سورة عبس: الآية 17 - قتل الإنسان ما أكفره...

تفسير الآية 17, سورة عبس

قُتِلَ ٱلْإِنسَٰنُ مَآ أَكْفَرَهُۥ

الترجمة الإنجليزية

Qutila alinsanu ma akfarahu

تفسير الآية 17

لُعِنَ الإنسان الكافر وعُذِّب، ما أشدَّ كفره بربه!! ألم ير مِن أيِّ شيء خلقه الله أول مرة؟ خلقه الله من ماء قليل- وهو المَنِيُّ- فقدَّره أطوارا، ثم بين له طريق الخير والشر، ثم أماته فجعل له مكانًا يُقبر فيه، ثم إذا شاء سبحانه أحياه، وبعثه بعد موته للحساب والجزاء. ليس الأمر كما يقول الكافر ويفعل، فلم يُؤَدِّ ما أمره الله به من الإيمان والعمل بطاعته.

«قتل الإنسان» لعن الكافر «ما أكفره» استفهام توبيخ، أي ما حمله على الكفر.

قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ لنعمة الله وما أشد معاندته للحق بعدما تبين، وهو ما هو؟

يقول تعالى ذاما لمن أنكر البعث والنشور من بني آدم ( قتل الإنسان ما أكفره ) قال الضحاك عن ابن عباس ( قتل الإنسان ) لعن الإنسان وكذا قال أبو مالك وهذا لجنس الإنسان المكذب لكثرة تكذيبه بلا مستند بل بمجرد الاستبعاد وعدم العلمقال ابن جرير ( ما أكفره ) ما أشد كفره وقال ابن جرير ويحتمل أن يكون المراد أي شيء جعله كافرا ؟ أي ما حمله على التكذيب بالمعاد .وقال قتادة وقد حكاه البغوي عن مقاتل والكلبي ( ما أكفره ) ما ألعنه .

قال الإمام الرازي: اعلم أنه- تعالى- لما بدأ بذكر القصة المشتملة على ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين، عجب عباده المؤمنين من ذلك، فكأنه قيل: وأى سبب في هذا العجب والترفع؟ مع أن أوله نطفة قذرة، وآخره جيفة مذرة، وفيما بين الوقتين حمال عذرة.فلا عجب أن ذكر الله- تعالى- ما يصلح أن يكون علاجا لعجبهم وما يصلح أن يكون علاجا لكفرهم، فإن خلقة الإنسان يستدل بها على وجود الصانع، وعلى القول بالبعث والحشر والنشر ... .والمراد بالإنسان هنا: الإنسان الكافر الجاحد لنعم ربه. ومعنى «قتل» : لعن وطرد من رحمة الله- تعالى-، ويصح أن يكون المراد به الجنس، ويدخل فيه الكافر دخولا أوليا.أى: لعن وطرد من رحمة الله- تعالى- ذلك الإنسان الذي ما أشد كفره وجحوده لنعم الله- تعالى-.والدعاء عليه باللعن من الله- تعالى-، المقصود به: التهديد والتحقير من شأن هذا الإنسان الجاحد، إذ من المعلوم أن الله- سبحانه- هو الذي يتوجه إليه الناس بالدعاء، وليس هو- سبحانه- الذي يدعو على غيره، إذ الدعاء في العادة إنما يكون من العاجز، وجل شأن الله- تعالى- عن العجز.وجملة «ما أكفره» تعليل لاستحقاق هذا الإنسان الجاحد التحقير والتهديد.وهذه الآية الكريمة المتأمل فيها يراها- مع بلوغها نهاية الإيجاز- قد بلغت- أيضا- نهاية الإعجاز في أسلوبها، حيث جمعت أشد ألوان الذم والتحقير بأبلغ أسلوب وأوجزه.ولذا قال صاحب الكشاف: قُتِلَ الْإِنْسانُ دعاء عليه، وهي من أشنع دعواتهم، لأن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها ما أَكْفَرَهُ تعجيب من إفراطه في كفران نعمة الله، ولا ترى أسلوبا أغلظ منه، ولا أخشن متنا، ولا أدل على سخط، ولا أبعد في المذمة، مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للائمة، على قصر متنه ... .

قوله - عز وجل - : ( قتل الإنسان ) أي لعن الكافر . قال مقاتل : نزلت في عتبة بن أبي لهب ( ما أكفره ) ما أشد كفره بالله مع كثرة إحسانه إليه وأياديه عنده ، على طريق التعجب ، قال الزجاج : معناه : اعجبوا أنتم من كفره . وقال الكلبي ومقاتل : هو " ما " الاستفهام ، يعني : أي شيء حمله على الكفر ؟

قوله تعالى : قتل الإنسان ما أكفره ؟ قتل أي لعن . وقيل : عذب . والإنسان الكافر روى الأعمش عن مجاهد قال : ما كان في القرآن قتل الإنسان فإنما عني به الكافر . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : نزلت في عتبة بن أبي لهب ، وكان قد آمن ، فلما نزلت والنجم ارتد ، وقال : آمنت بالقرآن كله إلا النجم ، فأنزل الله - جل ثناؤه فيه - قتل الإنسان أي لعن عتبة حيث كفر بالقرآن ، ودعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : اللهم سلط عليه كلبك أسد الغاضرة فخرج من فوره بتجارة إلى الشام ، فلما انتهى إلى الغاضرة تذكر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فجعل لمن معه ألف دينار إن هو أصبح حيا ، فجعلوه في وسط الرفقة ، وجعلوا المتاع حوله ، فبينما هم على ذلك أقبل الأسد ، فلما دنا من الرحال وثب ، فإذا هو فوقه فمزقه ، وقد كان أبوه ندبه وبكى وقال : ما قال محمد شيئا قط إلا كان . وروى أبو صالح عن ابن عباس ما أكفره : أي شيء أكفره ؟ وقيل : ما تعجب ; وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا : قاتله الله ما أحسنه ! وأخزاه الله ما أظلمه ; والمعنى : اعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا . وقيل : ما أكفره بالله ونعمه مع معرفته بكثرة إحسانه إليه على التعجب أيضا ; قال ابن جريج : أي ما أشد كفره ! وقيل : ما استفهام أي أي شيء دعاه إلى الكفر ; فهو استفهام توبيخ . و ( ما ) تحتمل التعجب ، وتحتمل معنى أي ، فتكون استفهاما .

وقوله: ( قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) يقول تعالى ذكره: لعن الإنسان الكافر ما أكفره.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال مجاهد.حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا عبد الحميد الحِماني، عن الأعمش، عن مجاهد قال: ما كان في القرآن قُتِلَ الإنسانُ أو فُعل بالإنسان، فإنما عنِي به: الكافر.حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان ( قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) بلغني أنه: الكافر.وفي قوله: ( أكْفَرَهُ ) وجهان: أحدهما: التعجب من كفره مع إحسان الله إليه، وأياديه عنده. والآخر: ما الذي أكفره، أي: أيّ شيء أكفره.

قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) استئناف ابتدائي نشأ عن ذكر من استغنى فإنه أريد به معين واحد أو أكثرُ ، وذلك يبيِّنه مَا وقع من الكلام الذي دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين صناديد المشركين في المجلس الذي دخل فيه ابن أم مكتوم .والمناسبة وصفُ القرآن بأنه تذكرة لمن شاء أن يتذكر ، وإذ قد كان أكبر دواعيهم على التكذيب بالقرآن أنه أخبر عن البعث وطالَبهم بالإِيمان به كان الاستدلال على وقوع البعث أهم ما يعتنى به في هذا التذكير وذلك من أفنان قوله : { فمن شاء ذكره } [ عبس : 12 ] .والذي عُرِّف بقوله : { من استغنى } [ عبس : 5 ] يشمله العموم الذي أفاده تعريف { الإِنسان } من قوله تعالى : { قتل الإنسان ما أكفره } .وفعل قُتل فُلانٌ أصله دعاء عليه بالقتل . والمفسرون الأولون جعلوا : { قتل الإنسان } أنه لُعِن ، رواه الضحاك عن ابن عباس وقاله مجاهد وقتادة وأبو مالك . قال في «الكشاف» : «دعاء عليه وهذا من أشنع دعواتهم» ، أي فمورده غير مورد قوله تعالى : { قاتلهم اللَّه } [ التوبة : 30 ] وقولِهم : قاتَل الله فلاناً يريدون التعجب من حاله ، وهذا أمر مرجعه للاستعمال ولا داعي إلى حمله على التعجيب لأن قوله : { ما أكفره } يغني عن ذلك .والدعاء بالسوء من الله تعالى مستعمل في التحقير والتهديد لظهور أن حقيقة الدعاء لا تناسب الإلهية لأن الله هو الذي يتوجه إليه الناس بالدعاء .وبناء { قتل } للمجهول متفرع على استعماله في الدعاء ، إذ لا غرض في قاتِل يَقتله ، وكثر في القرآن مبنياً للمجهول نحو { فقتل كيف قدر } [ المدثر : 19 ] .وتعريف { الإنسان } يجوز أن يكون التعريفَ المسمى تعريفَ الجنس فيفيد استغراق جميع أفراد الجنس ، وهو استغراق حقيقي ، وقد يراد به استغراق معظم الأفراد بحسب القرائن فتولَّدَ بصيغة الاستغراق ادعاء لعدم الاعتداد بالقليل من الأفراد ، ويسمى الاستغراق العرفي في اصطلاح علماء المعاني ، ويسمى العامَّ المرادَ به الخصوص في اصطلاح علماء الأصول والقرينة هنا ما بُين به كفر الإِنسان من قوله : { من أي شيء خلقه } إلى قوله : { ثم إذا شاء أنشره } فيكون المراد من قوله : { الإنسان } المشركين المنكرين البعث ، وعلى ذلك جملة المفسرين ، فإن معظم العرب يومئذ كافرون بالبعث .قال مجاهد : ما كان في القرآن { قتل الإنسان } فإنما عُني به الكافر .والأحكام التي يحكم بها على الأجناس يراد أنها غالبة على الجنس ، فالاستغراق الذي يقتضيه تعريف لفظ الجنس المحكوم عليه استغراق عرفي معناه ثبوت الحكم للجنس على الجملة ، فلا يقتضي اتصاف جميع الأفراد به ، بل قد يخلو عنه بعض الأفراد وقد يخلو عنه المتصف به في بعض الأحيان ، فقوله : { ما أكفره } تعجيب من كفر جنس الإنسان أو شدة كفره وإن كان القليل منه غير كافر .فآل معنى الإنسان إلى الكفار من هذا الجنس وهم الغالب على نوع الإِنسان .فغالب الناس كفروا بالله من أَقدم عصور التاريخ وتفَشَّى الكفر بين أفراد الإِنسان وانتصروا له وناضلوا عنه . ولا أعجبَ من كفر من أَلَّهوا أعْجز الموجودات من حجارة وخشب ، أو نَفَوا أن يكون لهم رب خلقهم .ويجوز أن يكون تعريف { الإنسان } تعريف العهد لشخص معين من الإنسان يُعيِّنه خبر سبب النزول ، فقيل : أريد به أميةُ بن خلف ، وكان ممن حواه المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم ، وعندي أن الأولى أن يكون أراد به الوليد بن المغيرة .وعن ابن عباس أن المراد عتبة بن أبي لهب ، وذكر في ذلك قصة لا علاقة لها بخبر المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم ، فتكون الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، والمناسبة ظاهرة .وجملة { ما أكفره } تعليل لإنشاء الدعاء عليه دعاء التحقير والتهديد . وهذا تعجيب من شدة كفر هذا الإنسان .ومعنى شدة الكفر أن كفره شديد كَمّاً وكيْفاً ، ومتىً ، لأنه كفر بوحدانية الله ، وبقدرته على إعادة خلق الأجسام بعد الفناء ، وبإرساله الرسول ، وبالوحي إليه صلى الله عليه وسلم وأنه كفر قوي لأنه اعتقاد قوي لا يقبل التزحزح ، وأنه مستمر لا يقلع عنه مع تكرر التذكير والإِنذار والتهديد .وهذه الجملة بلغت نهاية الإِيجاز وأرفع الجزالة بأسلوب غليظ دال على السخط بالغ حدّ المذمة ، جامع للملامة ، ولم يسمع مثلها قبلها ، فهي من جوامع الكلم القرآنية .وحذف المتعلِّق بلفظ { أكفره } لظهوره من لفظ «أكفَرَ» وتقديرُه : ما أكفره بالله .وفي قوله : { قتل الإنسان ما أكفره } محسّن الاتِّزَان فإنه من بحر الرمل من عروضه الأولى المحذوفة .
الآية 17 - سورة عبس: (قتل الإنسان ما أكفره...)