سورة البقرة: الآية 4 - والذين يؤمنون بما أنزل إليك...

تفسير الآية 4, سورة البقرة

وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلْءَاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ

آية رقم 4 في سورة البقرة

تبدأ الآية رقم 4 في سورة البقرة بالكلمات التالية: "والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما..."

هذه الآية تشير إلى الناس الذين يؤمنون بالقرآن وبالكتب السماوية السابقة التي أنزلها الله. وتعبر عن إيمانهم الصادق بالرسالات السماوية والتزامهم بها.

وتعتبر هذه الآية من الآيات التي تحث على الإيمان الصادق والتزام الإنسان بما أنزل الله إليه من كتب سماوية، وتعتبر دليلاً على أهمية الإيمان والتصديق بالرسالات السماوية.

الترجمة الإنجليزية

Waallatheena yuminoona bima onzila ilayka wama onzila min qablika wabialakhirati hum yooqinoona

تفسير الآية 4

والذين يُصَدِّقون بما أُنزل إليك أيها الرسول من القرآن، وبما أنزل إليك من الحكمة، وهي السنة، وبكل ما أُنزل مِن قبلك على الرسل من كتب، كالتوراة والإنجيل وغيرهما، ويُصَدِّقون بدار الحياة بعد الموت وما فيها من الحساب والجزاء، تصديقا بقلوبهم يظهر على ألسنتهم وجوارحهم وخص يوم الآخرة؛ لأن الإيمان به من أعظم البواعث على فعل الطاعات، واجتناب المحرمات، ومحاسبة النفس.

«والذين يؤمنون بما أنزل إليك» أي القراَن «وما أنزل من قبلك» أي التوراة والإنجيل وغيرهما «وبالآخرة هم يوقنون» يعلمون.

ثم قال: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وهو القرآن والسنة، قال تعالى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول, ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه, فيؤمنون ببعضه, ولا يؤمنون ببعضه, إما بجحده أو تأويله, على غير مراد الله ورسوله, كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة, الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم, بما حاصله عدم التصديق بمعناها, وإن صدقوا بلفظها, فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا. وقوله: وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يشمل الإيمان بالكتب السابقة، ويتضمن الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه, خصوصا التوراة والإنجيل والزبور، وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بجميع الكتب السماوية وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم. ثم قال: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ و " الآخرة " اسم لما يكون بعد الموت، وخصه [بالذكر] بعد العموم, لأن الإيمان باليوم الآخر, أحد أركان الإيمان؛ ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل، و " اليقين " هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك, الموجب للعمل.

قال ابن عباس : ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) أي : يصدقون بما جئت به من الله ، وما جاء به من قبلك من المرسلين ، لا يفرقون بينهم ، ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم وبالآخرة هم يوقنون ) أي : بالبعث والقيامة ، والجنة ، والنار ، والحساب ، والميزان .وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا ، وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هاهنا : هل هم الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى : ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) [ البقرة : 3 ] ومن هم ؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير :أحدهما : أن الموصوفين أولا هم الموصوفون ثانيا ، وهم كل مؤمن ، مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم ، قاله مجاهد ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة .والثاني : هما واحد ، وهم مؤمنو أهل الكتاب ، وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفات على صفات ، كما قال تعالى : ( سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى ) [ الأعلى : 1 - 5 ] وكما قال الشاعر :إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحمفعطف الصفات بعضها على بعض ، والموصوف واحد .والثالث : أن الموصوفين أولا مؤمنو العرب ، والموصوفون ثانيا بقوله : ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) الآية مؤمنو أهل الكتاب ، نقله السدي في تفسيره ، عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة ، واختاره ابن جرير ، ويستشهد لما قال بقوله تعالى : ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله ) الآية [ آل عمران : 199 ] ، وبقوله تعالى : ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون ) [ القصص : 52 - 54 ] . وثبت في الصحيحين ، من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها .وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة ، وهي أن الله وصف في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين ، فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين : منافق وكافر ، فكذلك المؤمنون صنفهم إلى عربي وكتابي .قلت : والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري ، عن رجل ، عن مجاهد . ورواه غير واحد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنه قال : أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين ، وآيتان في نعت الكافرين ، وثلاث عشرة في المنافقين ، فهذه الآيات الأربع عامة في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي ، وكتابي من إنسي وجني ، وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى ، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها ، فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من قبله من الرسل والإيقان بالآخرة ، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك ، وقد أمر الله تعالى المؤمنين بذلك ، كما قال : ( ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ) الآية [ النساء : 136 ] . وقال : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ) الآية [ العنكبوت : 46 ] . وقال تعالى : ( ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم ) [ النساء : 47 ] وقال تعالى : ( قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) [ المائدة : 68 ] وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك ، فقال تعالى : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ) الآية [ البقرة : 285 ] وقال : ( والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم ) [ النساء : 152 ] وغير ذلك من الآيات الدالة على أمر جميع المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه . لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية ، وذلك أنهم مؤمنون بما بأيديهم مفصلا فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلا كان لهم على ذلك الأجر مرتين ، وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان ، بما تقدم مجملا كما جاء في الصحيح :إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، ولكن قولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام ، فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية ، فغيرهم [ قد ] يحصل له من التصديق ما ينيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم ، والله أعلم .

( والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ )والمراد بقوله - تعالى - ( بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) القرآن الكريم ، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي - وإن كان بعضه مترقباً - تغليباً للموجود على ما لم يوجد . والمراد - بقوله - تعالى - ( وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ ) الكتب الإلهية السابقة التي أنزلها الله على أنبيائه كموسى وعيسى وداود . وهذا كقوله - تعالى - :( يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ) والإيمان بما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم يستلزم الإيمان برسالته ، ويستوجب العمل بما تضمنته شريعته .وإيجاب العمل بما تضمنه القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم باق على إطلاقه . أما الكتب السماوية السابقة فيكفي الإيمان بأنها كانت وحياً وهداية ، وقد تضمن القرآن الكريم ما اشتملت عليه هذه الكتب من هدايات وأصبح بنزوله مهيمناً عليها ، قال - تعالى - :( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) وصار من المحتم على كل عاقل أن يعمل بما جاء به القرآن من توجيهات .وقدم الإيمان بما أنزل عليه على الإيمان الذين من قبله - مع أن الترتيب يقتضي العكس - لأن إيمانهم بمن قبله لا قيمة له إلا إذا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم .ولم يقل : ويؤمنون بما أنزل من قبلك بتكرير يؤمنون ، للإشعار بأن الإيمان به وبهم واحد ، لا تغاير فيه وإن تعدد متعلقه .ويرى بعض العلماء أن المراد من الآية الكريمة ، أهل الكتاب الذين آمنوا بالكتب السماوية التي نزلت قبل القرآن ، نم لما نزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعرفوا أنه الحق - آمنوا به أيضاً - ، فصار لهم أجران ، كما جاء في الحديث الشريف ، الذي ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين يوم القيامة : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي ، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ، ثم أعتقها " .ثم وصف الله المتقين بوصف خامس فقال : ( وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ ) الآخرة تأنيث الآخر .وهذا اللفظ تارة يجيء وصفاً ليوم القيامة مع ذكر الموصوف ، كما في قوله - تعالى - ( وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) وتارة بهذا المعنى ولكن بدون ذكر الموصوف ، كما في الآية التي معنا ، وكما في قوله - تعالى -( وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ) وسميت آخرة لأنها تأتي بعد الدنيا التي هي الدار الأولى .و ( يُوقِنُونَ ) من الإيقان وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، بحيث لا يطرأ عليه شك ، ولا تحوم حوله شبهة . يقال يقن الماء إذا سكن وظهر ما تحته ، ويقال : يقنت - بالكسر - يقناً ، وأيقنت ، وتيقنت ، واستيقنت بمعنى واحد .والمعنى : وبالدار الآخرة وما فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب هم يوقنون إيقاناً قطعياً ، لا أثر فيه للادعاءات الكاذبة ، والأوهام الباطلة .وفي إيراد " هم " قبل قوله " يوقنون " تعريض ، بغيرهم ، ممن كان اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق للحقيقة أو غير بالغ مرتبة اليقين .ولا شك أن الإيمان باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب ، له أثر عظيم في فعل الخيرات ، واجتناب المنكرات ، لأن من أدرك أن هناك يوماً سيحاسب فيه على عمله ، فإنه من شأنه أن يسلك الطريق القويم الذي يكسبه رضي الله يوم يلقاه .قال أبو حيان : وذكر لفظة ( هُمْ ) في قوله : ( وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ ) ولم يذكرها في قوله : ( وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإنفاق فاحتاج هذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد ولأنه لو ذكر ( هُمْ ) هناك لكان فيه قلق لفظي ، إذ يكون التركيب " ومما رزقناهم هم ينفقون " .ثم بين - سبحانه - بعد ذلك الثمار التي ترتبت على تقواهم فقال :

قوله تعالى: والذين يؤمنون بما أنزل إليك: يعني القرآن.وما أنزل من قبلك: من التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.ويترك أبو جعفر وابن كثير وقالون (وأبو عمرو) وأهل البصرة ويعقوب كل مدة تقع بين كل كلمتين. والآخرون يمدونها.وهذه الآية في المؤمنين من أهل الكتاب.قوله تعالى: وبالآخرة: أي بالدار الآخرة سميت الدنيا دنيا لدنوها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا.هم يوقنون: أي يستيقنون أنها كائنة، من الإيقان: وهو العلم.وقيل: الإيقان واليقين: علم عن استدلال. ولذلك لا يسمى الله موقناً ولاعلمه يقيناً إذ ليس علمه عن استدلال.

قوله تعالى : والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنونقيل : المراد مؤمنو أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام وفيه نزلت ، ونزلت الأولى في مؤمني العرب . وقيل : الآيتان جميعا في المؤمنين ، وعليه فإعراب ( الذين ) خفض على العطف ، ويصح أن يكون رفعا على الاستئناف أي وهم الذين . ومن جعلها في صنفين فإعراب ( الذين ) رفع بالابتداء ، وخبره أولئك على هدى ويحتمل الخفض عطفا .قوله تعالى : بما أنزل إليك يعني القرآنوما أنزل من قبلك يعني الكتب السالفة ، بخلاف ما فعله اليهود والنصارى حسب ما أخبر الله عنهم في قوله : وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا الآية . ويقال : لما نزلت هذه الآية : الذين يؤمنون بالغيب قالت اليهود والنصارى : نحن آمنا بالغيب ، فلما قال : ويقيمون الصلاة قالوا : نحن نقيم الصلاة ، فلما قال ومما رزقناهم ينفقون قالوا : نحن ننفق ونتصدق ، فلما قال : والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك نفروا من ذلك . وفي حديث أبي ذر قال قلت : يا رسول الله كم كتابا أنزل الله ؟ قال : مائة كتاب وأربعة كتب أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى أخنوع ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان . الحديث أخرجه الحسين الآجري وأبو حاتم البستي .وهنا مسألة : إن قال قائل : كيف يمكن الإيمان بجميعها مع تنافي أحكامها ؟ قيل له فيه جوابان : أحدهما - أن الإيمان بأن جميعها نزل من عند الله ، وهو قول من أسقط التعبد بما تقدم من الشرائع . الثاني - أن الإيمان بما لم ينسخ منها ، وهذا قول من أوجب التزام الشرائع المتقدمة ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى .قوله تعالى : وبالآخرة هم يوقنون أي وبالبعث والنشر هم عالمون . واليقين : العلم دون الشك ، يقال منه : يقنت الأمر ( بالكسر ) يقنا ، وأيقنت واستيقنت وتيقنت كله بمعنى ، وأنا على يقين منه . وإنما صارت الياء واوا في قولك : موقن ، للضمة قبلها ، وإذا صغرته رددته إلى الأصل فقلت : مييقن والتصغير يرد الأشياء إلى أصولها وكذلك الجمع . وربما عبروا باليقين عن الظن ، ومنه قول علمائنا في اليمين اللغو : هو أن يحلف بالله على أمر يوقنه ثم يتبين له أنه خلاف ذلك فلا شيء عليه ، قال الشاعر :تحسب هواس وأيقن أنني بها مفتد من واحد لا أغامرهيقول : تشمم الأسد ناقتي ، يظن أنني مفتد بها منه ، وأستحمي نفسي فأتركها له ولا أقتحم المهالك بمقاتلته فأما الظن بمعنى اليقين فورد في التنزيل وهو في الشعر كثير ، وسيأتي . والآخرة مشتقة من التأخر لتأخرها عنا وتأخرنا عنها ، كما أن الدنيا مشتقة من الدنو ، على ما يأتي .

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَقد مضى البيان عن المنعوتين بهذا النعت, وأي أجناس الناس هم (81) . غير أنَّا نذكر ما رُوي في ذلك عمن روي عنه في تأويله قولٌ:289- فحدثنا ابن حُميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس، " والذين يؤمنون بما أنزِل إليك وما أنزل من قبلك ": أي يصدِّقونك ص[ 1-245 ] بما جئت به من الله جلّ وعز وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين, لا يفرِّقون بينهم، ولا يجْحَدون ما جاءوهم به من عند ربهم (82) .290- حدثنا موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،" والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون ": هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب (83) .القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)قال أبو جعفر: أما الآخرةُ فإنها صفة للدار, كما قال جل ثناؤه وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [سورة العنكبوت: 64]. وإنما وصفت بذلك لمصيرها آخِرةً لأولى كانت قبلها، كما تقول للرجل: " أنعمتُ عليك مرَّة بعد أخرى، فلم تشكر لي الأولى ولا الآخرة "، وإنما صارت آخرة للأولى, لتقدُّم الأولى أمامها. فكذلك الدارُ الآخرة، سُمِّيت آخرةً لتقدُّم الدار الأولى أمامها, فصارت التاليةُ لها آخرةً. وقد يجوز أن تكون سُمِّيت آخرةً لتأخُّرها عن الخلق, كما سميت الدنيا " دنيا " لِدُنُوِّها من الخلق.وأما الذي وصف الله جل ثناؤه به المؤمنين - بما أنزل إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله من المرسلين - من إيقانهم به من أمر الآخرة, فهو إيقانهم بما كان المشركون به جاحدين: من البعث والنشور والثواب والعقاب والحساب والميزان, وغير ذلك مما أعد الله لخلقه يوم القيامة. كما:-291- حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس، ( وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ): أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان, أي، لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك، ويكفرون بما جاءك من ربك (84) .وهذا التأويل من ابن عباس قد صرح عن أن السورة من أولها - وإن كانت الآيات التي في أولها من نعت المؤمنين - تعريض من الله عز وجل بذم كفار أهل الكتاب، الذين زعموا أنهم - بما جاءت به رسل الله عز وجل الذين كانوا قبل محمد صلوات الله عليهم وعليه - مصدقون، وهم بمحمد صلى الله عليه مكذبون, ولما جاء به من التنزيل جاحدون, ويدعون مع جحودهم ذلك أنهم مهتدون، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. فأكذب الله جل ثناؤه ذلك من قيلهم بقوله: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . وأخبر جل ثناؤه عباده: أن هذا الكتاب هدى لأهل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، المصدقين بما أنزل إليه وإلى من قبله من رسله من البينات والهدى - خاصة, دون من كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به, وادعى أنه مصدق بمن قبل محمد عليه الصلاة والسلام من الرسل وبما جاء به من الكتب. ثم أكد جل ثناؤه أمر المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب المصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه وإلى من قبله من الرسل - بقوله: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم, وأن غيرهم هم أهل الضلال والخسار.---------------الهوامش :(81) انظر 237 - 241 .(82) الخبر 289- ذكره ابن كثير 1 : 79 مع باقيه الآتي : 291 . وذكره السيوطي 1 : 27 ، والشوكاني 1 : 25 بزيادة أخرى على الروايتين ، منسوبًا لابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم .(83) الخبر 290- وهذا ذكره ابن كثير أيضًا ، لكن بالإشارة إليه دون سياقة لفظه . وقلده الشوكاني .وعلى الأصل المخطوط بعد هذا ما نصهسمع أحمد ومحمد والحسن ، بنو عبد الله بن أحمد الفرغاني جميعه .سمع محمد بن محمد الطرسوسي والحسن بنو محمد بن عبدان ، والحسن بن إبراهيم الحناس جميعه . والحمد لله كثيرًا .(84) الخبر 291- هو تتمة الخبر السابق 289 وقد أشرنا إليه هناك .

عطف على { الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] طائفة ثانية على الطائفة الأولى المعنية بقوله : { الذين يؤمنون بالغيب } وهما معاً قسمان للمتقين ، فإنه بعد أن أخبر أن القرآن هدى للمتقين الذين آمنوا بعد الشرك وهم العرب من أهل مكة وغيرهم ووصفهم بالذين يؤمنون بالغيب لأنهم لم يكونوا يؤمنون به حين كانوا مشركين ، ذَكر فريقاً آخر من المتقين وهم الذين آمنوا بما أنزل من الكتب الإلهية قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ثم آمنوا بمحمد ، وهؤلاء هم مؤمنو أهل الكتاب وهم يومئذٍ اليهود الذين كانوا كثيرين في المدينة وما حولها في قريظة والنضير وخيبر مثل عبد الله بن سلام ، وبعضُ النصارى مثل صهيب الرومي ودِحية الكلبي ، وهم وإن شاركوا مسلمي العرب في الاهتداء بالقرآن والإيمان بالغيب وإقامة الصلاة فإن ذلك كان من صفاتهم قبل مجيء الإسلام فذكرت لهم خصلة أخرى زائدة على ما وُصف به المسلمون الأوَّلون ، فالمغايرة بين الفريقين هنا بالعموم والخصوص ، ولما كان قصد تخصيصهم بالذكر يستلزم عطفهم وكان العطف بدون تنبيه على أنهم فريق آخر يوهم أن القرآن لا يهدي إلا الذين آمنوا بما أنزل من قبل لأن هذه خاتمة الصفات فهي مرادة فيظن أن الذين آمنوا عن شرك لا حظ لهم من هذا الثناء ، وكيف وفيهم مِن خِيرة المؤمنين من الصحابة وهم أشد اتقاءً واهتداءً إذْ لم يكونوا أهل ترقب لبعثة رسول من قبل فاهتداؤهم نشأ عن توفيق رباني ، دُفع هذا الإيهام بإعادة الموصول ليؤذِن بأن هؤلاء فريق آخر غير الفريق الذي أجريت عليهم الصفات الثلاث الأول ، وبذلك تبين أن المراد بأهل الصفات الثلاث الأوَل هم الذين آمنوا بعد شرك لوجود المقابلة . ويكون الموصُولاَننِ للعهد ، وعلم أن الذين يؤمنون بما أنزل من قبل هم أيضاً ممن يؤمن بالغيب ويقيم الصلاة وينفق لأن ذلك مما أنزل إلى النبيء ، وفي التعبير بالمضارع من قوله { يؤمنون بما أُنزل إليك } من إفادة التجدُّد مثل ما تقدم في نظائره لأن إيمانهم بالقرآن حدَثَ جديداً ، وهذا كله تخصيص لهم بمزية يجب اعتبارها وإن كان التفاضل بعد ذلك بقوة الإيمان ورسوخه وشدة الاهتداء ، فأبو بكر وعمر أفضل من دحيَة وعبد الله بن سلام .والإنزالُ جعل الشيء نازلاً ، والنزول الانتقال من علو إلى سُفل وهو حقيقة في انتقال الذوات من علو ، ويطلق الإنزال ومادة اشتقاقه بوجه المجاز اللغوي على معان راجعة إلى تشبيه عمللٍ بالنزول لاعتبار شرففٍ ورفعةٍ معنوية كما في قوله تعالى : { قد أنزلنا عليكم لباساً } [ الأعراف : 26 ] وقوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] لأن خلق الله وعطاءَه يُجعل كوصول الشيء من جهة عُليا لشرفه ، وأما إطلاقه على بلوغ الوصف من الله إلى الأنبياء فهو إما مجاز عقلي بإسناد النزول إلى الوحي تبعاً لنزول المَلك مبلِّغه الذي يتصل بهذا العالَم نازلاً من العالم العلوي قال تعالى :{ نزل به الروح الأمين على قلبك } [ الشعراء : 194 ، 195 ] فإن المَلك ملابس للكلام المأمور بتبليغه ، وإما مجاز لغوي بتشبيه المعاني التي تُلقى إلى النبيء بشيء وصل من مكان عاللٍ ، ووجه الشبه هو الارتفاع المعنوي لا سيما إذا كان الوحي كلاماً سَمعه الرسول كالقرآن وكما أُنزل إلى موسى وكما وصفَ النبيء صلى الله عليه وسلم بعضَ أحوال الوحي في الحديث الصحيح بقوله : " وأحياناً يأتيني مثلَ صَلْصَلَة الجَرَس فيفصم عني وقد وَعيت ما قال " وأما رؤيا النوم كرؤيا إبراهيم فلا تسمَّى إنزالاً .والمراد بما أنزل إلى النبيء صلى الله عليه وسلم المقدار الذي تحقق نزوله من القرآن قبل نزول هذه الآية فإن الثناء على المهتدين إنما يكون بأنهم حصل منهم إيمان بما نزل لا تَوقَّعُ إيمانهم بما سَينزل لأن ذلك لا يحتاج للذكر إذ من المعلوم أن الذي يؤمن بما أُنزل يستمر إيمانه بكل ما يَنزل على الرسول لأن العناد وعدم الاطمئنان إنما يكون في أول الأمر ، فإذا زالا بالإيمان أَمِنوا من الارتداد وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب . فالإيمان بما سينزل في المستقبل حاصل بفحوى الخطاب وهي الدلالة الأخروية فإيمانهم بما سينزل مراد من الكلام وليس مدلولاً للفظ الذي هو للماضي فلا حاجة إلى دعوى تغليب الماضي على المستقبل في قوله تعالى : { بما أنزل } والمراد ما أنزل وما سينزل كما في «الكشاف» .وعدي الإنزال بإلى لتضمينه معنى الوصف فالمُنْزَل إليه غاية للنزول والأكثر والأصل أنه يُعدَّى بحرف على لأنه في معنى السقوط كقوله تعالى : { نزل عليك الكتاب بالحق } [ آل عمران : 3 ] وإذا أريد أن الشيء استقر عند المنزل عليه وتمكن منه قال تعالى : { وأنزلنا عليكم المن والسلوى } [ البقرة : 57 ] واختيار إحدى التعديتين تفنن في الكلام .ثم إن فائدة الإتيان بالموصول هنا دون أن يقال : والذين يؤمنون بك من أهل الكتاب الدلالة بالصلة على أن هؤلاء كانوا آمنوا بما ثبت نزوله من الله على رسلهم دون تخليط بتحريفات صدت قومهم عن الدخول في الإسلام ككون التوراة لا تقبل النسخ وأنه يجىء في آخر الزمان من عقب إسرائيل من يخلص بني إسرائيل من الأَسر والعبودية ونحو ذلك من كل ما لم ينزل في الكتب السابقة ، ولكنه من الموضوعات أو من فاسد التأويلات ففيه تعريض بغلاة اليهود والنصارى الذين صدهم غلوهم في دينهم وقولهم على الله غير الحق عن اتباع النبيء صلى الله عليه وسلموقوله : { وبالآخرة هم يوقنون } عطف صفة ثانية وهي ثبوت إيمانهم بالآخرة أي اعتقادهم بحياة ثانية بعد هذه الحياة ، وإنما خص هذا الوصف بالذكر عند الثناء عليهم من بين بقية أوصافهم لأنه مِلاَك التقوى والخشية التي جعلوا موصوفين بها لأن هذه الأوصاف كلها جارية على ما أجمله الوصف بالمتقين فإن اليقين بدار الثواب والعقاب هو الذي يوجب الحذر والفكرة فيما ينجي النفس من العقاب وينعمها بالثواب وذلك الذي ساقهم إلى الإيمان بالنبيء صلى الله عليه وسلم ولأن هذا الإيقان بالآخرة من مزايا أهل الكتاب من العرب في عهد الجاهلية فإن المشركين لا يوقنون بحياة ثانية فهم دُهريون ، وأما ما يحكى عنهم من أنهم كانوا يربطون راحلة الميت عند قبره ويتركونها لا تأكل ولا تشرب حتى الموت ويزعمون أنه إذا حيي يركبها فلا يحشر راجلاً ويسمونها البَلِية فذلك تخليط بين مزاعم الشرك وما يتلقونه عن المتنصرين منهم بدون تأمل .والآخرة في اصطلاح القرآن هي الحياة الآخرة فإن الآخرة صفة تأنيث الآخر بالمد وكسر الخاء وهو الحاصل المتأخر عن شيء قبله في فعل أو حال ، وتأنيث وصف الآخرة منظور فيه إلى أن المراد إجراؤه على موصوف مؤنث اللفظ حُذف لكثرة استعماله وصيرورته معلوماً وهو يقدر بالحياة الآخرة مراعاة لضده وهو الحياة الدنيا أي القريبة بمعنى الحاضرة ، ولذلك يقال لها العاجلة ثم صارت الآخرة علماً بالغلبة على الحياة الحاصلة بعد الموت وهي الحاصلة بعد البعث لإجراء الجزاء على الأعمال . فمعنى : { وبالآخرة هم يوقنون } أنهم يؤمنون بالبعث والحياة بعد الموت .واليقين هو العلم بالشيء عن نظر واستدلال أو بعد شك سابق ولا يكون شك إلا في أمر ذي نظر فيكون أخص من الإيمان ومن العلم . واحتج الراغب لذلك بقوله تعالى : { لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم } [ التكاثر : 6 ، 7 ] ولذلك لا يطلقون الإيقان على علم الله ولا على العلوم الضرورية وقيل : هو العلم الذي لا يقبل الاحتمال وقد يطلق على الظن القوي إطلاقاً عرفياً حيث لا يخطر بالبال أنه ظن ويشتبه بالعلم الجازم فيكون مرادفاً للإيمان والعلم .فالتعبير عن إيمانهم بالآخرة بمادة الإيقان لأن هاته المادة ، تشعر بأنه علم حاصل عن تأمل وغوص الفكر في طريق الاستدلال لأن الآخرة لما كانت حياة غائبة عن المشاهدة غريبة بحسب المتعارف وقد كثرت الشبه التي جرت المشركين والدهريين على نفيها وإحالتها ، كان الإيمان بها جديراً بمادة الإيقان بناء على أنه أخص من الإيمان ، فلإيثَار { يوقنون } هنا خصوصية مناسبة لبلاغة القرآن ، والذين جعلوا الإيقان والإيمان مترادفين جعلوا ذكر الإيقان هنا لمجرد التفنن تجنباً لإعادة لفظ { يؤمنون } بعد قوله : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } .وفي قوله تعالى : { وبالآخرة هم يوقنون } تقديم للمجرور الذي هو معمول { يوقنون } على عامله ، وهو تقديم لمجرد الاهتمام مع رعاية الفاصلة ، وأرى أن في هذا التقديم ثناء على هؤلاء بأنهم أَيقنوا بأَهم ما يوقن به المؤمن فليس التقديم بمفيد حصراً إذ لا يستقيم معنى الحصر هنا بأن يكون المعنى أنهم يوقنون بالآخرة دون غيرها ، وقد تكلف صاحب «الكشاف» وشارحوه لإفادة الحصر من هذا التقديم ويخرج الحصر عن تعلقه بذات المحصور فيه إلى تعلقه بأحواله وهذا غير معهود في الحصر .وقوله : { هم يوقنون } جيء بالمسند إليه مقدماً على المسند الفعلي لإفادة تقوية الخبر إذ هو إيقان ثابت عندهم من قبل مجيء الإسلام على الإجمال ، وإن كانت التوراة خالية عن تفصيله والإنجيل أشار إلى حياة الروح ، وتعرض كتابا حزقيال وأشعياء لذكره وفي كلا التقديمين تعريض بالمشركين الدهريين ونداء على انحطاط عقيدتهم ، وأما المتبعون للحنيفية في ظنهم مثل أمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نُفيل فلم يلتفت إليهم لقلة عددهم أو لأنهم ملحقون بأهل الكتاب لأخذهم عنهم كثيراً من شرائعهم بعلة أنها من شريعة إبراهيم عليه السلام .
الآية 4 - سورة البقرة: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون...)