سورة الأنفال: الآية 4 - أولئك هم المؤمنون حقا ۚ...

تفسير الآية 4, سورة الأنفال

أُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ

الترجمة الإنجليزية

Olaika humu almuminoona haqqan lahum darajatun AAinda rabbihim wamaghfiratun warizqun kareemun

تفسير الآية 4

هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال هم المؤمنون حقًا ظاهرًا وباطنًا بما أنزل الله عليهم، لهم منازل عالية عند الله، وعفو عن ذنوبهم، ورزق كريم، وهو الجنة.

«أولئك» الموصوفون بما ذكر «هم المؤمنون حقا» صدقا بلا شك «لهم درجاتٌ» منازل في الجنة «عند ربهم ومغفرة ورزق كريم» في الجنة.

أُولَئِكَ الذين اتصفوا بتلك الصفات هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان، بين الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، بين العلم والعمل، بين أداء حقوق اللّه وحقوق عباده. وقدم تعالى أعمال القلوب، لأنها أصل لأعمال الجوارح وأفضل منها،.وفيها دليل على أن الإيمان، يزيد وينقص، فيزيد بفعل الطاعة وينقص بضدها. وأنه ينبغي للعبد أن يتعاهد إيمانه وينميه،.وأن أولى ما يحصل به ذلك تدبر كتاب اللّه تعالى والتأمل لمعانيه.ثم ذكر ثواب المؤمنين حقا فقال: لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: عالية بحسب علو أعمالهم. وَمَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو ما أعد اللّه لهم في دار كرامته، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ودل هذا على أن من يصل إلى درجتهم في الإيمان - وإن دخل الجنة - فلن ينال ما نالوا من كرامة اللّه التامة.

وقوله ( أولئك هم المؤمنون حقا ) أي : المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان . .وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا ابن لهيعة ، عن خالد بن يزيد السكسكي ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن محمد بن أبي الجهم ، عن الحارث بن مالك الأنصاري ؛ أنه مر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له : كيف أصبحت يا حارث ؟ قال : أصبحت مؤمنا حقا . قال : انظر ماذا تقول ، فإن لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟ فقال : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها ، فقال : يا حارث ، عرفت فالزم - ثلاثا .وقال عمرو بن مرة في قوله : ( أولئك هم المؤمنون حقا ) إنما أنزل القرآن بلسان العرب ، كقولك : فلان سيد حقا ، وفي القوم سادة ، وفلان تاجر حقا ، وفي القوم تجار ، وفلان شاعر حقا ، وفي القوم شعراء .وقوله : ( لهم درجات عند ربهم ) أي : منازل ومقامات ودرجات في الجنات ، كما قال تعالى : ( هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون ) [ آل عمران : 163 ] .( ومغفرة ) أي : يغفر لهم السيئات ، ويشكر لهم الحسنات .وقال الضحاك في قوله : ( لهم درجات عند ربهم ) أهل الجنة بعضهم فوق بعض ، فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه ، ولا يرى الذي هو أسفل أنه فضل عليه أحد .ولهذا جاء في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أهل عليين ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء ، قالوا : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء لا ينالها غيرهم ؟ فقال : بلى ، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين .وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد [ و ] أهل السنن من حديث عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أهل الجنة ليتراءون أهل الدرجات العلى كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء ، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما .

ولذا مدح- سبحانه- أصحاب هذه الصفات، وبين ما أعده لهم من ثواب جزيل فقال: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.أى: أولئك المتصفون بتلك الصفات الكريمة هم المؤمنون إيمانا حقا لَهُمْ دَرَجاتٌ عالية، ومكانة سامية عِنْدَ رَبِّهِمْ ولهم مَغْفِرَةٌ شاملة لما فرط منهم من ذنوب، ولهم رِزْقٌ كَرِيمٌ في الجنة، يجعلهم يحيون فيها حياة طيبة لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ.وقوله حَقًّا منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف، أى: أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا.والتنوين في قوله دَرَجاتٌ للتعظيم والتهويل أى: لهم درجات رفيعة، ومنازل عظيمة، وفي وصف هذه الدرجات بأنها عِنْدَ رَبِّهِمْ مزيد تشريف لهم، ولطف بهم، وإيذان بأن ما وعدهم به متيقن الوقوع، لأنه وعد من كريم لا يخلف وعده- سبحانه- وفي وصف الرزق الذي أعده لهم بالكرم، زيادة في إدخال السرور على قلوبهم لأن لفظ الكريم يصف به العرب كل شيء حسن في بابه، بحيث يكون لا قبح فيه ولا شكوى معه.وبذلك نرى أن أصحاب تلك الصفات الحميدة قد مدحهم الله- تعالى- مدحا عظيما، وكافأهم على إيمانهم الحق بالدرجات العالية، والمغفرة الشاملة، والرزق الكريم: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.هذا، وقد استنبط العلماء من تلك الآيات جملة من الأحكام والآداب منها:1- حرص الصحابة على سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم.فإن قيل: كيف تأتى لأصحابه الذين شهدوا بدرا- وهم من هم في عفتهم وزهدهم- أن يختلفوا في شأن الغنائم.فالجواب،، أن بعض الصحابة المشتركين في هذه الغزوة هم الذين حدث بينهم الخلاف في شأنها لأنهم لم يكن لهم عهد سابق بكيفية تقسيمها، أما أكثر الصحابة فإنهم لم يلتفتوا إلى هذه الغنائم، بل تركوا أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها كيف يشاء.وأيضا فإن هؤلاء الذين حدث بينهم الخلاف في شأن الغنائم، كان من الدوافع التي دفعتهم إلى هذا الخلاف، ما فهموه من أن حيازة الغنائم تدل على حسن البلاء، وشدة القتال في سبيل الله، فكان كل واحد منهم يحرص على أن يظهر بهذا المظهر المشرف وهم في أول لقاء لهم مع أعدائهم.وعند ما جاوز هذا الحرص حده، بأن غطى على ما يجب أن يسود بينهم من سماحة وصفاء، نزل القرآن ليربيهم بتربيته الحكيمة، وليؤدبهم بأدبه السامي، وليخبرهم بحكم الله في شأن هذه الأنفال.. وبعد أن عرفوا حكم الله في شأنها، قابلوه بالرضا والإذعان والتسليم.2- أن القرآن في ترتيبه للحوادث، لا يلزم سردها على حسب زمن وقوعها، وإنما يرتبها بأسلوبه الخاص الذي يراعى فيه مقتضى حال المخاطب.فلقد افتتحت السورة التي معنا بالحديث عن الغنائم التي غنمها المسلمون في بدر- مع أن ذلك كان بعد انتهاء الغزوة- ليشعر المخاطبين من أول الأمر أن النصر في هذه الغزوة كان للمسلمين، وأن الإسلام قد صرع الكفر منذ أول معركة نازله فيها.وهذا اللون من الافتتاح هو ما يعبر عنه البلغاء ببراعة الاستهلال.ولقد أفاض بعض العلماء في شرح هذا المعنى فقال ما ملخصه.وقد بدأت السورة بموضوع الأنفال واختلافهم في قسمتها وسؤالهم عنها، فساقت في ذلك أربع آيات، هن: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ.. إلى قوله- وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.وقد عالجت هذه الآيات نفوس المؤمنين، وعملت على تطهيرها من الاختلاف الذي ينشأ عن حب المال والتطلع إلى المادة، ولا ريب أن حب المال والتطلع إلى المادة من أكبر أسباب الفشل.ولأهمّيّة هذا الموضوع في حياة المؤمنين بدأت به السورة، وإن كان اختلافهم في قسمة الأنفال متأخرا في الوجود عن اختلافهم في الخروج إلى بدر، وقتال الأعداء.وقد عرفنا من سنة القرآن في ذكر القصص والوقائع أنه لا يعرض لها مرتبة حسب وقوعها، وذلك لأنه لا يذكرها على أنها تاريخ يعين لها الوقت والمكان، وإنما يذكرها لما فيها من العبر والمواعظ، ولما تتطلبه من الأحكام والحكم.وقد بدأت السورة بالحديث عن الأنفال للمسارعة من أول الأمر بنتائج النصر الذي كفله الله للمؤمنين.وليس من تربية النفوس أن نبدأ الكلام معها بما يدل على الاضطراب والفزع والتردد أمام وسائل العزة والشرف، متى وجد لهم بجانب هذا التردد ما يدل على مواقف الشرف والكرامة..ولا كذلك يكون الأمر إذا بدئت ببيان تثاقلهم في الخروج إلى الغزوة، وانظر كيف يكون وقع المطلع إذا جاء على هذا الوجه «كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ... إلخ» .لا ريب أنه مطلع شديد الوقع على النفوس، يصور علاقة المؤمنين بنبيهم في صورة يأباها إيمانهم به وامتثالهم لأمره. يصورهم في شقاق واختلاف مع قائدهم ورسولهم ويصورهم في ثوب الكراهية الشديدة لمعالي الأمور وعز الحياة.لهذا كله جاء الأسلوب في سرد الوقائع غير مكترث بمخالفة ترتيبها في الوجود الخارجي.3- استدل جمهور العلماء بقوله- تعالى- وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً على أن الإيمان يزيد وينقص..ومن المفسرين الذين بسطوا القول في هذه المسألة الإمام الآلوسى، فقد قال ما ملخصه:قوله- تعالى- وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ أى: القرآن زادَتْهُمْ إِيماناً أى:تصديقا كما هو المتبادر، فإن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج مما لا ريب في كونه موجبا لذلك.وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يقبل الزيادة والنقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، وبه أقول لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلا.بل قد احتج عليه بعضهم بالعقل- أيضا- وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي، مساويا لإيمان الأنبياء والملائكة، واللازم باطل فكذا الملزوم.وقال النووي: إن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها، فكذا التصديق والمعرفة يتفاضلان بحسب ظهور البراهين وكثرتها.وذهب الإمام أبو حنيفة وكثير من المتكلمين إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واختاره إمام الحرمين، محتجين بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان، وذلك لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان فالمصدق إذا أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا، وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة.وذهب جماعة منهم الإمام الرازي إلى أن الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه وعدمهما لفظي، وهو فرع تفسير الإيمان، فمن فسره بالتصديق قال: إنه لا يزيد ولا ينقص، ومن فسره بالأعمال مع التصديق قال: إنه يزيد وينقص، وعلى هذا قول البخاري «لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، وهو المعنى بما روى عن ابن عمر أنه قال. قلنا يا رسول الله إن الإيمان يزيد وينقص، قال، نعم، يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار.ويبدو لنا أن رأى جمهور العلماء في هذه المسألة، أولى بالقبول لأنه من الواضح أن إيمان الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- أرسخ وأقوى من إيمان آحاد الناس، ولأنه كلما تكاثرت الأدلة كان الإيمان أشد رسوخا في النفس وأعمق أثرا في القلب، فلا تزلزله الشبهات ولا تزعزعه العوارض والفتن.ومن أوضح الأدلة على أن الإيمان يقوى بقوة البرهان إلى درجة الاطمئنان، ما حكاه الله- تعالى- عن إبراهيم في قوله: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى، وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.فهذه الآية تدل دلالة واضحة على أن مقام الطمأنينة في الإيمان، يزيد على ما دونه من الإيمان المطلق قوة وكمالا. إن إبراهيم- عليه السلام- لا شك أنه كان مؤمنا عند ما سأل ربه هذا السؤال، سأله ذلك لينتقل من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة أعلى: وهي مرتبة عين اليقين ...هذا، وشبيه بهذه الآية في الدلالة على قبول الإيمان للزيادة والنقصان قوله- تعالى-:الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً...وقوله- تعالى-: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ...وقوله- تعالى-: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ.وقوله- تعالى-: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي وردت في هذا المعنى.4- في هذه الآيات الكريمة تربية ربانية للمؤمنين، وتوجيه لهم إلى ما يسعدهم، وإرشاد لهم إلى أن المؤمن الصادق في إيمانه، هو الذي يجمع بين سلامة العقيدة، وسلامة الخلق، وصلاح العمل، وأن المؤمن متى جمع بين هذه الصفات ارتفع إلى أعلى الدرجات، وأحس بحلاوة الإيمان في قلبه..روى الحافظ الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصارى أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «كيف أصبحت يا حارث» ؟ قال: أصبحت مؤمنا حقا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك» ؟ فقال الحارث: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلى، وأظمأت نهاري. وكأنى أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأنى أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا حارث عرفت فالزم» ثلاثا.ثم أخذت السورة- بعد هذا الافتتاح المشتمل على أروع استهلال وأبلغه وأحكمه..، في الحديث عن الغزوة التي كان من ثمارها تلك الأنفال، فاستعرضت مجمل أحداثها، وصورت نفوس فريق من المؤمنين الذين اشتركوا فيها أكمل تصوير، استمع معى- أخى القارئ- بتدبر وتعقل إلى قوله- تعالى-:

( أولئك هم المؤمنون حقا ) يعني يقينا . قال ابن عباس : برئوا من الكفر . قال مقاتل : حقا لا شك في إيمانهم . وفيه دليل على أنه ليس لكل أحد أن يصف نفسه بكونه مؤمنا حقا لأن الله تعالى إنما وصف بذلك قوما مخصوصين على أوصاف مخصوصة ، وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه .وقال ابن أبي نجيح : سأل رجل الحسن فقال : أمؤمن أنت ؟ فقال : إن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا بها مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله : " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " الآية ، فلا أدري أمنهم أنا أم لا ؟وقال علقمة : كنا في سفر فلقينا قوما فقلنا : من القوم ؟ قالوا : نحن المؤمنون حقا ، فلم ندر ما نجيبهم حتى لقينا عبد الله بن مسعود فأخبرناه بما قالوا ، قال : فما رددتم عليهم ؟ قلنا : لم نرد عليهم شيئا ، قال أفلا قلتم أمن أهل الجنة أنتم ؟ إن المؤمنين أهل الجنة .وقال سفيان الثوري : من زعم أنه مؤمن حقا أو عند الله ، ثم لم يشهد أنه في الجنة فقد آمن بنصف الآية دون النصف .( لهم درجات عند ربهم ) قال عطاء : يعني درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم . وقال الربيع بن أنس : سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة . ( ومغفرة ) لذنوبهم ( ورزق كريم ) حسن يعني ما أعد لهم في الجنة .

أي الذي استوى في الإيمان ظاهرهم وباطنهم .ودل هذا على أن لكل حق حقيقة ; وقد قال عليه السلام لحارثة : " إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك " ؟ الحديث .وسأل رجل الحسن فقال : يا أبا سعيد ; أمؤمن أنت ؟ فقال له : الإيمان إيمانان , فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا به مؤمن .وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى : " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم - إلى قوله - أولئك هم المؤمنون حقا " فوالله ما أدري أنا منهم أم لا .وقال أبو بكر الواسطي : من قال أنا مؤمن بالله حقا ; قيل له : الحقيقة تشير إلى إشراف واطلاع وإحاطة ; فمن فقده بطل دعواه فيها .يريد بذلك ما قاله أهل السنة : إن المؤمن الحقيقي من كان محكوما له بالجنة , فمن لم يعلم ذلك من سر حكمته تعالى فدعواه بأنه مؤمن حقا غير صحيح .

15695- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي, عن ابن عباس: " الذين يقيمون الصلاة "، يقول: الصلوات الخمس= " ومما رزقناهم ينفقون "، يقول: زكاة أموالهم (52) = " أولئك هم المؤمنون حقًّا "، يقول: برئوا من الكفر. ثم وصف الله النفاق وأهله فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ : إلى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [سورة النساء: 150-151] فجعل الله المؤمن مؤمنًا حقًّا, وجعل الكافر كافرًا حقًّا, وهو قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [سورة التغابن: 2] .15696- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: " أولئك هم المؤمنون حقًّا "، قال: استحقُّوا الإيمان بحق, فأحقه الله لهم.* * *القول في تأويل قوله : لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " لهم درجات "، لهؤلاء المؤمنين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم= " درجات ", وهي مراتب رفيعة. (53)* * *ثم اختلف أهل التأويل في هذه " الدرجات " التي ذكر الله أنها لهم عنده، ما هي؟فقال بعضهم: هي أعمال رفيعة، وفضائل قدّموها في أيام حياتهم.* ذكر من قال ذلك:15697- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي يحيى القتات, عن مجاهد: " لهم درجات عند ربهم "، قال: أعمال رفيعة. (54)* * *وقال آخرون: بل ذلك مراتب في الجنة.* ذكر من قال ذلك:15698- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن هشام عن جبلة, عن عطية, عن ابن محيريز: " لهم درجات عند ربهم "، قال: الدرجات سبعون درجة, كل درجة حُضْر الفرس الجواد المضمَّر سبعين سنة. (55)* * *وقوله: " ومغفرة "، يقول: وعفو عن ذنوبهم، وتغطية عليها (56) = " ورزق كريم "، قيل: الجنة= وهو عندي: ما أعد الله في الجنة لهم من مزيد المآكل والمشارب وهنيء العيش. (57)15699- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق, عن هشام, عن عمرو, عن سعيد, عن قتادة: " ومغفرة "، قال: لذنوبهم= " ورزق كريم "، قال: الجنة.-------------------الهوامش :(52) انظر تفسير " حقا " فيما سلف من فهارس اللغة ( حقق ) .(53) انظر تفسير " الدرجة " فيما سلف 12 : 289 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .(54) الأثر : 15697 - " أبو يحيى القتات " ، ضعيف ، مضى برقم : 12139 .(55) الأثر : 15698 - " سفيان " هو ، الثوري .و " هشام " هو : " هشام بن حسان القردوسي " ، مضى برقم : 2827 ، 7287 ، 9837 ، 10258.و " جبلة " هو " جبلة بن سحيم التيمي " ، مضى برقم : 3003 ، 10258 ، زكان في المطبوعة والمخطوطة : " هشام بن جبلة " ، وهو خطأ صرف .وأما " عطية " ، فلا أعرف من يكون ، وأنا في شك منه .و " ابن محيريز " ، هو : " عبد الله بن محيريز الجمحي " ، مضى برقم : 8720 ، 10258 .وهذا الخبر ، روى مثله في تفسير غير هذه الآية ، فيما سلف برقم : 10258 قال : " حدثنا علي بن الحسين الأزدي ، قال حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن هشام بن حسان ، عن جبلة ابن سحيم ، عن ابن محيريز " ، ليس فيه " ابن عطية " هذا الذي هنا .و " الحضر " ( بضم فسكون ) ، ارتفاع الفرس في عدوه .و " المضمر "، هو الذي أعد للسباق والركض .(56) انظر تفسير " المغفرة " فيما سلف من فهارس اللغة ( غفر ) .(57) انظر تفسير " كريم " فيما سلف 8 : 259 .

جملة مؤكدة لمضمون جملة : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله } [ الأنفال : 2 ] إلى آخرها ولذلك فصلت .وعُرف المسند إليه بالإشارة لوقوعه عقب صفات لتدل الإشارة على أنهم أحرياء بالحكم المسند إلى اسم الإشارة من أجل تلك الصفات ، فكان المخبرَ عنهم قد تميزوا للسامع بتلك الصفات فصاروا بحيث يشار إليهم .وفي هذه الجملة قصر آخر يشبه القصر الذي قوله : { إنما المؤمنون } [ الأنفال : 2 ] حيث قصر الإيمان مرة أخرى على أصحاب تلك الصفات ولكنه قرن هنا بما فيه بيان المقصور وهو أنهم المؤمنون الأحقاء بوصف الإيمان .والحق أصله مصدر حَق بمعنى ثبت واستعمل استعمال الأسماء للشيء الثابت الذي لا شك فيه قال تعالى : { وعد الله حقاً ومن أصدق من الله قيلاً } [ النساء : 122 ].ويطلق كثيراً ، على الكامل في نوعه ، الذي لاسترة في تحقق ماهية نوعه فيه ، كما يقول أحد لابنه البار به : أنت ابني حَقاً ، وليس يريد أن غيره من أبنائه ليسوا لرشدة ولكنه يريد أنت بنوتك واضحة آثارها ، ويطلق الحق على الصواب والحكمة فاسم الحق يجمع معنى كمال النوع .ولكل صيغة قصر : منطوق ومفهوم ، فمنطوقها هنا أن الذين جَمعوا ما دلت عليه تلك الصلات هم مؤمنون حقاً ، ومفهومها أن من انتفى عنه أحدُ مدلولات تلك الصلات لم يكن مؤمناً كاملاً ، وليس المقصود أن من ثبتت له إحداها كان مؤمناً كاملاً ، إذا لم يتصف ببقية خصال المؤمنين الكاملين ، فمعنى أولئك هم المؤمنون حقا : أن من كان على خلاف ذلك ليس بمؤمن حقا أي كاملاً .وهذا تأويل للكلام دعا إليه الجمع بين عديد الأدلة الواردة في الكتاب والسنة القولية والفعلية من ثبوت وصف الإيمان لكل من أيقن بأن الله منفرد بالإلهية وأن محمداً رسول الله إلى الناس كافة ، فتلك الأدلة بلغت مبلغ التواتر المعنوي المحصّل للعلم الضروري بأن الإخلال بالواجبات الدينية لا يسلب صفة الإيمان والإسلام عن صاحبه ، فليس حمل القصر على الادعائي هنا مجردَ صنع باليد ، أو ذهاب مع الهوى على أن شأن الاتصاف ببعض صفات الفضائل أن يتناسق مع نظائِرها فمن كان بحيث إذا ذكر الله وجل قلبه لا بد أن يكون بحيث إذا تُليت عليه آيات الله زادته إيماناً ، فهذا تحقيق معنى القصرين .ومما يزيد هذا المعنى وضوحاً ما روَى الطبراني ، عن الحارث بن مالك الأنصاري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحارث بن مالك الأنصاري يا حارث كيف أصبحت قال أصبحت مؤمناً حقاً قال إعلم ما تقول أو انظرُ ما تقول إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك قال عزَفتْ نفسي عن الدنيا فأسهرتُ ليلي ، وأظمأتُ نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون ، وكأني أسمع عُوراء أهل النار ، فقال له يا حارث عرفتَ فالزَمْ ثلاثاً وهو حديث ضعيف وإن كثرتْ طرقه .فقول الحارث «أصبحت مؤمناً حقاً» ظاهر في أنه أراد منه مؤمناً كاملاً وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك " ظاهر في أنه سأله عن ماكان به إيمانه كاملاً ولم يسأله عن أصل ماهية الإيمان لأنه لم يكن يشك في أنه من عداد المؤمنين .ومن هذا المعنى ما ذكره القرطبي وغيره أن رجلاً سأل الحسن البصري فقال له يا أبا سعيد أمومنٌ أنتَ فقال : «الإيمان إيماناننِ فإن كنتَ تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب ، فأنا به مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } إلى قوله { أولئك هم المؤمنون حقا } [ الأنفال : 2 4 ] فوالله ما أدري أنا منهم أم لا؟ .وانتصب { حقاً } على أنه مفعول مطلق صفة لمصدر محذوف دل عليه { المؤمنون } أي إيماناً حقاً ، أو على أنه موكدٌ لمضمون جملة { أولئك هم المؤمنون } أي ثبوت الإيمان لهم حق لا شبهة فيه ، وهو تحقيق لمعنى القصر بما هو عليه من معنى المبالغة ، وليس تأكيداً لرفع المجاز عن القصر حتى يصير بالتأكيد قصراً حقيقياً ، بل التأكيد بمعنى المبالغة اعتماداً على القرائن ، والأحسن أن يكون منصوباً على الحال من ضمير { هم } فيكون المصدر مؤولاً باسم الفاعل كما هو الشأن في وقوع المصدر حالاً مثل { أو تأتيهم الساعة بغتة } [ يوسف : 107 ] ، أي محققين إيمانهم بجلائل أعمالهم ، وقد تقدم مثل هذا المصدر في قوله : { خالدين فيها أبداً وعد الله حقا } في سورة [ النساء : 122 ].( وجملة : { لهم درجات } خبر ثان عن اسم الإشارة .واللام للاستحقاق ، أي درجات مستحقة لهم ، وذلك استعارة للشرف والكرامة عند الله ، لأن الدرجات حقيقتها ما يتخذ من بناء أو أعواد لإمكان تخطي الصاعد إلى مكان مرتفع مُنقطع عن الأرض ، كا تقدم عند قوله تعالى : { وللرجال عليهن درجةٌ } في سورة [ البقرة : 228 ] ، وفي غير موضع ، وتستعار الدرجة لعناية العظيم ببعض من يصطفيهم فتشبه العناية بالدرجة تشبيه معقول بمحسوس ، لأن الدنو من العُلْو عُرفاً يكون بالصعود إليه في الدرجات ، فشبه ذلك الدنو بدرجات وقوله : { عند ربهم } قرينة المجاز .ويجوز أن تستعار الدرجة هنا لمكان جلوس المرتفع كدرجة المنبر كما في قوله تعالى : { وللرجال عليهن درجةٌ } [ البقرة : 228 ] والقرينة هي .وقد دل قوله : { عند ربهم } على الكرامة والشرف عند الله تعالى في الدنيا بتوجيه عنايته في الدنيا ، وفي الآخرة بالنعيم العظيم .وتنوين { درجات } للتعظيم لأنها مراتب متفاوتة .والرزق اسم لما يُرزقُ أي يعطى للانتفاع به ، ووصفه بكريم بمعنى النفيس فهو وصف حقيقي للرزق ، وفعله كرُمَ بضم العينَ ، والكرم في كل شيء الصفات المحمودية في صنفه أو نوعه كما في قوله تعالى : { إني ألْقيَ إلي كتابٌ كريمٌ } في سورة [ النمل : 29 ] ، ومنه إطلاق الكرم على السخاء والجود ، والوصفُ منه كريم ، وتصح إرادته هنا على أن وصف الرزق به مجازٌ عقلي ، أي كريم رازقه ، فإن الكريم يرزق بوفرة وبغير حساب .
الآية 4 - سورة الأنفال: (أولئك هم المؤمنون حقا ۚ لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم...)