سورة البقرة: الآية 185 - شهر رمضان الذي أنزل فيه...

تفسير الآية 185, سورة البقرة

شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِىٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْءَانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا۟ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا۟ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

الترجمة الإنجليزية

Shahru ramadana allathee onzila feehi alquranu hudan lilnnasi wabayyinatin mina alhuda waalfurqani faman shahida minkumu alshshahra falyasumhu waman kana mareedan aw AAala safarin faAAiddatun min ayyamin okhara yureedu Allahu bikumu alyusra wala yureedu bikumu alAAusra walitukmiloo alAAiddata walitukabbiroo Allaha AAala ma hadakum walaAAallakum tashkuroona

تفسير الآية 185

شهر رمضان الذي ابتدأ الله فيه إنزال القرآن في ليلة القدر؛ هداية للناس إلى الحق، فيه أوضح الدلائل على هدى الله، وعلى الفارق بين الحق والباطل. فمن حضر منكم الشهر وكان صحيحًا مقيمًا فليصم نهاره. ويُرخَّص للمريض والمسافر في الفطر، ثم يقضيان عدد تلك الأيام. يريد الله تعالى بكم اليسر والسهولة في شرائعه، ولا يريد بكم العسر والمشقة، ولتكملوا عدة الصيام شهرًا، ولتختموا الصيام بتكبير الله في عيد الفطر، ولتعظموه على هدايته لكم، ولكي تشكروا له على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق والتيسير.

تلك الأيام «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن» من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر منه «هدى» حال هاديا من الضلالة «للناس وبينات» آيات واضحات «من الهدى» بما يهدي إلى الحق من الأحكام «و» من «الفرقان» مما يفرق بين الحق والباطل «فمن شهد» حضر «منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر» تقدم مثله وكرر لئلا يتوهم نسخه بتعميم من شهد «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» ولذا أباح لكم الفطر في المرض والسفر ولكون ذلك في معنى العلة أيضا للأمر بالصوم عطف عليه «ولتكملوا» بالتخفيف والتشديد «العدة» أي عدة صوم رمضان «ولتكبروا الله» عند إكمالها «على ما هداكم» أرشدكم لمعالم دينه «ولعلكم تشكرون» الله على ذلك.

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي: الصوم المفروض عليكم, هو شهر رمضان, الشهر العظيم, الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم، وهو القرآن الكريم, المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية, وتبيين الحق بأوضح بيان, والفرقان بين الحق والباطل, والهدى والضلال, وأهل السعادة وأهل الشقاوة. فحقيق بشهر, هذا فضله, وهذا إحسان الله عليكم فيه, أن يكون موسما للعباد مفروضا فيه الصيام. فلما قرره, وبين فضيلته, وحكمة الله تعالى في تخصيصه قال: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ هذا فيه تعيين الصيام على القادر الصحيح الحاضر. ولما كان النسخ للتخيير, بين الصيام والفداء خاصة, أعاد الرخصة للمريض والمسافر, لئلا يتوهم أن الرخصة أيضا منسوخة [فقال] يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ أي: يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير, ويسهلها أشد تسهيل، ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله. وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله, سهَّله تسهيلا آخر, إما بإسقاطه, أو تخفيفه بأنواع التخفيفات. وهذه جملة لا يمكن تفصيلها, لأن تفاصيلها, جميع الشرعيات, ويدخل فيها جميع الرخص والتخفيفات. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وهذا - والله أعلم - لئلا يتوهم متوهم, أن صيام رمضان, يحصل المقصود منه ببعضه, دفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته، ويشكر الله [تعالى] عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعباده, وبالتكبير عند انقضائه, ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلال شوال إلى فراغ خطبة العيد.

يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور ، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه ، وكما اختصه بذلك ، قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء .قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عمران أبو العوام ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة يعني ابن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان . وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " .وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وفيه : أن الزبور أنزل لثنتي عشرة [ ليلة ] خلت من رمضان ، والإنجيل لثماني عشرة ، والباقي كما تقدم . رواه ابن مردويه .أما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة ، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، وكان ذلك في شهر رمضان ، في ليلة القدر منه ، كما قال تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [ القدر : 1 ] . وقال : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) [ الدخان : 3 ] ، ثم نزل بعد مفرقا بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم . هكذا روي من غير وجه ، عن ابن عباس ، كما قال إسرائيل ، عن السدي ، عن محمد بن أبي المجالد عن مقسم ، عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود ، فقال : وقع في قلبي الشك من قول الله تعالى : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) وقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) وقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) وقد أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم ، وصفر ، وشهر ربيع . فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان ، في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام . رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه ، وهذا لفظه .وفي رواية سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العزة ، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس .وفي رواية عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة ، وكان الله يحدث لنبيه ما يشاء ، ولا يجيء المشركون بمثل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه ، وذلك قوله : ( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) [ الفرقان : 32 ، 33 ] .[ قال فخر الدين : ويحتمل أنه كان ينزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس إلى إنزاله إلى مثله من اللوح إلى سماء الدنيا ، وتوقف ، هل هذا أولى أو الأول ؟ وهذا الذي جعله احتمالا نقله القرطبي عن مقاتل بن حيان ، وحكى الإجماع على أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وحكى الرازي عن سفيان بن عيينة وغيره أن المراد بقوله : ( الذي أنزل فيه القرآن ) أي : في فضله أو وجوب صومه ، وهذا غريب جدا ] .وقوله : ( هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه ) وبينات ) أي : ودلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال ، والرشد المخالف للغي ، ومفرقا بين الحق والباطل ، والحلال ، والحرام .وقد روي عن بعض السلف أنه كره أن يقال : إلا " شهر رمضان " ولا يقال : " رمضان " ; قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن بكار بن الريان ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، وسعيد هو المقبري عن أبي هريرة ، قال : لا تقولوا : رمضان ، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا : شهر رمضان .قال ابن أبي حاتم : وقد روي عن مجاهد ، ومحمد بن كعب نحو ذلك ، ورخص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت .قلت : أبو معشر هو نجيح بن عبد الرحمن المدني إمام [ في ] المغازي ، والسير ، ولكن فيه ضعف ، وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا ، عن أبي هريرة ، وقد أنكره عليه الحافظ ابن عدي وهو جدير بالإنكار فإنه متروك ، وقد وهم في رفع هذا الحديث ، وقد انتصر البخاري ، رحمه الله ، في كتابه لهذا فقال : " باب يقال رمضان " وساق أحاديث في ذلك منها : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " ونحو ذلك .وقوله : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر أي كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان ، وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة . ونسخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحا مقيما أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم ، كما تقدم بيانه . ولما حتم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار ، بشرط القضاء فقال : ( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) معناه : ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه ، أو يؤذيه أو كان على سفر أي في حال سفر فله أن يفطر ، فإذا أفطر فعليه بعدة ما أفطره في السفر من الأيام ; ولهذا قال : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) أي : إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر ، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح ، تيسيرا عليكم ورحمة بكم .وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية :إحداها : أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر في أثنائه ، فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه ، لقوله : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر ، وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المحلى ، عن جماعة من الصحابة والتابعين . وفيما حكاه عنهم نظر ، والله أعلم . فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح ، فسار حتى بلغ الكديد ، ثم أفطر ، وأمر الناس بالفطر . أخرجه صاحبا الصحيح .الثانية : ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر ، لقوله : ( فعدة من أيام أخر ) والصحيح قول الجمهور ، أن الأمر في ذلك على التخيير ، وليس بحتم ; لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان . قال : " فمنا الصائم ومنا المفطر ، فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم " . فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم الصيام ، بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائما ، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء [ قال ] خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في شهر رمضان ] في حر شديد ، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه [ من شدة الحر ] وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة .الثالثة : قالت طائفة منهم الشافعي : الصيام في السفر أفضل من الإفطار ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، وقالت طائفة : بل الإفطار أفضل ، أخذا بالرخصة ، ولما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه سئل عن الصوم في السفر ، فقال : " من أفطر فحسن ، ومن صام فلا جناح عليه " . وقال في حديث آخر :" عليكم برخصة الله التي رخص لكم " وقالت طائفة : هما سواء لحديث عائشة : أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال : يا رسول الله ، إني كثير الصيام ، أفأصوم في السفر ؟ فقال : " إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر " . وهو في الصحيحين . وقيل : إن شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد ظلل عليه ، فقال : " ما هذا ؟ " قالوا : صائم ، فقال : " ليس من البر الصيام في السفر " . أخرجاه . فأما إن رغب عن السنة ، ورأى أن الفطر مكروه إليه ، فهذا يتعين عليه الإفطار ، ويحرم عليه الصيام ، والحالة هذه ، لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره ، عن ابن عمر وجابر ، وغيرهما : من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة .الرابعة : القضاء ، هل يجب متتابعا أو يجوز فيه التفريق ؟ فيه قولان : أحدهما : أنه يجب التتابع ، لأن القضاء يحكي الأداء . والثاني : لا يجب التتابع ، بل إن شاء فرق ، وإن شاء تابع . وهذا قول جمهور السلف والخلف ، وعليه ثبتت الدلائل ; لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر ، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدة ما أفطر . ولهذا قال تعالى : ( فعدة من أيام أخر ) ثم قال : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) قال الإمام أحمد :حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا ابن هلال ، عن حميد بن هلال العدوي ، عن أبي قتادة ، عن الأعرابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره " .وقال أحمد أيضا : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عاصم بن هلال ، حدثنا غاضرة بن عروة الفقيمي ، حدثني أبي عروة ، قال : كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج رجلا يقطر رأسه من وضوء أو غسل ، فصلى ، فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه : علينا حرج في كذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن دين الله في يسر " ثلاثا يقولها .ورواه الإمام أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث مسلم بن إبراهيم ، عن عاصم بن هلال ، به .وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة قال : حدثنا أبو التياح ، سمعت أنس بن مالك يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يسروا ، ولا تعسروا ، وسكنوا ولا تنفروا " . أخرجاه في الصحيحين . وفي الصحيحين أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن : " بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تختلفا " . وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بعثت بالحنيفية السمحة " .وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره : حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا يحيى ابن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا أبو مسعود الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ، عن محجن بن الأدرع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي فتراءاه ببصره ساعة ، فقال : " أتراه يصلي صادقا ؟ " قال : قلت : يا رسول الله ، هذا أكثر أهل المدينة صلاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسمعه فتهلكه " . وقال : " إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ، ولم يرد بهم العسر " .ومعنى قوله : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ) أي : إنما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر ، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم .وقوله : ( ولتكبروا الله على ما هداكم ) أي : ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم ، كما قال : ( فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ) [ البقرة : 200 ] وقال : [ ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ) ] [ النساء : 103 ] ، ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) [ الجمعة : 10 ] وقال : ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ) [ ق : 39 ، 40 ] ; ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح ، والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات .وقال ابن عباس : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير ; ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية : ( ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ) حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر ; لظاهر الأمر في قوله ( ولتكبروا الله على ما هداكم ) وفي مقابلته مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يشرع التكبير في عيد الفطر . والباقون على استحبابه ، على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم .وقوله : ( ولعلكم تشكرون ) أي : إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه ، وترك محارمه ، وحفظ حدوده ، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك .

وقوله : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان ) كلام مستأنف لبيان تلك الأيام المعدودات التي كتب علينا الصوم فيها وأنها أيام شهر رمضان الذي يستحق كل مدح وثناء لتشرفه بنزول الكتب السماوية فيه .قال الإِمام ابن كثير : يمدح - تعالى - شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم ، فقد ورد في الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإِلهية تنزل فيه على الأنبياء فعن وائلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، والإِنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " .و ( الشَّهْرَ ) مأخوذ من الشهرة ، يقال : شهر الشيء يشهر شهرة وشهراً إذا ظهر بحيث لا يتعذر علمه على أحد ، ومنه يقال : شهرت السيف إذا سللته قال بعضهم : وسمى الهلال شهراً لشهرته وبيانه ، وبه سمى الشهر شهراً .و ( رَمَضَانَ ) اسم لهذا الشهر الذي فرض علينا صيامه ، وهو مأخوذ - كما قال القرطبي - من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش والرمضاء : شدة الحر ، ومنه الحديث : " صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال " - أي صلاة الضحى - قيل : إن العرب لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمى بذلك . وقيل إنما سمى رمضان لأنه يرمض الذنوب ، أي : يحرقها بالأعمال الصالحة " .وقوله : ( شَهْرُ رَمَضَانَ ) خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي شهر رمضان أي : الأيام المعدودات ، وقوله : ( الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن ) صفة للشهر .ويجوز أن يكون قوله ( شَهْرُ ) مبتدأ وخبره الموصول بعده ، أو خبره قوله ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وصح وجود الفاء في الخبر لكون المبتدأ موصوفاً بالموصول الذي هو شبه بالشرط . وقرئ بالنصب على أنه مفعول لفعل محذوف . أي : صوموا شهر رمضان .و " القرآن " هو كلام الله المعجز المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المكتوب في المصاحف المنقول بالتواتر المتعبد بتلاوته .والمراد بإنزال القرآن في شهر رمضان ابتداء إنزاله فيه ، وكان ذلك في ليلة القدر . بدليل قوله - تعالى - ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر ) أي بدأنا إنزال القرآن في هذه الليلة المباركة ، إذ من المعروف أن القرآن استمر نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم ما يقرب من ثلاثة وعشرين سنة .وقيل المراد بذلك ، أنزل في فضله القرآن ، قالوا : ومثله أن يقال : أنزل الله في أبي بكر الصديق كذا آية ، يريدون أنزل في فضله .وقيل المراد أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن ، كما يقال : أنزل الله في الزكاة كذا وكذا ، يريد في إيجابها وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها .قال الآلوسي : وقوله - تعالى - : ( هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان ) حالان لازمان من القرآن والعامل فيهما أنزل . أي : أنزل وهو هداية للناس بإعجازه المختص به كما يشعر بذلك التنكير ، وآيات واضحات من جملة الكتب الإلهية الهادية إلى الحق والفارقة بين الحق والباطل باشتماله على المعارف الإِلهية والأحكام العملية ، كما يشعر بذلك جعله بينات منها ، فهو هاد بواسطة أمرين ، مختص وغير مختص ، فالهدى ليس مكرراً ، وقيل : مكرر تنويهاً وتعظيماً لأمره وتأكيداً لمعنى الهداية كما تقول : علام نحرير " .وقوله : ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) يصح أن يكون شهد بمعنى حضر . كما يقال : فلان شهد بدراً ، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي : حضرها ، فيكون المعنى : فمن حضر منكم دخول الشهر أو حلوله بأن كان مقيما وليس عنده ما يمنعه من الصو كمرض ونحوه ، فليصمه؛ لأن صيامه ركن من أركان الدين ، وعليه يكون لفظ " الشهر " مصنوب على الظرفية .ويصح أن يكون شهد بمعنى علم كقوله - تعالى - ( شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ) فيكون المعنى : فمن علم منكم هلال الشهر وتيقن من ظهوره فليصمه .وعليه يكون لفظ " الشهر " منصوب على أنه مفعول به بتقدير المضاف المحذوف و ( مَن ) موصولة أو شرطية وهو الأظهر و ( مِنكُمُ ) في محل نصب على الحال من الضمير في شهد فيتعلق بمحذوف أي : كائنا منكم . والضمير في " منكم " يعود على الذين آمنوا ، أي كل من حضر منكم الشهر فليصمه و ( أل ) في الشهر للعهد .وأعيد ذكر الرخصة في قوله - تعالى - ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ، لئلا يتوهم من تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنه خير ، أنه قد صار متحتماً بحيث لا تتناوله الرخصة بوجه من الوجوه أو تتناوله ولكنها مفضولة ، وفي ذلك عناية بأمر الرخصة وأنها محبوبة له - تعالى - .وقوله - تعالى - : ( يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر ) بيان الحكمة الرخصة .أي : شرع لكم - سبحانه - الفطر في حالتي المرض والسفر ، لأنه يريد بكم اليسر والسهولة . ولا يريد بكم العسر والمشقة . قال - تعالى - : ( يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً ) وقال - تعالى - : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين ) وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري حين بعثهما إلى اليمن : " يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا " .وقوله - تعالى - : ( وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) معطوف على قوله : ( يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر ) إذ هذه الجمل الأربع تعليل لما قبلها من قوله : ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) إلى قوله : ( فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) .والمعنى : شرع لكم - سبحانه - ما شرع من أحكام الصيام ، ورخص لكم الفطر في حالتي المرض والسفر ، لأنه يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، ولأنه يريد منكم أن تكملوا عدة الشهر بأن تصوموا أيامة كاملة فتحصلوا خيراته ولا يفوتكم شيء من بركاته ، ومن لم يستطع منكم أداء الصوم في هذا الشهر لعذر فعليه قضاء ما فاته منه في أيام أخر ويريد منكم أن تكبروه - سبحانه - أي تحدوه وتعظموه ، فهو وحده الذي هداكم إلى تلك الأحكام النافعة التي في صلاحكم وسعادتكم ويريد منكم أن تشكروه بأن تواظبوا على الثناء عليه ، وعلى استعمال نعمه فما خلقت له فهو - سبحانه - الرءوف الرحيم بعباده ، إذ شرع لهم فيه اليسر لا ما فيه العسر .وقد دلت الآية الكريمة على الأمر بالتكبير إذ جعلته مما يريده الله - تعالى - ولهذا جاءت السنة باستحباب التحميد والتسبيح والتكبير بعد الصلوات المكتوبات ، وفي عيدى الفطر والأضحى يكون تكبير الله - تعالى - هو مظهرهما الأعظم .وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت أكمل بيان وأحكمه فضل الصوم ، وحمة مشروعيته ومظاهر رحمة الله بعباده في هذه الفريضة ، وقد ذكرت أن المسلم له بشأن هذه الفريضة حلاة من حالات ثلاث :الحالة الأولى : إذا كان المسلم في شهر رمضان كله أو بعضه مريضاً بمرض عارض غير مزمن يرجى الشفاء منه ، أو مسافراً تتوفر فيه شروط الفطر ، فله أن يفطر وأن يقضي بعد رمضان الأيام التي أفطرها بدليل قوله - تعالى - : ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) .الحالة الثانية : إذا كان المسلم في شهر رمضان مريضاً بمرض مزمن لا يرجى شفاءه والصوم فيه مشقة عليه ، أو كان شيخاً كبيراً أو امرأة عجوزاً ولا يستطيعان الصوم ، فقد أباح الشارع لهؤلاء أن يفطروا وأن يطعموا عن كل يوم مسكيناً ، لأن هذه الأعذار لا يرجى زوالها ، ولا ينتظر أن يكون المبتلي بعذر منها بعد رمضان خيراً منه في رمضان ، لذا أوجب الشارع على هؤلاء الفدية دون القضاء ، بدليل قوله - تعالى - ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ويحرم عليه أن يفطر ، وإن أفطر لغير عذر شرعي كان من الخاسرين في الدنيا والآخرة ، ففي الحديث الشريف الذي رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضه - أي لم يجزه - صوم الدهر كله وإن صامه " .أي : لو حصل منه صوم طول حياته فلن يدرك ثواب ما ضيع بسبب فطره بغير عذر شرعي .والأحاديث في الترغيب في صوم شهر رمضان ، وفي الترهيب من الفطر فيه كثيرة متنوعة .

ثم بين الله تعالى أيام الصيام فقال ( شهر رمضان ) رفعه على معنى هو شهر رمضان وقال الكسائي : كتب عليكم شهر رمضان وسمي الشهر شهرا لشهرته وأما رمضان فقد قال مجاهد : هو اسم من أسماء الله تعالى يقال شهر رمضان كما يقال شهر الله والصحيح أنه اسم للشهر سمي به من الرمضاء وهي الحجارة المحماة وهم كانوا يصومونه في الحر الشديد فكانت ترمض فيه الحجارة في الحرارةقوله تعالى : ( الذي أنزل فيه القرآن ) سمي القرآن قرآنا لأنه يجمع السور والآي ، والحروف وجمع فيه القصص والأمر والنهي والوعد ، والوعيدوأصل القرء الجمع وقد يحذف الهمز منه فيقال قريت الماء في الحوض إذا جمعته وقرأ ابن كثير " القران " بفتح الراء غير مهموز وكذلك كان يقرأ الشافعي ويقول ليس هو من القراءة ولكنه اسم لهذا الكتاب كالتوراة والإنجيل وروي عن مقسم عن ابن عباس : أنه سئل عن قوله عز وجل ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) " إنا أنزلناه في ليلة القدر " ( 1 - القدر ) وقوله : " إنا أنزلناه في ليلة مباركة " ( 3 - الدخان ) وقد نزل في سائر الشهور ، وقال عز وجل : وقرآنا فرقناه " ( 106 - الإسراء ، فقال أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم نزل به جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة فذلك قوله تعالى " فلا أقسم بمواقع النجوم ( 75 - الواقعة ) قال داود بن أبي هند : قلت للشعبي : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) أما كان ينزل في سائر الشهور؟ قال : بلى ولكن جبرائيل كان يعارض محمدا صلى الله عليه وسلم في رمضان ما نزل إليه فيحكم الله ما يشاء ويثبت ما يشاء وينسيه ما يشاء .وروي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في ثلاث ليال مضين من رمضان ويروى في أول ليلة من رمضان وأنزلت توراة موسى عليه السلام في ست ليال مضين من رمضان وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام في ثلاث عشرة ليلة مضت من رمضان وأنزل زبور داود في ثمان عشرة مضت من رمضان وأنزل الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم في الرابعة والعشرين من شهر رمضان لست بقين بعدها .قوله تعالى ( هدى للناس ) من الضلالة وهدى في محل نصب على القطع لأن القرآن معرفة وهدى نكرة ( وبينات من الهدى ) أي دلالات واضحات من الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ( والفرقان ) أي الفارق بين الحق والباطلقوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) أي فمن كان مقيما في الحضر فأدركه الشهر واختلف أهل العلم فيمن أدركه الشهر وهو مقيم ثم سافر روي عن علي رضي الله عنه أنه قال لا يجوز له الفطر وبه قال عبيدة السلماني لقوله تعالى ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) أي الشهر كله وذهب أكثر الصحابة والفقهاء إلى أنه إذا أنشأ السفر في شهر رمضان جاز له أن يفطر ومعنى الآية فمن شهد منكم الشهر كله فليصمه أي الشهر كله ومن لم يشهد منكم الشهر كله فليصم ما شهد منه والدليل عليه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس معه فكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .قوله تعالى ( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) أباح الفطر لعذر المرض والسفر وأعاد هذا الكلام ليعلم أن هذا الحكم ثابت في الناسخ ثبوته في المنسوخ واختلفوا في المرض الذي يبيح الفطر فذهب أهل الظاهر إلى أن ما يطلق عليه اسم المرض يبيح الفطر وهو قول ابن سيرين . قال طريف بن تمام العطاردي دخلت على محمد بن سيرين . في رمضان وهو يأكل ، فقال إنه وجعت أصبعي هذه وقال الحسن وإبراهيم النخعي هو المرض الذي تجوز معه الصلاة قاعدا وذهب الأكثرون إلى أنه مرض يخاف معه من الصوم زيادة علة غير محتملة وفي الجملة أنه إذا أجهده الصوم أفطر وإن لم يجهده فهو كالصحيح وأما السفر فالفطر فيه مباح والصوم جائز عند عامة أهل العلم إلا ما روي عن ابن عباس وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعلي بن الحسين أنهم قالوا لا يجوز الصوم في السفر ومن صام فعليه القضاء واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس من البر الصوم في السفر " وذلك عند الآخرين في حق من يجهده الصوم فالأولى له أن يفطر والدليل عليه ما أخبرنا به عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا آدم أخبرنا شعبة أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الأنصاري قال سمعت محمد بن عمرو بن الحسن بن علي بن جابر بن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال ما هذا قالوا هذا صائم ، فقال ليس من البر الصوم في السفر " .والدليل على جواز الصوم ما حدثنا الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري أخبرنا أبو نعيم الإسفراييني أخبرنا أبو عوانة أخبرنا أبو أمية أخبرنا عبد الله القواريري أخبرنا حماد بن زيد أخبرنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : " كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم " .واختلفوا في أفضل الأمرين فقالت طائفة الفطر في السفر أفضل من الصوم روي ذلك عن ابن عمر وإليه ذهب سعيد بن المسيب والشعبي وذهب قوم إلى أن الصوم أفضل وروي ذلك عن معاذ بن جبل وأنس وبه قال إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقالت طائفة أفضل الأمرين أيسرهما عليه لقوله تعالى ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وهو قول مجاهد وقتادة وعمر بن عبد العزيز ومن أصبح مقيما صائما ثم سافر في أثناء النهار لا يجوز له أن يفطر ذلك اليوم عند أكثر أهل العلم وقالت طائفة له أن يفطر وهو قول الشعبي وبه قال أحمد أما المسافر إذا أصبح صائما فيجوز له أن يفطر بالاتفاق والدليل عليه ما أخبر عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس معه فقيل له يا رسول الله إن الناس قد شق عليهم الصيام فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون فأفطر بعض الناس وصام بعضهم فبلغه أن ناسا صاموا فقال أولئك العصاة .واختلفوا في السفر الذي يبيح الفطر فقال قوم مسيرة يوم وذهب جماعة إلى مسيرة يومين وهو قول الشافعي رحمه الله وذهب جماعة إلى مسيرة ثلاثة أيام وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأيقوله تعالى ( يريد الله بكم اليسر ) بإباحة الفطر في المرض والسفر ( ولا يريد بكم العسر ) قرأ أبو جعفر العسر واليسر ونحوهما بضم السين وقرأ الآخرون بالسكون وقال الشعبي : ما خير رجل بين أمرين فاختار أيسرهما إلا كان ذلك أحبهما إلى الله عز وجل ( ولتكملوا العدة ) قرأ أبو بكر بتشديد الميم وقرأ الآخرون بالتخفيف وهو الاختيار لقوله تعالى : " اليوم أكملت لكم دينكم " ( 3 - المائدة ) والواو في قوله تعالى ولتكملوا العدة واو النسق واللام لام كي ، تقديره ويريد لكي تكملوا العدة أي لتكملوا عدة أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم في مرضكم وسفركم وقال عطاء : ( ولتكملوا العدة ) أي عدد أيام الشهرأخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " .أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا محمد بن يحيى أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقدموا الشهر بصوم يوم ولا يومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا " .( ولتكبروا الله ) ولتعظموا الله ( على ما هداكم ) أرشدكم إلى ما رضي به من صوم شهر رمضان وخصكم به دون سائر أهل المللقال ابن عباس : هو تكبيرات ليلة الفطر وروي عن الشافعي وعن ابن المسيب وعروة وأبي سلمة أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر يجهرون بالتكبير وشبه ليلة النحر بها إلا من كان حاجا فذكره التلبية( ولعلكم تشكرون ) الله على نعمه وقد وردت أخبار في فضل شهر رمضان وثواب الصائمين .أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسني المروزي أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام حدثني إسماعيل بن جعفر عن أبي سهل نافع بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل رمضان صفدت الشياطين وفتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار " .أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد بن الجراح أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي أخبرنا أبو كريب محمد بن العلاء أخبرنا أبو بكر محمد بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان أول ليلة في شهر رمضان صفدت الشياطين ، ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة " .أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نصر بن أحمد الكوفاني الهروي بها أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن محمد التجيبي المصري بها المعروف بابن النحاس قيل له أخبركم أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد العنزي البصري بمكة المعروف بابن الأعرابي أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهري أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " .أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو سعيد خلف بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي نزار حدثنا الحسين بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أسد الصفار أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي إسحاق العنزي أخبرنا علي بن حجر بن إياس السعدي أخبرنا يوسف بن زياد عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن سلمان قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال يا أيها الناس إنه قد أظلكم شهر عظيم وفي رواية قد أطلكم بالطاء أطل : أشرف شهر عظيم شهر مبارك شهر فيه ليلة القدر خير من ألف شهر شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعا من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ومن أدى فيه فريضة كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة وشهر المواساة أي المساهمة وشهر يزاد فيه الرزق ومن فطر فيه صائما كان له مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء قالوا يا رسول الله ليس كلنا نجد ما نفطر به الصائم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائما على مذقة لبن أو تمرة أو شربة من ماء ومن أشبع صائما سقاه الله عز وجل من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة ومن خفف عن مملوكه فيه غفر الله له وأعتقه من النار حتى يدخل الجنة وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار فاستكثروا فيه من أربع خصال خصلتين ترضون بهما ربكم وخصلتين لا غنى بكم عنهما أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله ، وتستغفرونه وأما اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار " .أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر أخبرنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بكير الكوفي أخبرنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل عمل ابن آدم يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع الصائم طعامه وشرابه وشهوته من أجلي للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك الصوم جنة الصوم جنة " .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا محمد بن مطرف حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون " .أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي أخبرنا عبد الله بن محمود أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أخبرنا عبد الله بن المبارك عن راشد بن سعد عن يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصيام والقرآن يشفعان للعبد يقول الصيام أي رب إني منعته الطعام ، والشراب والشهوات بالنهار فشفعني فيه ويقول القرآن : رب إني منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان " .

شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرونفيه إحدى وعشرون مسألة :الأولى : قوله تعالى : شهر رمضان قال أهل التاريخ : أول من صام رمضان نوح عليه السلام لما خرج من السفينة ، وقد تقدم قول مجاهد : كتب الله رمضان على كل أمة ومعلوم أنه كان قبل نوح أمم ، والله أعلم ، والشهر مشتق من الإشهار لأنه مشتهر لا يتعذر علمه على أحد يريده ، ومنه يقال : شهرت السيف إذا سللته . ورمضان مأخوذ من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش . والرمضاء ( ممدودة ) : شدة الحر ، ومنه الحديث : صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال . خرجه مسلم . ورمض الفصال أن تحرق الرمضاء أخفافها فتبرك من شدة حرها . فرمضان - فيما ذكروا - وافق شدة الحر ، فهو مأخوذ من الرمضاء . قال الجوهري : وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء ، يقال إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمي بذلك . وقيل : إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة ، من الإرماض وهو الإحراق ، ومنه رمضت قدمه من الرمضاء أي احترقت ، وأرمضتني الرمضاء أي أحرقتني ، ومنه قيل : أرمضني الأمر ، وقيل : لأن القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والفكرة في أمر الآخرة كما يأخذ الرمل والحجارة من حر الشمس ، والرمضاء : الحجارة المحماة ، وقيل : هو من رمضت النصل أرمضه وأرمضه رمضا إذا دققته بين حجرين ليرق . ومنه نصل رميض ومرموض - عن ابن السكيت - وسمي الشهر به لأنهم كانوا يرمضون أسلحتهم في رمضان ليحاربوا بها في شوال قبل دخول الأشهر الحرم ، وحكى الماوردي أن اسمه في الجاهلية ( ناتق ) وأنشد للمفضل :وفي ناتق أجلت لدى حومة الوغى وولت على الأدبار فرسان خثعماوشهر بالرفع قراءة الجماعة على الابتداء ، والخبر الذي أنزل فيه القرآن . أو يرتفع على إضمار مبتدأ ، المعنى : المفروض عليكم صومه شهر رمضان ، أو فيما كتب عليكم شهر رمضان ، ويجوز أن يكون شهر مبتدأ ، و الذي أنزل فيه القرآن صفة ، والخبر فمن شهد منكم الشهر ، وأعيد ذكر الشهر تعظيما ، كقوله تعالى : الحاقة ما الحاقة . وجاز أن يدخله معنى الجزاء ; لأن شهر رمضان وإن كان معرفة فليس معرفة بعينها لأنه شائع في جميع القابل ، قاله أبو علي . وروي عن مجاهد وشهر بن حوشب نصب شهر ، ورواها هارون الأعور عن أبي عمرو ، ومعناه : الزموا شهر رمضان أو صوموا . و الذي أنزل فيه القرآن نعت له ، ولا يجوز أن ينتصب بتصوموا ; لئلا يفرق بين الصلة والموصول بخبر أن وهو خير لكم . الرماني : يجوز نصبه على البدل من قول أياما معدودات .الثانية : واختلف هل يقال رمضان دون أن يضاف إلى شهر ، فكره ذلك مجاهد وقال : يقال كما قال الله تعالى . وفي الخبر : لا تقولوا رمضان بل انسبوه كما نسبه الله في القرآن فقال شهر رمضان ، وكان يقول : بلغني أنه اسم من أسماء الله . وكان يكره أن يجمع لفظه لهذا المعنى ، ويحتج بما روي : رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، وهذا ليس بصحيح فإنه من حديث أبي معشر نجيح وهو ضعيف ، والصحيح جواز إطلاق رمضان من غير إضافة كما ثبت في الصحاح وغيرها . روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين . وفي صحيح البستي عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان رمضان فتحت له أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين ، وروي عن ابن شهاب عن أنس بن أبي أنس أن أباه حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول . . . فذكره . قال البستي : أنس بن أبي أنس هذا هو والد مالك بن أنس ، واسم أبي أنس مالك بن أبي عامر من ثقات أهل المدينة ، وهو مالك ابن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن عثمان بن جثيل بن عمرو من ذي أصبح من أقيال اليمن ، وروى النسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه مردة الشياطين ، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم ، وأخرجه أبو حاتم البستي أيضا وقال : فقوله مردة الشياطين تقييد لقوله : صفدت الشياطين وسلسلت ، وروى النسائي أيضا عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار : إذا كان رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة . وروى النسائي أيضا عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى فرض صيام رمضان [ عليكم ] وسننت لكم قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، والآثار في هذا كثيرة ، كلها بإسقاط شهر ، وربما أسقطت العرب ذكر الشهر من رمضان . قال الشاعر :جارية في درعها الفضفاض أبيض من أخت بني إباضجارية في رمضان الماضي تقطع الحديث بالإيماضوفضل رمضان عظيم ، وثوابه جسيم ، يدل على ذلك معنى الاشتقاق من كونه محرقا للذنوب ، وما كتبناه من الأحاديث .الثالثة : فرض الله صيام شهر رمضان أي مدة هلاله ، وبه سمي الشهر ، كما جاء في الحديث : ( فإن غمي عليكم الشهر ) أي الهلال ، وسيأتي ، وقال الشاعر :أخوان من نجد على ثقة والشهر مثل قلامة الظفرحتى تكامل في استدارته في أربع زادت على عشروفرض علينا عند غمة الهلال إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما ، وإكمال عدة رمضان ثلاثين يوما ، حتى ندخل في العبادة بيقين ونخرج عنها بيقين ، فقال في كتابه وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ، وروى الأئمة الأثبات عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدد في رواية فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين . وقد ذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين وابن قتيبة من اللغويين فقالا : يعول على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان ، حتى إنه لو كان صحوا لرئي ، لقوله عليه السلام : فإن أغمي عليكم فاقدروا له أي استدلوا عليه بمنازله ، وقدروا إتمام الشهر بحسابه . وقال الجمهور : معنى فاقدروا له فأكملوا المقدار ، يفسره حديث أبي هريرة فأكملوا العدة . وذكر الداودي أنه قيل في معنى قوله " فاقدروا له " : أي قدروا المنازل ، وهذا لا نعلم أحدا قال به إلا بعض أصحاب الشافعي أنه يعتبر في ذلك بقول المنجمين ، والإجماع حجة عليهم ، وقد روى ابن نافع عن مالك في الإمام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته ، وإنما يصوم ويفطر على الحساب : إنه لا يقتدى به ولا يتبع . قال ابن العربي : وقد زل بعض أصحابنا فحكى عن الشافعي أنه قال : يعول على الحساب ، وهي عثرة ( لا لعا لها ) .الرابعة : واختلف مالك والشافعي هل يثبت هلال رمضان بشهادة واحد أو شاهدين ، فقال مالك : لا يقبل فيه شهادة الواحد لأنها شهادة على هلال فلا يقبل فيها أقل من اثنين ، أصله الشهادة على هلال شوال وذي الحجة ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : يقبل الواحد ، لما رواه أبو داود عن ابن عمر قال : تراءى الناس الهلال فأخبرت به رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته ، فصام وأمر الناس بصيامه ، وأخرجه الدارقطني وقال : تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة . روى الدارقطني " أن رجلا شهد عند علي بن أبي طالب على رؤية هلال رمضان فصام ، أحسبه قال : وأمر الناس أن يصوموا " ، وقال : أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان . قال الشافعي : فإن لم تر العامة هلال شهر رمضان ورآه رجل عدل رأيت أن أقبله للأثر والاحتياط ، وقال الشافعي بعد : لا يجوز على رمضان إلا شاهدان . قال الشافعي وقال بعض أصحابنا : لا أقبل عليه إلا شاهدين ، وهو القياس على كل مغيب .الخامسة : واختلفوا فيمن رأى هلال رمضان وحده أو هلال شوال ، فروى الربيع عن الشافعي : من رأى هلال رمضان وحده فليصمه ، ومن رأى هلال شوال وحده فليفطر ، وليخف ذلك ، وروى ابن وهب عن مالك في الذي يرى هلال رمضان وحده أنه يصوم ; لأنه لا ينبغي له أن يفطر وهو يعلم أن ذلك اليوم من شهر رمضان ، ومن رأى هلال شوال وحده فلا يفطر ; لأن الناس يتهمون على أن يفطر منهم من ليس مأمونا ، ثم يقول أولئك إذا ظهر عليهم : قد رأينا الهلال . قال ابن المنذر : وبهذا قال الليث بن سعد وأحمد بن حنبل ، وقال عطاء وإسحاق : لا يصوم ولا يفطر . قال ابن المنذر : يصوم ويفطر .السادسة : واختلفوا إذا أخبر مخبر عن رؤية بلد ، فلا يخلو أن يقرب أو يبعد ، فإن قرب فالحكم واحد ، وإن بعد فلأهل كل بلد رؤيتهم ، روي هذا عن عكرمة والقاسم وسالم وروي عن ابن عباس ، وبه قال إسحاق ، وإليه أشار البخاري حيث بوب : ( لأهل كل بلد رؤيتهم ) . وقال آخرون : إذا ثبت عند الناس أن أهل بلد قد رأوه فعليهم قضاء ما أفطروا ، هكذا قال الليث بن سعد والشافعي . قال ابن المنذر : ولا أعلمه إلا قول المزني والكوفي .قلت : ذكر إلكيا الطبري في كتاب ( أحكام القرآن ) له : وأجمع أصحاب أبي حنيفة على أنه إذا صام أهل بلد ثلاثين يوما للرؤية ، وأهل بلد تسعة وعشرين يوما أن على الذين صاموا تسعة وعشرين يوما قضاء يوم . وأصحاب الشافعي لا يرون ذلك ، إذ كانت المطالع في البلدان يجوز أن تختلف ، وحجة أصحاب أبي حنيفة قوله تعالى : ولتكملوا العدة وثبت برؤية أهل بلد أن العدة ثلاثون فوجب على هؤلاء إكمالها . ومخالفهم يحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته الحديث ، وذلك يوجب اعتبار عادة كل قوم في بلدهم ، وحكى أبو عمر الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كالأندلس من خراسان ، قال : ولكل بلد رؤيتهم ، إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين . روى مسلم عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال : فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت : رأيناه ليلة الجمعة ، فقال : أنت رأيته ؟ فقلت نعم ، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية ، فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه ، فقلت : أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال لا ، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال علماؤنا : قول ابن عباس ( هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ) كلمة تصريح برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره ، فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد الشام من الحجاز فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته دون رؤية غيره ، وإن ثبت ذلك عند الإمام الأعظم ، ما لم يحمل الناس على ذلك ، فإن حمل فلا تجوز مخالفته ، وقال إلكيا الطبري : قوله ( هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ) يحتمل أن يكون تأول فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، وقال ابن العربي : واختلف في تأويل قول ابن عباس هذا فقيل : رده لأنه خبر واحد ، وقيل : رده لأن الأقطار مختلفة في المطالع ، وهو الصحيح ; لأن كريبا لم يشهد وإنما أخبر عن حكم ثبت بالشهادة ، ولا خلاف في الحكم الثابت أنه يجزي فيه خبر الواحد ، ونظيره ما لو ثبت أنه أهل ليلة الجمعة بأغمات وأهل بإشبيلية ليلة السبت فيكون لأهل كل بلد رؤيتهم ; لأن سهيلا يكشف من أغمات ولا يكشف من إشبيلية ، وهذا يدل على اختلاف المطالع .قلت : وأما مذهب مالك رحمه الله في هذه المسألة فروى ابن وهب وابن القاسم عنه في المجموعة أن أهل البصرة إذا رأوا هلال رمضان ثم بلغ ذلك إلى أهل الكوفة والمدينة واليمن أنه يلزمهم الصيام أو القضاء إن فات الأداء ، وروى القاضي أبو إسحاق عن ابن الماجشون أنه إن كان ثبت بالبصرة بأمر شائع ذائع يستغنى عن الشهادة والتعديل له فإنه يلزم غيرهم من أهل البلاد القضاء ، وإن كان إنما ثبت عند حاكمهم بشهادة شاهدين لم يلزم ذلك من البلاد إلا من كان يلزمه حكم ذلك الحاكم ممن هو في ولايته ، أو يكون ثبت ذلك عند أمير المؤمنين فيلزم القضاء جماعة المسلمين . قال : وهذا قول مالك .السابعة : قرأ جمهور الناس شهر بالرفع على أنه خبر ابتداء مضمر ، أي ذلكم شهر ، أو المفترض عليكم صيامه شهر رمضان ، أو الصوم أو الأيام ، وقيل : ارتفع على أنه مفعول لم يسم فاعله ب كتب أي كتب عليكم شهر رمضان . ورمضان لا ينصرف لأن النون فيه زائدة ، ويجوز أن يكون مرفوعا على الابتداء ، وخبره الذي أنزل فيه القرآن ، وقيل : خبره فمن شهد ، والذي أنزل نعت له ، وقيل : ارتفع على البدل من الصيام ، فمن قال : إن الصيام في قوله كتب عليكم الصيام هي ثلاثة أيام وعاشوراء قال هنا بالابتداء ، ومن قال : إن الصيام هناك رمضان قال هنا بالابتداء أو بالبدل من الصيام ، أي كتب عليكم شهر رمضان .وقرأ مجاهد وشهر بن حوشب شهر بالنصب . قال الكسائي : المعنى كتب عليكم الصيام ، وأن تصوموا شهر رمضان . وقال الفراء : أي كتب عليكم الصيام أي أن تصوموا شهر رمضان . قال النحاس : لا يجوز أن ينتصب شهر رمضان بتصوموا ; لأنه يدخل في الصلة ثم يفرق بين الصلة والموصول ، وكذلك إن نصبته بالصيام ، ولكن يجوز أن تنصبه على الإغراء ، أي الزموا شهر رمضان ، وصوموا شهر رمضان ، وهذا بعيد أيضا لأنه لم يتقدم ذكر الشهر فيغرى به .قلت : قوله كتب عليكم الصيام يدل على الشهر فجاز الإغراء ، وهو اختيار أبي عبيد ، وقال الأخفش : انتصب على الظرف ، وحكي عن الحسن وأبي عمرو إدغام الراء في الراء ، وهذا لا يجوز لئلا يجتمع ساكنان ، ويجوز أن تقلب حركة الراء على الهاء فتضم الهاء ثم تدغم ، وهو قول الكوفيين .الثامنة : قوله تعالى : الذي أنزل فيه القرآن نص في أن القرآن نزل في شهر رمضان ، وهو يبين قوله عز وجل : حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة يعني ليلة القدر ، ولقوله : إنا أنزلناه في ليلة القدر ، وفي هذا دليل على أن ليلة القدر إنما تكون في رمضان لا في غيره ، ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر - على ما بيناه - جملة واحدة ، فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا ، ثم كان جبريل صلى الله عليه وسلم ينزل به نجما نجما في الأوامر والنواهي والأسباب ، وذلك في عشرين سنة . وقال ابن عباس : أنزل القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في سماء الدنيا ، ثم أنزل به جبريل عليه السلام نجوما - يعني الآية والآيتين - في أوقات مختلفة في إحدى وعشرين سنة . وقال مقاتل في قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن قال أنزل من اللوح المحفوظ كل عام في ليلة القدر إلى سماء الدنيا ، ثم نزل إلى السفرة من اللوح المحفوظ في عشرين شهرا ، ونزل به جبريل في عشرين سنة .قلت : وقول مقاتل هذا خلاف ما نقل من الإجماع ( أن القرآن أنزل جملة واحدة ) والله أعلم ، وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان والتوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين .قلت : وفي هذا الحديث دلالة على ما يقوله الحسن أن ليلة القدر تكون ليلة أربع وعشرين ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان هذا .التاسعة : قوله تعالى : القرآن القرآن : اسم لكلام الله تعالى ، وهو بمعنى المقروء ، كالمشروب يسمى شرابا ، والمكتوب يسمى كتابا ، وعلى هذا قيل : هو مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآنا بمعنى . قال الشاعر :ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحا وقرآناأي قراءة ، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر أن في البحر شياطين مسجونة أوثقها سليمان عليه السلام يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا أي قراءة ، وفي التنزيل : وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا أي قراءة الفجر . ويسمى المقروء قرآنا على عادة العرب في تسميتها المفعول باسم المصدر ، كتسميتهم للمعلوم علما وللمضروب ضربا وللمشروب شربا ، كما ذكرنا ، ثم اشتهر الاستعمال في هذا واقترن به العرف الشرعي ، فصار القرآن اسما لكلام الله ، حتى إذا قيل : القرآن غير مخلوق ، يراد به المقروء لا القراءة لذلك ، وقد يسمى المصحف الذي يكتب فيه كلام الله قرآنا توسعا ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو أراد به المصحف . وهو مشتق من قرأت الشيء جمعته . وقيل : هو اسم علم لكتاب الله ، غير مشتق كالتوراة والإنجيل ، وهذا يحكى عن الشافعي والصحيح الاشتقاق في الجميع ، وسيأتي .العاشرة : قوله تعالى : هدى للناس هدى في موضع نصب على الحال من القرآن ، أي هاديا لهم . وبينات عطف عليه . والهدى الإرشاد والبيان ، كما تقدم أي بيانا لهم وإرشادا ، والمراد القرآن بجملته من محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ ، ثم شرف بالذكر والتخصيص البينات منه ، يعني الحلال والحرام والمواعظ والأحكام . وبينات جمع بينة ، من بان الشيء يبين إذا وضح . والفرقان ما فرق بين الحق والباطل ، أي فصل ، وقد تقدم .الحادية عشرة : قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه قراءة العامة بجزم اللام ، وقرأ الحسن والأعرج بكسر اللام ، وهي لام الأمر وحقها الكسر إذا أفردت ، فإذا وصلت بشيء ففيها وجهان : الجزم والكسر . وإنما توصل بثلاثة أحرف : بالفاء كقوله فليصمه ، فليعبدوا والواو كقوله : وليوفوا وثم كقوله : ثم ليقضوا وشهد بمعنى حضر ، وفيه إضمار ، أي من شهد منكم المصر في الشهر عاقلا بالغا صحيحا مقيما فليصمه ، وهو يقال عام فيخصص بقوله : " فمن كان منكم مريضا أو على سفر " الآية ، وليس الشهر بمفعول وإنما هو ظرف زمان ، وقد اختلف العلماء في تأويل هذا ، فقال علي بن أبي طالب وابن عباس وسويد بن غفلة وعائشة - أربعة من الصحابة - وأبو مجلز لاحق بن حميد وعبيدة السلماني : من شهد أي من حضر دخول الشهر وكان مقيما في أوله في بلده وأهله فليكمل صيامه ، سافر بعد ذلك أو أقام ، وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر . والمعنى عندهم : من أدركه رمضان مسافرا أفطر وعليه عدة من أيام أخر ، ومن أدركه حاضرا فليصمه ، وقال جمهور الأمة : من شهد أول الشهر وآخره فليصم ما دام مقيما ، فإن سافر أفطر ، وهذا هو الصحيح وعليه تدل الأخبار الثابتة . وقد ترجم البخاري رحمه الله ردا على القول الأول ( باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر ) حدثنا عبد الله بن يوسف قال أنبأنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس . قال أبو عبد الله : والكديد ما بين عسفان وقديد .قلت : قد يحتمل أن يحمل قول علي رضي الله عنه ومن وافقه على السفر المندوب كزيارة الإخوان من الفضلاء والصالحين ، أو المباح في طلب الرزق الزائد على الكفاية . وأما السفر الواجب في طلب القوت الضروري ، أو فتح بلد إذا تحقق ذلك ، أو دفع عدو ، فالمرء فيه مخير ولا يجب عليه الإمساك ، بل الفطر فيه أفضل للتقوي ، وإن كان شهد الشهر في بلده وصام بعضه فيه ، لحديث ابن عباس وغيره ، ولا يكون في هذا خلاف إن شاء الله والله أعلم ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه ، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه ; لأنه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام ، ومن جن أول الشهر وآخره فإنه يقضي أيام جنونه ، ونصب الشهر على هذا التأويل هو على المفعول الصريح ب شهد .الثانية عشرة : قد تقرر أن فرض الصوم مستحق بالإسلام والبلوغ والعلم بالشهر ، فإذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي قبل الفجر لزمهما الصوم صبيحة اليوم ، وإن كان الفجر استحب لهما الإمساك ، وليس عليهما قضاء الماضي من الشهر ولا اليوم الذي بلغ فيه أو أسلم ، وقد اختلف العلماء في الكافر يسلم في آخر يوم من رمضان ، هل يجب عليه قضاء رمضان كله أو لا ؟ وهل يجب عليه قضاء اليوم الذي أسلم فيه ؟ فقال الإمام مالك والجمهور : ليس عليه قضاء ما مضى ; لأنه إنما شهد الشهر من حين إسلامه . قال مالك : وأحب إلي أن يقضي اليوم الذي أسلم فيه ، وقال عطاء والحسن : يصوم ما بقي ويقضي ما مضى ، وقال عبد الملك بن الماجشون : يكف عن الأكل في ذلك اليوم ويقضيه ، وقال أحمد وإسحاق مثله ، وقال ابن المنذر : ليس عليه أن يقضي ما مضى من الشهر ولا ذلك اليوم ، وقال الباجي : من قال من أصحابنا إن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام - وهو مقتضى قول مالك وأكثر أصحابه - أوجب عليه الإمساك في بقية يومه ، ورواه في المدونة ابن نافع عن مالك وقال الشيخ أبو القاسم ومن قال من أصحابنا ليسوا مخاطبين قال : لا يلزمه الإمساك في بقية يومه ، وهو مقتضى قول أشهب وعبد الملك بن الماجشون ، وقاله ابن القاسم .قلت : وهو الصحيح لقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا فخاطب المؤمنين دون غيرهم ، وهذا واضح ، فلا يجب عليه الإمساك في بقية اليوم ولا قضاء ما مضى .وتقدم القول في معني قوله : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر والحمد لله .الثالثة عشرة : قوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر قراءة جماعة " اليسر " بضم السين لغتان ، وكذلك " العسر " . قال مجاهد والضحاك : اليسر الفطر في السفر ، والعسر الصيام في السفر ، والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين ، كما قال تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم دين الله يسر وقال صلى الله عليه وسلم : يسروا ولا تعسروا . واليسر من السهولة ، ومنه اليسار للغنى . وسميت اليد اليسرى تفاؤلا ، أو لأنه يسهل له الأمر بمعاونتها لليمنى ، قولان ، وقوله : ولا يريد بكم العسر هو بمعنى قوله يريد الله بكم اليسر فكرر تأكيدا .الرابعة عشرة : دلت الآية على أن الله سبحانه مريد بإرادة قديمة أزلية زائدة على الذات . هذا مذهب أهل السنة ، كما أنه عالم بعلم ، قادر بقدرة ، حي بحياة ، سميع بسمع ، بصير ببصر ، متكلم بكلام ، وهذه كلها معان وجودية أزلية زائدة على الذات . وذهب الفلاسفة والشيعة إلى نفيها ، تعالى الله عن قول الزائغين وإبطال المبطلين ، والذي يقطع دابر أهل التعطيل أن يقال : لو لم يصدق كونه ذا إرادة لصدق أنه ليس بذي إرادة ، ولو صح ذلك لكان كل ما ليس بذي إرادة ناقصا بالنسبة إلى من له إرادة ، فإن من كانت له الصفات الإرادية فله أن يخصص الشيء وله ألا يخصصه ، فالعقل السليم يقضي بأن ذلك كمال له وليس بنقصان ، حتى إنه لو قدر بالوهم سلب ذلك الأمر عنه لقد كان حاله أولا أكمل بالنسبة إلى حال ثانيا ، فلم يبق إلا أن يكون ما لم يتصف أنقص مما هو متصف به ، ولا يخفى ما فيه من المحال ، فإنه كيف يتصور أن يكون المخلوق أكمل من الخالق ، والخالق أنقص منه ، والبديهة تقضي برده وإبطاله ، وقد وصف نفسه جل جلاله وتقدست أسماؤه بأنه مريد فقال تعالى : فعال لما يريد وقال سبحانه : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال : يريد الله أن يخفف عنكم إذا أراد أمرا فإنما يقول كن فيكون ، ثم إن هذا العالم على غاية من الحكمة والإتقان والانتظام والإحكام ، وهو مع ذلك جائز وجوده وجائز عدمه ، فالذي خصصه بالوجود يجب أن يكون مريدا له قادرا عليه عالما به ، فإن لم يكن عالما قادرا لا يصح منه صدور شيء ، ومن لم يكن عالما وإن كان قادرا لم يكن ما صدر منه على نظام الحكمة والإتقان ، ومن لم يكن مريدا لم يكن تخصيص بعض الجائزات بأحوال وأوقات دون البعض بأولى من العكس ، إذ نسبتها إليه نسبة واحدة . قالوا : وإذ ثبت كونه قادرا مريدا وجب أن يكون حيا ، إذ الحياة شرط هذه الصفات ، ويلزم من كونه حيا أن يكون سميعا بصيرا متكلما ، فإن لم تثبت له هذه الصفات فإنه لا محالة متصف بأضدادها كالعمى والطرش والخرس على ما عرف في الشاهد ، والبارئ سبحانه وتعالى يتقدس عن أن يتصف بما يوجب في ذاته نقصا .الخامسة عشرة : قوله تعالى : ولتكملوا العدة فيه تأويلان : أحدهما : إكمال عدة الأداء لمن أفطر في سفره أو مرضه . الثاني : عدة الهلال سواء كانت تسعا وعشرين أو ثلاثين . قال جابر بن عبد الله قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الشهر يكون تسعا وعشرين . وفي هذا رد لتأويل من تأول قوله صلى الله عليه وسلم : شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة أنهما لا ينقصان عن ثلاثين يوما ، أخرجه أبو داود . وتأول جمهور العلماء على معنى أنهما لا ينقصان في الأجر وتكفير الخطايا ، سواء كانا من تسع وعشرين أو ثلاثين .السادسة عشرة : ولا اعتبار برؤية هلال شوال يوم الثلاثين من رمضان نهارا بل هو لليلة التي تأتي ، هذا هو الصحيح ، وقد اختلف الرواة عن عمر في هذه المسألة فروى الدارقطني عن شقيق قال : جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين قال في كتابه : إن الأهلة بعضها أكبر من بعض ، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس وذكره أبو عمر من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن أبي وائل قال : كتب إلينا عمر . . . ، فذكره . قال أبو عمر : وروي عن علي بن أبي طالب مثل ما ذكره عبد الرزاق أيضا ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر وأنس بن مالك ، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والليث والأوزاعي ، وبه قال أحمد وإسحاق ، وقال سفيان الثوري وأبو يوسف : إن رئي بعد الزوال فهو لليلة التي تأتي ، وإن رئي قبل الزوال فهو لليلة الماضية ، وروي مثل ذلك عنعمر ، ذكره عبد الرزاق عن الثوري عن مغيرة عن شباك عن إبراهيم قال : كتب عمر إلى عتبة بن فرقد " إذا رأيتم الهلال نهارا قبل أن تزول الشمس لتمام ثلاثين فأفطروا ، وإذا رأيتموه بعد ما تزول الشمس فلا تفطروا حتى تمسوا " ، وروي عن علي مثله ، ولا يصح في هذه المسألة شيء من جهة الإسناد على علي ، وروي عن سليمان بن ربيعة مثل قول الثوري ، وإليه ذهب عبد الملك بن حبيب ، وبه كان يفتى بقرطبة ، واختلف عن عمر بن عبد العزيز في هذه المسألة ، قال أبو عمر : والحديث عن عمر بمعنى ما ذهب إليه مالك والشافعي وأبو حنيفة متصل ، والحديث الذي روي عنه بمذهب الثوري منقطع ، والمصير إلى المتصل أولى ، وقد احتج من ذهب مذهب الثوري بأن قال : حديث الأعمش مجمل لم يخص فيه قبل الزوال ولا بعده ، وحديث إبراهيم مفسر ، فهو أولى أن يقال به .قلت : قد روي مرفوعا معنى ما روي عن عمر متصلا موقوفا روته عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما صبح ثلاثين يوما ، فرأى هلال شوال نهارا فلم يفطر حتى أمسى . أخرجه الدارقطني من حديث الواقدي وقال : قال الواقدي حدثنا معاذ بن محمد الأنصاري قال : سألت الزهري عن هلال شوال إذا رئي باكرا ، قال سمعت سعيد بن المسيب يقول : إن رئي هلال شوال بعد أن طلع الفجر إلى العصر أو إلى أن تغرب الشمس فهو من الليلة التي تجيء ، قال أبو عبد الله : وهذا مجمع عليه .السابعة عشرة : روى الدارقطني عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : قال : اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالله لأهلا الهلال أمس عشية ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا وأن يغدوا إلى مصلاهم . قال الدارقطني : هذا إسناد حسن ثابت . قال أبو عمر : لا خلاف عن مالك وأصحابه أنه لا تصلى صلاة العيد في غير يوم العيد ولا في يوم العيد بعد الزوال ، وحكي عن أبي حنيفة . واختلف قول الشافعي في هذه المسألة ، فمرة قال بقول مالك ، واختاره المزني وقال : إذا لم يجز أن تصلى في يوم العيد بعد الزوال فاليوم الثاني أبعد من وقتها وأحرى ألا تصلى فيه ، وعن الشافعي رواية أخرى أنها تصلى في اليوم الثاني ضحى ، وقال البويطي : لا تصلى إلا أن يثبت في ذلك حديث . قال أبو عمر : لو قضيت صلاة العيد بعد خروج وقتها لأشبهت الفرائض ، وقد أجمعوا في سائر السنن أنها لا تقضى ، فهذه مثلها ، وقال الثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل : يخرجون من الغد ، وقال أبو يوسف في الإملاء ، وقال الحسن بن صالح بن حي : لا يخرجون في الفطر ويخرجون في الأضحى . قال أبو يوسف : وأما في الأضحى فيصليها بهم في اليوم الثالث . قال أبو عمر : لأن الأضحى أيام عيد وهي صلاة عيد ، وليس الفطر يوم عيد إلا يوم واحد ، فإذا لم تصل فيه لم تقض في غيره ; لأنها ليست بفريضة فتقضى ، وقال الليث بن سعد : يخرجون في الفطر والأضحى من الغد .قلت : والقول بالخروج إن شاء الله أصح ، للسنة الثابتة في ذلك ، ولا يمتنع أن يستثني الشارع من السنن ما شاء فيأمر بقضائه بعد خروج وقته ، وقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس . صححه أبو محمد . قال الترمذي : والعمل على هذا عند بعض أهل العلم ، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وابن المبارك ، وروي عن عمر أنه فعله .قلت : وقد قال علماؤنا : من ضاق عليه الوقت وصلى الصبح وترك ركعتي الفجر فإنه يصليهما بعد طلوع الشمس إن شاء ، وقيل : لا يصليهما حينئذ ، ثم إذا قلنا : يصليهما فهل ما يفعله قضاء ، أو ركعتان ينوب له ثوابهما عن ثواب ركعتي الفجر . قال الشيخ أبو بكر : وهذا الجاري على أصل المذهب ، وذكر القضاء تجوز .قلت : ولا يبعد أن يكون حكم صلاة الفطر في اليوم الثاني على هذا الأصل ، لا سيما مع كونها مرة واحدة في السنة مع ما ثبت من السنة . روى النسائي قال : أخبرني عمرو بن علي قال حدثنا يحيى قال حدثنا شعبة قال حدثني أبو بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له : أن قوما رأوا الهلال فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يفطروا بعد ما ارتفع النهار وأن يخرجوا إلى العيد من الغد . في رواية : ويخرجوا لمصلاهم من الغد .الثامنة عشرة : قرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو - في بعض ما روي عنه - والحسن وقتادة والأعرج " ولتكملوا العدة " بالتشديد . والباقون بالتخفيف ، واختار الكسائي التخفيف ، كقوله عز وجل : اليوم أكملت لكم دينكم . قال النحاس : وهما لغتان بمعنى واحد ، كما قال عز وجل : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ، ولا يجوز " ولتكملوا " بإسكان اللام ، والفرق بين هذا وبين ما تقدم أن التقدير : ويريد لأن تكملوا ، ولا يجوز حذف أن والكسرة ، هذا قول البصريين ، ونحوه قول كثير أبو صخر :أريد لأنسى ذكرهاأي لأن أنسى ، وهذه اللام هي الداخلة على المفعول ، كالتي في قولك : ضربت لزيد ، المعنى ويريد إكمال العدة ، وقيل : هي متعلقة بفعل مضمر بعد ، تقديره : ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة ، وهذا قول الكوفيين وحكاه النحاس عن الفراء . قال النحاس : وهذا قول حسن ، ومثله : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين أي وليكون من الموقنين فعلنا ذلك . وقيل : الواو مقحمة ، وقيل : يحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام ، وقال أبو إسحاق إبراهيم بن السري : هو محمول على المعنى ، والتقدير : فعل الله ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا العدة ، قال : ومثله ما أنشده سيبويه :بادت وغير آيهن مع البلى إلا رواكد جمرهن هباءومشجج أما سواء قذاله فبدا وغيب ساره المعزاءشاده يشيده شيدا جصصه ; لأن معناه بادت إلا رواكد بها رواكد ، فكأنه قال : وبها مشجج أو ثم مشجج .التاسعة عشرة : قوله تعالى : ولتكبروا الله عطف عليه ، ومعناه الحض على التكبير في آخر رمضان في قول جمهور أهل التأويل ، واختلف الناس في حده ، فقال الشافعي : روي عن سعيد ابن المسيب وعروة وأبي سلمة أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر ويحمدون ، قال : وتشبه ليلة النحر بها وقال ابن عباس : حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا وروي عنه : يكبر المرء من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة ، ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره وقال قوم : يكبر من رؤية الهلال إلى خروج الإمام للصلاة ، وقال سفيان : هو التكبير يوم الفطر . زيد بن أسلم : يكبرون إذا خرجوا إلى المصلى فإذا انقضت الصلاة انقضى العيد ، وهذا مذهب مالك ، قال مالك : هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الإمام ، وروى ابن القاسم وعلي بن زياد : أنه إن خرج قبل طلوع الشمس فلا يكبر في طريقه ولا جلوسه حتى تطلع الشمس ، وإن غدا بعد الطلوع فليكبر في طريقه إلى المصلى وإذا جلس حتى يخرج الإمام ، والفطر والأضحى في ذلك سواء عند مالك وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يكبر في الأضحى ولا يكبر في الفطر ، والدليل عليه قوله تعالى : ولتكبروا الله ولأن هذا يوم عيد لا يتكرر في العام فسن التكبير في الخروج إليه كالأضحى . وروى الدارقطني عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : كانوا في التكبير في الفطر أشد منهم في الأضحى ، وروي عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلىوروي عن ابن عمر : أنه كان إذا غدا يوم الأضحى ويوم الفطر يجهر بالتكبير حتى يأتي ثم يكبر حتى يأتي الإمام وأكثر أهل العلم على التكبير في عيد الفطر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم فيما ذكر ابن المنذر قال : وحكى ذلك الأوزاعي عن إلياس ، وكان الشافعي يقول إذا رأى هلال شوال : أحببت أن يكبر الناس جماعة وفرادى ، ولا يزالون يكبرون ويظهرون التكبير حتى يغدوا إلى المصلى وحين يخرج الإمام إلى الصلاة ، وكذلك أحب ليلة الأضحى لمن لم يحج . وسيأتي حكم صلاة العيدين والتكبير فيهما في سبح اسم ربك الأعلى والكوثر إن شاء الله تعالى .الموفية عشرين : ولفظ التكبير عند مالك وجماعة من العلماء : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، ثلاثا ، وروي عن جابر بن عبد الله ، ومن العلماء من يكبر ويهلل ويسبح أثناء التكبير ، ومنهم من يقول : الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، وكان ابن المبارك يقول إذا خرج من يوم الفطر : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا . قال ابن المنذر : وكان مالك لا يحد فيه حدا ، وقال أحمد : هو واسع . قال ابن العربي : " واختار علماؤنا التكبير المطلق ، وهو ظاهر القرآن وإليه أميل " .الحادية والعشرون : قوله تعالى : على ما هداكم قيل : لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم . وقيل : بدلا عما كانت الجاهلية تفعله من التفاخر بالآباء والتظاهر بالأحساب وتعديد المناقب ، وقيل : لتعظموه على ما أرشدكم إليه من الشرائع ، فهو عام . وتقدم معنى ولعلكم تشكرون

شهر رمضانالقول في تأويل قوله تعالى : شهر رمضان قال أبو جعفر : الشهر فيما قيل أصله من الشهرة , يقال منه : قد شهر فلان سيفه إذا أخرجه من غمده فاعترض به من أراد ضربه , يشهره شهرا وكذلك شهر الشهر إذا طلع هلاله , وأشهرنا نحن إذا دخلنا في الشهر . وأما رمضان فإن بعض أهل المعرفة بلغة العرب كان يزعم أنه سمي بذلك لشدة الحر الذي كان يكون فيه حتى ترمض فيه الفصال كما يقال للشهر الذي يحج فيه ذو الحجة , والذي يرتبع فيه ربيع الأول وربيع الآخر . وأما مجاهد فإنه كان يكره أن يقال رمضان ويقول : لعله اسم من أسماء الله . 2304 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو نعيم , قال : ثنا سفيان , عن مجاهد أنه كره أن يقال رمضان , ويقول : لعله اسم من أسماء الله , لكن نقول كما قال الله : شهر رمضان وقد بينت فيما مضى أن " شهر " مرفوع على قوله : أياما معدودات , هن شهر رمضان , وجائز أن يكون رفعه بمعنى ذلك شهر رمضان , وبمعنى كتب عليكم شهر رمضان . وقد قرأه بعض القراء : شهر رمضان نصبا , بمعنى : كتب عليكم الصيام أن تصوموا شهر رمضان . وقرأه بعضهم نصبا بمعنى أن تصوموا شهر رمضان خير لكم إن كنتم تعلمون وقد يجوز أيضا نصبه على وجه الأمر بصومه كأنه قيل : شهر رمضان فصوموه , وجائز نصبه على الوقت كأنه قيل : كتب عليكم الصيام في شهر رمضان .الذي أنزل فيه القرآنوأما قوله , الذي أنزل فيه القرآن فإنه ذكر أنه نزل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان , ثم أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنزاله إليه . كما : 2305 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا أبو بكر بن عياش , عن الأعمش , عن حسان بن أبي الأشرس عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قال : أنزل القرآن جملة من الذكر في ليلة أربع وعشرين من رمضان , فجعل في بيت العزة . قال أبو كريب : أبو بكر , وقال ذلك السدي . 2306 - حدثني عيسى بن عثمان , قال : ثنا يحيى بن عيسى , عن الأعمش , عن حسان , عن سعيد بن جبير , قال : نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في شهر رمضان , فجعل في سماء الدنيا . 2307 - حدثنا أحمد بن منصور , قال : ثنا عبد الله بن رجاء , قال : ثنا عمران القطان , عن قتادة , عن ابن أبي المليح عن واثلة , عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال : " نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان , وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان , وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت , وأنزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان " . 2308 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن , أما أنزل فيه القرآن , فإن ابن عباس قال : شهر رمضان , والليلة المباركة : ليلة القدر , فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة , وهي من رمضان , نزل القرآن جملة واحدة من الزبر إلى البيت المعمور , وهو مواقع النجوم , في السماء الدنيا حيث وقع القرآن , ثم نزل محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رسلا رسلا . 2309 - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا عبد الوهاب , قال : ثنا داود , عن عكرمة , عن ابن عباس , قال : أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر , فكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه , فهو قوله : إنا أنزلناه في ليلة القدر 97 1 2310 - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا ابن أبي عدي , عن داود , عن عكرمة , عن ابن عباس فذكر نحوه , وزاد فيه : فكان بين أوله وآخره عشرون سنة . 2311 - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا عبد الأعلى , قال : ثنا داود , عن عكرمة , عن ابن عباس , قال : أنزل القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا , فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئا أنزله منه حتى جمعه . 2312 - حدثني يعقوب , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا حصين , عن حكيم بن جبير , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء جملة واحدة , ثم فرق في السنين بعد قال : وتلا ابن عباس هذه الآية : فلا أقسم بمواقع النجوم 56 57 قال : نزل مفرقا . 2313 - حدثنا يعقوب , قال : ثنا ابن علية , عن داود , عن الشعبي , قال : بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا . 2314 - حدثني المثنى , قال : ثنا سويد بن نصر , قال : أخبرنا ابن المبارك , قرأه ابن جريج في قوله : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن قال : قال ابن عباس : أنزل القرآن جملة واحدة على جبريل في ليلة القدر , فكان لا ينزل منه إلا بأمر . قال ابن جريج : كان ينزل من القرآن في ليلة القدر كل شيء ينزل من القرآن في تلك السنة , فنزل ذلك من السماء السابعة على جبريل في السماء الدنيا فلا ينزل جبريل من ذلك على محمد إلا ما أمره به ربه ومثل ذلك : إنا أنزلناه في ليلة القدر 97 1 و إنا أنزلناه في ليلة مباركة 44 3 2315 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا عبيد الله بن موسى , عن إسرائيل , عن السدي , عن محمد بن أبي المجالد , عن مقسم , عن ابن عباس قال له رجل : إنه قد وقع في قلبي الشك من قوله : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن وقوله : إنا أنزلناه في ليلة مباركة وقوله : إنا أنزلناه في ليلة القدر وقد أنزل الله في شوال وذي القعدة وغيره قال : إنما أنزل في رمضان في ليلة القدر وليلة مباركة جملة واحدة , ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام .هدى للناسوأما قوله هدى للناس فإنه يعني رشادا للناس إلى سبيل الحق وقصد المنهج .وبينات من الهدىوأما قوله : وبينات فإنه يعني : وواضحات من الهدى , يعني من البيان الدال على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه .والفرقانوقوله : والفرقان يعني : والفصل بين الحق والباطل . كما : 2316 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي : أما وبينات من الهدى والفرقان فبينات من الحلال والحرام .فمن شهد منكم الشهر فليصمهالقول في تأويل قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه / اختلف أهل التأويل في معنى شهود الشهر . فقال بعضهم : هو مقام المقيم في داره , قالوا : فمن دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم في داره فعليه صوم الشهر كله , غاب بعد مسافر أو أقام فلم يبرح . ذكر من قال ذلك : 2317 - حدثني محمد بن حميد ومحمد بن عيسى الدامغاني قالا , ثنا ابن المبارك , عن الحسن بن يحيى , عن الضحاك , عن ابن عباس في قوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه قال : هو إهلاله بالدار . يريد إذا هل وهو مقيم . 2318 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا حصين , عمن حدثه , عن ابن عباس أنه قال في قوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه فإذا شهده وهو مقيم فعليه الصوم أقام أو سافر , وإن شهده وهو في سفر , فإن شاء صام وإن شاء فطر . 2319 - حدثني يعقوب , قال : ثنا ابن علية , عن أيوب , عن محمد , عن عبيدة في الرجل يدركه رمضان ثم يسافر , قال : إذا شهدت أوله فصم آخره , ألا تراه يقول : فمن شهد منكم الشهر فليصمه * - حدثني يعقوب قال : ثنا ابن علية , عن هشام القردوسي عن محمد بن سيرين , قال : سألت عبيدة , عن رجل أدرك رمضان وهو مقيم , قال : من صام أول الشهر فليصم آخره , ألا تراه يقول : فمن شهد منكم الشهر فليصمه 2320 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي : أما من شهد منكم الشهر فليصمه , فمن دخل عليه رمضان وهو مقيم في أهله فليصمه , وإن خرج فيه فليصمه فإنه دخل عليه وهو في أهله . 2321 - حدثني المثنى , , قال : ثنا حجاج , قال : ثنا حماد قال : أخبرنا قتادة , عن محمد بن سيرين , عن عبيدة السلماني , عن علي فيما يحسب حماد قال : من أدرك رمضان وهو مقيم ولم يخرج فقد لزمه الصوم , لأن الله يقول : فمن شهد منكم الشهر فليصمه * - حدثنا هناد بن السري . قال : ثنا عبد الرحمن , عن إسماعيل بن مسلم , عن محمد بن سيرين , قال : سألت عبيدة السلماني عن قول الله : فمن شهد منكم الشهر فليصم قال : من كان مقيما فليصمه , ومن أدركه ثم سافر فيه فليصمه . * - حدثنا هناد قال : ثنا وكيع , عن ابن عون , عن ابن سيرين , عن عبيدة , قال : من شهد أول رمضان فليصم آخره . * - حدثنا هناد , قال : ثنا عبدة , عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن عليا كان يقول : إذا أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر فعليه الصوم . 2322 - حدثنا هناد , قال : ثنا عبد الرحيم , عن عبيدة الضبي , عن إبراهيم قال : كان يقول : إذا أدركك رمضان فلا تسافر فيه , فإن صمت فيه يوما أو اثنين ثم سافرت فلا تفطر صمه . 2323 - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن عمرو بن مرة , عن أبي البختري . قال : كنا عند عبيدة . فقرأ هذه الآية : فمن شهد منكم الشهر فليصمه قال : من صام شيئا منه في المصر فليصم بقيته إذا خرج قال : وكان ابن عباس يقول : إن شاء صام , وإن شاء أفطر . 2324 - حدثنا محمد بن بشار , قال , ثنا عبد الوهاب , وحدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا ابن علية , قالا جميعا ثنا أيوب , عن أبي يزيد , عن أم درة قالت : أتيت عائشه في رمضان , قالت : من أين جئت ؟ قلت : من عند أخي حنين , قالت : ما شأنه ؟ قالت : ودعته يريد يرتحل , قالت : فأقرئيه السلام ومريه فليقم , فلو أدركني رمضان وأنا ببعض الطريق لأقمت له . 2325 - حدثنا هناد , قال , ثنا إسحاق بن عيسى , عن أفلح , عن عبد الرحمن , قال : جاء إبراهيم بن طلحة إلى عائشة يسلم عليها , قالت : وأين تريد ؟ قال : أردت العمرة , قالت : فجلست حتى إذا دخل عليك الشهر خرجت فيه قال : قد خرج ثقلي , قالت . اجلس حتى إذا أفطرت فاخرج . يعني شهر رمضان . وقال آخرون : معنى ذلك : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ما شهد منه . ذكر من قال ذلك : 2326 - حدثنا هناد بن السري , قال : ثنا شريك , عن أبي إسحاق : أن أبا ميسرة خرج في رمضان حتى إذا بلغ القنطرة دعا ماء فشرب . 2327 - حدثنا هناد , قال : حدثنا جرير , عن مغيرة , قال : خرج أبو ميسرة في رمضان مسافرا , فمر بالفرات وهو صائم , فأخذ منه كفا فشربه وأفطر . 2328 - حدثنا هناد , قال : ثنا وكيع , عن سفيان , عن أبي إسحاق , عن مرثد : أن أبا ميسرة سافر في رمضان فأفطر عند باب الجسر هكذا قال هناد عن مرثد , وإنما هو أبو مرثد . * - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال ثنا عبيد الله بن موسى , قال : أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق , عن مرثد : أنه خرج مع أبي ميسرة في رمضان , فلما انتهى إلى الجسر أفطر . 2329 - حدثنا هناد وأبو هشام قالا : ثنا وكيع , عن المسعودي , عن الحسن بن سعد , عن أبيه , قال : كنت مع علي في ضيعة له على ثلاث من المدينة , فخرجنا نريد المدينة في شهر رمضان وعلي راكب وأنا ماش , قال : فصام - قال هناد : وأفطرت - قال أبو هشام : وأمرني فأفطرت . * - حدثنا هناد , قال : ثنا عبد الرحمن بن عتبة , عن الحسن بن سعد , عن أبيه قال : كنت مع علي بن أبي طالب , وهو جاء من أرض له فصام , وأمرني فأفطرت فدخل المدينة ليلا وكان راكبا وأنا ماش . 2330 - حدثنا هناد , قال : ثنا وكيع , وحدثنا ابن بشار , قال : ثنا ابن مهدي , قالا جميعا : ثنا سفيان , عن عيسى بن أبي عزة , عن الشعبي أنه سافر في شهر رمضان , فأفطر عند باب الجسر . 2331 - حدثني ابن بشار , قال : ثنا عبد الرحمن قال : قال لي سفيان : أحب إلي أن تتمه . 2332 - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , عن شعبة , قال : سألت الحكم وحمادا وأردت أن أسافر في رمضان فقالا لي : اخرج وقال حماد : قال إبراهيم : أما إذا كان العشر فأحب إلي أن يقيم . 2333 - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا أبو الوليد , قال : ثنا حماد , عن قتادة , عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا : من أدركه الصوم وهو مقيم رمضان ثم سافر , قالا : إن شاء أفطر . وقال آخرون : فمن شهد منكم الشهر فليصمه يعني فمن شهده عاقلا بالغا مكلفا فليصمه . وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه , كانوا يقولون : من دخل عليه شهر رمضان وهو صحيح عاقل بالغ فعليه صومه , فإن جن بعد دخوله عليه وهو بالصفة التي وصفنا ثم أفاق بعد انقضائه لزمه قضاء ما كان فيه من أيام الشهر مغلوبا على عقله , لأنه كان ممن شهده وهو ممن عليه فرض قالوا : وكذلك لو دخل عليه شهر رمضان وهو مجنون إلا أنه ممن لو كان صحيح العقل كان عليه صومه , فلن ينقضي الشهر حتى صح وبرأ أو أفاق قبل انقضاء الشهر بيوم أو أكثر من ذلك فإن عليه قضاء صوم الشهر كله سوى اليوم الذي صامه بعد إفاقته , لأنه ممن قد شهد الشهر قالوا : ولو دخل عليه شهر رمضان وهو مجنون فلم يفق حتى انقضى الشهر كله ثم أفاق لم يلزمه قضاء شيء منه , لأنه لم يكن ممن شهده مكلفا صومه 1 2 وهذا تأويل لا معنى له , لأن الجنون إن كان يسقط عمن كان به فرض الصوم من أجل فقد صاحبه عقله جميع الشهر فقد يجب أن يكون ذلك سبيل كل من فقد عقله جميع شهر الصوم . وقد أجمع الجميع على أن من فقد عقله جميع شهر الصوم بإغماء أو برسام ثم أفاق بعد انقضاء الشهر أن عليه قضاء الشهر كله ولم يخالف ذلك أحد يجوز الاعتراض به على الأمة وإذا كان إجماعا فالواجب أن يكون سبيل كل من كان زائل العقل جميع شهر الصوم سبيل المغمى عليه . وإذا كان ذلك كذلك كان معلوما أن تأويل الآية غير الذي تأولها قائلو هذه المقالة من أنه شهود الشهر أو بعضه مكلفا صومه . وإذا بطل ذلك فتأويل المتأول الذي زعم أن معناه : فمن شهد أوله مقيما حاضرا فعليه صوم جميعه أبطل وأفسد لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج عام الفتح من المدينة في شهر رمضان بعد ما صام بعضه وأفطر وأمر أصحابه بالإفطار . 2334 - حدثنا هناد , قال : ثنا أبو الأحوص , عن منصور , عن مجاهد , عن ابن عباس , قال : " سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من المدينة إلى مكة , حتى إذا أتى عسفان نزل به , فدعا بإناء فوضعه على يده ليراه الناس , ثم شربه " . * - حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا : ثنا جرير , عن منصور , عن مجاهد , عن طاوس , عن ابن عباس , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه . * - حدثنا هناد , ثنا عبيدة , عن منصور , عن مجاهد , عن طاوس , عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه . 2335 - حدثنا هناد وأبو كريب , قالا : ثنا يونس بن بكير قال : ثنا ابن إسحاق , قال حدثني الزهري , عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة , عن ابن عباس قال : مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره عام الفتح لعشر مضين من رمضان , فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصام الناس معه , حتى إذا أتى الكديد ما بين عسفان وأمج وأفطر . * - حدثنا هناد وأبو كريب , قالا : ثنا عبدة , عن محمد بن إسحاق , عن الزهري , عن عبيد الله بن عبد الله , عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشر أو لعشرين مضت من رمضان عام الفتح , فصام حتى إذا كان بالكديد أفطر . 2336 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا سالم بن نوح , قال : ثنا عمر بن عامر , عن قتادة , عن أبي نضرة , عن أبي سعيد الخدري , قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لثمان عشرة مضت من رمضان , فمنا الصائم , ومنا المفطر , فلم يعب المفطر على الصائم , ولا الصائم على المفطر . فإذا كانا فاسدين هذان التأويلان بما عليه دللنا من فسادهما , فتبين أن الصحيح من التأويل هو الثالث , وهو قول من قال : فمن شهد منكم الشهر فليصمه جميع ما شهد منه مقيما , ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر .ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخرالقول في تأويل قوله تعالى : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يعني تعالى ذكره بذلك : ومن كان مريضا أو على سفر في الشهر فأفطر فعليه صيام عدة الأيام التي أفطرها من أيام أخر غير أيام شهر رمضان . ثم اختلف أهل العلم في المرض الذي أباح الله معه الإفطار وأوجب معه عدة من أيام أخر فقال بعضهم : هو المرض الذي لا يطيق صاحبه معه القيام لصلاته . ذكر من قال ذلك : 2337 - حدثنا معاذ بن شعبة البصري , قال : ثنا شريك , عن مغيرة , عن إبراهيم وإسماعيل بن مسلم , عن الحسن أنه قال : إذا لم يستطع المريض أن يصلي قائما أفطر . 2338 - حدثني يعقوب قال : ثنا هشيم , عن مغيرة أو عبيدة , عن إبراهيم في المريض إذا لم يستطع الصلاة قائما : فليفطر يعني في رمضان . 2339 - حدثنا هناد , قال : ثنا حفص بن غياث , عن إسماعيل , قال : سألت الحسن : متى يفطر الصائم ؟ قال : إذا أجهده الصوم , قال : إذا لم يستطع أن يصلي الفرائض كما أمر . وقال بعضهم : وهو كل مرض كان الأغلب من أمر صاحبه بالصوم الزيادة في علته زيادة غير محتملة وذلك هو قول محمد بن إدريس الشافعي , حدثنا بذلك عنه الربيع . وقال آخرون : وهو [ كل ] مرض يسمى مرضا . ذكر من قال ذلك : 2340 - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا الحسن بن خالد الربعي , قال : ثنا طريف بن تمام العطاردي , أنه دخل على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل فلم يسأله , فلما فرغ قال : إنه وجعت إصبعي هذه . والصواب من القول في ذلك عندنا , أن المرض الذي أذن الله تعالى ذكره بالإفطار معه في شهر رمضان من كان الصوم جاهده جهدا غير محتمل , فكل من كان كذلك فله الإفطار وقضاء عدة من أيام أخر وذلك أنه إذا بلغ ذلك الأمر , فإن لم يكن مأذونا له في الإفطار فقد كلف عسرا ومنع يسرا , وذلك غير الذي أخبر الله أنه أراده بخلقه بقوله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر . وأما من كان الصوم غير جاهده , فهو بمعنى الصحيح الذي يطيق الصوم , فعليه أداء فرضه . وأما قوله : فعدة من أيام أخر فإن معناها : أيام معدودة سوى هذه الأيام . وأما الأخر فإنها جمع أخرى بجمعهم الكبرى على الكبر والقربى على القرب . فإن قال قائل : أو ليست الأخر من صفة الأيام ؟ قيل : بلى فإن قال : أو ليس واحد الأيام يوم وهو مذكر ؟ قيل : بلى . فإن قال : فكيف يكون واحد الأخر أخرى وهي صفة لليوم ولم يكن آخر ؟ قيل : إن واحد الأيام وإن كان إذا نعت بواحد الأخر فهو آخر , فإن الأيام في الجمع تصير إلى التأنيث فتصير نعوتها وصفاتها كهيئة صفات المؤنث , كما يقال : مضت الأيام جمع , ولا يقال : أجمعون , ولا أيام آخرون . فإن قال لنا قائل : فإن الله تعالى قال : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ومعنى ذلك عندك : فعليه عدة من أيام أخر كما قد وصفت فيما مضى . فإن كان ذلك تأويله , فما قولك فيمن كان مريضا أو على سفر فصام الشهر وهو ممن له الإفطار , أيجزيه ذلك من صيام عدة من أيام أخر , أو غير مجزيه ذلك ؟ وفرض صوم عدة من أيام أخر ثابت عليه بهيئته وإن صام الشهر كله , وهل لمن كان مريضا أو على سفر صيام شهر رمضان , أم ذلك محظور عليه , وغير جائز له صومه , والواجب عليه الإفطار فيه حتى يقيم هذا ويبرأ هذا ؟ قيل : قد اختلف أهل العلم في كل ذلك , ونحن ذاكرو اختلافهم في ذلك , ومخبرون بأولاه بالصواب إن شاء الله . فقال بعضهم : الإفطار في المرض عزمة من الله واجبة , وليس بترخيص . ذكر من قال ذلك : 2341 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا ابن أبي عدي , وحدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا ابن علية جميعا , عن سعيد , عن قتادة , عن جابر بن زيد , عن ابن عباس , قال : الإفطار في السفر عزمة . 2342 - حدثني محمد بن المثنى , قال : ثنا وهب بن جرير , قال : أخبرنا سعيد , عن يعلى , عن يوسف بن الحكم , قال : سألت ابن عمر , أو سئل عن الصوم في السفر , فقال : أرأيت لو تصدقت على رجل بصدقة فردها عليك ألم تغضب ؟ فإنها صدقة من الله تصدق بها عليكم . 2343 - حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزدي , قال : ثنا المحاربي عن عبد الملك بن حميد , قال : قال أبو جعفر كان أبي لا يصوم في السفر وينهى عنه . 2344 - وحدثنا ابن حميد , قال : ثنا يحيى بن واضح , قال : ثنا عبيد , عن الضحاك : أنه كره الصوم في السفر . وقال أهل هذه المقالة : من صام في السفر فعليه القضاء إذا قام . ذكر من قال ذلك : 2345 - حدثنا نصر بن علي الخثعمي , قال : ثنا مسلم بن إبراهيم قال : ثنا ربيعة بن كلثوم , عن أبيه , عن رجل : أن عمر أمر الذي صام في السفر أن يعيد . * - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا محمد بن أبي عدي , عن سعيد بن عمرو بن دينار , عن رجل من بني تميم عن أبيه , قال : أمر عمر رجلا صام في السفر أن يعيد صومه . 2346 - حدثني ابن حميد الحمصي , قال : ثنا علي بن معبد , عن عبيد الله بن عمرو , عن عبد الكريم , عن عطاء , عن المحرر بن أبي هريرة , قال : كنت مع أبي في سفر في رمضان , فكنت أصوم ويفطر , فقال لي أبي : أما إنك إذا أقمت قضيت . 2347 - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا سليمان بن داود , قال : ثنا شعبة , عن عاصم مولى قريبة , قال : سمعت عروة يأمر رجلا صام في السفر أن يقضي . * - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا عبد الصمد , قال : ثنا شعبة , عن عاصم مولى قريبة أن رجلا صام في السفر فأمره عروة أن يقضي . 2348 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا ابن صبيح , قال : ثنا ربيعة بن كلثوم , عن أبيه كلثوم : أن قوما قدموا على عمر بن الخطاب وقد صاموا رمضان في سفر , فقال لهم : والله لكأنكم كنتم تصومون ! فقالوا : والله يا أمير المؤمنين لقد صمنا , قال : فأطقتموه ؟ قالوا : نعم , قال : فاقضوه فاقضوه فاقضوه . وعلة من قال هذه المقالة أن الله تعالى ذكره فرض بقوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه صوم شهر رمضان على من شهده مقيما غير مسافر , وجعل على من كان مريضا أو مسافرا صوم عدة من أيام أخر غير أيام شهر رمضان بقوله : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر قالوا : فكما غير جائز للمقيم إفطار أيام شهر رمضان وصوم عدة أيام أخر مكانها , لأن الذي فرضه الله عليه بشهوده الشهر صوم الشهر دون غيره , فكذلك غير جائز لمن لم يشهده من المسافرين مقيما صومه , لأن الذي فرضه الله عليه عدة من أيام أخر واعتلوا أيضا من الخبر بما : 2349 - حدثنا به محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي , قال : ثنا يعقوب بن محمد الزهري , قال : ثنا عبيد الله بن موسى , عن أسامة بن زيد , عن الزهري , عن أبي سلمة بن عبد الرحمن , عن عبد الرحمن بن عوف , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " . * - حدثني محمد بن عبيد الله بن سعيد , قال : ثنا يزيد بن عياض , عن الزهري , عن أبي سلمة بن عبد الرحمن , عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " . وقال آخرون : إباحة الإفطار في السفر رحمة من الله تعالى ذكره رخصها لعباده , والفرض الصوم , فمن صام فرضه أدى , ومن أفطر فبرخصة الله له أفطر قالوا : وإن صام في سفر فلا قضاء عليه إذا أقام . ذكر من قال ذلك : 2350 - حدثنا ابن بشار , قال : حدثنا عبد الوهاب , قال : ثنا أيوب , قال : ثنا عروة وسالم أنهما كانا عند عمر بن عبد العزيز إذ هو أمير على المدينة فتذاكروا الصوم في السفر , قال سالم : كان ابن عمر لا يصوم في السفر , وقال عروة : وكانت عائشة تصوم , فقال سالم : إنما أخذت عن ابن عمر , وقال عروة : إنما أخذت عن عائشة حتى ارتفعت أصواتهما , فقال عمر بن عبد العزيز : اللهم عفوا إذا كان يسرا فصوموا , وإذا كان عسرا فافطروا . * - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا ابن علية , عن أيوب , قال : حدثني رجل , قال : ذكر الصوم في السفر عند عمر بن عبد العزيز , ثم ذكر نحو حديث ابن بشار . 2351 - حدثني يعقوب , قال : ثنا ابن علية , عن محمد بن إسحاق , وحدثنا أبو كريب , قال : ثنا ابن إدريس ثنا ابن إسحاق , عن الزهري , عن سالم بن عبد الله , قال : خرج عمر بن الخطاب في بعض أسفاره في ليال بقيت من رمضان , فقال : إن الشهر قد تشعشع - قال أبو كريب في حديثه أو تسعسع , ولم يشك يعقوب - فلو صمنا ! فصام وصام الناس معه ثم أقبل مرة قافلا حتى إذا كان بالروحاء أهل هلال شهر رمضان , فقال إن الله قد قضى السفر , فلو صمنا ولم نثلم شهرنا ! قال : فصام وصام الناس معه . 2352 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا الحكم بن بشير , قال : حدثني أبي , وحدثنا محمد بن بشار , قال : أخبرنا عبيد الله , قال : أخبرنا بشير بن سلمان , عن خيثمة , قال : سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر , قال : قد أمرت غلامي أن يصوم فأبى . قلت : فأين هذه الآية : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ؟ قال : نزلت ونحن يومئذ نرتحل جياعا وننزل على غير شبع , وأنا اليوم نرتحل شباعا وننزل على شبع . * - حدثنا هناد , قال : ثنا وكيع : عن بشير بن سلمان , عن خيثمة , عن أنس نحوه . 2353 - حدثنا هناد وأبو السائب قالا : ثنا أبو معاوية , عن عاصم , عن أنس أنه سئل عن الصوم في السفر فقال : من أفطر فبرخصة الله , ومن صام فالصوم أفضل . 2354 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا أبو أسامة , عن أشعث بن عبد الملك , عن محمد بن عثمان بن أبي العاص , قال : الفطر في السفر رخصة , والصوم أفضل . 2355 - حدثنا المثنى , قال : ثنا عبد الصمد , قال : ثنا شعبة , قال : ثنا أبو الفيض , قال : كان علي علينا أمير بالشام , فنهانا عن الصوم في السفر , فسألت أبا قرصافة رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بني ليث - قال عبد الصمد : سمعت رجلا من قومه يقول : إنه واثلة بن الأسقع - قال لو صمت في السفر ما قضيت . 2356 - حدثنا هناد , قال : ثنا وكيع , عن بسطام بن مسلم , عن عطاء قال : إن صمتم أجزأ عنكم وإن أفطرتم فرخصة . 2357 - حدثنا هناد , قال : ثنا وكيع , عن كهمس , قال : سألت سالم بن عبد الله عن الصوم في السفر , فقال : إن صمتم أجزأ عنكم , وإن أفطرتم فرخصة . * - حدثنا هناد , قال : ثنا عبد الرحيم , عن طلحة بن عمرو , عن عطاء , قال : من صام فحق أداه , ومن أفطر فرخصة أخذ بها . 2358 - حدثنا هناد , قال : ثنا وكيع , عن سفيان , عن حماد , عن سعيد بن جبير , قال : الفطر في السفر رخصة , والصوم أفضل . 2359 - حدثنا هناد قال : ثنا أبو معاوية , عن حجاج , عن عطاء , قال : هو تعليم , وليس بعزم , يعني قول الله : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر إن شاء صام , وإن شاء لم يصم . 2360 - حدثنا هناد , قال : ثنا أبو أسامة , عن هشام , عن الحسن في الرجل يسافر في رمضان , قال : إن شاء صام , وإن شاء أفطر . 2361 - حدثنا حميد بن مسعدة . قال : ثنا سفيان بن حبيب , قال : ثنا العوام بن حوشب , قال : قلت لمجاهد : الصوم في السفر ؟ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم فيه ويفطر , قال : قلت فأيهما أحب إليك ؟ قال : إنما هي رخصة , وأن تصوم رمضان أحب إلي . 2362 - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن حماد , عن سعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد أنهم قالوا : الصوم في السفر , إن شاء صام وإن شاء أفطر , والصوم أحب إليهم . 2363 - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن أبي إسحاق , قال : قال لي مجاهد في الصوم في السفر , يعني صوم رمضان : والله ما منهما إلا حلال الصوم والإفطار , وما أراد الله بالإفطار إلا التيسير لعباده . 2364 - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن الأشعث بن سليم , قال : صحبت أبي والأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون وأبا وائل إلى مكة , وكانوا يصومون رمضان وغيره في السفر . * - حدثنا علي بن حسن الأزدي . قال : ثنا معافى بن عمران , عن سفيان , عن حماد , عن سعيد بن جبير : الفطر في السفر رخصة , والصوم أفضل . 2365 - حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي , قال : ثنا يعقوب , قال : ثنا صالح بن محمد بن صالح , عن أبيه قال : قلت للقاسم بن محمد : إنا نسافر في الشتاء في رمضان , فإن صمت فيه كان أهون علي من أن أقضيه في الحر . فقال : قال الله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ما كان أيسر عليك فافعل . وهذا القول عندنا أولى بالصواب لإجماع الجميع على أن مريضا لو صام شهر رمضان وهو ممن له الإفطار لمرضه أن صومه ذلك مجزئ عنه , ولا قضاء عليه إذا برأ من مرضه بعدة من أيام أخر , فكان معلوما بذلك أن حكم المسافر حكمه في أن لا قضاء عليه إن صامه في سفره , لأن الذي جعل للمسافر من الإفطار وأمر به من قضاء عدة من أيام أخر مثل الذي جعل من ذلك للمريض وأمر به من القضاء . ثم في دلالة الآية كفاية مغنية عن استشهاد شاهد على صحة ذلك بغيرها , وذلك قول الله تعالى ذكره : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولا عسر أعظم من أن يلزم من صامه في سفره عدة من أيام أخر , وقد تكلف أداء فرضه في أثقل الحالين عليه حتى قضاه وأداه . فإن ظن ذو غباوة أن الذي صامه لم يكن فرضه الواجب , فإن في قول الله تعالى ذكره : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام , شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ما ينبئ أن المكتوب صومه من الشهور على كل مؤمن هو شهر رمضان مسافرا كان أو مقيما , لعموم الله تعالى ذكره المؤمنين بذلك بقوله : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام شهر رمضان وأن قوله : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر معناه : ومن كان مريضا أو على سفر فأفطر برخصة الله فعليه صوم عدة أيام أخر مكان الأيام التي أفطر في سفره أو مرضه . ثم في تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله إذا سئل عن الصوم في السفر : " إن شئت فصم , وإن شئت فأفطر " , الكفاية الكافية عن الاستدلال على صحة ما قلنا في ذلك بغيره . 2366 - حدثنا هناد , قال : ثنا عبد الرحيم ووكيع , وعبدة بن هشام بن عروة , عن أبيه , عن عائشة : أن حمزة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصوم في السفر , وكان يسرد الصوم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر " 2367 - حدثنا أبو كريب وعبيد بن إسماعيل الهباري قالا : ثنا ابن إدريس , قال : ثنا هشام بن عروة , عن أبيه أن حمزة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم , فذكر نحوه . 2368 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم , قال : ثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد , قال : أخبرنا حيوة بن شريح , قال : أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن أبي مراوح عن حمزة الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : يا رسول الله إني أسرد الصوم فأصوم في السفر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما هي رخصة من الله لعباده , فمن فعلها فحسن جميل , ومن تركها فلا جناح عليه " فكان حمزة يصوم الدهر , فيصوم في السفر والحضر ; وكان عروة بن الزبير يصوم الدهر , فيصوم في السفر والحضر , حتى إن كان ليمرض فلا يفطر ; وكان أبو مراوح يصوم الدهر , فيصوم في السفر والحضر . ففي هذا مع نظائره من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب الدلالة الدالة على صحة ما قلنا من أن الإفطار رخصة لا عزم , والبيان الواضح على صحة ما قلنا في تأويل قوله : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر . فإن قال قائل : فإن الأخبار بما قلت وإن كانت متظاهرة , فقد تظاهرت أيضا بقوله : " ليس من البر الصيام في السفر " ؟ . قيل : إن ذلك إذا كان صيام في مثل الحال التي جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في ذلك لمن قال له . 2369 - حدثنا الحسين بن يزيد السبيعي , قال : ثنا ابن إدريس , عن محمد بن عبد الرحمن , عن محمد بن عمرو بن الحسن , عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في سفره قد ظلل عليه , وعليه جماعة , فقال : " من هذا ؟ " قالوا : صائم , قال : " ليس من البر الصوم في السفر " . قال أبو جعفر : أخشى أن يكون هذا الشيخ غلط وبين ابن إدريس ومحمد بن عبد الرحمن شعبة . * - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري , عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي , عن جابر بن عبد الله , قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قد اجتمع الناس عليه , وقد ظلل عليه , فقالوا : هذا رجل صائم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس من البر أن تصوموا في السفر " . فمن بلغ منه الصوم ما بلغ من الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم , ذلك , فليس من البر صومه ; لأن الله تعالى ذكره قد حرم على كل أحد تعريض نفسه لما فيه هلاكها , وله إلى نجاتها سبيل , وإنما يطلب البر بما ندب الله إليه وحض عليه من الأعمال لا بما نهى عنه . وأما الأخبار التي رويت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله : " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " فقد يحتمل أن يكون قيل لمن بلغ منه الصوم ما بلغ من هذا الذي ظلل عليه إن كان قبل ذلك , وغير جائز عليه أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قيل ذلك ; لأن الأخبار التي جاءت بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واهية الأسانيد لا يجوز الاحتجاج بها في الدين . فإن قال قائل : وكيف عطف على المريض وهو اسم بقوله : أو على سفر و " على " صفة لا اسم ؟ قيل : جاز أن ينسق بعلى على المريض , لأنها في معنى الفعل , وتأويل ذلك : أو مسافرا , كما قال تعالى ذكره : دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما 10 12 فعطف بالقاعد والقائم على اللام التي في لجنبه , لأن معناها الفعل , كأنه قال : دعانا مضطجعا أو قاعدا أو قائما .يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسرالقول في تأويل قوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر يعني تعالى ذكره بذلك : يريد الله بكم أيها المؤمنون بترخيصه لكم في حال مرضكم وسفركم في الإفطار , وقضاء عدة أيام أخر من الأيام التي أفطرتموها بعد إقامتكم وبعد برئكم من مرضكم التخفيف عليكم , والتسهيل عليكم لعلمه بمشقة ذلك عليكم في هذه الأحوال . ولا يريد بكم العسر يقول : ولا يريد بكم الشدة والمشقة عليكم , فيكلفكم صوم الشهر في هذه الأحوال , مع علمه شدة ذلك عليكم وثقل حمله عليكم لو حملكم صومه . كما : 2370 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثنا معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر قال : اليسر : الإفطار في السفر , والعسر : الصيام في السفر . 2371 - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن أبي حمزة , قال : سألت ابن عباس عن الصوم في السفر , فقال : يسر وعسر , فخذ بيسر الله . 2372 - حدثني المثنى , قال : ثنا سويد بن نصر , قال : أخبرنا ابن المبارك , عن شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله : يريد الله بكم اليسر قال : هو الإفطار في السفر , وجعل عدة من أيام أخر , ولا يريد بكم العسر 2373 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر فأريدوا لأنفسكم الذي أراد الله لكم . 2374 - حدثني المثنى , قال : ثنا سويد , قال : أخبرنا ابن المبارك , عن ابن عيينة , عن عبد الكريم الجزري عن طاوس , عن ابن عباس قال : لا تعب على من صام ولا على من أفطر , يعني في السفر في رمضان ; يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر 2375 - حدثت عن الحسين بن الفرج , قال : ثنا الفضيل بن خالد , قال : ثنا عبيد بن سليمان , قال سمعت الضحاك بن مزاحم في قوله : يريد الله بكم اليسر الإفطار في السفر , ولا يريد بكم العسر الصيام في السفر .ولتكملوا العدةالقول في تأويل قوله تعالى : ولتكملوا العدة . يعني تعالى ذكره بذلك : ولتكملوا العدة عدة ما أفطرتم من أيام أخر أوجبت عليكم قضاء عدة من أيام أخر بعد برئكم من مرضكم , أو إقامتكم من سفركم . كما : 2376 - حدثني المثنى , قال : ثنا سويد بن نصر , قال : أخبرنا ابن المبارك , عن جويبر , عن الضحاك في قوله : ولتكملوا العدة قال : عدة ما أفطر المريض والمسافر . 2377 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : ولتكملوا العدة قال : إكمال العدة : أن يصوم ما أفطر من رمضان في سفر أو مرض إلى أن يتمه , فإذا أتمه فقد أكمل العدة . فإن قال قائل : ما الذي عليه بهذه الواو التي في قوله : ولتكملوا العدة عطفت ؟ قيل : اختلف أهل العربية في ذلك , فقال بعضهم : هي عاطفة على ما قبلها كأنه قيل : ويريد لتكملوا العدة ولتكبروا الله . وقال بعض نحويي الكوفة : وهذه اللام التي في قوله : ولتكملوا لام كي , لو ألقيت كان صوابا . قال : والعرب تدخلها في كلامها على إضمار فعل بعدها , ولا تكون شرطا للفعل الذي قبلها وفيها الواو ; ألا ترى أنك تقول : جئتك لتحسن إلي , ولا تقول : جئتك ولتحسن إلي ; فإذا قلته فأنت تريد : ولتحسن جئتك . قال : وهذا في القرآن كثير , منه قوله : ولتصغى إليه أفئدة 6 113 وقوله : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين 6 75 ولو لم تكن فيه الواو كان شرطا على قولك : أريناه ملكوت السموات والأرض ليكون , فإذا كانت الواو فيها فلها فعل مضمر بعدها , و " ليكون من الموقنين " أريناه . وهذا القول أولى بالصواب في العربية , لأن قوله : ولتكملوا العدة ليس قبله لام بمعنى التي في قوله : ولتكملوا العدة فتعطف بقوله : ولتكملوا العدة عليها , وإن دخول الواو معها يؤذن بأنها شرط لفعل بعدها , إذ كانت الواو لو حذفت كانت شرطا لما قبلها من الفعل .ولتكبروا الله على ما هداكمالقول في تأويل قوله تعالى : ولتكبروا الله على ما هداكم يعني تعالى ذكره : ولتعظموا الله بالذكر له بما أنعم عليكم به من الهداية التي خذل عنها غيركم من أهل الملل الذين كتب عليهم من صوم شهر رمضان مثل الذي كتب عليكم فيه , فضلوا عنه بإضلال الله إياهم , وخصكم بكرامته فهداكم له , ووفقكم لأداء ما كتب الله عليكم من صومه , وتشكروه على ذلك بالعبادة له . والذكر الذي خصهم الله على تعظيمه به التكبير يوم الفطر فيما تأوله جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 2378 - حدثني المثنى , قال : ثنا سويد بن نصر , قال : أخبرنا ابن المبارك , عن داود بن قيس , قال : سمعت زيد بن أسلم يقول : ولتكبروا الله على ما هداكم قال : إذا رأى الهلال , فالتكبير من حين يرى الهلال حتى ينصرف الإمام في الطريق والمسجد إلا أنه إذا حضر الإمام كف فلا يكبر إلا بتكبيره . 2379 - حدثني المثنى , قال : ثنا سويد , قال : أخبرنا ابن المبارك , قال : سمعت سفيان يقول : ولتكبروا الله على ما هداكم قال : بلغنا أنه التكبير يوم الفطر . 2380 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : كان ابن عباس يقول : حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا الله حتى يفرغوا من عيدهم ; لأن الله تعالى ذكره يقول : ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم قال ابن زيد : ينبغي لهم إذا غدوا إلى المصلى كبروا , فإذا جلسوا كبروا , فإذا جاء الإمام صمتوا , فإذا كبر الإمام كبروا , ولا يكبرون إذا جاء الإمام إلا بتكبيره , حتى إذا فرغ وانقضت الصلاة فقد انقضى العيد . قال يونس : قال ابن وهب : قال عبد الرحمن بن زيد : والجماعة عندنا على أن يغدوا بالتكبير إلى المصلى .ولعلكم تشكرونالقول في تأويل قوله تعالى : ولعلكم تشكرون . يعني تعالى ذكره بذلك : ولتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق . وتيسير ما لو شاء عسر عليكم . و " لعل " في هذا الموضع بمعنى " كي " , ولذلك عطف به على قوله : ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون .

قد علمت أن هذه الآيات تكملة للآيات السابقة وأن لا نسخ في خلال هاته الآيات ، فقوله : شهر رمضان شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وبينات مِّنَ الهدى والفرقان } خبر مبتدأ محذوف تقديره هي أي الأيام المعدودات شهر رمضان ، والجملة مستأنفة بيانياً ، لأن قوله : { أياماً معدودات } [ البقرة : 184 ] يثير سؤال السامع عن تعيين هذه الأيام ، ويؤيد ذلك قراءة مجاهد { شهراً } بالنصب على البدلية من { أياماً } : بدل تفصيل .وحذف المسند إليه جار على طريقة الاستعمال في المسند إليه إذا تقدم من الكلام ما فيه تفصيل وتبيين لأحوال المسند إليه فهم يحذفون ضميره ، وإذا جَوَّزتَ أن يكون هذا الكلام نسخاً لصدر الآية لم يصح أن يكون التقدير هي شهر رمضان فيتعين أن يكون شهر رمضان مبتدأ خبرهم قوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ، واقتران الخبر بالفاء حينئذٍ مراعاة لوصف المبتدأ بالموصول الذي هو شبيه بالشرط ومثله كثير في القرآن وفي كلام العرب ، أو على زيادة الفاء في الخبر كقوله :وقائلةٍ خَوْلاَنُ فانكِحْ فَتاتهم ( ) ... أنشده سيبويه ، وكلا هذين الوجهين ضعيف .والشهر جزء من اثني عشر جزءاً من تقسيم السنة قال تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض } [ التوبة : 36 ] والشهر يبتدىء من ظهور الهلال إلى المحاق ثم ظهور الهلال مرة أخرى ، وهو مشتق من الشهرة لأن الهلال يظهر لهم فيشهرونه ليراه الناس فيثبت الشهر عندهم .ورمضان علم وليس منقولاً؛ إذ لم يسمع مصدر على وزن الفَعلان من رمِض بكسر الميم إذا احترق؛ لأن الفَعَلان ، يدل على الاضطراب ولا معنى له هنا ، وقيل هو منقول عن المصدر . ورمضان علَم على الشهر التاسع من أشهر السنة العربية القمرية المفتتحة بالمحرم؛ فقد كان العرب يفتتحون أشهر العام بالمحرم؛ لأن نهاية العام عندهم هي انقضاء الحج ومدة الرجوع إلى آفاقهم ، ألا ترى أن لَبيداً جعل جمادى الثانية وهو نهاية فصل الشتاء شهراً سادساً إذ قال :حَتَّى إذا سَلخا جُمادى سِتَّةً ... جَزْءاً فطال صيامُه وصيامهاورمضان ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون؛ لأنه مشتق من الرمضاء وهي الحرارة لأن رمضان أول أشهر الحرارة بناء على ما كان من النسيء في السنة عند العرب إذ كانت السنة تنقسم إلى ستة فصول كل فصل منها شهران : الفصل الأول الخريف وشهراه محرم وصفر ، الثاني ربيع الأول وهو وقت نضج الثمار وظهور الرُّطَب والتمر وشهراه شهرُ ربيع الأولُ وشهرُ ربيع الثاني على أن الأول والثاني وصف لشهر ، ألا ترى أن العرب يقولون «الرطب شهري ربيع» ، الثالث الشتاء وشهراه جمادى الأولى وجمادى الثانية قال حاتم :في ليلةٍ من جمادَى ذاتتِ أَنْدَيةٍ ... لاَ يُبصِرُ الكَلْبُ مِن ظَلْمَائِها الظُّنُبَالاَ يَنَبحُ الكلبُ فيها غيرَ واحِدَةٍ ... حتَّى يَلُفَّ علَى خَيشُومِهِ الذَّنبَاالرابع الربيع الثاني والثاني وصف للربيع وهذا هو وقت ظهور النَّور والكَمْأَةِ وشهراه رجبٌ وشعبان ، وهو فصل الدَّر والمطَر قال النابغة يذكر غَزَوات النعمان ابن الحارث :وكانَتْ لَهْم رَبْعِيَّةٌ يَحْذَرُونَها ... إذا خَضْخَضَتْ ماءَ السماء القبائِلُوسَمَّوه الثاني لأنه يجيءُ بعد الربيععِ الأول في حساب السنة ، قال النابغة :فإن يَهلك أبو قابُوسَ يَهلكْ ... رَبِيعُ الثَّاننِ والبَلَدُ الحَرامُفي رواية وراوي «ربيعُ الناس» ، وسموا كلا منهما ربيعاً لأنه وقت خصب ، الفصل الخامس ، الصيف وهو مبدأ الحر وشهراه رمضان وشوال ، لأن النوق تشول أذنابها فيه تطرد الذباب . السادس القيظ وشهراه ذو القعدة وذو الحجة .وبعض القبائل تقسم السنة إِلى أربعة ، كل فصل له ثلاثة أشهر؛ وهي الربيع وشهوره رجب وشعبان ورمضان ، والصيف وشهوره شوال وذو القعدة وذو الحجة ، والخريف وشهوره محرم وصفر والربيع الأول ، والشتاء وشهوره شهر ربيع الثاني على أن الأول والثاني وصفان لشهر لا لربيع وجمادى الأولى وجمادى الثانية .ولما كانت أشهر العرب قمرية وكانت السنة القمرية أقل من أيام السنة الشمسية التي تجيء بها الفصول تنقص أحد عشر يوماً وكسراً ، وراموا أن يكون الحج في وقت الفراغ من الزروع والثمار ووقت السلامة من البرد وشدة الحر جعلوا للأشهر كبساً بزيادة شهر في السنة بعد ثلاث سنين وهو المعبر عنه بالنسيء .وأسماء الشهور كلِّها أعلام لها عدا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني فلذلك وجب ذكر لفظ الشهر معهما ثم وصفه بالأول والثاني؛ لأن معناه الشهر الأول من فصل الربيع أعني الأول ، فالأول والثاني صفتان لشهر ، أما الأشهر الأخرى فيجوز فيها ذكر لفظ الشهر بالإضافة من إضافة اسم النوع إلى واحده مثل شجر الأراك ومدينة بغداد ، وبهذا يشعر كلام سيبويه والمحققين فمن قال : إنه لا يقال رمضان إلاّ بإضافة شهر إليه بناء على أن رمضان مصدر ، حتى تكلف لمنعه من الصرف بأنه صار بإضافة شهر إليه علماً فمنع جزء العلم من الصرف كما منع هريرة في أبي هريرة فقد تكلف شططاً وخالف ما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم " من صام ر مضان إيماناً واحتساباً " بنصب رمضان وإنما انجر إليهم هذا الوهم من اصطلاح كتاب الديوان كما في «أدب الكاتب» .وإنما أضيف لفظ الشهر إلى رمضان في هذه الآية مع أن الإيجاز المطلوب لهم يتقضي عدم ذكره إما لأنه الأشهر في فصيح كلامهم وإما للدلالة على استيعاب جميع أيامه بالصوم؛ لأنه لو قال رمضان لكان ظاهراً لا نصاً ، لا سيما مع تقدم قوله { أياماً } [ البقرة : 184 ] فيتوهم السامعون أنها أيام من رمضان .فالمعنى أن الجزء المعروف بشهر رمضان من السنة العربية القمرية هو الذي جعل ظرفاً لأداء فريضة الصيام المكتوبة في الدين فكلما حل الوقت المعين من السنة المسمى بشهر رمضان فقد وجب على المسلمين أداء فريضة الصوم فيه ، ولما كانم ذلك حلوله مكرراً في كل عام كان وجوب الصوم مكرراً في كل سنة إذ لم ينط الصيام بشهر واحد مخصوص ولأن ما أجري على الشهر من الصفات يحقق أن المراد منه جميعُ الأزمنة المسماةُ به طول الدهر .وظاهر قوله : { الذي أنزل فيه القرآن } أن المخاطبين يعلمون أن نزول القرآن وقع في شهر رمضان ، لأن الغالب في صلة الموصول أن يكون السامع عالماً باختصاصها بمن أجرى عليه الموصول ، ولأن مثل هذا الحدَث الديني من شأنه ألا يخفى عليهم ، فيكون الكلام تذكيراً بهذا الفضل العظيم ، ويجوز أيضاً أن يكون إعلاماً بهذا الفضل وأجري الكلام على طريقة الوصف بالموصول للتنبيه على أن الموصوف مختص بمضمون هذه الصلة بحيث تجعل طريقاً لمعرفته ، ولا نسلم لزوم علم المخاطب باتصاف ذي الصلة بمضمونها في التعريف بالموصولية بل ذلك غَرض أغلبي كما يشهد به تتبع كلامهم ، وليس المقصود الإخبارَ عن شهر رمضان بأنه أنزل فيه القرآن ، لأن تركيب الكلام لا يسمح باعتباره خبراً لأن لفظ { شهر رمضان } خبر وليس هو مبتدأ ، والمراد بإنزال القرآن ابتداءُ إنزاله على النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيه ابتداء النزول من عام واحد وأربعين من الفيل فعبر عن إنزال أوله باسم جميعه؛ لأن ذلك القدْر المنزل مقَدَّرٌ إلحاق تكملته به كما جاء في كثير من الآيات مثل قوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } [ الأنعام : 92 ] وذلك قبل إكمال نزوله فيشمل كل ما يلحق به من بعد ، وقد تقدم عند قوله : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } ومعنى { الذي أنزل فيه } أنزل في مثله؛ لأن الشهر الذي أنزل فيه القرآن قد انقضى قبل نزول آية الصوم بعدة سنين ، فإن صيام رمضان فرض من السنة الثانية للهجرة فَبَيْن فرض الصيام والشهرِ الذي أنزل فيه القرآن حقيقةً عدةُ سنين فيتعين بالقرينة أن المراد أنزل في مثله أي في نظيره من عام آخر .فقد جعل الله للمواقيت المحدودة اعتباراً يشبه اعتبار الشيء الواحد المتجدد ، وإنما هذا اعتبار للتذكير بالأيام العظيمة المقدَار كما قال تعالى : { وذكرهم بأيام الله } [ إبراهيم : 5 ] ، فخلع الله على المواقيت التي قارنها شيء عظيم في الفضل أن جعل لتلك المواقيت فضلاً مستمراً تنويهاً بكونها تذكرة لأمر عظيم ، ولعل هذا هو الذي جعَل الله لأجله سنة الهدي في الحج ، لأن في مثل ذلك الوقت ابتلَى الله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وأظهر عَزْم إبراهيم وطاعته ربه ومنه أخذ العلماء تعظيم اليوم الموافق ليوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ويجيء من هذا إكرام ذرية رسول الله وأبناء الصالحين وتعظيم ولاة الأمور الشرعية القائمين مقام النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم من الأمراء والقضاة والأئمّة .وهذا يدل على أن مراد الله تعالى من الأمة صوم ثلاثين يوماً متتابعة مضبوطة المبدأ والنهاية متحدة لجميع المسلمين . ولما كان ذلك هو المراد وُقِّتَ بشهر معيَّن وجعل قمرياً لسهولة ضبط بدئه ونهايته برؤية الهلال والتقدير ، واختير شهر رمضان من بين الأشهر لأنه قد شُرف بنزول القرآن فيه ، فإن نزول القرآن لما كان لقصد تنزيه الأمة وهداها ناسب أن يكون ما به تطهير النفوس والتقرب من الحالة المَلَكية واقعاً فيه ، والأغلب على ظني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم أيام تحنثه في غار حراء قبل أن يُنزل عليه الوحي إلهاماً من الله تعالى وتلقيناً لبقية من الملة الحنيفية فلما أنزل عليه الوحي في شهر رمضان أمر الله الأمة الإسلامية بالصوم في ذلك الشهر ، روَى ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « جاورت بحِراء شهرَ رمضان » وقال ابن سعد : جاءه الوحي وهو في غار حراء يوم الاثنين لسبع عشرة حلت من رمضان .وقوله : { هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } حالان من ( القرآن ) إشارة بهما إلى وجه تفضيل الشهر بسبب ما نزل فيه من الهدى والفرقان .والمراد بالهدى الأول : ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العامة ، وبالبينات من الهدى : ما في القرآن من الاستدلال على الهدى الخفي الذي ينكره كثير مِن الناس مثل أدلة التوحيد وصدق الرسول وغير ذلك من الحجج القرآنية . والفرقان مصدر فرق وقد شاع في الفَرق بين الحق والباطل أي إعلان التفرقة بين الحق الذي جاءهم من الله وبين الباطل الذي كانوا عليه قبل الإسلام ، فالمراد بالهدى الأول : ضرب من الهدى غير المراد من الهدى الثاني ، فلا تكرار .تفريع على قوله : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } الذي هو بيان لقوله { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] كما تقدم فهو رجوع إلى التبيين بعد الفصل بما عقب به قوله : { كتب عليكم الصيام } من استيناسسٍ وتنويهٍ بفضل الصيام وما يرجى من عوده على نفوس الصائمين بالتقوى وما حف الله به فرضه على الأمة من تيسير عند حصول مشقة من الصيام .وضمير { منكم } عائد إلى { الذين أمنوا } [ البقرة : 183 ] مثل الضمائر التي قبله ، أي كل من حضر الشهر فليصمه ، و { شهد } يجوز أن يكون بمعنى حضر كما يقال : إن فلاناً شهد بَدراً وشهد أُحُداً وشهد العقبة أو شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حضرها فنصب الشهر على أنه مفعول فيه لفعل { شَهِد } أي حضر في الشهر أي لم يكن مسافراً ، وهو المناسب لقوله بعده : { ومن كان مريضاً أو على سفر } . الخ . أي فمن حضر في الشهر فليصمه كله ويُفهم أن مَن حضر بعضه يصوم أيام حضوره .ويجوز أن يكون { شهد } بمعنى عَلِم كقوله تعالى : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } [ آل عمران : 18 ] فيكون انتصاب الشهر على المفعول به بتقدير مضاف أي علم بحلول الشهر ، وليس شهد بمعنى رأى؛ لأنه لا يقال : شهد بمعنى رأى ، وإنما يقال شَاهد ، ولا الشهر هنا بمعنى هلاله بناء على أن الشهر يطلق على الهلال كما حكوه عن الزجاج وأنشد في «الأساس» قول ذي الرمة :فأصبح أَجلَى الطَّرْففِ ما يستزيده ... يَرى الشهرَ قبل الناس وهو نَحيلأي يرى هلال الشهر؛ لأن الهلال لا يصح أن يتعدى إليه فعل { شهد } بمعنى حضر ومَن يفهم الآية على ذلك فقد أخطأ خطأ بيناً وهو يفضي إلى أن كل فرد من الأمة معلق وجوب صومه على مشاهدته هلال رمضان فمن لم ير الهلال لا يجب عليه الصوم وهذا باطل ، ولهذا فليس في الآية تصريح على طريق ثبوت الشهر وإنما بينته السنة بحديث " لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تُفطروا حتى تروه فإنْ غُمَّ عليكم فاقدروا له " وفي معنى الإقدار له محامل ليست من تفسير الآية .وقرأ الجمهور : ( القُرْءَان ) بهمزة مفتوحة بعد الراء الساكنة وبعد الهمزة ألف ، وقرأهُ ابن كثير براء مفتوحة بعدها ألف على نقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة لقصد التخفيف .وقوله : { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة } قالوا في وجه إعادته مع تقدم نظيره في قوله : { فمن كان منكم مريضاً } [ البقرة : 184 ] أنه لما كان صوم رمضان واجباً على التخيير بينه وبين الفدية بالإطعام بالآية الأولى وهي { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] الخ وقد سقط الوجوب عن المريض والمسافر بنصها فلما نسخ حكم تلك الآية بقوله { شهر رمضان } الآية وصار الصوم واجباً على التعيين خيف أن يظُنّ الناس أن جميع ما كان في الآية الأولى من الرخصة قد نسخ فوجب الصوم أيضاً حتى على المريض والمسافر فأعيد ذلك في هذه الآية الناسخة تصريحاً ببقاء تلك الرخصة ، ونُسخت رخصة الإطعام مع القدرة والحضر والصحة لا غير ، وهو بناء على كون هاته الآية ناسخة للتي قبلها ، فإن درجنا على أنهما نزلتا في وقت واحد كان الوجه في إعادة هذا الحكم هو هذا الموضع الجدير بقوله : { ومن كان مريضاً } لأنه جاء بعد تعيين أيام الصوم ، وأما ما تقدم في الآية الأولى فهو تعجيل بالإعلام بالرخصة رفقاً بالسامعين ، أو أن إعادته لدفع توهم أن الأول منسوخ بقوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } إذا كان شهد بمعنى تحقق وعَلِم ، مع زيادة في تأكيد حكم الرخصة ولزيادة بيان معنى قوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } .{ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } .استئناف بياني كالعلة لقوله : { ومن كان مريضاً } الخ بيَّن به حكمة الرخصة أي شرع لكم القضاءَ لأنه يريد بكم اليسر عند المشقة .وقوله : { ولا يريد بكم العسر } نفي لضد اليسر ، وقد كان يقوم مقام هاتين الجملتين جملةُ قصر نحو أن يقول : ما يريد بكم إلاّ اليسر ، لكنه عُدل عن جملة القصر إلى جملتي إثبات ونفي لأن المقصود ابتداءً هو جملة الإثبات لتكون تعليلاً للرخصة ، وجاءت بعدها جملة النفي تأكيداً لها ، ويجوز أن يكون قوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } تعليلاً لجميع ما تقدم من قوله : { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] إلى هنا فيكون إيماء إلى أن مشروعية الصيام وإن كانت تلوح في صورة المشقة والعسر فإن في طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها اليسر أي تيسير تحصيل رياضة النفس بطريقة سليمة من إرهاق أصحاب بعض الأديان الأخرى أنفسهم .وقرأ الجمهور : ( اليُسْر ) و ( العُسْر ) بسكون السين فيهما ، وقرأه أبو جعفر بضم السين ضمةَ إتباع .عطف على جملةٍ : { يريد الله بكم اليسر } الخ؛ إذ هي في موقع العلة كما علمتَ؛ فإن مجموعَ هذه الجمل الأربع تعليل لما قبلها من قوله : { فمن شهد منكم الشهر } إلى قوله : { فعدة من أيام أُخر } .واللام في قوله : { ولتكبروا } تسمى شبه الزائدة وهي اللام التي يكثر وقوعها بعد فعل الإرادة وفعل الأمر أي مادة أمَرَ اللذين مفعولهما أنْ المصدرية مع فعلها ، فحق ذلك المفعول أن يتعدى إليه فعل الإرادة وفعل مادة الأمر بنفسه دون حرف الجر ولكن كثر في الكلام تعديته باللام نحو قوله تعالى : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } [ الصف : 8 ] قال في «الكشاف» : أصله يريدون أن يطفئوا ، ومنه قوله تعالى : { وأُمرت لأن أكون أول المسلمين } [ الزمر : 12 ] والفعل الذي بعد اللام منصوب بأنْ ظاهرةٍ أو مقدرةٍ .والمعنى : يريد الله أن تُكملوا العدة وأن تُكبروا الله ، وإكمالُ العدة يحصل بقضاء الأيام التي أفطرها مَن وجب عليه الصوم ليأتي بعدة أيام شهر رمضان كاملة ، فإن في تلك العدة حكمة تجب المحافظة عليها ، فبالقضاء حصلت حكمة التشريع وبرخصة الإفطار لصاحب العذر حصلت رحمة التخفيف .وقرأ الجمهور : ( ولتُكْملوا ) بسكون الكاف وتخفيف الميم مضارع أكمل وقَرأه أبو بكر عن عاصم ويعقوب بفتح الكاف وتشديد الميم مضارع كَمَّل .وقوله : { ولتكبروا الله على ما هداكم } عطف على قوله : { ولتكملوا العدة } ، وهذا يتضمن تعليلاً وهو في معنى علة غيرِ متضمنةٍ لحكمة ولكنها متضمنة لمقصد إرادة الله تعالى وهو أن يكبروه .والتكبير تفعيل مراد به النسبة والتوصيف أي أن تنسبوا الله إلى الكبر والنسبة هنا نسبة بالقول اللساني ، والكِبَر هنا كبر معنوي لا جسمي فهو العظمة والجلال والتنزيه عن النقائص كلها ، أي لتصفوا الله بالعظمة ، وذلك بأن تقولوا : الله أكبر ، فالتفعيل هنا مأخوذ من فَعَّلَ المنحوتتِ من قوللٍ يقوله ، مثل قولهم : بَسْمل وحَمْدل وهَلَّل وقد تقدم عند الكلام على البسملة ، أي لتقولوا : الله أكبر ، وهي جملة تدل على أن الله أعظم من كل عظيم في الوَاقع كالحكماء والملوك والسادة والقادة ، ومن كل عظيم في الاعتقاد كالآلهة الباطلة ، وإثبات الأعظمية لله في كلمة ( الله أكبر ) كناية عن وحدانيته بالإلهية ، لأن التفضيل يستلزم نقصان من عداه والناقص غير مستحق للإلهية ، لأن حقيقتها لا تلاقي شيئاً من النقص ، ولذلك شُرع التكبير في الصلاة لإبطال السجود لغير الله ، وشُرع التكبير عند نحر البُدْن في الحج لإبطال ما كانوا يتقربون به إلى أصنامهم ، وكذلك شرع التكبير عند انتهاء الصيام بهذه الآية ، فمن أجل ذلك مضت السنة بأن يكبر المسلمون عند الخروج إلى صلاة العيد ويكبر الإمام في خطبة العيد .وفي لفظ التكبير عند انتهاء الصيام خصوصية جليلة وهي أن المشركين كانوا يتزلفون إلى آلهتهم بالأَكل والتلطيخ بالدماء ، فكان لقول المسلم : الله أكبر ، إشارة إلى أن الله يعبد بالصوم وأنه متنزه عن ضراوة الأصنام .وقوله : { ولعلكم تشكرون } تعليل آخر وهو أعم من مضمون جملة { ولتكبروا الله على ما هداكم } فإن التكبير تعظيم يتضمن شكراً والشكر أعم ، لأنه يكون بالأقوال التي فيها تعظيم لله تعالى ويكون بفعل القُرب من الصدقات في أيام الصيام وأيام الفطر ، ومن مظاهر الشكر لبس أحسن الثياب يوم الفطر .وقد دلت الآية على الأمر بالتكبير؛ إذ جعلتْه مما يريده الله ، وهو غير مفصَّل في لفظ التكبير ، ومجملٌ في وقت التكبير؛ وعدده ، وقد بينت السنة القولية والفعلية ذلك على اختلاف بين الفقهاء في الأحوال .فأما لفظ التكبير فظاهر الآية أنه كل قول فيه لفظ الله أكبر ، والمشهور في السنة أنه يكرر الله أكبر ثلاثاً ، وبهذا أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك والشافعي : إذا شاء المرءُ زاد على التكبير تهليلاً وتحميداً فهو حسن ولا يترك الله أكبر ، فإذا أراد الزيادة على التكبير كبر مرتين ثم قال : لا إله إلاّ الله والله أكبر ولله الحمد وهو قول ابن عمر وابن عباس ، وقال أحمد : هو واسع ، وقال أبو حنيفة : لا يجزىء غير ثلاث تكبيرات .وأما وقته : فتكبير الفطر يبتدىء من وقت خروج المصلي من بيته إلى محل الصلاة ، وكذلك الإمامُ ومَنْ خرج معه ، فإذا بلغ محل الصلاة قطع التكبير ، ويسن في أول كل ركعة من ركعتي صلاة العيد افتتاح الأولى بسبع تكبيرات والثانية بست ، هذا هو الأصح مما ثبت في الأخبار وعمل به أهل المدينة من عهد النبي عليه الصلاة والسلام فما بعده وتلقاه جمهور علماء الأمصار ، وفيه خلاف كثير لا فائدة في التطويل بذكره والأمر واسع ، ثم يكبر الإمام في خطبة صلاة العيد بعد الصلاة ويكبر معه المصلون حين تكبيره وينصتون للخطبة فيما سوى التكبير .وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وعُروة بن الزبير والشافعي : يكبر الناس من وقت استهلال هلال الفطر إلى انقضاء صلاة العيد ثم ينقطع التكبير ، هذا كله في الفطر فهو مورد الآية التي نحن بصدد تفسيرها .فأما في الأضحى فيزاد على ما يذكر في الفطر التكبير عقب الصلوات المفروضة من صلاة الظهر من يوم الأضحى إلى صلاة الصبح من اليوم الرابع منه ، ويأتي تفصيله في تفسير قوله تعالى : { واذكروا الله في أياممٍ معدودات } [ البقرة : 203 ] .
الآية 185 - سورة البقرة: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ۚ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ۖ ومن...)