم القدرة التي لا يشاركه فيها غيره ، وعلى أن الإنسان مربوب لله تعالى وحده ، والاعتبار بما في خلق الإنسان وغيره من دلائل القدرة ومن عظيم النعمة . فالمقصود منه إبطال الشرك لأن ذلك الأصل الأصيل في ضلال المعرضين عن الدعوة المحمدية ، ويتضمن ذلك امتناناً على الناس بأنه أخرجهم من مهانة العدم إلى شرف الوجود وذلك كله ليَظهر الفرق بين فريق المؤمنين الذين جَروا في إيمانهم على ما يليق بالاعتراف بذلك وبين فريق المشركين الذين سلكوا طريقاً غير بينة فحادوا عن مقتضى الشكر بالشرككِ .وتأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق مراعًى فيه التعريض بالمشركين المنزّلين منزلة من ينكر هذا الخبر لعدم جريهم على موجب العلم .والخَلق : الإنشاء والصنع ، وقد تقدم في قوله : { قال كذلك الله يخلق ما يشاء } في آل عمران ( 47 ) . والمراد بالإنسان يجوز أن يكون النوعَ الإنساني ، وفسر به ابن عباس ومجاهد ، فالتعريف للجنس
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) وضمير { جعلناه } عائد إلى الإنسان .والسّلالة : الشيء المسلول ، أي المنتَزع من شيء آخر ، يقال : سَللت السيف ، إذا أخرجته من غمده ، فالسلالة خلاصة من شيء ، ووزن فُعَالة يؤذن بالقلة مثل القُلامة والصُبابة .و { من } ابتدائية ، أي خلقناه منفصلاً وآتيا من سلالة ، فتكون السلالة على هذا مجموع ماء الذكر والأنثى المسلول من دمهما .وهذه السلالة هي ما يفرزه جهاز الهضم من الغذاء حين يصير دماً؛ فدم الذكر حين يمر على غدتي التناسل ( الأنثيين ) تفرز منه الأنثيان مادة دُهنيَّة شحميَّة تحتفظ بها وهي التي تتحوّل إلى منيّ حين حركة الجماع ، فتلك السلالة مخرجة من الطين لأنها من الأغذية التي أصلها من الأرض . ودم المرأة إذا مر على قناة في الرحم ترك فيها بويضات دقيقة هي بَذر الأجنة . ومن اجتماع تلك المادة الدُهنية التي في الأنثيين مع البويضة من البويضات التي في قناة الرحم يتكوّن الجنين فلا جرم هو مخلوق من سُلالةٍ من طيننٍ .وقوله { ثم جعلناه نطفة في قرار مَكين } طور آخر للخلق وهو طور اختلاط السُلالتين في الرحم . سميت سُلالة الذكر نطفة لأنها تنطُف ، أي تقطر في الرحم في قناة معروفة وهو القرار المكين .ف { نطفةً } مَنصُوبٌ على الحال وقوله : { في قرار مكين } هو المفعول الثاني ل { جعلناه } . و { ثم } للترتيب الرتبي لأن ذلك الجعل أعظم من خلق السلالة . فضمير { جعلناه } عائد إلى الإنسان باعتبار أنه من السلالة ، فالمعنى : جعلنا السلالة في قرار مكين ، أي وضعناها فيه حفظاً لها ، ولذلك غُير في الآية التعبير عن فعل الخلق إلى فعل الجعل المتعدي ب ( في ) بمعنى الوضع . . والقرار في الأصل : مصدر قَرّ إذا ثبت في مكانه ، وقد سمي به هنا المكان نفسُه . والمكين : الثابت في المكان بحيث لا يقلع من مكانه ، فمقتضى الظاهر أن يوصف بالمكين الشيءُ الحالّ في المكان الثابت فيه . وقد وقع هنا وصفاً لنفس المكان الذي استقرت فيه النطفة ، على طريقة المجاز العقلي للمبالغة ، وحقيقتُه مكين حالُّه ، وقد تقدم قوله تعالى : { أكفرت بالذي خلقك من تراب ثمّ من نطفة } في سورة الكهف ( 37 ) وقوله : { فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة } في سورة الحج ( 5 ) .ويجوز أن يراد بالإنسان في قوله : ولقد خلقنا الإنسان } آدم . وقال بذلك قتادة فتكون السّلالة الطينَةَ الخاصةَ التي كوّن الله منها آدم وهي الصلصال الذي ميزه من الطين في مبدإ الخليقة ، فتلك الطينة مسْلولة سلاّ خاصّاً من الطين ليتكوّن منها حيٌّ ، وعليه فضمير { جعلناه نطفة } على هذا الوجه عائد إلى الإنسان باعتبار كونه نسلاً لآدم فيكون في الضمير استخدام ، ويكون معنى هذه الآية كمعنى قوله تعالى : { وبدَأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين } [ السجدة : 7 ، 8 ] .
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)وحرف ( ثم ) في قوله : { ثم خلقنا النطفة علقة } للترتيب الرتْبي إذ كان خلق النطفة علقة أعجبَ من خلق النطفة إذ قد صُير الماء السائل دَماً جامداً فتغير بالكثافة وتبدل اللون من عواملَ أودعها الله في الرحم .ومن إعجاز القرآن العلمي تسمية هذا الكائن باسم العلَقة فإنه وضْع بديع لهذا الاسم إذ قد ثبت في علم التشريح أن هذا الجزء الذي استحالت إليه النطفة هو كائن له قوة امتصاص القوة من دم الأم بسبب التصاقه بعروق في الرحم تدفع إليه قوة الدم ، والعلقة : قطعة من دم عاقد .والمضغة : القطعة الصغيرة من اللحم مقدار اللقمة التي تمضغ . وقد تقدم في أول سورة الحج كيفية تخلق الجنين .وعطف جَعل العَلقةِ مُضغةً بالفاء لأن الانتقال من العلقة إلى المضغة يشبه تعقيب شيء عن شيء إذ اللحم والدم الجامد متقاربان فتطورهما قريب وإن كان مكث كل طورٍ مدة طويلة .وخلق المضغة عظاماً هو تكوين العظام في داخل تلك المضغة وذلك ابتداء تكوين الهيكل الإنساني من عظم ولحم ، وقد دل عليه قوله : { فكسونا العظام لحماً } بفاء التفريع على الوجه الذي قرر في عطف { فخلقنا المضغة } بالفاء .فمعنى { فَكَسَوْنا } أن اللحم كانَ كالكسوة للعظام ولا يقتضي ذلك أن العظام بقيت حيناً غير مكسوة ، وفي الحديث الصحيح : « إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثلَ ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملَك فَيَنْفُخُ فيه الروحَ » الحديث ، فإذا نُفخ فيه الروح فقد تهيأ للحياة والنماء وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى : { ثم أنشأناه خلقاً آخر } لأن الخلق المذكور قبله كان دون حياة ثم نشأ فيه خَلق الحياة وهي حالة أخرى طرأت عليه عبر عنها بالإنشاء .وللإشارة إلى التفاوت الرتبي بين الخلقين عطف هذا الإنشاء ب ( ثم ) الدالة على أصل الترتيب في عطف الجمل ب ( ثم ) .وهذه الأطوار التي تعرضت لها الآية سبعة أطوار فإذا تمت فقد صار المتخلِّق حياً ، وفي «شرح الموطأ» : «تناجى رجلان في مجلس عمر بن الخطاب وعليٌّ حاضر فقال لهما عمر : ما هذه المناجاة؟ فقال أحدهما : إن اليهود يزعمون أن العزل هو الموءودة الصغرى ، فقال علي : لا تكون موءودة حتَّى تمرّ عليها التارات السبع { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } الآية ، فقال عُمرُ لعليّ : صدقت أطال الله بقاءك» . فقيل : إن عمر أول من دعا بكلمة «أطال الله بقاءك» .وقرأ الجمهور { فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام } بصيغة جمع { العظام } فيهما . وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم { عظماً . . والعَظْمَ } بصيغة الإفراد .وفُرع على حكاية هذا الخلق العجيب إنشاء الثناء على الله تعالى بأنه { أحسن الخالقين } أي أحسن المنشئين إنشاءً ، لأنه أنشأ ما لا يستطيع غيره إنشاءه .ولما كانت دلالة خلق الإنسان على عظم القدرة أسبق إلى اعتبار المعتبر كان الثناء المعقب به ثناء على بديع قدرة الخالق مشتقاً من البركة وهي الزيادة .وصيغة تفاعَل صيغة مطاوعة في الأصل ، وأصل المطاوعة قبول أثر الفعل ، وتستعمل في لازم ذلك وهو التلبس بمعنى الفعل تلبساً مكيناً لأن شأن المطاوعة أن تكون بعد معالجة الفعل فتقتضي ارتساخ معنى الفعل في المفعول القابل له حتى يصير ذلك المفعول فاعلاً فيقال : كسرته فتكسر ، فلذلك كان تفاعَل إذا جاء بمعنى فَعَل دالاًّ على المبالغة كما صرح به الرضيّ في «شرح الشافية» ، ولذلك تتفق صيغ المطاوعة وصيغ التكلف غالباً في نحو : تثنَّى . وتكبَّرَ ، وتشامخ ، وتقاعس . فمعنى { تبارك الله } أنه موصوف بالعظمة في الخير ، أي عظمةِ ما يقدره من خير للناس وصلاح لهم .وبهذا الاعتبار تكون الجملة تذييلاً لأن { تبارك } لما حذف متعلقه كان عاماً فيشمل عظمة الخير في الخلق وفي غيره . وكذلك حذف متعلق { الخالقين } يعم خلق الإنسان وخلق غيره كالجبال والسماوات .
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) إدماج في أثناء تعداد الدلائل على تفرد الله بالخلق على اختلاف أصناف المخلوقات لقصد إبطال الشرك . و { ثم } للترتيب الرتبي لأن أهميَّة التذكير بالموت في هذا المقام أقوى من أهميَّة ذكر الخَلق لأن الإخبار عن موتهم توطئة للجملة بعده
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)وهي قوله { ثم إنكم يوم القيامة تبعثون } وهو المقصود . فهو كقوله : { الذي خلق الموت والحياة ليبلُوكم أيكم أحسن عملاً } [ الملك : 2 ] . وهذه الجملة لها حكم الجملة الابتدائية وهي معترضة بين التي قبلها وبين جملة : { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق } [ المؤمنون : 17 ] . ولكون { ثم } لم تفد مهلة في الزمان هنا صرح بالمهلة في قوله بعد ذلك . والإشارة إلى الخلق المبين آنفاً ، أي بعد ذلك التكوين العجيب والنماء المُحكم أنتم صائرون إلى الموت الذي هو تعطيل أثر ذلك الإنشاء ثم مصيرهُ إلى الفساد والاضمحلال . وأكد هذا الخبر ب ( إن ) واللام مع كونهم لا يرتابون فيه لأنهم لما أعرضوا عن التدبر فيما بعد هذه الحياة كانوا بمنزلة من ينكرون أنهم يموتون .وتوكيد خبر { ثم إنكم يوم القيامة تبعثون } لأنهم ينكرون البعث . ويكون ما ذكر قبله من الخلق الأول دليلاً على إمكان الخلق الثاني كما قال تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خَلق جديد } [ ق : 15 ] ، فلم يحتج إلى تقوية التأكيد بأكثر من حرف التأكيد وإن كان إنكارهم البعث قوياً .ونقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات ، ونكتته هنا أن المقصود التذكير بالموت وما بعده على وجه التعريض بالتخويف وإنما يناسبه الخطاب .
Walaqad khalaqna fawqakum sabAAa taraiqa wama kunna AAani alkhalqi ghafileena
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)انتقال من الاستدلال بخلق الإنسان إلى الاستدلال بخلق العوالم العلوية لأن أمرها أعجب ، وإن كان خلق الإنسان إلى نظره أقرب ، فالجملة عطف على جملة { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 12 ] وإنما ذكر هذا عقب قوله : { ثم إنكم يوم القيامة تُبعثون } [ المؤمنون : 16 ] للتنبيه على أن الذي خلق هذا العالم العلوي ما خلقه إلاّ لحكمة ، وأن الحكيم لا يهمل ثواب الصالحين على حسناتهم ، ولا جزاء المسيئين على سيئاتهم ، وأن جعْله تلك الطرائق فوقنا بحيث نراها ليدلنا على أن لها صلة بنا لأن عالم الجزاء كائن فيها ومخلوقاته مُستقرة فيها ، فالإشارة بهذا الترتيب مثل الإشارة بعكسه في قوله : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلاّ بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إنّ يوم الفصل ميقاتهم أجمعين } [ الدخان : 38 40 ] .والطرائق : جمع طريقة وهي اسم للطريق تذكر وتؤنث ، والمراد بها هنا طرائق سير الكواكب السبعة وهي أفلاكها ، أي الخطوط الفرضية التي ضَبط الناس بها سُمُوتَ سَيْر الكواكب ، وقد أطلق على الكوكب اسم الطارق في قوله تعالى : { والسماء والطارق } [ الطارق : 1 ] من أجل أنه ينتقل في سمت يسمى طريقة فإن الساير في طريق يقال له : طارق ، ولا شك أن الطرائق تستلزم سائرات فيها ، فكان المعنى : خلقنا سيَّارات وطرائقها .وذِكر { فوقكم } للتنبيه على وجوب النظر في أحوالها للاستدلال بها على قدرة الخالق لها تعالى فإنها بحالة إمكان النظر إليها والتأمل فيها .ولأن كونها فوق الناس مما سهل انتفاعهم بها في التوقيت ولذلك عقب بجملة { وما كنا عن الخلق غافلين } المشعر بأن في ذلك لطفاً بالخلق وتيسيراً عليهم في شؤون حياتهم ، وهذا امتنان ، فالواو في جملة { وما كنا عن الخلق غافلين } للحال ، والجملة في موضع الحال ، وفيه تنبيه للنظر في أن عالم الجزاء كائن بتلك العوالم قال تعالى : { وفي السماء رزقكم وما توعدون } [ الذاريات : 22 ] .والخلق مفعول سمي بالمصدر ، أي ما كنا غافلين عن حاجة مخلوقاتنا يعني البشر ، ونفي الغفلة كناية عن العناية والملاحظة ، فأفاد ذلك أن في خلق الطرائق السماوية لِمَا خلقت له لطفاً بالناس أيضاً إذ كان نظام خلقها صالحاً لانتفاع الناس به في مواقيتهم وأسفارهم في البر والبحر كما قال : { وهو الذي جعل لكمُ النجوم لِتَهْتَدُوا بها في ظُلُمَاتتِ البر والبحر } [ الأنعام : 97 ] . وأعظم تلك الطرائق طريقة الشمس مع ما زادت به من النفع بالإنارة وإصلاح الأرض والأجساد ، فصار المعنى : خلقنا فوقكم سبع طرائق لحكمة لا تعلمونها وما أهملنا في خلقها رعْيَ مصالحكم أيضاً .والعدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : { وما كنا عن الخلق غافلين } دون أن يقال : وما كنا عنكم غافلين ، لما يفيده المشتق من معنى التعليل ، أي ما كنا عنكم غافلين لأنكم مخلوقاتنا فنحن نعاملكم بوصف الربوبيَّة ، وفي ذلك تنبيه على وجوب الشكر والإقلاع عن الكفر .