سورة البقرة (2): مكتوبة كاملة مع التفسير التحميل

تحتوي هذه الصفحة على جميع آيات سورة البقرة بالإضافة إلى تفسير جميع الآيات من قبل تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي). في الجزء الأول يمكنك قراءة سورة البقرة مرتبة في صفحات تماما كما هو موجود في القرآن. لقراءة تفسير لآية ما انقر على رقمها.

معلومات عن سورة البقرة

سورة البقرة في القرآن الكريم

سورة البقرة هي ثاني سورة من سور القرآن الكريم، وتتألف من 286 آية. تعتبر سورة البقرة من أطول السور في القرآن الكريم، وتحتوي على مواضيع متنوعة تتعلق بالعقيدة والشريعة والأخلاق والتشريعات الاجتماعية.

تتضمن سورة البقرة العديد من الحكم والأوامر الإلهية التي تهدف إلى توجيه الإنسان في حياته وتربيته على القيم الإسلامية. كما تحتوي على قصص وأمثال تعبر عن الحكمة والعبرة للمؤمنين.

من بين المواضيع الرئيسية التي تتناولها سورة البقرة هي الإيمان والتوحيد، والشريعة والأحكام الشرعية، والأخلاق والتربية، والتاريخ الإسلامي والقصص القرآنية.

يعتبر قراءة سورة البقرة والتفكير في مضمونها من الأمور المهمة في الحياة اليومية للمسلم، حيث تحتوي على توجيهات ونصائح تساعد على تحسين الحياة الروحية والاجتماعية.

بالإضافة إلى ذلك، يعتقد الكثيرون أن قراءة سورة البقرة تحمي المنزل وأهله من الشرور والأذى، وتجلب البركة والرزق.

سُورَةُ البَقَرَةِ
الصفحة 2 (آيات من 1 إلى 5)

الاستماع إلى سورة البقرة

تفسير سورة البقرة (تفسير الوسيط لطنطاوي: محمد سيد طنطاوي)

الترجمة الإنجليزية

Aliflammeem

سورة البقرة أطول سورة في القرآن الكريم، فقد استغرقت جزءين ونصف جزء تقريبا من ثلاثين جزءا قسم إليها القرآن. وتبلغ آياتها ستا وثمانين ومائتي آية. وقيل سبع وثمانون ومائتا آية.وسميت بذلك لأنها انفردت بذكر قصة البقرة التي كلف قوم موسى بذبحها بعد أن قتل فيهم قتيل ولم يعرفوا قاتله.وهي مدنية بإجماع الآراء، وقد ابتدأ نزولها بعد هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وقد نزل معظمها في السنوات الأولى من الهجرة، واستمر نزولها إلى قبيل وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بفترة قليلة.وكانت آخر آية من القرآن نزولا منها، هي قوله- تعالى-:وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.مناسبتها لسورة الفاتحة: هناك مناسبة ظاهرة بين السورتين، لأن سورة الفاتحة قد اشتملت على أحكام الألوهية والعبودية وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم اشتمالا إجماليا، فجاءت سورة البقرة ففصلت تلك المقاصد، ووضحت ما اشتملت عليه سورة الفاتحة من هدايات وتوجيهات.فضلها: وقد ورد في فضل سورة البقرة أحاديث متعددة، وآثار متنوعة منها ما جاء في مسند أحمد وصحيح مسلّم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لا تجعلوا بيوتكم قبورا، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان.وروى ابن حبان في صحيحه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (إن لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة، وإن من قرأها في بيته لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام) .وروى الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة قال: (بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثا، وهم ذوو عدد فاستقرأ كل واحد منهم عما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال:ما معك يا فلان؟ فقال: معي كذا وكذا وسورة البقرة. فقال: أمعك سورة البقرة؟ قال:نعم. قال. اذهب فأنت أميرهم. فقال رجل من أشرافهم: والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أنى خشيت ألا أقوم بها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اقرءوا القرآن وتعلموه، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب أوكي أي أغلق- على مسك.قال القرطبي: وهذه السورة فضلها عظيم، وثوابها جسيم، ويقال لها فسطاط القرآن، وذلك لعظمها وبهائها وكثرة أحكامها ومواعظها «1» .مقاصدها: عند ما نفتح كتاب الله فنطالع فيه سورة البقرة بتدبر وعناية، نراها في مطلعها تنوه بشأن القرآن الكريم، وتصرح بأنه حق لا ريب فيه، وتبين لنا أن الناس أمام هدايته على ثلاثة أقسام:قسم آمن به وانتفع بهداياته فكانت عاقبته السعادة والفلاح.أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقسم جحد واستكبر واستحب العمى على الهدى، فأصبح لا يرجى منه خير ولا إيمان، فكانت عاقبته الحرمان والخسران.خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.ثم فصلت السورة الحديث عن قسم ثالث هو شر ما تبتلى به الأمم وهم المنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون. وقد تحدثت السورة عنهم في ثلاث عشرة آية، كشفت فيها عن خداعهم، وجبنهم، ومرض قلوبهم، وبينت ما أعده الله لهم من سوء المصير، ثم زادت في فضيحتهم وهتك سرائرهم فضربت مثلين لحيرتهم واضطرابهم، قال- تعالى-:وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ.إلى أن يقول: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.ثم وجهت السورة نداء إلى الناس جميعا دعتهم فيه إلى عبادة الله وحده وأقامت لهم الأدلة الساطعة على صدق هذه القضية، وتحدتهم- إن كانوا في ريب من القرآن- أن يأتوا بسورة من مثله. وبينت لهم أنهم لن يستطيعوا ذلك لا في الحاضر ولا في المستقبل.ثم ختم الربع الأول منها ببشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، جمعت لذائذ المادة والروح، وهم فيها خالدون. ثم قررت السورة الكريمة أن الله- تعالى- لا يمتنع عن ضرب الأمثال بما يوضح ويبين دون نظر إلى قيمة الممثل به في ذاته أو عندالناس، كما قررت أن المؤمنين يقابلون هذه الأمثال بالإيمان والإذعان، أما الكافرون فيقابلونها بالاستهزاء والإنكار.وقد وبخت السورة بعد ذلك أولئك الكافرين على كفرهم، مع وضوح الدلائل على وحدانية الله في أنفسهم وفي الآفاق فقالت:كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.ثم ذكرت السورة بعد ذلك جانبا من قصة آدم، وقد حدثتنا فيه عن خلافة آدم في الأرض، وعما كان من الملائكة من استفسار بشأنه- وعن سكن آدم وزوجه الجنة، ثم عن خروجهما منها بسبب أكلهما من الشجرة المحرمة.وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قالَ: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ.. إلخ الآيات الكريمة.هذا، وقد عرفنا قبل ذلك أن سورة البقرة نزلت بالمدينة بعد أن هاجر المسلمون إليها، وأصبحت لهم بها دولة فتية، وكان يجاورهم فيها عدد كبير من اليهود الذين كان أحبارهم يبشرون. بمبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم. فأخذت السورة الكريمة تتحدث عنهم- في أكثر من مائة آية- حديثا طويلا متشعبا..فنراها في أواخر الربع الثاني توجه إليهم نداء محببا إلى نفوسهم، تدعوهم فيه إلى الوفاء بعهودهم، وإلى الإيمان بنبي الله محمد صلّى الله عليه وسلّم فتقول:يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ.ثم تذكرهم في الربع الثالث بنعم الله عليهم، وبموقفهم الجحودي من هذه النعم، تذكرهم بنعمة تفضيلهم على عالمي زمانهم، وبنعمة إنجائهم من عدوهم، وبنعمة فرق البحر بهم، وبنعمة عفو الله عنهم مع تكاثر ذنوبهم، وبنعمة بعثهم من بعد موتهم، وبنعمة تظليلهم بالغمام، وبنعمة إنزال المن والسلوى عليهم. إلخ.ولقد كان موقف بني إسرائيل من هذه النعم يمثل الجحود والعناد والبطر، فكانت نتيجة ذلك أن.ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ.ثم تحدثت السورة بعد ذلك حديثا مستفيضا عن رذائلهم وقبائحهم ودعواهم الباطلة، والعقوبات التي حلت بهم جزاء كفرهم وجحودهم.فنراها في الربع الرابع تذكر لنا تنطعهم في الدين وإلحافهم في المسألة عند ما قال لهم نبيهم موسى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. ثم تذكر قسوة قلوبهم فتقول على سبيل التوبيخ لهم:ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ. وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.ونراها في الربع الخامس تحدثنا عن تحريفهم للكلم عن مواضعه عن تعمد وإصرار، وتتوعدهم على ذلك بسوء المصير:فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ.ثم تحدثنا عن قولهم الباطل: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً.وترد عليهم بما يبطل حجتهم، وعن نقضهم لعهودهم ومواثيقهم مع الله ومع الناس ومع أنفسهم، وعن عدائهم لرسول الله، وعن جحودهم للحق بدافع الحسد والعناد فتقول:وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً، أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ.ثم نراها في الربع السادس تحكي لنا نماذج من مزاعمهم الباطلة، ومن ذلك زعمهم أن الجنة خالصة لهم من دون الناس، ثم ترد عليهم بما يخرس ألسنتهم، وبصور جبنهم وحرصهم المشين على أية حياة حتى لو كانت ملطخة بالذل والهوان.استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك بأسلوبه البليغ فيقول:قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ.ثم تسوق لنا نماذج من سوء أدبهم مع الله، وعداوتهم لملائكته ونبذهم كتاب الله، واتباعهم للسحر والأوهام.ثم نراها في الربع السابع تقص علينا بعض الصور من المجادلات الدينية، والمخاصمات الكلامية، التي استعملوها مع النبي صلّى الله عليه وسلّم لحرب الدعوة الاسلامية، كجدالهم في قضية النسخ، وفي كون الجنة لن يدخلها لا من كان هودا أو نصارى، وفي كون القرآن ليس معجزة- في زعمهم- وإنما هم يريدون معجزة كونية.. إلخ.وقد رد القرآن عليهم بما يزهق باطلهم، ويزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم.وكما ابتدأ القرآن الحديث معهم ابتداء محببا إلى نفوسهم يا بَنِي إِسْرائِيلَ، فقد اختتمه- أيضا- بالنداء نفسه، لكي يستحثهم على الإيمان فقال:يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ، وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.ثم أخذت السورة بعد ذلك في الربع الثامن منها تحدثنا عن الكلمات التي اختبر الله بها نبيه إبراهيم، وعن قصة بناء البيت الحرام، وعن تلك الدعوات الخاشعات التي كان إبراهيم وإسماعيل يتضرعان بها إلى خالقهما وهما يقومان بهذا العمل الجليل.رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَأَرِنا مَناسِكَنا، وَتُبْ عَلَيْنا، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.ثم أخذت تقيم الحجج الباهرة، والأدلة الساطعة على أن إبراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما، وعلى أن يعقوب قد وصى ذريته من بعده أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا.ثم ختمت تلك المحاورات والمجادلات التي أبطلت بها دعاوى أهل الكتاب الباطلة، ببيان سنة من سنن الله في خلقه، هذه السنة تتلخص في بيان أن كل إنسان سيجازى بحسب عمله يوم القيامة، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وأن اتكال اليهود- أو غيرهم- على أنهم من نسل الأنبياء أو الصالحين دون أن يعملوا بعملهم لن ينفعهم شيئا. فقال- تعالى-:تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ، وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.ثم عادت السورة في الربع التاسع منها إلى الحديث عن الشبهات التي أثارها اليهود عند تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وقد رد القرآن عليهم بما يدحض هذه الشبهات، ويهوى باليهود ومن حذا حذوهم في مكان سحيق، قال- تعالى-:سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها، قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى أن يقول: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي، وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد فصلت الحديث عن بني إسرائيل تفصيلا يحمل المسلمين على العظة والاعتبار، ويعرفهم طبيعة أولئك القوم الذين خسروا أنفسهم حتى يأخذوا حذرهم منهم، وينفروا من التشبه بهم.أما المقدار الباقي من السورة الكريمة- وهو أكثر من نصفها بقليل- فعند ما نراجعه بتفكر وتدبر، نراه زاخرا بالتشريعات الحكيمة، والآداب العالية، والتوجيهات السامية.نرى السورة الكريمة في هذا المقدار منها تحدثنا في الربع العاشر منها عن بعض شعائر الله التي تتعلق بالحج، وعن الأدلة على وحدانية الله.إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.ثم بعد أن تصور لنا بأسلوب بليغ مؤثر حسرة المشركين يوم القيامة وهم يتبادلون التهم، ويتبرأ بعضهم من بعض، بعد كل ذلك توجه نداء عاما إلى الناس، تأمرهم فيه أن يقيدوا أنفسهم بما أحل الله.. وأن يبتعدوا عن محارمه فتقول:يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ.فإذا ما وصلنا إلى الربع الحادي عشر منها، رأيناها تسوق لنا في مطلعه آية جامعة لألوان البر، وأمهات المسائل الاعتقادية والعملية وهي قوله- تعالى-:لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ. إلخ.ثم أتبعت ذلك بالحديث عن القصاص، وعن الوصية، وعن الصيام وحكمته، وعن الدعاء وآدابه، ونهت المسلمين في ختامها عن مقارفة الحرام في شتى صوره وألوانه فقالت:وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ، لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.وفي مطلع الربع الثاني عشر حكت بعض الأسئلة التي كان المسلمون يوجهونها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأجابت عنها بطريقة حكيمة تدعوهم إلى التدبر والاتعاظ، ثم حضت المسلمين على الجهاد في سبيل الله، ونهتهم عن البغي والاعتداء. استمع إلى القرآن وهو يحرض المؤمنين على القتال ويرسم لهم حدوده وآدابه فيقول:وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ. كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ.ثم فصلت السورة الحديث عن الحج، فتحدثت عن جانب من آدابه وأحكامه، وحضت المسلمين على الإكثار من ذكر الله، وأن يتجنبوا التفاخر بالأحساب والأنساب، وأن يرددوا في دعائهم قوله- تعالى-:رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ.وفي الربع الثالث عشر نراها تبين لنا ألوان الناس في هذه الحياة، وأن منهم من يسعى في الإفساد وإهلاك الحرث والنسل، فإذا ما نصح أخذته العزة بالإثم، وتمادى في طغيانه وإفساده، وأن منهم من يبيع نفسه عن طواعية واختيار ابتغاء مرضاة الله.وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.ثم تبين لنا بأن الناس جميعا كانوا أمة واحدة، وأن هذه الحياة مليئة بالمصائب والمحن والفتن، وأن العاقل هو الذي يقابل كل ذلك بإيمان عميق، وصبر جميل، حتى يفوز برضى الله يوم القيامة، ويظفر بنصره في الحياة الدنيا.أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.ثم تحدثنا السورة الكريمة في الربعين الرابع عشر والخامس عشر حديثا جامعا عن النكاح ثم حذرت السورة بعد ذلك المؤمنين من التعامل بالربا، ووصفت آكليه بصفات تنفر منها القلوب، وتعافها النفوس، ووجهت إلى المؤمنين نداء أمرتهم فيه بتقوى الله، وأنذرتهم بحرب من الله لهم إن لم يتوبوا عن التعامل بالربا فقالت:يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ.ثم تحدثت بعد ذلك عن الديون والرهون، فصاغت للمؤمنين دستورا هو أدق الدساتير المدنية في حفظ الحقوق وضبطها وتوثيقها بمختلف الوسائل، ثم ختمت السورة حديثها الجامع عن العقائد والشرائع والآداب والمعاملات، بذلك الدعاء الخاشع:رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا، أَنْتَ مَوْلانا، فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.تلك هي سورة البقرة، أرأيت وحدتها في كثرتها؟ أعرفت اتجاه خطوطها في لوحتها؟ أرأيت كيف التحمت لبناتها وارتفعت سماؤها بغير عمد تسندها؟ أرأيت كيف ينادى كل عضو فيها بأنه قد أخذ مكانه المقسوم وفقا لخط جامع مرسوم، رسمه مربي النفوس ومزكيها، ومنور العقول وهاديها ومرشد الأرواح وحاديها. فتالله لو أن هذه السورة رتبت بعد تمام نزولها، لكان جمع أشتاتها على هذه الصورة معجزة، فكيف وكل نجم منها كان يوضع في رتبته من فور نزوله، وكان يحفظ لغيره مكانه انتظارا لحلوله. وهكذا كان ما ينزل منها معروف الرتبة، محدد الموقع قبل أن ينزل.لعمري لئن كانت للقرآن في بلاغة تعبيره معجزات، وفي أساليب ترتيبه معجزات، وفي نبوءاته الصادقة معجزات، وفي تشريعاته الخالدة معجزات، وفي كل ما استخدمه من حقائق العلوم النفسية والكونية معجزات لعمري إنه في ترتيب آياته على هذا الوجه لهو معجزة المعجزات .وبعد: فهذا عرض سريع لأهم مقاصد سورة البقرة، قدمناه بين يديها لنعطي القارئ الكريم صورة متميزة عنها. ومن هذا العرض نرى أنها بجانب احتوائها على أصول العقائد، وعلى كثير من أدلة التوحيد، قد وجهت عنايتها إلى أمرين اقتضتهما حالة المسلمين، بعد أن أصبحت لهم دولة بالمدينة يجاورهم فيها عدد كبير من اليهود.أما الأمر الأول فهو توجيه الدعوة إلى بني إسرائيل، ومناقشتهم فيما كانوا يثيرونه حول الرسالة الإسلامية من مؤامرات. وإماطة اللثام عن تاريخهم المظلم، وأخلاقهم المرذولة حتى يحذرهم المسلمون.وأما الأمر الثاني فهو التشريع للدولة الإسلامية الفتية، وقد رأينا أن سورة البقرة في النصف الثاني منها قد تحدثت عن تلك الجوانب التشريعية حديثا مفصلا منوعا تناول أحكام القصاص، والوصية، والصيام والاعتكاف والحج، والعمرة، والقتال، والنكاح، والإنفاق في سبيل الله.والمعاملات المالية. إلى غير ذلك من التشريعات التي سبق الحديث عنها. والآن فلنبدأ في تفسير السورة الكريمة فنقول- وبالله التوفيق-.سورة البقرة من السور التي ابتدئت ببعض حروف التهجي .وقد وردت هذه الفواتح تارة مفردة بحرف واحد ، وتارة مركبة من حرفين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة .فالسور التي بدأت بحرف واحد ثلاثة وهي سورة ص ، ق ، ن .والسورة التي بدأت بحرفين تسعة وهي : طه ، يس ، طس ، ( وحم ) في ست سور هي : غافر ، فصلت ، الزخرف ، الجاثية ، الأحقاف .والسورة التي بدأت بثلاثه أحرف ثلاث عشرة سورة وهي : ( ألم ) في ست سور : البقرة ، وآل عمران ، العنكبوت ، الروم ، لقمان ، السجدة و ( الر ) في خمس سور هي : يونس ، هود ، يوسف ، الحجر ، إبراهيم ( طسم ) في سورتين هما : الشعراء ، القصص .وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما . الرعد ، ( المر ) ، والأعراف ، ( المص ) وسورتان - أيضاً - بدئنا بخمسة أحرف وهما : مريم ( كهيعص ) والشورى ( حم عسق ) .فيكون مجموع السور التي افتتحت بالحروف المقطعة تسعا وعشرين سورة .هذا ، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ويمكن إجمال خلافهم في رأيين رئيسين :الرأي الأول يرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهي من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه .وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس - في إحدى رواياته - كما ذهب إليه الشعبي ، وسفيان الثوري ، وغيرهم من العلماء ، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال : إن لكل كتاب سراً ، وإن سر هذا القرآن في فواتح السور . ويروى عن ابن عباس أنه قال : عجزت العلماء عن إدراكها . وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال : " إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي؟ . وفي رواية أخرى عن الشعبي أنه قال : " سر الله فلا تطلبوه " .ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأي ، أنه كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس ، لأنه من المتشابه ، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثله كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها .وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإفهام عنها عند كل الناس ، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد منها ، وكذلك بعض أصحابه المقربين - ولكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعاً فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوائل بعض السور .وهناك مناقشات أخرى للعلماء حول هذا الرأي يضيق المجال عن ذكرها .أما الرأي الثاني فيرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه .وأصحاب هذا الرأي قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة ، من أهمها ما يأتي :1- أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم" من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح " وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها كسورة ولا يخلو هذا القول من الضعف ، لأن كثيراً من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، والغرض من التسمية رفع الاشتباه .2- وقيل إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى .3 - وقيل : إنها حروف مقطعة ، بعضها من أسماء الله - تعالى - وبعضها من صفاته ، فمثلاً ( الاما ) أصلها : أنا الله أعلم .4 - وقيل : إنها اسم الله الأعظم . إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلو من مقال ، والتي أوصلها السيوطي في " الإتقان " إلى أكثر من عشرين قولا .5 - ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال : إن هذه الحروف المقطعة قد وردت في افتتاح بعض السور للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها ، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة ، وفضلا عن ذلك فإن تصدير السور بمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإنصات والتدبر ، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم ، وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها ، فيستمعوا حكما وحججاً قد يكون سبباً في هدايتهم واستجابتهم للحق .هذه خلاصة لأراء العلماء في الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد مزيداً لذلك فليرجع - مثلاً - إلى كتاب " الإتقان " للسيوطي ، وإلى كتاب " البرهان " للزركشي ، وإلى تفسير الألوسي .

الترجمة الإنجليزية

Thalika alkitabu la rayba feehi hudan lilmuttaqeena

ثم قال - تعالى - : ( ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) .( ذَلِكَ ) اسم إشارة واللام للبعد حقيقة في الحس ، مجازاً في الرتبة ، والكاف للخطاب ، والمشار إليه - على الراجح - الكتاب الموعود به صلى الله عليه وسلم في قوله - تعالى - ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أخبرني عن تأليف ( ذَلِكَ الكتاب ) مع ( الم ) قلت : إن جعلت ( الم ) اسماً للسورة ففي التأليف وجوه . أن يكون ( الم ) مبتدأ و ( ذَلِكَ ) مبتدأ ثانياً ، و ( الكتاب ) خبره . والجملة خبر المبتدأ الأول .ومعناه أن ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل ، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص ، وأنه الذي يستأهل أن يسمى كتاباً ، كما تقول : هو الرجل ، أي : الكامل في الرجولية ، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال .وإن جعلت ( الم ) بمنزلة الصوت ، كان " ذلك " مبتدأ خبره " الكتاب " ، أي : ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل .. . اه ملخصاً .وقيل : المشار إليه ( الم ) على أنه اسم للسورة والمراد المسمى .و ( الكتاب ) مصدر كتب كالكتب ، وأصل الكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة ، واستعمل عرفا في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط ، وأريد به هنا المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التي يتألف منها في الخط ، تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه .و ( الريب ) في الأصل مصدر رابه الأمر إذا حصل عنده فيه ريبة ، وحقيقة الريبة ، قلق النفس واضطرابها ، ثم استعمل في معنى الشك مطلقاً . وقال ابن الأثير : الريب هو الشك مع التهمة .و ( هدى ) . مصدر هداه هدى وهداية وهدية - بكسرها - فهدى ، ومعناه الدلالة الموصلة إلى البغية ، وضده الضلال .و ( المتقون ) جمع متق ، اسم فاعل من اتقى وأصله أوتقى - بوزن افتعل - من وقى الشيء وقاية ، أي : صانه وحفظه مما يضره ويؤذيه .والمعنى : ذلك الكتاب الكامل ، وهو القرآن الكريم ، ليس محلا لأن يرتاب عاقل أو منصف في أنه منزل من عند الله ، وأنه هداية وإرشاد للمتقين الذين يجتنبون كل مكروه من قول أو فعل حتى يصونوا أنفسهم عما يضرها ويؤذيها .وكانت الإشارة بصيغة البعيد ، لأنه سامي المنزلة أينما توجهت إليه ، فإن نظرت إليه ناحية تراكيبه فهو معجز للبلغاء ، وإن نظرت إليه من ناحية معانية فهو فوق مدارك الحكماء ، وإن نظرت إليه من ناحية قصصه وتاريخه فهو أصدق محدث عن الماضين ، وأدق محدد لتاريخ السابقين ، فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن ، وقد شاع في كلام البلغاء تمثل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال ، لأن الشيء النفيس عزيز على أهله ، فمن العادة أن يجعلوه في مكان مرتفع بعيد عن الأيدي .وصحت الإشارة إلى الكتاب وهو لم ينزل كله بعد ، لأن الإشارة إلى بعضه كالإشارة إلى الكل حيث كان بصدد الإنزال ، فهو حاضر في الأذهان ، فشبه بالحاضر في العيان .ونفى عنه الريب على سبيل الاستغراق مع وقوع الريب فيه من المشركين حيث وصفوه بأنه أساطير الأولين ، لأنه لروعة حكمته ، وسطوع حجته ، لا يرتاب ذو عقل متدبر في كونه وحياً سماوياً ، ومصدر هداية وإصلاح .فالجملة الكريمة تنفي الريب في القرآن عمن شأنهم أن يتدبروه ، ويقبلوا على النظر فيه بروية ، ومن ارتاب في القرآن فلأنه لم يقبل عليه بأذن واعية ، أو بصيرة نافذة ، أو قلب سليم .وقدم جملة ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) على جملة ( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) لأنه أراد أن ينفي عن ساحة كونه كتاباً هادياً غبار الريب ، وغيوم الشكوك ، حتى يستقر في النفوس وصفه ، وتطمئن القلوب لآثاره ومقاصده وهداياته .وفصل جملة ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) عما قبلها لكمال الاتصال ، حيث كانت جملة ( ذَلِكَ الكتاب ) مفيدة لكماله ، وجملة ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) مفيدة لنفي الريب عنه .والمراد بكونه ( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) مع أنه هداية لهم ولغيرهم ، لأنهم هم المنتفعون به دون سواهم .قال تعالى : ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ) ومعنى كونه هدى لهم أنه يزيدهم هدى على ما لديهم من الهدى كما قال - تعالى - :( والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ ) ويصح أن يكون المعنى : هدى للناس الذين صاروا متقين بهذه الهداية ، كما أقول : هديت مهتديا ، أو كتبت مكتوبا ، على معنى أني هديت شخصاً صار مهدياً بهذه الهداية ، وكتبت خطاباً صار مكتوباً بهذه الكتابة ، وهو أسلوب عربي صحيح . كما ورد في حديث " من قتل قتيلا فله سلبه " .قال صاحب الكشاف : ومحل ( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) الرفع ، لأنه خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر مع ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) ل " ذلك " . . . والذي هو أرسخ عرقاً في البلاعة أن يضرب عن هذه المحال صفحاً ، وأن يقال : إن قوله ( الم ) جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة برأسها .و ( ذَلِكَ الكتاب ) جملة ثانية . و ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) ثالثة . ( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) رابعة . وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم ، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير نسق ، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض . فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها ، وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة : بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال . فكان تقريراً لجهة التحدي ، وشدا من أعضاده ثم نفى عنه أن يتشبث به من طرف الريب ، فكان شهادة وتسجيلا بكماله . لأنه لا كمال أكمل من الحق واليقين . ولا نقص أنقص ما للباطل والشبه .وقيل لبعض العلماء : فيم لذتك؟ فقال : في حجة تتبختر اتضاحاً ، وفي شبهة تتضاءل افتضاحاً . ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين ، فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ثم لم تخل كل واحدة من الأربع - بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق - من نكتة ذات جزالة . ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه . وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف .

الترجمة الإنجليزية

Allatheena yuminoona bialghaybi wayuqeemoona alssalata wamimma razaqnahum yunfiqoona

ثم فصل القرآن بعد ذلك أوصاف المتقين ، ومدحهم بجملة من المناقب الحميدة ، فقال : ( الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب ) أي : يصدقون بما غاب عن حواسهم ، كالصانع وصفاته ، وكاليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وثواب وعقاب .والإيمان لغة التصديق والإذعان ، وهو إفعال من الأمن . وشرعاً التصديق بما علم بالضرورة أنه من الدين ، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .. . الخ ، وعدى ( يُؤْمِنُونَ ) بالباء لتضمينه معنى أقر واعترف .والغيب : مصدر غاب يغيب ، وكثيراً ما يستعمل بمعنى الغائب ، وهو الظاهر من هذه الآية الكريمة . ومعناه : ما لا تدركه الحواس ، ولا يعلم ببداهة العقل .قال بعض العلماء : وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان ، لأن الإيمان بالغيب هو الأصل في اعتقاد إمكان ما لا تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوي ، فإذا آمن به المرء وتصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله - تعالى - فسهل عليه إدراك الأدلة ، وأما من يعتقد أنه ليس من وراء عالم الماديات عالم آخر ، فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة ، كما هو حال الماديين الذين يقولون : " ما يهلكنا إلا الدهر :والإيمان بالغيب : يستلزم التصديق به على وجه الجزم ، وهو لا يحصل إلا عن دليل .ولا شك أن قيام البراهين على صدق من أخبر بالغيب يجعل المؤمن بهذا الغيب مصدقاً عن دليل ، فنحن لا نحتاج في الإيمان بالملائكة والكتب السماوية السابقة ، والرسل الذين أرسلوا من قبل ، والبعث وما فيه من ثواب وعقاب ، لا نحتاج في الإيمان بكل ذلك إلى دليل زائد على الأدلة التي قامت على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .والإيمان بالغيب دليل على اتساع العقول ، وسلامة القلوب ، إذ أن معنى الإيمان بالغيب هو أن عقولهم قد سلم إدراكها ، وتقشعت عنها غشاواتها ، وامتد نظرها في الكائنات فأدركت أن لها مبدعاً حكيماً وخالقاً قديراً ، جعلها تسير بنظام محكم ، فهذه كواكب تظهر وتغيب ، وسماء مرفوعة بغير عمد ، وأرض راسية لا تميد ولا تضطرب . . . ( صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) فكان من ذلك لتلك العقول براهين قاطعة على وجود خالق مدبر ، وحكيم قدير ، ومبدع لا تأخذه سنة ولا نوم .والإيمان بالغيب الذي أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقوي ويعظم كلما قوي الإيمان في القلوب ، واستولى الصفاء على النفوس ، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالغيب في أحاديث متعددة ، منها ما جاء عن خالد بن دريك ، عن ابن محيريز قال : قلت لابن جمعة : حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم أحدثك حديثاً . تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال : " يا رسول الله ، هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك .قال : نعم ، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني " .قال ابن كثير : فقد مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية لا مطلقاً .وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم عن بديلة بنت أسلم قالت : صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ، واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ، ثم جاء من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت ، فتحول الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال ، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" أولئك قوم آمنوا بالغيب "تلك أول صفة نتيجة التقوى وهي الإيمان بالغيب ، أما الصفة الثانية التي مدح الله بها المتقين فهي قوله - تعالى - :( وَيُقِيمُونَ الصلاة ) .الصلاة في اللغة الدعاء ، من صلى يصلي إذا دعا ، واستعملها الشارع في العبادة ذات الركوع والسجود لاشتمالها على الدعاء ، والإقامة في الأصل : الدوام والثبات ، من قولك : قام الحق أي : ظهر وثبت .ومعنى ( وَيُقِيمُونَ الصلاة ) : يؤدونها في أوقاتها المقدرة لها ، مع تعديل أركانها ، وإيقاعها مستوفية لواجباتها وسننها وآدابها وخشوعها ، فإن الصلاة المقامة بحق هي تلك التي يصحبها الإخلاص ، واستحضار جلال الله في الركوع والسجود ، وهي التي تترتب عليها الآثار العظيمة من تزكية النفس ، وعفافها ، وتركها لكل الشرور والآثام ، كما قال - تعالى - ( إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر ) وقدم الإيمان بالغيب على إقامة الصلاة تعظيماً لعمل القلب ، واعتداداً بشرطية الإيمان في صحة أعمال الجوارح .وقدم إقامة الصلاة على الإنفاق ، لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولأنها تتكرر في اليوم خمس مرات ، ولأنها صلة بين العبد وربه ، والإنفاق صلته بالناس ، ولأن مشروعيتها كانت سابقة على مشروعية الزكاة .أما الصفة الثالثة التي مدح الله بها المتقين فهي قوله - تعالى - :( وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) .أي : ومما أعطيناهم وملكناهم يتصدقون في وجوه الخير ، ويمدون أيديهم بالإحسان إلى الفقير والمسكين .والرزق عند جمهور العلماء ما صلح للانتفاع به حلالا كان أو حراماً ، خلافاً للمعتزلة الذين يرون أن الحرام ليس برزق . والإنفاق : إخراج المال وإنفاده وصرفه ، يقال : نفق - كفرح ونصر - نفد وفني أو قلّ . وأنفق ماله أنفده ، وأصل المادة يدل على الخروج والذهاب ، ومنه : نافق فلان ، والنافقاء ، والنفق . وقال " ينفقون " ولم يقل أنفقوا ، ليشعر بأن الإنفاق منهم يتجدد بين وقت وآخر . ولم يحدد وجوه الإنفاق بل تركها مطلقة لتشمل الفرض والواجب وغيرهما من وجوه الإحسان .وإيراد " من " في قوله تعالى - ( وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ ) للإشارة إلى أن مواظبتهم على إنفاق أموالهم بين الحين والحين ، كفيل بتوصيلهم إلى زمرة المهتدين المفلحين ، وللإشعار بأنهم ينفقون بعض أموالهم مبتعدين عن الإسراف والتبذير حتى لا يتركوا ورثتهم عالة يتكففون وجوه الناس .هذا ، وقد عنى القرآن الكريم عناية فائقة بالحض على الإنفاق في وجوه الخير ، ومدح الذين يفعلون ذلك مدحاً عظيماً في عشرات الآيات ، وذلك لأن الأمة التي يكثر فيها المنفقون لأموالهم في وجوه الخير ، لا بد أن تعز كلمتها ، وتسلم من كوارث شتى ، كالجهل ، والفقر ، والمرض .فببذل الماء تسد حاجات البؤساء ، وتشاد معاهد التعليم ، وتقام وسائل حفظ الصحة ، وتنمو المحبة والمودة بين الأغنياء والفقراء .قال تعالى : ( مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ثم أضاف القرآن إلى صفات المتقين وصفاً رابعاً فقال :

الترجمة الإنجليزية

Waallatheena yuminoona bima onzila ilayka wama onzila min qablika wabialakhirati hum yooqinoona

( والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ )والمراد بقوله - تعالى - ( بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) القرآن الكريم ، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي - وإن كان بعضه مترقباً - تغليباً للموجود على ما لم يوجد . والمراد - بقوله - تعالى - ( وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ ) الكتب الإلهية السابقة التي أنزلها الله على أنبيائه كموسى وعيسى وداود . وهذا كقوله - تعالى - :( يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ) والإيمان بما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم يستلزم الإيمان برسالته ، ويستوجب العمل بما تضمنته شريعته .وإيجاب العمل بما تضمنه القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم باق على إطلاقه . أما الكتب السماوية السابقة فيكفي الإيمان بأنها كانت وحياً وهداية ، وقد تضمن القرآن الكريم ما اشتملت عليه هذه الكتب من هدايات وأصبح بنزوله مهيمناً عليها ، قال - تعالى - :( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) وصار من المحتم على كل عاقل أن يعمل بما جاء به القرآن من توجيهات .وقدم الإيمان بما أنزل عليه على الإيمان الذين من قبله - مع أن الترتيب يقتضي العكس - لأن إيمانهم بمن قبله لا قيمة له إلا إذا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .ولم يقل : ويؤمنون بما أنزل من قبلك بتكرير يؤمنون ، للإشعار بأن الإيمان به وبهم واحد ، لا تغاير فيه وإن تعدد متعلقه .ويرى بعض العلماء أن المراد من الآية الكريمة ، أهل الكتاب الذين آمنوا بالكتب السماوية التي نزلت قبل القرآن ، نم لما نزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعرفوا أنه الحق - آمنوا به أيضاً - ، فصار لهم أجران ، كما جاء في الحديث الشريف ، الذي ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين يوم القيامة : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ، ثم أعتقها " .ثم وصف الله المتقين بوصف خامس فقال : ( وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ ) الآخرة تأنيث الآخر .وهذا اللفظ تارة يجيء وصفاً ليوم القيامة مع ذكر الموصوف ، كما في قوله - تعالى - ( وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) وتارة بهذا المعنى ولكن بدون ذكر الموصوف ، كما في الآية التي معنا ، وكما في قوله - تعالى -( وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ) وسميت آخرة لأنها تأتي بعد الدنيا التي هي الدار الأولى .و ( يُوقِنُونَ ) من الإيقان وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، بحيث لا يطرأ عليه شك ، ولا تحوم حوله شبهة . يقال يقن الماء إذا سكن وظهر ما تحته ، ويقال : يقنت - بالكسر - يقناً ، وأيقنت ، وتيقنت ، واستيقنت بمعنى واحد .والمعنى : وبالدار الآخرة وما فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب هم يوقنون إيقاناً قطعياً ، لا أثر فيه للادعاءات الكاذبة ، والأوهام الباطلة .وفي إيراد " هم " قبل قوله " يوقنون " تعريض ، بغيرهم ، ممن كان اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق للحقيقة أو غير بالغ مرتبة اليقين .ولا شك أن الإيمان باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب ، له أثر عظيم في فعل الخيرات ، واجتناب المنكرات ، لأن من أدرك أن هناك يوماً سيحاسب فيه على عمله ، فإنه من شأنه أن يسلك الطريق القويم الذي يكسبه رضي الله يوم يلقاه .قال أبو حيان : وذكر لفظة ( هُمْ ) في قوله : ( وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ ) ولم يذكرها في قوله : ( وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإنفاق فاحتاج هذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد ولأنه لو ذكر ( هُمْ ) هناك لكان فيه قلق لفظي ، إذ يكون التركيب " ومما رزقناهم هم ينفقون " .ثم بين - سبحانه - بعد ذلك الثمار التي ترتبت على تقواهم فقال :

الترجمة الإنجليزية

Olaika AAala hudan min rabbihim waolaika humu almuflihoona

( أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون ) .المفلحون : من الفلاح وهو الظفر والفوز بدرك البغية ، وأصله من الفلح - بسكون اللام - وهو الشق والقطع ، ومنه فلاحة الأرض وهو شقها للحرث . وأستعمل منه الفلاح في الفوز كأن الفائز شق طريقه وفلحه للوصول إلى مبتغاه ، أو انفتحت له طريق الظفر وانشقت .والمعنى : أولئك المتصفون بما تقدم من صفات كريمة ، على نور من ربهم ، وأولئك هم الفائزون بما طلبوا ، الناجون مما منه هربوا ، بسبب إيمانهم العميق ، وأعمالهم الصالحة .والآية الكريمة كلام مستأنف لبيان أن أولئك المتقين في المنزلة العليا من الكمال الإنساني ، فقد وصفهم - سبحانه - بأنهم على هدى عظيم ، ويدل على عظم هذا الهدى إيراده بصيغة التنكير ، إن من المعلوم عند علماء البيان أن التنكير يدل بمعونة المقام على التعظيم . كما يدل - أيضاً - على عظم هذا الهدى وصفه بأنه " من ربهم " فهو الذي وفقهم إليه ، ويسر لهم أسبابه .وفي قوله - تعالى - : ( على هُدًى ) إشعار بأنهم تمكنوا منه تمكن من استعلى على الشيء ، وصار في قرار راسخ منه .وجملة " وأولئك هم المفلحون " بيان لما ظفر به المتقون الحائزون لتلك الخصال ، من سعادة في الدنيا والآخرة .وتعريف الخبر وهو ( المفلحون ) مع إيراد ضمير الفصل " هم " يفيد أن الفلاح مقصور على أولئك المتقين ، فمن لم يؤمن بالغيب ، أو أضاع الصلاة ، أو بخل بالمال الذي منحه الله إياه فلم يؤده في وجوهه المشروعة ، فإنه لا يكون من المهتدين ، ولا من المفلحين الذين سعدوا في دنياهم وآخرتهم .قال الإمام الرازي : " وفي تكرير " ( أولئك ) تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ، فقد ثبت لهم الاختصاص بالفلاح - أيضاً - فقد تميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين ، فإن قيل : فلم جيء بالعاطف؟ وما الفرق بينه وبين قوله : ( أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون ) قلنا : قد اختلف الخبران ههنا فلذلك دخل العاطف ، بخلاف الخبرين ثمة فإنهما متفقان ، لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد ، وكانت الثانية مقررة لما في الأولى ، فهي من العطف بمعزل " .وقال صاحب الكشاف بعد تفسيره لهذه الآية الكريمة " . . . فانظر كيف كرر الله التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى ، وهي : ذكر اسم الإشارة ، وتكريره ، وتعريف المفلحين ، وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين أولئك ، ليبصرك مرتباتهم ، ويرغبك في طلب ما طلبوا ، وينشطك لتقديم ما قدموا ، ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب والتمني على الله ما لا تقتضيه حكمته ولم تسبق به كلمته . . . " .وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد مدحت القرآن الكريم بما يستحقه ، وأثنت على من اهتدوا بهديه ، ووصفتهم بالصفات السامية ، وبشرتهم بالبشارات الكريمة .وبعد أن انتهى القرآن من بيان شأن الكتاب وأثره في الهداية والإرشاد ، وتصوير حال المتقين الذين اهتدوا به ، وما اكتسبوه بالهداية من أوصاف سامية ، وما كان لهم على ذلك من خير العاقبة وحسن الجزاء ، أقول بعد أن انتهى من بيان كل ذلك شرع في بيان حال الكافرين ، وما هم عليه من سوء الحال وقبيح الأوصاف فقال :( إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ . . . )
2