سورة آل عمران (3): مكتوبة كاملة مع التفسير التحميل

تحتوي هذه الصفحة على جميع آيات سورة آل عمران بالإضافة إلى تفسير جميع الآيات من قبل تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي). في الجزء الأول يمكنك قراءة سورة آل عمران مرتبة في صفحات تماما كما هو موجود في القرآن. لقراءة تفسير لآية ما انقر على رقمها.

معلومات عن سورة آل عمران

سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ
الصفحة 55 (آيات من 38 إلى 45)

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٌ يُصَلِّى فِى ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًۢا بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَٰمٌ وَقَدْ بَلَغَنِىَ ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِى عَاقِرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِّىٓ ءَايَةً ۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِىِّ وَٱلْإِبْكَٰرِ وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَٰلَمِينَ يَٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِى لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِى وَٱرْكَعِى مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ
55

الاستماع إلى سورة آل عمران

تفسير سورة آل عمران (تفسير الوسيط لطنطاوي: محمد سيد طنطاوي)

الترجمة الإنجليزية

Hunalika daAAa zakariyya rabbahu qala rabbi hab lee min ladunka thurriyyatan tayyibatan innaka sameeAAu aldduAAai

قوله- تعالى هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ كلام مستأنف، وقصة مستقلة سيقت في تضاعيف قصة مريم وأمها لما بينهما من قوة الارتباط، وشدة الاشتباك مع ما في إيرادها من تقرير ما سبقت له قصة مريم وأمها من بيان اصطفاء آل عمران.و «هنا» ظرف يشار به إلى المكان القريب كما في قوله- تعالى- إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ وتدخل عليه السلام والكاف «هنالك» أو الكاف وحدها «هناك» فيكون للبعيد وقد يشار به للزمان اتساعا.والمعنى: في ذلك المكان الطاهر الذي كان يلتقى فيه زكريا بمريم ويرى من شأنها ما يرى من فضائل وغرائب، تحركت في نفس زكريا عاطفة الأبوة، وهو الشيخ الكبير الذي وهن عظمه واشتعل رأسه شيبا، وبلغ من الكبر عتيّا- فدعا الله تعالى- بقلب سليم، وبنفس صافية وبجوارح خاشعة، أن يرزقه الذرية الصالحة. ولقد حكى القرآن دعاءه بأسلوبه المؤثر فقال:قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ.أى، قال زكريا مناجيا ربه: يا رب أنت الذي خلقتني، وأنت الذي لا يقف أمام قدرتك شيء، وأنت الذي جعلتني أرى من أحوال مريم ما يشهد بقدرتك النافذة وفضلك العميم فهب لي يا خالقي من عندك ذرية صالحة تقر بها عيني، وتكون خلفا من بعدي إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ أى إنك عليم بدعائى علم من يسمع، قريب الإجابة لمن يدعوك، فإن أجيب لي سؤالى فبفضلك وإن لم تجبه، فبعدلك وحكمتك. فأنت ترى في هذا الدعاء الذي صدر عن زكريا- عليه السّلام- أسمى ألوان الأدب والخشوع والإنابة. فقد رفع أكف الضراعة في مكان مقدس طاهر، وفي التعبير بقوله دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ إشارة إلى تسليمه الله وإلى شعوره بقدرة الله على كل شيء، فهو الذي خلقه ورباه وتولاه برعايته في كل أدوار حياته.وفي قوله هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ إشعار بأنه يريد من خالقه- عز وجل- أن يعطيه هذه الذرية بلا سبب عادى، ولكن بإرادته وقدرته لأنه لو كان الأمر في هذا العطاء يعود إلى الأسباب والمسببات العادية لكان الحصول على الذرية مستبعدا إذ هو قد بلغ من الكبر عتيا وزوجته قد تجاوزت السن التي يحصل فيها الإنجاب في العادة.أى هب لي من عندك لا من عندي، لأن الأسباب عندي أصبحت مستبعدة. وفي تقييد الذرية بكونها طيبة، إشارة إلى أن زكريا لقوة إيمانه، ونقاء سريرته، وحسن صلته بربه، لا يريد ذرية فحسب وإنما يريد ذرية صالحة يرجى منها الخير في الدنيا والآخرة.وجملة إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ تعليلية، أى إنى ما التجأت إليك يا إلهى إلا لأنك مجيب للدعاء غير مجيب للرجاء.قال القرطبي ما ملخصه «دلت هذه الآية على طلب الولد وهي سنة المرسلين والصديقين.قال الله- تعالى-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً.. وقد ترجم البخاري على هذا «باب طلب الولد» وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبى طلحة حين مات ابنه «أعرستم الليلة» قال نعم. قال: «بارك الله لكما في غابر ليلتكما» فقال رجل من الأنصار فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرءوا القرآن، والأخبار في هذا المعنى كثيرة. تحث على طلب الولد لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد مماته. قال صلّى الله عليه وسلّم إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث:فذكر منها «أو ولد صالح يدعو له» ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية هذا، وقد حكى لنا القرآن في سورة مريم دعاء زكريا بصورة أكثر تفصيلا فقال: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا. قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا.هذا هو دعاء زكريا كما حكاه الله- تعالى- في أكثر من موضع في كتابه الكريم فماذا كانت نتيجة هذا الدعاء الخاشع، والتضرع الخالص؟ لقد كانت نتيجته الإجابة من الله- تعالى- لعبده زكريا، فقد قال- تعالى-: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى.

الترجمة الإنجليزية

Fanadathu almalaikatu wahuwa qaimun yusallee fee almihrabi anna Allaha yubashshiruka biyahya musaddiqan bikalimatin mina Allahi wasayyidan wahasooran wanabiyyan mina alssaliheena

أى: فنادت الملائكة زكريا- عليه السّلام- وهو قائم يصلى في المحراب، يناجى ربه.ويسبح بحمده بأن الله قد استجاب دعاءك ويبشرك بغلام اسمه يحيى، لكي تقر به عينك ويسر به قلبك.والتعبير بالفاء في قوله فَنادَتْهُ يشعر بأن الله- تعالى- فضلا منه وكرما قد استجاب لزكريا دعاءه بعد فترة قليلة من هذا الدعاء الخاشع، إذ الفاء تفيد التعقيب.ويرى فريق من المفسرين أن الذي ناداه هو جبريل وحده، ومن الجائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع.قال ابن جرير: كما يقال في الكلام: خرج فلان على بغال البريد وإنما ركب بغلا واحدا وركب السفن وإنما ركب سفينة واحدة وكما يقال: ممن سمعت هذا؟ فيقال: من الناس، وإنما سمعه من رجل واحد، وقد قيل: إن منه قوله- تعالى- الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ والقائل كان فيما ذكر واحد . ويرى فريق آخر منهم أن الذي نادى زكريا وبشره بمولوده يحيى، جمع من الملائكة لأن الآية صريحة في أن هذا النداء قد صدر من جمع لا من واحد، ولأن صدوره من جمع يناسب هذه البشارة العظيمة، فقد جرت العادة في أمثال هذه البشارات العظيمة أن يقوم بها جمع لا واحد، ولا شك أن حالة زكريا وحالة زوجه تستدعيان عددا من المبشرين لإدخال السرور على هذين الشخصين الذين كادا يفقدان الأمل في إنجاب الذرية.وقد رجح هذا الاتجاه ابن جرير فقال «وأما الصواب من القول في تأويله فأن يقال: إن الله- جل ثناؤه- أخبر أن الملائكة نادته، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الملائكة دون الواحد، جبريل واحد فلا يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب دون الأقل ما وجدنا إلى ذلك سبيلا، ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفي من الكلام والمعاني» .وقوله وَهُوَ قائِمٌ جملة حالية من مفعول النداء، و «يصلى» حال من الضمير المستكن في قائم أو حال أخرى من مفعول النداء على القول بجواز تعدد الحال، وقوله فِي الْمِحْرابِ متعلق بيصلى. والمراد بالمحراب هنا المسجد، أو المكان الذي يقف فيه الإمام في مقدمة المسجد.وقرأ جمهور القراء: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بفتح همزة أن- على أنه في محل جر بباء محذوفه.أى: نادته الملائكة بأن الله يبشرك بيحيى.وقرأ ابن عامر وحمزة: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ- بكسر الهمزة- على تضمين النداء معنى القول، أى: قالت له الملائكة إن الله يبشرك بيحيى.وقوله: بِيَحْيى متعلق بيبشرك، وفي الكلام مضاف أى يبشرك بولادة يحيى، لأن الذوات ليست متعلقا للبشارة.وفي اقتران التبشير بالتسمية بيحيى، إشعار بأن ذلك المولود سيحيا اسمه وذكره بعد موته، وبذلك تتحقق الإجابة لدعاء زكريا تحققا تاما، فقد حكى القرآن عنه في سورة مريم أنه قال:يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا قال الجمل: و «يحيى، فيه قولان:أحدهما: وهو المشهور عند أهل التفسير أنه منقول من الفعل المضارع، وقد سموا بالأفعال كثيرا نحو يعيش ويعمر.. وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل، نحو يزيد ويشكر وتغلب.والثاني: أنه أعجمى لا اشتقاق له، وهذا هو الظاهر، فامتناعه من الصرف للعلمية والعجمة» .ثم وصف الله- تعالى- يحيى- عليه السّلام- بأربع صفات كريمة فقال: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ. وَسَيِّداً. وَحَصُوراً. وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ فالصفة الأولى: من صفات يحيى- عليه السّلام- أنه كان مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة اتجاهان:أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه- وهم جمهور العلماء- أن المراد بكلمة الله هو عيسى- عليه السلام- لأنه كان يسمى بذلك أى أن يحيى كان مصدقا بعيسى ومؤمنا بأنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.وقد كان يحيى معاصرا لعيسى. وكانت بينهما قرابة قوية إذ أن والدة يحيى كانت أختا لأم مريم وقيل إن أم يحيى كانت أختا لمريم.وأما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه أن المراد بكلمة الله كتابه، أى أن يحيى من صفاته الطيبة أنه كان مصدقا بكتاب الله وبكلامه، وذلك لأن الكلمة قد تطلق ويراد منها الكلام، والعرب تقول أنشد فلان كلمة أى قصيدة، وقال كلمة أى خطبة.ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب، لأن القرآن قد وصف عيسى بأنه كلمة الله في أكثر من موضع فيه ومن ذلك قوله- تعالى- يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وقوله تعالى- يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ولأن في التعبير عن عيسى الذي صدقه يحيى- بأنه كلمة من الله، إشعارا بأن ولادتهما متقاربة من حيث الزمن، وإيماء إلى أن زكريا- عليه السّلام- قد أوتى علما بأن المسيح عهده قريب، وأن يحيى- عليه السّلام- سيعيش حتى يدرك عيسى.وقوله مُصَدِّقاً منصوب على الحال المقدرة من يحيى، أى على الحال التي سيكون عليها في المستقبل، والمراد بهذا التصديق الإيمان بعيسى- كما سبق أن أشرنا- قيل: هو أول من آمن بعيسى وصدق أنه كلمة الله وروح منه.و «من» في قوله مِنَ اللَّهِ للابتداء. والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة، أى مصدقا بكلمة كائنة من الله- تعالى- والصفة الثانية: من صفات يحيى عبر عنها القرآن بقوله «وسيدا» والسيد- كما يقول القرطبي- الذي يسود قومه وينتهى إلى قوله. وأصله سيود يقال: فلان أسود من فلان على وزن أفعل من السيادة، ففيه دلالة على تسمية الإنسان سيدا. وفي الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لبنى قريظة عند ما دخل سعد بن معاذ- «قوموا إلى سيدكم» وفي الصحيحين أنه قال في الحسن «إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»والمراد أن يحيى- عليه السّلام- من صفاته أنه سيكون سيدا، أى يفوق غيره في الشرف والتقوى وعفة النفس، بأن يكون مالكا لزمامها، ومسيطرا على أهوائها.والصفة الثالثة: من صفاته عبر عنها القرآن بقوله: وَحَصُوراً وأصل الحصر: المنع والحبس. يقال حصرنى الشيء وأحصرنى إذا حبسني.والمراد أن يحيى- عليه السلام- من صفاته أنه سيكون حابسا نفسه عن الشهوات، حتى لقد قيل عنه إنه امتنع عن الزواج وهو قادر على ذلك- زهادة منه واستعفافا، وليس صحيحا ما قيل من أنه كان لا يأتى النساء لعدم قدرته على ذلك.قال ابن كثير: وقد قال القاضي عياض في كتابه الشفاء: اعلم أن ثناء الله على يحيى بأنه كان حَصُوراً معناه أنه معصوم من الذنوب، أى لا يأتيها كأنه حصور عنها. وقيل: مانعا نفسه من الشهوات، وقيل ليست له شهوة في النساء وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله- تعالى- كيحيى- عليه السّلام- ثم هي في حق من قدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه: درجة عليا وهي درجة نبينا صلّى الله عليه وسلّم الذي لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وهدايته لهن.. والمقصود أن مدح يحيى بأنه حصور ليس معناه أنه لا يأتى النساء، بل معناه أنه معصوم من الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال:هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً كأنه قال ولدا له ذرية ونسل وعقب.أما الوصف الرابع: من أوصاف يحيى- عليه السّلام- فهو قوله- تعالى- وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وفي هذا الوصف بشارة ثانية لزكريا بأن ابنه سيكون من الأنبياء الذي اصطفاهم الله لتبليغ دعوته إلى الناس، وهذه البشارة أسمى وأعلى من الأولى التي أخبره الله فيها بولادة يحيى، لأن النبوة منزلة لا تعدلها منزلة في الشرف والفضل.

الترجمة الإنجليزية

Qala rabbi anna yakoonu lee ghulamun waqad balaghaniya alkibaru waimraatee AAaqirun qala kathalika Allahu yafAAalu ma yashao

ثم حكى القرآن بعد ذلك ما قاله زكريا بعد أن ساقت له الملائكة تلك البشارات السارة فقال- تعالى: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ أنى هنا بمعنى كيف. و «عاقر» أى عقيم لا تلد لكبر سنها من العقر وهو العقم. يقال عقرت المرأة تعقر عقرا وعقرا فهي عاقر إذا بلغت سن اليأس من الولادة. أى قال زكريا على سبيل التعجب بعد أن نادته الملائكة وبشرته بما بشرته به: يا رب كيف يكون لي غلام والحال أننى قد أدركنى الكبر الكامل الذي أضعفنى، وفوق ذلك فإن امرأتى عاقر أى عقيم لا تلد لشيخوختها وبلوغها العمر الذي ينقطع معه النسل؟قال بعضهم: وإنما قال ذلك استفهاما عن كيفية حدوث الحمل، أو استبعادا من حيث العادة، أو استعظاما وتعجبا من قدرة الله- تعالى- لا استبعادا أو إنكارا فلا يرد: كيف قال زكريا ذلك ولم يكن شاكا في قدرة الله- تعالى-.والجملة الكريمة استئناف مبنى على سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال زكريا عند ما بشرته الملائكة؟ فكان الجواب: قال رب أنى يكون لي غلام.وقد خاطب زكريا ربه مع أن النداء له صدر من الملائكة، للإشعار بالمبالغة في التضرع وأنه قد طرح الوسائط واتجه إلى خالقه مباشرة يشكره ويظهر التعجب من قدرته لأنه- سبحانه- أعطاه ما لم تجر العادة به.قال الآلوسى وقوله يَكُونُ يجوز أن تكون من كان التامة فيكون فاعلها هو قوله غُلامٌ ويكون الظرف أَنَّى والجار والمجرور لِي متعلقان بها.ويجوز أن تكون من كان الناقصة ولِي متعلق بمحذوف وقع حالا لأنه لو تأخر لكان صفة. وفي الخبر حينئذ وجهان: أحدهما أَنَّى لأنها بمعنى كيف أو من أين والثاني الخبر الجار والمجرور وأَنَّى منصوب على الظرفية» .وقوله وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ جملة حالية من ياء المتكلم، أى أصابنى الكبر وأدركنى فأضعفنى وأفقدنى قوتي.والكبر مصدر كبر الرجل إذا أسن. وقد قال زكريا وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ولم يقل وقد بلغت الكبر للإشارة إلى الكبر قد تابعه ولازمه حتى أصابه بالضعف والآلام والأسقام.وقوله وَامْرَأَتِي عاقِرٌ جملة حالية أيضا إما من ياء لِي أو ياء بَلَغَنِيَ.فأنت ترى أن زكريا- عليه السّلام- قد أظهر التعجب عند ما بشرته الملائكة بغلامه يحيى لأنه كان شيخا مسنا ولأن امرأته كانت عقيما لا تلد إما لكبر سنها- أيضا وإما لأنها من الأصل كانت على غير استعداد للحمل والإنجاب.قال ابن عباس: كان زكريا يوم بشر بيحيى ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة»ثم حكى القرآن أن الله تعالى قد رد على زكريا بما يزيل عجبه ويمنع حيرته فقال تعالى، قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ.أى قال- سبحانه-: مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذي رأيته من أن يكون لك غلام وأنت شيخ كبير وامرأتك عاقر مثل ذلك الفعل يفعل الله ما يشاء أن يفعله، لأنه- سبحانه- هو خالق الأسباب والمسببات ولا يعجزه شيء في هذا الكون، وبقدرته أن يغير ما جرت به العادات بين الناس.فالجملة الكريمة بجانب تضمنها إقناع زكريا وإزالة عجبه، تتضمن أيضا تقرير قضية عامة وهي أن الله- تعالى- يفعل ما يشاء أن يفعله بدون تقيد بالأسباب والمسببات والعادات فهو الفعال لما يريد.

الترجمة الإنجليزية

Qala rabbi ijAAal lee ayatan qala ayatuka alla tukallima alnnasa thalathata ayyamin illa ramzan waothkur rabbaka katheeran wasabbih bialAAashiyyi waalibkari

ثم حكى القرآن أن زكريا- لشدة لهفته على تحقق البشارة- سأل ربه أن يجعل له علامة تكون دليلا على تحقيق الحمل عند زوجته فقال- تعالى: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً.أى قال زكريا مناجيا ربه: يا رب إنى أسألك أن تجعل لي آيَةً أى: علامة تدلني على حصول الحمل عند زوجتي: لأبادر إلى القيام بشكر هذه النعمة شكرا جزيلا ولأقوم بحقها حق القيام.وقد أجابه- سبحانه- إلى طلبه فقال: قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً.أى قال الله- تعالى- لعبده زكريا: آيتك أى علامتك ألا تقدر على كلام الناس من غير آفة في لسانك لمدة ثلاثة أيام إلا رَمْزاً أى إلا عن طريق الإيحاء والإشارة.وأصل الرمز الحركة. يقال ارتمز أى تحرك، ومنه قيل للبحر الراموز وفعله من باب نصر وضرب. ثم أطلق الرمز على الإيماء بالشفتين أو بالحاجبين وعلى الإشارة باليدين وهو المراد هنا.قال صاحب الكشاف: قال الله- تعالى- لزكريا آيتك ألا تقدر على تكليم الناس ثلاثة أيام: وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله. ولذلك قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ يعنى في أيام عجزك عن تكليم الناس وهي من الآيات الباهرة، فإن قلت: لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ قلت: ليخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره، توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها الذي طلب الآية من أجله، كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له: آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر. وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ومنتزعا منه إِلَّا رَمْزاً أى: إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما .وعلى رأى صاحب الكشاف يكون احتباس لسان زكريا عن كلام الناس اضطراريا وليس عن اختيار منه.ويمكن أن يقال. إن المراد بقوله- تعالى- قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً.. أن زكريا- عليه السّلام- عند ما طلب آية يعرف بها أن زوجته قد حملت بهذا الغلام الذي بشره الله به، أخبره- سبحانه- أن العلامة على ذلك أن يوفق إلى خلوص نفسه من شواغل الدنيا حتى أنه ليجد نفسه متجها اتجاها كليا إلى ذكر الله وتمجيده وتسبيحه، دون أن يكون عنده أى دافع إلى كلام الناس أو مخالطتهم مع قدرته على ذلك، وعلى هذا يكون انصراف زكريا- عليه السّلام- عن كلام الناس اختياريا وليس اضطراريا كما يرى صاحب الكشاف.ثم أمره الله- تعالى- بالإكثار من ذكره وتسبيحه فقال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ.وبِالْعَشِيِّ جمع عشية وقيل: هو واحد وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، وأما الْإِبْكارِ فمصدر أبكر يبكر إذا خرج للأمر في أول النهار.. ومنه الباكورة لأول الثمرة.والمراد به هنا الوقت الذي يكون من طلوع الفجر إلى الضحى.أى عليك أن تكثر من ذكر الله- تعالى- ومن تسبيحه في أول النهار وفي آخره وفي كل وقت لا سيما في تلك الأيام الثلاثة شكرا الله- تعالى- على ما أعطاك من نعم جليلة لا تحصى، فقد وهبك الذرية بعد أن بلغت من الكبر عتيا، وجعل هذا المولود من أنبياء الله الذين اصطفاهم لتبليغ رسالته.وفي هذا الأمر الإلهى لزكريا حصن لكل عاقل على الإكثار من ذكر الله من تسبيحه وتمجيده لأن ذكر الله به تطمئن القلوب. وتسكن النفوس وتغسل الخطايا والذنوب ويكفى للدلالة على فضل الذكر أن الله- تعالى- أمر به حتى في حالة الحرب فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ساقت لنا جانبا من قصة زكريا- عليه السّلام- فيه الكثير من العبر والعظات لقوم يعقلون.وبعد أن بين- سبحانه- ما يدل على مظاهر قدرته في ولادة يحيى- عليه السّلام- حيث وهبه لوالديه بعد أن بلغا مبلغا كبيرا من العمر يستبعد معه في العادة الإنجاب.. بعد أن بين كل ذلك ساق قصة أخرى أدل على قدرة الله ونفاذ إرادته من قصة ولادة يحيى، وهذه القصة هي قصة ولادة عيسى- عليه السّلام- من غير أب. وقد مهد القرآن لولادة عيسى ببيان أن الله- تعالى- قد اصطفى أمه مريم وطهرها من كل فاحشة، وفضلها على نساء زمانها، وصانها من كل ما يخدش المروءة والشرف. استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى ذلك بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول:

الترجمة الإنجليزية

Waith qalati almalaikatu ya maryamu inna Allaha istafaki watahharaki waistafaki AAala nisai alAAalameena

وقوله- تعالى- وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ.. إلخ معطوف على قوله: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي.. إلخ عطف القصة على القصة، فإن الله- تعالى- بعد أن ذكر ما قالته امرأة عمران عند ما أحست بالحمل. وبعد ولادتها لمريم، وما كان من شأنها وتربيتها وكفالتها بعد أن ذكر ذلك، بين- سبحانه ما كان من أمر مريم بعد أن بلغت رشدها واكتمل تكوينها، وجاء بقصة زكريا بين قصة الأم وابنتها لما بينهما من مناسبة إذ أن دعاء زكريا ربه كان سببه ما رآه من إكرام الله- سبحانه- لمريم ولأن الكل لبيان اصطفاء آل عمران.والمعنى، واذكر يا محمد للناس وقت أن قالت الملائكة لمريم- التي تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا- يا مريم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ أى اختارك واجتباك لطاعته، وقبلك لخدمة بيته وَطَهَّرَكِ من الأدناس والأقذار، ومن كل ما يتنافى مع الخلق الحميد، والطبع السليم وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ بأن وهب لك عيسى من غير أب دون أن يمسسك بشر.وجعلك أنت وهو آية للعالمين.فأنت ترى أن الله- تعالى- قد مدح مريم مدحا عظيما بأن شهد لها بالاصطفاء والطهر والمحبة، وأكد هذا الخبر للاعتناء بشأنه، والتنويه بقدره.قال الفخر الرازي ما ملخصه:والاصطفاء الأول إشارة إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها بأن قبل الله- تعالى- تحريرها أى خدمتها لبيته، مع أنها أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث، وبأن فرغها لعبادته وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة، وبأن كفاها أمر معيشتها فكان يأتيها رزقها من عند الله..وأما الاصطفاء الثاني فالمراد به أنه- تعالى- وهب لها عيسى- عليه السّلام من غير أب، وجعلها وابنها آية للعالمين» .ولا شك أن ولادتها لعيسى من غير أب ودون أن يمسها بشر، هو أمر اختصت به مريم ولم تشاركها فيه امرأة قط في أى زمان أو مكان، فهي أفضل النساء في هذه الحيثية.أما من حيث قوة الإيمان، وصلاح الأعمال فيجوز أن يحمل اصطفاؤها على نساء العالمين على معنى تفضيلها على عالمي زمانها من النساء وبعضهم يرى أفضليتها على جميع النساء في سائر الأعصار.هذا وقد أورد ابن كثير عددا من الأحاديث التي وردت في فضل مريم وفي فضل غيرها من النساء، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن على بن أبى طالب أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد» وروى الترمذي عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» وأخرج البخاري عن أبى موسى الأشعرى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون. ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»وقول الملائكة لمريم إن الله اصطفاك وطهرك.. إلخ الراجح أنهم قالوه لها مشافهة، لأن هذا ما يدل عليه ظاهر الآية، وإليه ذهب صاحب الكشاف فقد قال: روى أنهم كلموها شفاها معجزة لزكريا، أو إرهاصا لنبوة عيسى- عليه السّلام- .وقال الجمل قوله: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ أى مشافهة لها بالكلام، وهذا من باب التربية الروحية بالتكاليف الشرعية المتعلقة بحال كبرها بعد التربية الجسمانية اللائقة بحال صغرها» .وقيل كان خطابهم لها بالإلهام أو بالرؤيا الصادقة في النوم.والأول أولى لأنه هو الظاهر من الآية، ولأنه الموافق لأقوال جمهور المفسرين، ولأنه جاء صريحا في آيات أخرى أن الملك قد تمثل لها بشرا سويا وكلمها، وذلك في قوله- تعالى- في سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا. قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا.قال الآلوسى: «واستدل بهذه الآية من ذهب إلى نبوة مريم: لأن تكليم الملائكة يقتضيها ومنعها اللقاني وغيره من العلماء، لأن الملائكة قد كلموا من ليس بنبي إجماعا، فقد جاء في الحديث الشريف أنهم كلموا رجلا خرج لزيارة أخ له في الله، وأخبروه بأن الله يحبه كما أحب هو أخاه، ولم يقل أحد بنبوته- فكلام الملائكة لمريم لا يقتضى نبوتها وهو الصحيح» .

الترجمة الإنجليزية

Ya maryamu oqnutee lirabbiki waosjudee wairkaAAee maAAa alrrakiAAeena

ثم حكى القرآن أن الملائكة أمرت مريم بأن تكثر من عبادة الله- تعالى- ومن المداومة على طاعته شكرا له فقال- تعالى-:يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ.القنوت. لزوم الطاعة والاستمرار عليها، مع استشعار الخشوع والخضوع الله رب العالمين.أى: قالت الملائكة أيضا لمريم: يا مريم أخلصى العبادة لله وحده وداومى عليها، وأكثرى من السجود الله ومن الركوع مع الراكعين، فإن ملازمة الطاعات والصلوات من شأنها أن تحفظ النعم وأن تزيد الإنسان قربا وحبا من خالقه- عز وجل-.فالآية الكريمة دعوة قوية من الله- تعالى- لمريم ولعباده جميعا بالمحافظة على العبادات ولا سيما الصلاة في جماعة.قال صاحب الكشاف: أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئة الصلاة وأركانها ثم قيل لها وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ بمعنى ولتكن صلاتك مع المصلين أى في الجماعة، أو انظمى نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم .فأنت ترى في هاتين الآيتين أسمى ألوان المدح والتكريم والتهذيب لمريم البتول، فلقد أخبر- سبحانه- باصطفائها صغيرة وكبيرة، وبطهرها من كل سوء، والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى، وذلك لما لا بس مولد عيسى- عليه السّلام- من خوارق، هذه الخوارق جعلت اليهود يفترون الكذب على مريم، ويتهمونها زورا وبهتانا بما هي بريئة منه، ثم بعد ذلك يأمرها- سبحانه- بمداومة الطاعة والعبادة والخضوع الله رب العالمين.وبذلك يتبين لكل ذي عقل سليم أن الإسلام الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم هو الدين الحق، لأنه قد قال القول الحق في شأن مريم وابنها عيسى- عليه السّلام- أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقد اختلفوا في شأنهما اختلافا عظيما أدى بهم إلى الضلال والخسران.

الترجمة الإنجليزية

Thalika min anbai alghaybi nooheehi ilayka wama kunta ladayhim ith yulqoona aqlamahum ayyuhum yakfulu maryama wama kunta ladayhim ith yakhtasimoona

ثم بين- سبحانه- أن ما جاء به القرآن في شأن مريم- بل وفي كل شأن من الشئون- هو الحق الذي لا يحوم حوله باطل، وهو من أنباء الغيب التي لا يعلمها أحد سواه فقال- تعالى:ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ.واسم الإشارة ذلِكَ يعود إلى ما تقدم الحديث عنه من قصة امرأة عمران وقصة زكريا وغير ذلك من الأخبار البديعة.والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر العظيم الشأن.والغيب: مصدر غاب، وهو الأمر المغيب المستور الذي لا يعلم إلا من قبل الله- تعالى-.ونوحيه: من الإيحاء وهو إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفى، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء وبمعنى الإلهام.أى: ذلك القصص الحكيم الذي قصصناه عليك يا محمد، فيما يتعلق بما قالته امرأة عمران وما قاله زكريا، وما قالته الملائكة لمريم وفيما يتعلق بغير ذلك من شئون ذلك القصص الحكيم هو من أنباء الغيب التي لا يعلمها أحد سوى الله- عز وجل- وقد أخبرناك بها لتكون دليلا على صدقك فيما تبلغه عن ربك ولتكون عبرة وذكرى لقوم يعقلون.وقوله ذلِكَ مبتدأ وخبره قوله- تعالى- مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. وقوله نُوحِيهِ إِلَيْكَ جملة مستقلة مبينة للأولى. والضمير في نُوحِيهِ يعود إلى الغيب أى الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به، ونظهرك على قصص من تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار.ولذا قال- تعالى- وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ والأقلام جمع قلم وهي التي كانوا يكتبون بها التوراة، وقيل المراد بها السهام.أى وما كنت- يا محمد- لديهم أى عندهم معاينا لفعلهم وما جرى من أمرهم في شأن مريم، إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ التي جعلوا عليها علامات يعرف بها من يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون فيما بينهم بسببها تنافسا في كفالتها.وقد سبق أن ذكرنا ما قاله صاحب الكشاف من أن مريم بعد أن ولدتها أمها خرجت بها إلى بيت المقدس فوضعتها عند الأحبار وقالت لهم: دونكم هذه النذيرة!! فقالوا: هذه ابنة إمامنا عمران- وكان في حياته يؤمهم في الصلاة، فقال لهم زكريا: ادفعوها إلى فأنا أحق بها منكم فإن خالتها عندي- فقالوا لا حتى نقترع عليها فانطلقوا إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم، فتولى كفالتها زكريا- عليه السّلام- . فالضمير في قوله لَدَيْهِمْ يعود على المتنازعين في كفالة مريم لأن السياق قد دل عليهم.والمقصود من هذه الجملة الكريمة «وما كنت لديهم إذ يلقون إلخ تحقيق كون الإخبار بما ذكر إنما هو عن وحى من الله- تعالى- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يكن معاصرا لهؤلاء الذين تحدث القرآن عنهم. ولم يقرأ أخبارهم في كتاب من الكتب، ومع ذلك فقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أهل الكتاب وغيرهم بالحق الذي لا يستطيعون تكذيبه إلا على سبيل الحسد والجحود، فثبت أن القرآن من عند الله- تعالى- وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً.

الترجمة الإنجليزية

Ith qalati almalaikatu ya maryamu inna Allaha yubashshiruki bikalimatin minhu ismuhu almaseehu AAeesa ibnu maryama wajeehan fee alddunya waalakhirati wamina almuqarrabeena

ثم حكى- سبحانه- ما قالته الملائكة لمريم على سبيل تبشيرها بعيسى- عليه السّلام- فقال- تعالى- إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.وهذه الجملة الكريمة بدل اشتمال من جملة وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ.إلخ قالوا: ولا يضر الفصل إذ الجملة الفاصلة بين البدل والمبدل منه اعتراض جيء به تقريرا لما سبق وتنبيها على استقلاله.والظرف إِذْ معمول لمحذوف تقديره اذكر، أى اذكر وقت أن قالت الملائكة لمريم، يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه.وقوله يبشرك بِكَلِمَةٍ مِنْهُ أى يبشرك بمولود يحصل بكلمة منه- سبحانه- وسمى هذا المولود كلمة لأنه وجد بكلمة كن فهو من باب إطلاق السبب على المسبب.والمراد أنه وجد من غير واسطة أب، لأن غيره وإن وجد بتلك الكلمة لكنه بواسطة أب، أى أنه- سبحانه- إذا كان قد خلق الناس بطريق التناسل عن ذكر وأنثى وأخرج الأولاد من أصلاب الآباء، فإن عيسى- عليه السّلام- لم يكن كذلك، بل خلقه الله- تعالى- خلقا آخر، خلقه بِكَلِمَةٍ مِنْهُ وهي «كن» فكان كما أراده الله و «من» في قوله «منه» لابتداء الغاية والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة: أى بكلمة كائنة منه.فالمراد بقوله «كلمة» أى يبشر بولد حي يسرى عليه حكم الأحياء اسمه المسيح عيسى ابن مريم وعلى هذا التأويل سار كثير من المفسرين.ورجح ابن جرير أن معنى بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ببشرى منه- سبحانه- فقد قال: وقوله «بكلمة منه» يعنى برسالة من الله وخير من عنده وهو من قول القائل: ألقى إلى فلان كلمة سرني بها بمعنى أخبرنى خبرا فرحت به.. فتأويل الكلام: وما كنت يا محمد عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده، هي ولدك اسمه المسيح عيسى ابن مريم».وعلى كلا التأويلين ففي التعبير عن عيسى- عليه السّلام- بأنه كلمة من الله تكريم له وتشريف، وقوله اسْمُهُ الْمَسِيحُ مبتدأ وخبر، والجملة نعت. والضمير في قوله اسْمُهُ يعود إلى كلمة. وجاء مذكرا رعاية للمعنى لأننا سبق بينا أن المراد بها عند كثير من المفسرين الولد.والمسيح: لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق، وأصله مشيحا بالعبرانية ومعناه المبارك. وقد حكى الله- تعالى- أنه قال عن نفسه إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وقيل المسيح فعيل بمعنى فاعل، للمبالغة في مسحه الأرض بالسياحة للعبادة: أو مسحه ذا العاهة ليبرأ. أو بمعنى مفعول أى ممسوح لأن الله مسحه بالطهر من الذنوب.وعيسى: اسم لهذا الاسم الكريم، وهو اسم ينبئ عن البياض والصفاء والنقاء.قال الراغب: عيسى اسم علم، وإذا جعل عربيا أمكن أن يكون من قولهم بعيرا عيسى وناقة عيساء وجمعها عيس وهي إبل بيض يعترى بياضها بعض الظلمة» أى فيها اغبرار قليل يعطى بياضها صفاء ونقاء وجمالا.وابن مريم: هو كنيته، وهي للإشارة إلى أن نسبه ثابت لأمه لا لأحد سواها وليس ابنا الله- تعالى- كما قال الضالون.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم قيل عيسى ابن مريم والخطاب لمريم؟ قلت: لأن الأبناء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات، فأعلمت بنسبه إليها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه. وبذلك فضلت واصطفيت على نساء العالمين: فإن قلت لم ذكر ضمير الكلمة.قلت لأن المسمى بها مذكر. فإن قلت: لم قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم وهذه ثلاثة أشياء: الاسم منها عيسى وأما المسيح والابن فلقب وصفة؟ قلت: الاسم المسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره، فكأنه قيل: الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة» «2» .والمعنى الإجمالى للجملة الكريمة: اذكر يا محمد وقت أن قالت الملائكة لمريم: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه أى بمولود يحصل بكلمة منه بلا واسطة أب، هذا المولود العجيب اسمه الذي يميزه لقبا المسيح ويميزه علما عيسى ويميزه كنية ابن مريم.فأنت ترى أنه- سبحانه- قد عرف هذا المولود العظيم بتعريف واحد جمع ثلاثة أمور كل واحد منها يشير إلى معنى كريم قد تحقق في هذا النبي العظيم ومجموع هذه الأمور لا يشاركه فيها أحد من البشر، ثم بعد ذلك وصفه- سبحانه- بأربعة أوصاف تدل على فضله وعلو منزلته فقال- تعالى- وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ.أما الصفة الأولى فهي قوله- تعالى-: وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أى ذا جاه وشرف ومنزلة عالية. يقال وجه الرجل يوجه- من باب ظرف- وجاهة فهو وجيه إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس. واشتقاقه من الوجه لأنه أشرف الأعضاء ولأنه هو الذي يواجه الإنسان به غيره.وعيسى عليه السّلام، شهد الله تعالى له، - وكفى بالله شهيدا- شهد له بالوجاهة وسمو المنزلة في الدنيا والآخرة لما له من آثار عظيمة في هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ودعوتهم إلى وحدانية الله وإلى مكارم الأخلاق، وإقامة التوراة بعد أن اختلفوا فيها.والصفة الثانية من صفاته أنه مِنَ الْمُقَرَّبِينَ أى أنه من المقربين عند الله- تعالى- ويا لها من صفة عظيمة هي منتهى ما تتطلع إليه النفوس وتهفو القلوب.
55