سورة البقرة: الآية 275 - الذين يأكلون الربا لا يقومون...

تفسير الآية 275, سورة البقرة

ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَوٰا۟ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَٰنُ مِنَ ٱلْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوٓا۟ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَوٰا۟ ۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا۟ ۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُو۟لَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ

الترجمة الإنجليزية

Allatheena yakuloona alrriba la yaqoomoona illa kama yaqoomu allathee yatakhabbatuhu alshshaytanu mina almassi thalika biannahum qaloo innama albayAAu mithlu alrriba waahalla Allahu albayAAa waharrama alrriba faman jaahu mawAAithatun min rabbihi faintaha falahu ma salafa waamruhu ila Allahi waman AAada faolaika ashabu alnnari hum feeha khalidoona

تفسير الآية 275

الذين يتعاملون بالربا -وهو الزيادة على رأس المال- لا يقومون في الآخرة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من الجنون؛ ذلك لأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا، في أن كلا منهما حلال، ويؤدي إلى زيادة المال، فأكذبهم الله، وبيَّن أنه أحل البيع وحرَّم الربا؛ لما في البيع والشراء من نفع للأفراد والجماعات، ولما في الربا من استغلال وضياع وهلاك. فمن بلغه نهي الله عن الربا فارتدع، فله ما مضى قبل أن يبلغه التحريم لا إثم عليه فيه، وأمره إلى الله فيما يستقبل من زمانه، فإن استمرَّ على توبته فالله لا يضيع أجر المحسنين، ومن عاد إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه، فقد استوجب العقوبة، وقامت عليه الحجة، ولهذا قال سبحانه: (فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)

«الذين يأكلون الربا» أي ياخذونه وهو الزيادة في المعاملة بالنقود والمطعومات في القدر أو الأجل «لا يقومون» من قبورهم «إلا» قياما «كما يقوم الذي يتخبطه» يصرعه «الشيطان من المس» الجنون، متعلق بيقومون «ذلك» الذي نزل بهم «بأنهم» بسبب أنهم «قالوا إنما البيع مثل الربا» في الجواز وهذا من عكس التشبيه مبالغة فقال تعالى ردا عليهم: «وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه» بلغه «موعظة» وعظ «من ربِّه فانتهى» عن أكله «فله ما سلف» قبل النهي أي لا يسترد منه «وأمره» في العفو عنه «إلى الله ومن عاد» إلى أكله مشبها له بالبيع في الحلِّ «فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون».

يخبر تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم، أنهم لا يقومون من قبورهم ليوم نشورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس أي: يصرعه الشيطان بالجنون، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين، متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال، فكما تقلبت عقولهم و قالوا إنما البيع مثل الربا وهذا لا يكون إلا من جاهل عظيم جهله، أو متجاهل عظيم عناده، جازاهم الله من جنس أحوالهم فصارت أحوالهم أحوال المجانين، ويحتمل أن يكون قوله: لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس أنه لما انسلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية خفت أحلامهم وضعفت آراؤهم، وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلاخ العقل الأدبي عنهم، قال الله تعالى رادا عليهم ومبينا حكمته العظيمة وأحل الله البيع أي: لما فيه من عموم المصلحة وشدة الحاجة وحصول الضرر بتحريمه، وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما يدل على المنع وحرم الربا لما فيه من الظلم وسوء العاقبة، والربا نوعان: ربا نسيئة كبيع الربا بما يشاركه في العلة نسيئة، ومنه جعل ما في الذمة رأس مال، سلم، وربا فضل، وهو بيع ما يجري فيه الربا بجنسه متفاضلا، وكلاهما محرم بالكتاب والسنة، والإجماع على ربا النسيئة، وشذ من أباح ربا الفضل وخالف النصوص المستفيضة، بل الربا من كبائر الذنوب وموبقاتها فمن جاءه موعظة من ربه أي: وعظ وتذكير وترهيب عن تعاطي الربا على يد من قيضه الله لموعظته رحمة من الله بالموعوظ، وإقامة للحجة عليه فانتهى عن فعله وانزجر عن تعاطيه فله ما سلف أي: ما تقدم من المعاملات التي فعلها قبل أن تبلغه الموعظة جزاء لقبوله للنصيحة، دل مفهوم الآية أن من لم ينته جوزي بالأول والآخر وأمره إلى الله في مجازاته وفيما يستقبل من أموره ومن عاد إلى تعاطي الربا ولم تنفعه الموعظة، بل أصر على ذلك فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون اختلف العلماء رحمهم الله في نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من الذنوب التي دون الشرك بالله، والأحسن فيها أن يقال هذه الأمور التي رتب الله عليها الخلود في النار موجبات ومقتضيات لذلك، ولكن الموجب إن لم يوجد ما يمنعه ترتب عليه مقتضاه، وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن التوحيد والإيمان مانع من الخلود في النار، فلولا ما مع الإنسان من التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره.

لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات ، المخرجين الزكوات ، المتفضلين بالبر والصلات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والآنات شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات ، فأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم ، فقال : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) أي : لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له ; وذلك أنه يقوم قياما منكرا . وقال ابن عباس : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق . رواه ابن أبي حاتم ، قال : وروي عن عوف بن مالك ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك .وحكي عن عبد الله بن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان أنهم قالوا في قوله : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) يعني : لا يقومون يوم القيامة . وكذا قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، والضحاك ، وابن زيد .وروى ابن أبي حاتم ، من حديث أبي بكر بن أبي مريم ، عن ضمرة بن حبيب ، عن ابن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه أنه كان يقرأ : " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة "وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا ربيعة بن كلثوم ، حدثنا أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب . وقرأ : ( لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) قال : وذلك حين يقوم من قبره .وفي حديث أبي سعيد في الإسراء ، كما هو مذكور في سورة سبحان : أنه ، عليه السلام مر ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت ، فسأل عنهم ، فقيل : هؤلاء أكلة الربا . رواه البيهقي مطولا .وقال ابن ماجه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي الصلت ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت ، فيها الحيات ترى من خارج بطونهم . فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء أكلة الربا " .ورواه الإمام أحمد ، عن حسن وعفان ، كلاهما عن حماد بن سلمة ، به . وفي إسناده ضعف .وقد روى البخاري ، عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل : " فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول : أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح ، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة ، وإذا ذلك السابح يسبح ، [ ما يسبح ] ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه حجرا " وذكر في تفسيره : أنه آكل الربا .وقوله : ( ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا ) أي : إنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه ، وليس هذا قياسا منهم للربا على البيع ; لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن ، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا : إنما الربا مثل البيع ، وإنما قالوا : ( إنما البيع مثل الربا ) أي : هو نظيره ، فلم حرم هذا وأبيح هذا ؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع ، أي : هذا مثل هذا ، وقد أحل هذا وحرم هذا !وقوله تعالى : ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) يحتمل أن يكون من تمام الكلام ردا عليهم ، أي : قالوا : ما قالوه من الاعتراض ، مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكما ، وهو الحكيم العليم الذي لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها ، وما ينفع عباده فيبيحه لهم ، وما يضرهم فينهاهم عنه ، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل ; ولهذا قال : ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ) أي : من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه . فله ما سلف من المعاملة ، لقوله : ( عفا الله عما سلف ) [ المائدة : 95 ] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين ، وأول ربا أضع ربا العباس " ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية ، بل عفا عما سلف ، كما قالتعالى : ( فله ما سلف وأمره إلى الله )قال سعيد بن جبير والسدي : ( فله ما سلف ) فإنه ما كان أكل من الربا قبل التحريم .وقال ابن أبي حاتم : قرئ على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني جرير بن حازم ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن أم يونس يعني امرأته العالية بنت أيفع أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لها أم محبة أم ولد لزيد بن أرقم : يا أم المؤمنين ، أتعرفين زيد بن أرقم ؟ قالت : نعم . قالت : فإني بعته عبدا إلى العطاء بثمانمائة ، فاحتاج إلى ثمنه ، فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة . فقالت : بئس ما شريت ! وبئس ما اشتريت ! أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب . قالت : فقلت : أرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة ؟ قالت : نعم ، ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ) .وهذا الأثر مشهور ، وهو دليل لمن حرم مسألة العينة ، مع ما جاء فيها من الأحاديث المقررة في كتاب الأحكام ، ولله الحمد والمنة .ثم قال تعالى : ( ومن عاد ) أي : إلى الربا ففعله بعد بلوغ نهي الله له عنه ، فقد استوجب العقوبة ، وقامت عليه الحجة ; ولهذا قال : ( فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )وقد قال أبو داود : حدثنا يحيى بن معين ، أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : لما نزلت : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يذر المخابرة ، فليأذن بحرب من الله ورسوله " .ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث ابن خثيم ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجه .وإنما حرمت المخابرة وهي : المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض ، والمزابنة وهي : اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض ، والمحاقلة وهي : اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها ، حسما لمادة الربا ; لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف . ولهذا قال الفقهاء : الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة . ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا ، والوسائل الموصلة إليه ، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم ، وقد قال تعالى : ( وفوق كل ذي علم عليم ) [ يوسف : 76 ] .وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم ، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا ، يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا . والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله ; لأن ما أفضى إلى الحرام حرام ، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . وقد ثبت في الصحيحين ، عن النعمان بن بشير ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الحلال بين وإن الحرام بين ، وبين ذلك أمور مشتبهات ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه " .وفي السنن عن الحسن بن علي ، رضي الله عنهما ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " . وفي الحديث الآخر : " الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس ، وكرهت أن يطلع عليه الناس " . وفي رواية : " استفت قلبك ، وإن أفتاك الناس وأفتوك " .وقال الثوري : عن عاصم ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال : آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا . رواه [ البخاري ] عن قبيصة ، عنه .وقال أحمد ، عن يحيى ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب أن عمر قال : من آخر ما نزل آية الربا ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا ، فدعوا الربا والريبة .رواه ابن ماجه وابن مردويه .وروى ابن مردويه من طريق هياج بن بسطام ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وآمركم بأشياء لا تصلح لكم ، وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا ، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم .وقد قال ابن ماجه : حدثنا عمرو بن علي الصيرفي ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن زبيد ، عن إبراهيم ، عن مسروق ، عن عبد الله هو ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الربا ثلاثة وسبعون بابا " .ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث عمرو بن علي الفلاس ، بإسناد مثله ، وزاد : " أيسرها أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم " . وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .وقال ابن ماجه : حدثنا عبد الله بن سعيد ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن أبي معشر ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الربا سبعون حوبا ، أيسرها أن ينكح الرجل أمه " .وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، عن عباد بن راشد ، عن سعيد بن أبي خيرة حدثنا الحسن منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا " قال : قيل له : الناس كلهم ؟ قال : " من لم يأكله منهم ناله من غباره "وكذا رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه من غير وجه ، عن سعيد بن أبي خيرة عن الحسن ، به .ومن هذا القبيل ، وهو تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن مسلم بن صبيح ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، فقرأهن ، فحرم التجارة في الخمر .وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي ، من طرق ، عن الأعمش به وهكذا لفظ رواية البخاري ، عند تفسير الآية : فحرم التجارة ، وفي لفظ له ، عن عائشة قالت : لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ، ثم حرم التجارة في الخمر . قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة : لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك ، كما قال ، عليه السلام في الحديث المتفق عليه : " لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها " .وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما ، عند لعن المحلل في تفسير قوله : ( حتى تنكح زوجا غيره ) [ البقرة : 230 ] قوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله آكل الربا وموكله ، وشاهديه وكاتبه " . قالوا : وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسدا ، فالاعتبار بمعناه لا بصورته ; لأن الأعمال بالنيات ، وفي الصحيح : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " .وقد صنف الإمام ، العلامة أبو العباس ابن تيمية كتابا في " إبطال التحليل " تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل ، وقد كفى في ذلك وشفى ، فرحمه الله ورضي عنه .

ولقد نفر القرآن الناس من تعاطى الربا تنفيرا شديدا وحذرهم من سوء عاقبته تحذيرا مؤكدا فقال- تعالى-:وقوله- تعالى-: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ... استئناف قصد به الترهيب من تعاطى الربا، بعد الترغيب في بذل الصدقة لمستحقيها.ولم يعطف على ما قبله لما بينهما من تضاد، لأن الصدقة- كما يقول الفخر الرازي- عبارة عن تنقيص المال- في الظاهر- بسبب أمر الله بذلك، والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهى الله عنه فكانا متضادين.والأكل في الحقيقة. ابتلاع الطعام، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص وهو المراد هنا. وعبر عن التعامل بالربا بالأكل، لأن معظم مكاسب الناس تنفق في الأكل.والربا في اللغة: الزيادة مطلقا، يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد ونما، ومنه قوله- تعالى-:وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ... أى: زادت.وهو في الشرع: - كما قال الآلوسى- عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال.وقوله: يَتَخَبَّطُهُ: من التخبط بمعنى الخبط وهو الضرب على غير استواء واتساق. يقال:خبطته أخبطه خبطا أى ضربته ضربا متواليا على أنحاء مختلفة. ويقال: تخبط البعير الأرض إذا ضربها بقوائمه ويقال للذي يتصرف في أمر ولا يهتدى فيه يخبط خبط عشواء. قال زهير بن أبى سلمى في معلقته:رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطى يعمر فيهرموالمس: الخبل والجنون يقال: مس الرجل فهو ممسوس إذا أصابه الجنون. وأصل المس اللمس باليد، ثم استعير للجنون، لأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه.والمعنى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أى يتعاملون به أخذا وإعطاء لا يَقُومُونَ يوم القيامة للقاء الله إلا قياما كقيام المتخبط المصروع المجنون حال صرعه وجنونه، وتخبط الشيطان له، وذلك لأنه يقوم قياما منكرا مفزعا بسبب أخذه الربا الذي حرم الله أخذه.فالآية الكريمة تصور المرابى بتلك الصورة المرعبة المفزعة، التي تحمل كل عاقل على الابتعاد عن كل معاملة يشم منها رائحة الربا.وهنا نحب أن نوضح أمرين:أما الأمر الأول: فهو أن جمهور المفسرين يرون أن هذا القيام المفزع للمرابين يكون يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم كما أشرنا إلى ذلك.قال الآلوسى: وقيام المرابى يوم القيامة كذلك مما نطقت به الآثار، فقد أخرج الطبراني عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إياك والذنوب التي لا تغفر. الغلول فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة، وأكل الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط» ثم قرأ الآية، وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه، ولعل الله- تعالى- جعل ذلك علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له ... ثم قال. وقال ابن عطية: المراد تشبيه المرابى في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة: قد جن، ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة ولما روى عن رسول صلّى الله عليه وسلّم من غير داع سوى الاستبعاد الذي لا يعتبر في مثل هذه المقامات» .والذي نراه أنه لا مانع من أن تكون الآية تصور حال المرابين في الدنيا والآخرة، فهم في الدنيا في قلق مستمر، وانزعاج دائم، واضطراب ظاهر بسبب جشعهم وشرههم في جمع المال، ووساوسهم التي لا تكاد تفارقهم وهم يكفرون في مصير أموالهم.... ومن يتتبع أحوال بعض المتعاملين بالربا يراهم أشبه بالمجانين في أقوالهم وحركاتهم. أما في الآخرة فقد توعدهم الله- تعالى- بالعقاب الشديد، والعذاب الأليم.وقد رجح الإمام الرازي أن الآية الكريمة تصور حال المرابى في الدنيا والآخرة فقال ما ملخصه: «إن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطا ... وآكل الربا بلا شك أنه يكون مفرطا في حب الدنيا متهالكا فيها، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك حجابا بينه وبين الله- تعالى-، فالخبط الذي كان حاصلا له في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذل الحجاب، وهذا التأويل أقرب عندي من غيره» .وأما الأمر الثاني: فهو أن جمهور المفسرين يرون أيضا أن التشبيه في الآية الكريمة على الحقيقة، بمعنى أن الآية تشبه حال المرابين بحال المجنون الذي مسه الشيطان، لأن الشيطان قد يمس الإنسان فيصيبه بالصرع والجنون.ولكن الزمخشري ومن تابعه ينكرون ذلك، ويرون أن كون الصرع أو الجنون من الشيطان باطل لأنه لا يقدر على ذلك، فقد قال الزمخشري في تفسيره: وتخبط الشيطان من زعمات العرب، يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع. والمس الجنون، ورجل ممسوس- أى مجنون-. وهذا أيضا من زعماتهم، وأن الجنى يمسسه فيختلط عقله، وكذلك جن الرجل معناه ضربته الجن، ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات» .ومن العلماء الذين تصدوا للرد على الزمخشري ومن تابعه الإمام القرطبي فقد قال: «وفي هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس. وقد روى النسائي عن أبى اليسر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو فيقول: اللهم إنى أعوذ بك من التردي والغرق والهدم والحريق، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا» .وقال الشيخ أحمد بن المنير: ومعنى قول الزمخشري أن تخبط الشيطان من زعمات العرب، أى من كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها، كما يقال في الغول والعنقاء ونحو ذلك. وهذا القول من تخبط- الشيطان بالقدرية- أى المعتزلة- في زعماتهم المردودة بقواطع الشرع، ثم قال: واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشارع عنها، والقدرية ينكرون كثيرا مما يزعمونه مخالفا لقواعدهم.. من ذلك السحر، وخبطة الشيطان، ومعظم أحوال الجن. وإن اعترفوا بشيء من ذلك فعلى غير الوجه الذي يعترف به أهل السنة وينبئ عنه ظاهر الشرع في خيط طويل لهم، والذي نراه أن ما عليه جمهور العلماء من أن التشبيه على الحقيقة هو الحق، لأن الشيطان قد يمس الإنسان فيصيبه بالجنون، ولأنه لا يسوغ لنا أن تؤول القرآن بغير ظاهره بسبب اتجاه دليل عليه.وقوله: مِنَ الْمَسِّ متعلق بيقومون أى لا يقومون من المس الذي حل بهم بسبب أكلهم الربا إلا كما يقوم المصروع من جنونه.وقوله- تعالى-: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا بيان لزعمهم الباطل الذي سوغ لهم التعامل بالربا، ورد عليه بما يهدمه.واسم الإشارة «ذلك» يعود إلى الأكل أو إلى العقاب الذي نزل بهم. والمعنى: ذلك الأكل الذي استحلوه عن طريق الربا، أو ذلك العذاب الذي حل بهم والذي من مظاهره قيامهم المتخبط، سببه قولهم إن البيع الذي أحله الله يشابه الريا الذي نتعامل به في أن كلا منهما معاوضة.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: هلا قيل إنما الربا مثل البيع لأن الكلام في الربا لا في البيع، فوجب أن يقال إنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه وكانت شبهتهم أنهم قالوا: لو اشترى الرجل الشيء الذي لا يساوى إلا درهما بدرهمين جاز، فكذلك إذا باع درهما بدرهمين؟ قلت:جيء به على طريق المبالغة. وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانونا في الحل حتى شبهوا به البيع» .وقوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا جملة مستأنفة، وهي رد من الله- تعالى- عليهم، وإنكار لتسويتهم الربا بالبيع.قال الآلوسى: وحاصل هذا الرد من الله- تعالى- عليهم: أن ما ذكرتم- من أن الربا مثل البيع- قياس فاسد الوضع لأنه معارض للنص فهو من عمل الشيطان، على أن بين البابين فرقا، وهو أن من باع ثوبا يساوى درهما بدرهمين فقد جعل الثوب مقابلا لدرهمين فلا شيء منهما إلا وهو في مقابلة شيء من الثواب. وأما إذا باع درهما بدرهمين فقد أخذ الدرهم الزائد بدون عوض، ولا يمكن جعل الإمهال عوضا إذ الإمهال ليس بمال في مقابلة المال» .وقوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ. تفريع على الوعيد السابق في قوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا.. إلخ» .والمجيء بمعنى العلم والبلاغ، والموعظة: ما يعظ الله- تعالى- به عباده عن طريق زجرهم وتخويفهم وتذكيرهم بسوء عاقبة المخالفين لأوامره.أى: فمن بلغه نهى الله- تعالى- عن الربا، فامتثل وأطاع وابتعد عما نهاه الله عنه، فَلَهُ ما سَلَفَ أى فله ما تقدم قبضه من مال الربا قبل التحريم وليس له ما تقدم الاتفاق عليه ولم بقبضه.. لأن الله- تعالى- يقول بعد ذلك وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ ...وقوله: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ أى أمر هذا المرابى الذي تعامل بالربا قبل التحريم واجتنبه بعده، أمره مفوض إلى الله- تعالى- فهو الذي يعامله بما يقتضيه فضله وعفوه وكرمه.قال ابن كثير: قوله فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ.. إلخ أى من بلغه نهى الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة لقوله: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وكما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة: «وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين وأول ربا أضع ربا عمى العباس، ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف كما قال- تعالى-: فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ أى فله ما كان قد أكل من الربا قبل التحريم».و «من» في قوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ شرطية وهو الظاهر، ويحتمل أن تكون موصولة.وعلى التقديرين فهي في محل رفع بالابتداء، وقوله: فَلَهُ ما سَلَفَ هو الجزاء أو الخبر، ومَوْعِظَةٌ فاعل جاء، وسقطت التاء من الفعل للفصل بينه وبين الفاعل أو تكون الموعظة هنا بمعنى الوعظ فهي في معنى المذكر وقوله: مِنْ رَبِّهِ جار ومجرور متعلق بجاءه، أو بمحذوف وقع صفة لموعظة وفي قوله: مِنْ رَبِّهِ تفخيم لشأن الموعظة، وإغراء بالامتثال والطاعة لأنها صادرة من الله- تعالى- المربى لعباده.وفي هذه الجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر السماحة فيما شرعه الله لعباده، لأنه- سبحانه- لم يعاقب المرابين على ما مضى من أمرهم قبل وجود الأمر والنهى، ولم يجعل تشريعه بأثر رجعي بل جعله للمستقبل، إذ الإسلام يجب ما قبله. فما أكله المرابى قبل تحريم الربا فلا عقاب عليه فيه وهو ملك له، إلا أنه ليس له أن يتعامل به بعد التحريم، وإذا تعامل به فلن تقبل توبته حتى يتخلص من هذا المال الناتج عنه الربا.ولقد توعد الله- تعالى- من يعود إلى التعامل بالربا بعد أن حرمه الله- تعالى- فقال وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.أى ومن عاد إلى التعامل بالربا بعد أن نهى الله عنه فأولئك العائدون هم أصحاب النار الملازمون لها، والماكثون فيها بسبب تعديهم لما نهى الله عنه.وفي هذه الجملة الكريمة تأكيد للعقاب النازل بأولئك العائدين بوجوه من المؤكدات منها:التعبير فيها بأولئك التي تدل على البعيد فهم بعيدون عن رحمة الله، والتعبير بالجملة الاسمية التي تفيد الدوام والاستمرار والتعبير، بكلمة أصحاب الدالة على الملازمة والمصاحبة، وبكلمة خالِدُونَ التي تدل على طول المكث.

قوله تعالى : ( الذين يأكلون الربا ) أي يعاملون به وإنما خص الأكل لأنه معظم المقصود من المال ( لا يقومون ) يعني يوم القيامة من قبورهم ( إلا كما يقوم الذي يتخبطه ) أي يصرعه ( الشيطان ) أصل الخبط الضرب والوطء وهو ضرب على غير استواء يقال : ناقة خبوط للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائمها ( من المس ) أي الجنون يقال : مس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنونا ومعناه : أن آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كمثل المصروع .أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم السرخسي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف ، أخبرنا عبد الله بن يحيى ، أخبرنا يعقوب بن سفيان أخبرنا إسماعيل بن سالم ، أخبرنا عباد بن عباد عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء قال : " فانطلق بي جبريل عليه السلام إلى رجال كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم منضدين على سابلة آل فرعون - وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا - قال : فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع فلا يستطيعون أن يبرحوا حتى يغشاهم آل فرعون فيردوهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة ( قال ) وآل فرعون يقولون : اللهم لا تقم الساعة أبدا ( قال ) ويوم القيامة يقال : " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " ( 46 - غافر ) قلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " .قوله تعالى : ( ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ) أي ذلك الذي نزل بهم لقولهم هذا واستحلالهم إياه وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه فطالبه به فيقول الغريم لصاحب الحق : زدني في الأجل حتى أزيدك في المال فيفعلان ذلك ويقولون سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أو عند المحل لأجل التأخير فكذبهم الله تعالى وقال : ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) واعلم أن الربا في اللغة الزيادة قال الله تعالى : " وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس " أي ليكثر " فلا يربو عند الله " ( 39 - الروم ) وطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام في الجملة إنما المحرم زيادة على صفة مخصوصة في مال مخصوص بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الوهاب عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار ورجل آخر عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق ولا البر بالبر ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين يدا بيد ولكن بيعوا الذهب بالورق والورق بالذهب والبر بالشعير والشعير بالبر والتمر بالملح والملح بالتمر يدا بيد كيف شئتم - ونقص أحدهما الملح أو التمر وزاد أحدهما من زاد وازداد فقد أربى " . وروى هذا الحديث مطرف عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار وعبد الله بن عتيك عن عبادة فالنبي صلى الله عليه وسلم نص على ستة أشياء .وذهب عامة أهل العلم إلى أن حكم الربا يثبت في هذه الأشياء الست بالأوصاف فيها فيتعدى إلى كل مال توجد فيه تلك الأوصاف ثم اختلفوا في تلك الأوصاف فذهب قوم إلى أن المعنى في جميعها واحد وهو النفع وأثبتوا الربا في جميع الأموال وذهب الأكثرون إلى أن الربا يثبت في الدراهم والدنانير بوصف وفي الأشياء المطعومة بوصف آخر واختلفوا في ذلك الوصف فقال قوم : ثبت في الدراهم والدنانير بوصف النقدية وهو قول مالك والشافعي وقال قوم : ثبت بعلة الوزن وهو قول أصحاب الرأي وأثبتوا الربا في جميع الموزونات مثل الحديد والنحاس والقطن ونحوها .وأما الأشياء الأربعة فذهب قوم إلى أن الربا ثبت فيها بعلة الكيل وهو قول أصحاب الرأي وأثبتوا الربا في جميع المكيلات مطعوما كان أو غير مطعوم كالجص والنورة ونحوها وذهب جماعة إلى أن العلة فيها الطعم مع الكيل والوزن فكل مطعوم وهو مكيل أو موزون يثبت فيه الربا ولا يثبت فيما ليس بمكيل ولا موزون وهو قول سعيد بن المسيب وقاله الشافعي رحمه الله في القديم وقال في الجديد : يثبت فيها الربا بوصف الطعم وأثبت الربا في جميع الأشياء المطعومة من الثمار والفواكه والبقول والأدوية مكيلة كانت أو موزونة لما روي عن معمر بن عبد الله قال : كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الطعام بالطعام مثلا بمثل " . فجملة مال الربا عند الشافعي ما كان ثمنا أو مطعوما والربا نوعان : ربا الفضل وربا النساء فإذا باع مال الربا بجنسه مثلا بمثل بأن باع أحد النقدين بجنسه أو باع مطعوما بجنسه كالحنطة بالحنطة ونحوها يثبت فيه كلا نوعي الربا حتى لا يجوز إلا متساويين في معيار الشرع فإن كان موزونا كالدراهم والدنانير فيشترط المساواة في الوزن وإن كان مكيلا كالحنطة والشعير بيع بجنسه فيشترط المساواة في الكيل ويشترط التقابض في مجلس العقد وإذا باع مال الربا بغير جنسه نظر : إن باع بما لا يوافقه في وصف الربا مثل أن باع مطعوما بأحد النقدين فلا ربا فيه كما لو باعه بغير مال الربا أو إن باعه بما يوافقه مع الوصف مثل أن باع الدراهم بالدنانير أو باع الحنطة بالشعير أو باع مطعوما بمطعوم آخر من غير جنسه فلا يثبت فيه ربا الفضل حتى يجوز متفاضلا أو جزافا ويثبت فيه ربا النساء حتى يشترط التقابض في المجلس وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تبيعوا الذهب بالذهب - إلى أن قال - إلا سواء بسواء " فيه إيجاب المماثلة وتحريم الفضل عند اتفاق الجنس وقوله " عينا بعين " فيه تحريم النساء وقوله " يدا بيد كيف شئتم " فيه إطلاق التفاضل عند اختلاف الجنس مع إيجاب التقابض في المجلس هذا في ربا المبايعة .ومن أقرض شيئا بشرط أن يرد عليه أفضل فهو قرض جر منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا .قوله تعالى : ( فمن جاءه موعظة من ربه ) تذكير وتخويف وإنما ذكر الفعل ردا إلى الوعظ ( فانتهى ) عن أكل الربا ( فله ما سلف ) أي ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له ( وأمره إلى الله ) بعد النهي إن شاء عصمه حيث يثبت على الانتهاء وإن شاء خذله حتى يعود وقيل : ( ما سلف وأمره إلى الله ) فيما يأمره وينهاه ويحل له ويحرم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء ( ومن عاد ) بعد التحريم إلى أكل الربا مستحلا له ( فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن المثنى حدثني غندر أخبرنا شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه أنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور " .أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج ، أخبرنا زهير بن حرب ، أخبرنا هشيم أخبرنا أبو الزبير ، عن جابر رضي الله عنه قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال : " هم سواء " .أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو محمد المخلدي ، أنا أبو حامد بن الشرقي أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي ، أخبرنا النضر بن محمد ، أخبرنا عكرمة بن عمار ، أخبرنا يحيى هو ابن أبي كثير قال : حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الربا سبعون بابا أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمه " .

الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمونالآيات الثلاث تضمنت أحكام الربا وجواز عقود المبايعات ، والوعيد لمن استحل الربا وأصر على فعله ، وفي ذلك مسائل :الأولى : قوله تعالى : الذين يأكلون الربا ( يأكلون ) يأخذون ، فعبر عن الأخذ بالأكل ؛ لأن الأخذ إنما يراد للأكل . والربا في اللغة الزيادة مطلقا ، يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد ، ومنه الحديث : فلا والله ما أخذنا من لقمة إلا ربا من تحتها يعني الطعام الذي دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة ، خرج الحديث مسلم رحمه الله . وقياس كتابته بالياء للكسرة في أوله ، وقد كتبوه في القرآن بالواو . ثم إن الشرع قد تصرف في هذا الإطلاق فقصره على بعض موارده ، فمرة أطلقه على كسب الحرام ، كما قال الله تعالى في اليهود : وأخذهم الربا وقد نهوا عنه . ولم يرد به الربا الشرعي الذي حكم بتحريمه علينا وإنما أراد المال الحرام ، كما قال تعالى : سماعون للكذب أكالون للسحت ؛ يعني به المال الحرام من الرشا ، وما استحلوه من أموال الأميين حيث قالوا : ليس علينا في الأميين سبيل . وعلى هذا فيدخل فيه النهي عن كل مال حرام بأي وجه اكتسب . والربا الذي عليه عرف الشرع شيئان : تحريم النساء ، والتفاضل في العقود وفي المطعومات على ما نبينه . وغالبه ما كانت العرب تفعله ، من قولها للغريم : أتقضي أم تربي ؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال ويصبر الطالب عليه . وهذا كله محرم باتفاق الأمة .الثانية : أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال ، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه . ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة ، كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة ، فإن قيل لفاعلها ، آكل الربا فتجوز وتشبيه .الثالثة : روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء . وفي حديث عبادة بن الصامت : فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد . وروى أبو داود عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها والبر بالبر مدي بمدي والشعير بالشعير مدي بمدي والتمر بالتمر مدي بمدي والملح بالملح مدي بمدي فمن زاد أو ازداد فقد أربى ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة ، أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير ، أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا . وأجمع العلماء على القول بمقتضى هذه السنة وعليها جماعة فقهاء المسلمين إلا في البر والشعير فإن مالكا جعلهما صنفا واحدا ، فلا يجوز منهما اثنان بواحد ، وهو قول الليث والأوزاعي ومعظم علماء المدينة والشام ، وأضاف مالك إليهما السلت . وقال الليث : السلت والدخن والذرة صنف واحد ، وقاله ابن وهب .قلت : وإذا ثبتت السنة فلا قول معها . وقال عليه السلام : ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ) . وقوله : ( البر بالبر والشعير بالشعير ) دليل على أنهما نوعان مختلفان كمخالفة البر للتمر ، ولأن صفاتهما مختلفة وأسماؤهما مختلفة ، ولا اعتبار بالمنبت والمحصد إذا لم يعتبره الشرع ، بل فصل وبين ، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة والثوري وأصحاب الحديث .الرابعة : كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أن النهي والتحريم إنما ورد من النبي صلى الله عليه وسلم في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر من الذهب والفضة بالمضروب ، ولا في المصوغ بالمضروب . وقد قيل إن ذلك إنما كان منه في المصوغ خاصة ، حتى وقع له مع عبادة ما خرجه مسلم وغيره ، قال : غزونا وعلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة ، فكان مما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلا ببيعها في أعطيات الناس ، فتنازع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت ذلك فقام فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين من زاد أو ازداد فقد أربى ، فرد الناس ما أخذوا ، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال : ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال : لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية - أو قال وإن رغم - ما أبالي ألا أصحبه في جنده في ليلة سوداء . قال حماد هذا أو نحوه . قال ابن عبد البر : وقد روي أن هذه القصة إنما كانت لأبي الدرداء مع معاوية . ويحتمل أن يكون وقع ذلك لهما معه ، ولكن الحديث في العرف محفوظ لعبادة ، وهو الأصل الذي عول عليه العلماء في باب ( الربا ) . ولم يختلفوا أن فعل معاوية في ذلك غير جائز ، وغير نكير أن يكون معاوية خفي عليه ما قد علمه أبو الدرداء وعبادة فإنهما جليلان من فقهاء الصحابة وكبارهم ، وقد خفي على أبي بكر وعمر ما وجد عند غيرهم ممن هو دونهم ، فمعاوية أحرى . ويحتمل أن يكون مذهبه كمذهب ابن عباس ، فقد كان وهو بحر في العلم لا يرى الدرهم بالدرهمين بأسا حتى صرفه عن ذلك أبو سعيد . وقصة معاوية هذه مع عبادة كانت في ولاية عمر . قال قبيصة بن ذؤيب : إن عبادة أنكر شيئا على معاوية فقال : لا أساكنك بأرض أنت بها ودخل المدينة . فقال له عمر : ما أقدمك ؟ فأخبره . فقال : ارجع إلى مكانك ، فقبح الله أرضا لست فيها ولا أمثالك! وكتب إلى معاوية " لا إمارة لك عليه " .الخامسة : روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما من كانت له حاجة بورق فليصرفها بذهب وإن كانت له حاجة بذهب فليصرفها بورق هاء وهاء . قال العلماء فقوله ، عليه السلام : ( الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما ) إشارة إلى جنس الأصل المضروب ، بدليل قوله : ( الفضة بالفضة والذهب بالذهب ) الحديث . والفضة البيضاء والسوداء والذهب الأحمر والأصفر كل ذلك لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مثلا بمثل سواء بسواء على كل حال ، على هذا جماعة أهل العلم على ما بينا . واختلفت الرواية عن مالك في الفلوس فألحقها بالدراهم من حيث كانت ثمنا للأشياء ، ومنع من إلحاقها مرة من حيث إنها ليست ثمنا في كل بلد وإنما يختص بها بلد دون بلد .السادسة : لا اعتبار بما قد روي عن كثير من أصحاب مالك وبعضهم يرويه عن مالك في التاجر يحفزه الخروج وبه حاجة إلى دراهم مضروبة أو دنانير مضروبة ، فيأتي دار الضرب بفضته أو ذهبه فيقول للضراب ، خذ فضتي هذه أو ذهبي وخذ قدر عمل يدك وادفع إلي دنانير مضروبة في ذهبي أو دراهم مضروبة في فضتي هذه لأني محفوز للخروج وأخاف أن يفوتني من أخرج معه ، أن ذلك جائز للضرورة ، وأنه قد عمل به بعض الناس . وحكاه ابن العربي في قبسه عن مالك في غير التاجر ، وإن مالكا خفف في ذلك ، فيكون في الصورة قد باع فضته التي زنتها مائة وخمسة دراهم أجره بمائة وهذا محض الربا . والذي أوجب جواز ذلك أنه لو قال له : اضرب لي هذه وقاطعه على ذلك بأجرة ، فلما ضربها قبضها منه وأعطاه أجرتها ، فالذي فعل مالك أولا هو الذي يكون آخرا ، ومالك إنما نظر إلى المال فركب عليه حكم الحال ، وأباه سائر الفقهاء . قال ابن العربي : والحجة فيه لمالك بينة . قال أبو عمر رحمه الله : وهذا هو عين الربا الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( من زاد أو ازداد فقد أربى ) . وقد رد ابن وهب هذه المسألة على مالك وأنكرها . وزعم الأبهري أن ذلك من باب الرفق لطلب التجارة ولئلا يفوت السوق ، وليس الربا إلا على من أراد أن يربي ممن يقصد إلى ذلك ويبتغيه . ونسي الأبهري أصله في قطع الذرائع ، وقوله ، فيمن باع ثوبا بنسيئة وهو لا نية له في شرائه ثم يجده في السوق يباع : إنه لا يجوز له ابتياعه منه بدون ما باعه به وإن لم يقصد إلى ذلك ولم يبتغه ، ومثله كثير ، ولو لم يكن الربا إلا على من قصده ما حرم إلا على الفقهاء . وقد قال عمر : لا يتجر في سوقنا إلا من فقه وإلا أكل الربا . وهذا بين لمن رزق الإنصاف وألهم رشده .قلت : وقد بالغ مالك رحمه الله في منع الزيادة حتى جعل المتوهم كالمتحقق ، فمنع دينارا ودرهما بدينار ودرهم سدا للذريعة وحسما للتوهمات ، إذ لولا توهم الزيادة لما تبادلا . وقد علل منع ذلك بتعذر المماثلة عند التوزيع ، فإنه يلزم منه ذهب وفضة بذهب . وأوضح من هذا منعه التفاضل المعنوي ، وذلك أنه منع دينارا من الذهب العالي ودينارا من الذهب الدون في مقابلة العالي وألغى الدون ، وهذا من دقيق نظره رحمه الله ، فدل أن تلك الرواية عنه منكرة ولا تصح . والله أعلم .السابعة : قال الخطابي : التبر قطع الذهب والفضة قبل أن تضرب وتطبع دراهم أو دنانير ، واحدتها تبرة . والعين : المضروب من الدراهم أو الدنانير . وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع مثقال ذهب عين بمثقال وشيء من تبر غير مضروب . وكذلك حرم التفاوت بين المضروب من الفضة وغير المضروب منها ، وذلك معنى قوله : ( تبرها وعينها سواء ) .الثامنة : أجمع العلماء على أن التمر بالتمر ولا يجوز إلا مثلا بمثل . واختلفوا في بيع التمرة الواحدة بالتمرتين ، والحبة الواحدة من القمح بحبتين ، فمنعه الشافعي وأحمد وإسحاق والثوري ، وهو قياس قول مالك وهو الصحيح ؛ لأن ما جرى الربا فيه بالتفاضل في كثيره دخل قليله في ذلك قياسا ونظرا . احتج من أجاز ذلك بأن مستهلك التمرة والتمرتين لا تجب عليه القيمة ، قال : لأنه لا مكيل ولا موزون فجاز فيه التفاضل .التاسعة : اعلم رحمك الله أن مسائل هذا الباب كثيرة وفروعه منتشرة ، والذي يربط لك ذلك أن تنظر إلى ما اعتبره كل واحد من العلماء في علة الربا ، فقال أبو حنيفة : علة ذلك كونه مكيلا أو موزونا جنسا ، فكل ما يدخله الكيل أو الوزن عنده من جنس واحد ، فإن بيع بعضه ببعض متفاضلا أو نسيئا لا يجوز ، فمنع بيع التراب بعضه ببعض متفاضلا ؛ لأنه يدخله الكيل ، وأجاز الخبز قرصا بقرصين ؛ لأنه لم يدخل عنده في الكيل الذي هو أصله ، فخرج من الجنس الذي يدخله الربا إلى ما عداه . وقال الشافعي : العلة كونه مطعوما جنسا . هذا قوله في الجديد ، فلا يجوز عنده بيع الدقيق بالخبز ولا بيع الخبز بالخبز متفاضلا ولا نسيئا ، وسواء أكان الخبز خميرا أو فطيرا . ولا يجوز عنده بيضة ببيضتين ، ولا رمانة برمانتين ، ولا بطيخة ببطيختين لا يدا بيد ولا نسيئة ؛ لأن ذلك كله طعام مأكول . وقال في القديم : كونه مكيلا أو موزونا . واختلفت عبارات أصحابنا المالكية في ذلك ، وأحسن ما في ذلك كونه مقتاتا مدخرا للعيش غالبا جنسا ، كالحنطة والشعير والتمر والملح المنصوص عليها ، وما في معناها كالأرز والذرة والدخن والسمسم ، والقطاني كالفول والعدس واللوبياء والحمص ، وكذلك اللحوم والألبان والخلول والزيوت ، والثمار كالعنب والزبيب والزيتون ، واختلف في التين ، ويلحق بها العسل والسكر . فهذا كله يدخله الربا من جهة النساء . وجائز فيه التفاضل لقوله عليه السلام إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد . ولا ربا في رطب الفواكه التي لا تبقى كالتفاح والبطيخ والرمان والكمثرى والقثاء والخيار والباذنجان وغير ذلك من الخضراوات . قال مالك : لا يجوز بيع البيض بالبيض متفاضلا ؛ لأنه مما يدخر ، ويجوز عنده مثلا بمثل . وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم : جائز بيضة ببيضتين وأكثر ؛ لأنه مما لا يدخر ، وهو قول الأوزاعي .العاشرة : اختلف النحاة في لفظ " الربا " فقال البصريون : هو من ذوات الواو ؛ لأنك تقول في تثنيته : ربوان ، قاله سيبويه . وقال الكوفيون : يكتب بالياء ، وتثنيته بالياء ، لأجل الكسرة التي في أوله . قال الزجاج : ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية وهم يقرءون : وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس قال محمد بن يزيد : كتب " الربا " في المصحف بالواو فرقا بينه وبين الزنا ، وكان الربا أولى منه بالواو ؛ لأنه من ربا يربو .الحادية عشرة : قوله تعالى : لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس الجملة خبر الابتداء وهو ( الذين ) . والمعنى من قبورهم ، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد . وقال بعضهم : يجعل معه شيطان يخنقه . وقالوا كلهم : يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند جميع أهل المحشر . ويقوي هذا التأويل المجمع عليه أن في قراءة ابن مسعود " لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم " . قال ابن عطية : وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الدنيا بقيام المجنون ؛ لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه ، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته إما من فزع أو غيره : قد جن هذا! وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله :وتصبح عن غب السرى وكأنما ألم بها من طائف الجن أولقوقال آخر :لعمرك بي من حب أسماء أولقلكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل . و ( يتخبطه ) يتفعله من خبط يخبط ، كما تقول : تملكه وتعبده . فجعل الله هذه العلامة لأكلة الربا ، وذلك أنه أرباه في بطونهم فأثقلهم ، فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون ويسقطون . ويقال : إنهم يبعثون يوم القيامة قد انتفخت بطونهم كالحبالى ، وكلما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم . وقال بعض العلماء : إنما ذلك شعار لهم يعرفون به يوم القيامة ثم العذاب من وراء ذلك ، كما أن الغال يجيء بما غل يوم القيامة بشهرة يشهر بها ثم العذاب من وراء ذلك . وقال تعالى : ( يأكلون ) والمراد يكسبون الربا ويفعلونه . وإنما خص الأكل بالذكر لأنه أقوى مقاصد الإنسان في المال ، ولأنه دال على الجشع وهو أشد الحرص ، يقال : رجل جشع بين الجشع وقوم جشعون ، قاله في المجمل . فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله ، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال داخل في قوله : ( الذين يأكلون ) .الثانية عشرة : في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن ، وزعم أنه من فعل الطبائع ، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس ، وقد مضى الرد عليهم فيما تقدم من هذا الكتاب . وقد روى النسائي عن أبي اليسر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول : اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحريق وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا . وروي من حديث محمد بن المثنى حدثنا أبو داود حدثنا همام عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : اللهم إني أعوذ بك من الجنون والجذام والبرص وسيئ الأسقام . والمس : الجنون ، يقال : مس الرجل وألس ، فهو ممسوس ومألوس إذا كان مجنونا ، وذلك علامة الربا في الآخرة . وروي في حديث الإسراء : فانطلق بي جبريل فمررت برجال كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم متصدين على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار بكرة وعشيا فيقبلون مثل الإبل المهيومة يتخبطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع فلا يستطيعون براحا حتى يغشاهم آل فرعون فيطئونهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة وآل فرعون يقولون اللهم لا تقم الساعة أبدا ، فإن الله تعالى يقول : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب - قلت - يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : ( هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) . والمس : الجنون ، وكذلك الأولق والألس والرود .الثالثة عشرة : ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا معناه عند جميع المتأولين في الكفار ، ولهم قيل : فله ما سلف ولا يقال ذلك لمؤمن عاص بل ينقض بيعه ، ويرد فعله وإن كان جاهلا ، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد . لكن قد يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية .الرابعة عشرة : إنما البيع مثل الربا أي إنما الزيادة عند حلول الأجل آخرا كمثل أصل الثمن في أول العقد ، وذلك أن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك ، فكانت إذا حل دينها قالت للغريم : إما أن تقضي وإما أن تربي ، أي تزيد في الدين . فحرم الله سبحانه ذلك ورد عليهم قولهم بقوله الحق : وأحل الله البيع وحرم الربا وأوضح أن الأجل إذا حل ولم يكن عنده ما يؤدي أنظر إلى الميسرة . وهذا الربا هو الذي نسخه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يوم عرفة لما قال : ألا إن كل ربا موضوع وإن أول ربا أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله . فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به . وهذا من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته فيستفيض حينئذ في الناس .الخامسة عشرة : : قوله تعالى : وأحل الله البيع هذا من عموم القرآن ، والألف واللام للجنس لا للعهد إذ لم يتقدم بيع مذكور يرجع إليه ، كما قال تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر ثم استثنى إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . وإذا ثبت أن البيع عام فهو مخصص بما ذكرناه من الربا وغير ذلك مما نهي عنه ومنع العقد عليه ، كالخمر والميتة وحبل الحبلة وغير ذلك مما هو ثابت في السنة وإجماع الأمة النهي عنه . ونظيره فاقتلوا المشركين وسائر الظواهر التي تقتضي العمومات ويدخلها التخصيص وهذا مذهب أكثر الفقهاء . وقال بعضهم : هو من مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم فلا يمكن أن يستعمل في إحلال البيع وتحريمه إلا أن يقترن به بيان من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإن دل على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل . وهذا فرق ما بين العموم والمجمل . ، فالعموم يدل على إباحة البيوع في الجملة ، والتفصيل ما لم يخص بدليل . والمجمل لا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان . والأول أصح . والله أعلم .السادسة عشرة : البيع في اللغة مصدر باع كذا بكذا ، أي دفع عوضا وأخذ معوضا . وهو يقتضي بائعا وهو المالك أو من ينزل منزلته ، ومبتاعا وهو الذي يبذل الثمن ، ومبيعا وهو المثمون وهو الذي يبذل في مقابلته الثمن . وعلى هذا فأركان البيع أربعة : البائع والمبتاع والثمن والمثمن . ثم المعاوضة عند العرب تختلف بحسب اختلاف ما يضاف إليه ، فإن كان أحد المعوضين في مقابلة الرقبة سمي بيعا ، وإن كان في مقابلة منفعة رقبة فإن كانت منفعة بضع سمي نكاحا ، وإن كانت منفعة غيرها سمي إجارة ، وإن كان عينا بعين فهو بيع النقد وهو الصرف ، وإن كان بدين مؤجل فهو السلم ، وسيأتي بيانه في آية الدين . وقد مضى حكم الصرف ، ويأتي حكم الإجارة في " القصص " وحكم المهر في النكاح في ( النساء ) كل في موضعه إن شاء الله تعالى .السابعة عشرة : البيع قبول وإيجاب يقع باللفظ المستقبل والماضي ، فالماضي فيه حقيقة والمستقبل كناية ، ويقع بالصريح والكناية المفهوم منها نقل الملك . فسواء قال : بعتك هذه السلعة بعشرة فقال : اشتريتها ، أو قال المشتري : اشتريتها وقال البائع : بعتكها ، أو قال البائع : أنا أبيعك بعشرة فقال المشتري : أنا أشتري أو قد اشتريت ، وكذلك لو قال : خذها بعشرة أو أعطيتكها أو دونكها أو بورك لك فيها بعشرة أو سلمتها إليك - وهما يريدان البيع - فذلك كله بيع لازم . ولو قال البائع : بعتك بعشرة ثم رجع قبل أن يقبل المشتري فقد قال : ليس له أن يرجع حتى يسمع قبول المشتري أو رده ؛ لأنه قد بذل ذلك من نفسه وأوجبه عليها ، وقد قال ذلك له ؛ لأن العقد لم يتم عليه . ولو قال البائع : كنت لاعبا ، فقد اختلفت الرواية عنه ، فقال مرة : يلزمه البيع ولا يلتفت إلى قوله وقال مرة : ينظر إلى قيمة السلعة . فإن كان الثمن يشبه قيمتها فالبيع لازم ، وإن كان متفاوتا كعبد بدرهم ودار بدينار ، علم أنه لم يرد به البيع ، وإنما كان هازلا فلم يلزمه .الثامنة عشرة : قوله تعالى : وحرم الربا الألف واللام هنا للعهد ، وهو ما كانت العرب تفعله كما بيناه ، ثم تتناول ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه من البيع الذي يدخله الربا وما في معناه من البيوع المنهي عنها .التاسعة عشرة : عقد الربا مفسوخ لا يجوز بحال ، لما رواه الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال : جاء بلال بتمر برني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أين هذا ) ؟ فقال بلال : من تمر كان عندنا رديء ، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : أوه عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به وفي رواية ( هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا ) . قال علماؤنا : فقوله ( أوه عين الربا ) أي هو الربا المحرم نفسه لا ما يشبهه . وقوله : ( فردوه ) يدل على وجوب فسخ صفقة الربا وأنها لا تصح بوجه ، وهو قول الجمهور ، خلافا لأبي حنيفة حيث يقول : إن بيع الربا جائز بأصله من حيث هو بيع ، ممنوع بوصفه من حيث هو ربا ، فيسقط الربا ويصح البيع . ولو كان على ما ذكر لما فسخ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصفقة ، ولأمره برد الزيادة على الصاع ولصحح الصفقة في مقابلة الصاع .الموفية عشرين : كل ما كان من حرام بين ففسخ فعلى المبتاع رد السلعة بعينها . فإن تلفت بيده رد القيمة فيما له القيمة ، وذلك كالعقار والعروض والحيوان ، والمثل فيما له مثل من موزون أو مكيل من طعام أو عرض . قال مالك : يرد الحرام البين فات أو لم يفت ، وما كان مما كره الناس رد إلا أن يفوت فيترك .الحادية والعشرون : قوله تعالى : فمن جاءه موعظة من ربه قال جعفر بن محمد الصادق رحمهما الله : حرم الله الربا ليتقارض الناس . وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قرض مرتين يعدل صدقة مرة أخرجه البزار ، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى . وقال بعض الناس : حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس . وسقطت علامة التأنيث في قوله تعالى : ( فمن جاءه ) لأن تأنيث " الموعظة " غير حقيقي وهو بمعنى وعظ . وقرأ الحسن " فمن جاءته " بإثبات العلامة .هذه الآية تلتها عائشة لما أخبرت بفعل زيد بن أرقم . روى الدارقطني عن العالية بنت أنفع قالت : خرجت أنا وأم محبة إلى مكة فدخلنا على عائشة رضي الله عنها فسلمنا عليها ، فقالت لنا : ممن أنتن ؟ قلنا من أهل الكوفة ، قالت : فكأنها أعرضت عنا ، فقالت لها أم محبة : يا أم المؤمنين! كانت لي جارية وإني بعتها من زيد بن أرقم الأنصاري بثمانمائة درهم إلى عطائه وإنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقدا . قالت : فأقبلت علينا فقالت : بئسما شريت وما اشتريت! فأبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب . فقالت لها : أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالي ؟ قالت : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف . العالية هي زوج أبي إسحاق الهمداني الكوفي السبيعي أم يونس بن أبي إسحاق . وهذا الحديث أخرجه مالك من رواية ابن وهب عنه في بيوع الآجال ، فإن كان منها ما يؤدي إلى الوقوع في المحظور منع منه وإن كان ظاهره بيعا جائزا . وخالف مالكا في هذا الأصل جمهور الفقهاء وقالوا : الأحكام مبنية على الظاهر لا على الظنون . ودليلنا القول بسد الذرائع ، فإن سلم وإلا استدللنا على صحته . وقد تقدم . وهذا الحديث نص ولا تقول عائشة ( أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب ) إلا بتوقيف ، إذ مثله لا يقال بالرأي فإن إبطال الأعمال لا يتوصل إلى معرفتها إلا بالوحي كما تقدم . وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى ، حول الحمى يوشك أن يوقع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه . وجه دلالته أنه منع من الإقدام على المتشابهات مخافة الوقوع في المحرمات وذلك سد للذريعة . وقال صلى الله عليه وسلم : إن من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا : وكيف يشتم الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه . فجعل التعريض لسب الآباء كسب الآباء . ولعن صلى الله عليه وسلم اليهود إذ أكلوا ثمن ما نهوا عن أكله . وقال أبو بكر في كتابه : لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة . ونهى ابن عباس عن دراهم بدراهم بينهما جريرة . واتفق العلماء على منع الجمع بين بيع وسلف ، وعلى تحريم قليل الخمر وإن كان لا يسكر ، وعلى تحريم الخلوة بالأجنبية وإن كان عنينا ، وعلى تحريم النظر إلى وجه المرأة الشابة إلى غير ذلك مما يكثر ويعلم على القطع والثبات أن الشرع حكم فيها بالمنع ؛ لأنها ذرائع المحرمات . والربا أحق ما حميت مراتعه وسدت طرائقه ، ومن أباح هذه الأسباب فليبح حفر البئر ونصب الحبالات لهلاك المسلمين والمسلمات ، وذلك لا يقوله أحد . وأيضا فقد اتفقنا على منع من باع بالعينة إذا عرف بذلك وكانت عادته ، وهي في معنى هذا الباب . والله الموفق للصواب .الثانية والعشرون : روى أبو داود عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم . في إسناده أبو عبد الرحمن الخراساني . ليس بمشهور . وفسر أبو عبيد الهروي العينة فقال : هي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى ، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به . قال : فإن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى ، ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن ، فهذه أيضا عينة ، وهي أهون من الأولى ، وهو جائز عند بعضهم . وسميت عينة لحضور النقد لصاحب العينة ، وذلك أن العين هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضر يصل إليه من فوره .الثالثة والعشرون : قال علماؤنا : فمن باع سلعة بثمن إلى أجل ثم ابتاعها بثمن من جنس الثمن الذي باعها به ، فلا يخلو أن يشتريها منه بنقد ، أو إلى أجل دون الأجل الذي باعها إليه ، أو إلى أبعد منه ، بمثل الثمن أو بأقل منه أو بأكثر ، فهذه ثلاث مسائل : وأما الأولى والثانية فإن كان بمثل الثمن أو أكثر جاز ، ولا يجوز بأقل على مقتضى حديث عائشة ؛ لأنه أعطى ستمائة ليأخذ ثمانمائة والسلعة لغو ، وهذا هو الربا بعينه . وأما الثالثة إلى أبعد من الأجل ، فإن كان اشتراها وحدها أو زيادة فيجوز بمثل الثمن أو أقل منه ، ولا يجوز بأكثر ، فإن اشترى بعضها فلا يجوز على كل حال لا بمثل الثمن ولا بأقل ولا بأكثر . ومسائل هذا الباب حصرها علماؤنا في سبع وعشرين مسألة ، ومدارها على ما ذكرناه فاعلم .الرابعة والعشرون : فله ما سلف أي من أمر الربا لا تباعة عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة ، قاله السدي وغيره . وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هنالك . وسلف : معناه تقدم في الزمن وانقضى .الخامسة والعشرون : قوله تعالى : وأمره إلى الله فيه أربع تأويلات : أحدها أن الضمير عائد إلى الربا ، بمعنى وأمر الربا إلى الله في إمرار تحريمه أو غير ذلك . والآخر أن يكون الضمير عائدا على ما سلف أي أمره إلى الله تعالى في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه . والثالث أن يكون الضمير عائدا على ذي الربا ، بمعنى أمره إلى الله في أن يثبته على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا . واختار هذا القول النحاس ، قال : وهذا قول حسن بين ، أي وأمره إلى الله في المستقبل إن شاء ثبته على التحريم وإن شاء أباحه . والرابع أن يعود الضمير على المنتهى ، ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير ، كما تقول : وأمره إلى طاعة وخير ، وكما تقول : وأمره في نمو وإقبال إلى الله تعالى وإلى طاعته .السادسة والعشرون : ومن عاد يعني إلى فعل الربا حتى يموت ، قاله سفيان . وقال غيره : من عاد فقال إنما البيع مثل الربا فقد كفر . قال ابن عطية : إن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي ، وإن لحظناها في مسلم عاص فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة ، كما تقول العرب : ملك خالد ، عبارة عن دوام ما لا يبقى على التأبيد الحقيقي .

القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّقال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذين يُرْبون.* * *و " الإرباء " الزيادة على الشيء، يقال منه: " أرْبى فلان على فلان "، إذا زاد عليه،" يربي إرباءً"، والزيادة هي" الربا "،" وربا الشيء "، إذا زاد على ما كان عليه فعظم،" فهو يَرْبو رَبْوًا ". وإنما قيل للرابية [رابية]، (1) لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم: " ربا يربو ". ومن ذلك قيل: " فلان في رَباوَة قومه "، (2) يراد أنه في رفعة وشرف منهم، فأصل " الربا "، الإنافة والزيادة، ثم يقال: " أربى فلان " أي أناف [ماله، حين] صيَّره زائدًا. (3) وإنما قيل للمربي: " مُرْبٍ"، لتضعيفه المال، الذي كان له على غريمه حالا أو لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى أجله الذي كان له قبلَ حَلّ دينه عليه. ولذلك قال جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً . [آل عمران: 130].* * *وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:ذكر من قال ذلك:6235 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، في الربا الذي نهى الله عنه: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدّينُ فيقول: لك كذا وكذا وتؤخِّر عني! فيؤخَّر عنه.* - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.6237 - حدثني بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: أن ربا أهل الجاهلية: يبيعُ الرجل البيع إلى أجل مسمًّى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخَّر عنه.* * *قال أبو جعفر: فقال جل ثناؤه: الذين يُرْبون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا=" لا يقومون " في الآخرة من قبورهم =" إلا كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطانُ من المس "، يعني بذلك: يتخبَّله الشيطان في الدنيا، (4) وهو الذي يخنقه فيصرعه (5) =" من المس "، يعني: من الجنون.وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.ذكر من قال ذلك:6238 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: " الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، يوم القيامة، في أكل الرِّبا في الدنيا.6239 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.6240 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس "، قال: ذلك حين يُبعث من قبره. (6)6241 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا: " خذْ سلاحك للحرب "، وقرأ: " لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، قال: ذلك حين يبعث من قبره.6242 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ". الآية، قال: يبعث آكل الربا يوم القيامة مَجْنونًا يُخنق. (7)6243 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " الذين يأكلون الربا لا يقومون "، الآية، وتلك علامةُ أهل الرّبا يوم القيامة، بُعثوا وبهم خَبَلٌ من الشيطان.6244 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " لا يقومون إلا كما يقومُ الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال: هو التخبُّل الذي يتخبَّله الشيطان من الجنون.6245 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، قال: يبعثون يوم القيامة وبهم خَبَل من الشيطان. وهي في بعض القراءة: ( لا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .6246 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس "، قال: من مات وهو يأكل الربا، بعث يوم القيامة متخبِّطًا، كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ.6247 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، يعني: من الجنون.6248 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ". قال: هذا مثلهم يومَ القيامة، لا يقومون يوم القيامة مع الناس، إلا كما يقوم الذي يُخنق من الناس، كأنه خُنق، كأنه مجنون (8) .* * *قال أبو جعفر: ومعنى قوله: " يتخبطه الشيطانُ من المسّ"، يتخبله من مَسِّه إياه. يقال منه: " قد مُسّ الرجل وأُلقِ، فهو مَمسوس ومَألوق "، كل ذلك إذا ألمّ به اللَّمَمُ فجُنّ. ومنه قول الله عز وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا [الأعراف: 201]، ومنه قول الأعشى:وَتُصْبحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى, وكأَنَّمَاأَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الجِنِّ أَوْلَقُ (9)* * *فإن قال لنا قائل: أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الرِّبا في تجارته ولم يأكله، أيستحقّ هذا الوعيدَ من الله؟قيل: نعم، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكلُ، إلا أنّ الذين نزلت فيهم هذه الآيات يوم نزلت، كانت طُعمتهم ومأكلُهم من الربا، فذكرهم بصفتهم، معظّمًا بذلك عليهم أمرَ الرّبا، ومقبِّحًا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم، وفي قوله جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [سورة البقرة: 278-279] الآية، ما ينبئ عن صحة ما قلنا في ذلك، وأنّ التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الرّبا، وأنّ سواءً العملُ به وأكلُه وأخذُه وإعطاؤُه، (10) كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:6249-" لعن الله آكلَ الرّبا، وُمؤْكِلَه، وكاتبَه، وشاهدَيْه إذا علموا به ". (11)* * *القول في تأويل قوله : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَاقال أبو جعفر: يعني ب" ذلك " جل ثناؤه: ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم، كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المسّ من الجنون، فقال تعالى ذكره: هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قُبْح حالهم، ووَحشة قيامهم من قبورهم، وسوء ما حلّ بهم، من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون: " إنما البيع " الذي أحله الله لعباده =" مثلُ الرّبا ". وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الرّبا من أهل الجاهلية، كان إذا حلّ مالُ أحدهم على غريمه، يقول الغَريم لغريم الحق: " زدني في الأجل وأزيدك في مالك ". فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك: " هذا ربًا لا يحل ". فإذا قيل لهما ذلك قالا " سواء علينا زدنا في أول البيع، أو عند مَحِلّ المال "! فكذَّبهم الله في قيلهم فقال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ .* * *القول في تأويل قوله تعالى : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: وأحلّ الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع (12) =" وحرّم الربا "، يعني الزيادةَ التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل، وتأخيره دَيْنه عليه. يقول عز وجل: فليست الزيادتان اللتان إحداهما من وَجه البيع، (13) والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل، سواء. وذلك أنِّي حرّمت إحدى الزيادتين = وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل = وأحللتُ الأخرى منهما، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها، فيستفضلُ فَضْلها. فقال الله عز وجل: ليست الزيادة من وجه البيع نظيرَ الزيادة من وجه الربا، لأنّي أحللت البيع، وحرَّمت الرّبا، والأمر أمري والخلق خلقي، أقضي فيهم ما أشاء، وأستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي، ولا أن يخالف أمري، وإنما عليهم طاعتي والتسليمُ لحكمي.* * *ثم قال جل ثناؤه: " فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى "، يعني ب" الموعظة ": التذكير، والتخويفَ الذي ذكَّرهم وخوّفهم به في آي القرآن، (14) وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب، يقول جل ثناؤه: فمن جاءه ذلك،" فانتهى " عن أكل الربا وارتدع عن العمل به وانزجر عنه (15) =" فله ما سلف "، يعني: ما أكل، وأخذ فمَضَى، قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك =" وأمرُه إلى الله "، يعني: وأمر آكله بعد مجيئه الموعظة من ربه والتحريم، وبعد انتهاء آكله عن أكله، إلى الله في عصمته وتوفيقه، إن شاء عصمه عن أكله وثبَّته في انتهائه عنه، وإن شاء خَذَله عن ذلك =" ومن عاد "، يقول: ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم، وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من الله بالتحريم، من قوله: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا =" فأولئك أصْحاب النار هم فيها خالدون "، يعني: ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار، يعني نار جهنم، فيها خالدون. (16)* * *وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.ذكر من قال ذلك:6250 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السديّ: " فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله "، أما " الموعظة " فالقرآن، وأما " ما سلف "، فله ما أكل من الربا.--------------الهوامش :(1) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام .(2) في المطبوعة : "في ربا قومه" وفي المخطوطة : "في رباء قومه" ، ولا أظنهما صوابًا ، والصواب ما ذكر الزمخشري في الأساس : "وفلان في رباوة قومه : في أشرافهم . وهو : في الروابي من قريش" ، فأثبت ما في الأساس .(3) في المخطوطة والمطبوعة : "أي أناف صيره زائدًا" ، وهو كلام غير مستقيم ولا تام . والمخطوطة كما أسلفت مرارًا ، قد عجل عليها ناسخها حتى أسقط منها كثيرًا كما رأيت آنفًا . فزدت ما بين القوسين استظهارًا من معنى كلام أبي جعفر ، حتى يستقيم الكلام على وجه يرتضى .(4) تخبله : أفسد عقله وأعضاءه .(5) في المطبوعة : "وهو الذي يتخبطه فيصرعه" ، وهو لا شيء ، إنما استبهمت عليه حروف المخطوطة ، فبدل اللفظ إلى لفظ الآية نفسها ، وهو لا يعد تفسيرًا عندئذ!! وفي المخطوطة : "+يحفه" غير منقوطة إلا نقطة على"الفاء" ، وآثرت قراءتها"يخنقه" ، لما سيأتي في الأثر رقم : 6242 عن ابن عباس : "يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونًا يخنق" ، وما جاء في الأثر : 6247 . وهذا هو الصواب إن شاء الله ، لذلك ، ولأن من صفة الجنون وأعراضه أنه خناق يأخذ من يصيبه ، أعاذنا الله وإياك .(6) الأثر : 6240-"ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري" ، روى عن أبيه ، وبكر ابن عبد الله المزني ، والحسن البصري . وروى عنه القطان ، وعبد الصمد بن عبد الوارث ، ومسلم ابن إبراهيم ، وحجاج بن منهال . قال النسائي : "ليس به بأس" ، وقال في الضعفاء : "ليس بالقوي" ، وقال أحمد وابن معين : "ثقة" . وأبوه : "كلثوم بن جبر" ، قال أحمد : "ثقة" ، وقال النسائي : "ليس بالقوي" . مات سنة : 130 .(7) انظر ما سلف في ص : 8 ، تعليق : 2 .(8) في المطبوعة : "إلا كما يقوم الذي يخنق مع الناس يوم القيامة" ، وهو كلام فاسد . وكذلك هو في المخطوطة أيضًا مع ضرب الناسخ على كلام كتبه ، فدل على خلطه وسهوه . فحذفت من هذه الجملة"يوم القيامة" وجعلت"مع الناس" ، "من الناس" ، فصارت أقرب إلى المعنى والسياق ، وكأنه الصواب إن شاء الله .(9) ديوانه : 147 ، وروايته"من غب السرى" ، ورواية اللسان (ألق) ، "ولق" ، وهو من قصيدته البارعة في المحرق . ويصف ناقته فيقول قبل البيت ، وفيها معنى جيد في صحبة الناقة :وَخَرْقٍ مَخُوفٍ قَدْ قَطَعْتُ بِجَسْرَةٍإذَا خَبَّ آلٌ فَوْقَهُ يَتَرَقْرقُهِيَ الصَّاحِبُ الأدْنَى, وَبَيْنى وَبَيْنَهامَجُوفٌ عِلاَفِيُّ وقِطْعٌ ونُمْرُقُوَتُصْبِحُ عَنْ غبّ السُّرَى . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . ."الخرق" : المفازة الواسعة تتخرق فيها الرياح . "وناقة جسرة" : طويلة شديدة جريئة على السير . و"خب" : جرى . و"الآل" : سراب أول النهار . "يترقرق" : يذهب ويجيء . وقوله : "هي الصاحب الأدنى" ، أي هي صاحبه الذي يألفه ولا يكاد يفارقه ، وينصره في الملمات . و"المجوف" : الضخم الجوف . و"العلافى" : هو أعظم الرجال أخرة ووسطًا ، منسوبة إلى رجل من الأزد يقال له"علاف" . و"القطع" : طنفسة تكون تحت الرحل على كتفي البعير . و"النمرق والنمرقة" : وسادة تكون فوق الرحل ، يفترشها الراكب ، مؤخرها أعظم من مقدمها ، ولها أربعة سيور تشد بآخرة الرحل وواسطته . و"غب السرى" : أي بعد سير الليل الطويل . و"الأولق" : الجنون . ووصفها بالجنون عند ذلك ، من نشاطها واجتماع قوتها ، لم يضعفها طول السرى .(10) ولكن أهل الفتنة في زماننا ، يحاولون أن يهونوا على الناس أمر الربا ، وقد عظمه الله وقبحه ، وآذن العامل به بحرب من الله ورسوله ، في الدنيا والآخرة ، ومن أضل ممن يهون على الناس حرب ربه يوم يقوم الناس لرب العالمين . فاللهم اهدنا ولا تفتنا كما فتنت رجالا قبلنا ، وثبتنا على دينك الحق ، وأعذنا من شر أنفسنا في هذه الأيام التي بقيت لنا ، وهي الفانية وإن طالت ، وصدق رسول الله بأبي هو وأمي إذ قال : "يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا . قيل له : الناس كلهم؟! قال : من لم يأكله ناله من غباره" . (سنن البيهقي 5 : 275) ، فاللهم انفض عنا وعن قومنا غبار هذا العذاب الموبق .(11) الأثر : 6249- رواه الطبري بغير إسناد مختصرًا ، وقد استوفى تخريجه ابن كثير في تفسيره 1 : 550-551 وساق طرقه مطولا . والسيوطي في الدر المنثور 1 : 367 ، من حديث عبد الله بن مسعود ونسبه لأحمد ، وأبي يعلى ، وابن خزيمة ، وابن حبان . وانظر سنن البيهقي 5 : 275 .(12) انظر معنى : "البيع" فيما سلف 2 : 342 ، 343 .(13) في المطبوعة : "وليست الزيادتان" ، والصواب ما في المخطوطة .(14) انظر تفسير : "موعظة" فيما سلف 2 : 180 ، 181 .(15) انظر تفسير : "انتهى" فيما سلف 3 : 569 .(16) انظر تفسير : "أصحاب النار" و"خالدون" فيما سلف 2 : 286 ، 287/4 : 316 ، 317/5 : 429 .

نَظَم القرآنُ أهمّ أصول حفظِ مال الأمَّة في سِلك هاته الآيات . فبعد أن ابتدأ بأعظم تلك الأصول وهو تأسيس مال للأمة به قوام أمرها ، يؤخذ من أهل الأموال أخذا عدْلاً مما كان فضلاً عن الغنى فقرضه على الناس ، يؤخذ من أغنيائهم فيردّ على فقرائهم ، سواء في ذلك ما كان مفروضاً وهو الزكاة أو تطوّعاً وهو الصدقة ، فأطنب في الحثّ عليه ، والترغيب في ثوابه ، والتحذير من إمساكه ، ما كان فيه موعظة لمن اتّعظ ، عَطف الكلام إلى إبطال وسيلة كانت من أسباب ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم ، وهي المعاملة بالربا الذي لقّبه النبي صلى الله عليه وسلم ربَا الجاهليةِ ، وهو أن يعطي المدين مالاً لدائنه زائداً على قدر الدين لأجل الانتظار ، فإذا حلّ الأجل ولم يدفع زَاد في الدين ، يقولون : إمّا أن تَقْضيَ وإمّا أن تُربِي . وقد كان ذلك شائعاً في الجاهلية كذا قال الفقهاء . والظاهر أنّهم كانوا يأخذون الربا على المدين من وقت إسلافه وكلّما طلبَ النظرة أعطى ربا آخر ، وربّما تسامح بعضهم في ذلك . وكان العباس بنُ عبد المطلب مشتهراً بالمراباة في الجاهلية ، وجاء في خطبة حجّة الوداع " ألا وإنّ ربا الجاهلية موضوع وإنّ أول ربا أبْدَأ به ربا عمّي عباس بن عبد المطلب " .وجملة { الذين يأكلون الربوا } استئناف ، وجيء بالموصول للدلالة على علّة بناء الخبر وهو قوله : { لا يقومون } إلى آخره .والأكل في الحقيقة ابتلاعُ الطعام ، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص ، وأصله تمثيل ، ثم صار حقيقة عرفية فقالوا : أكل مال الناس { إن الذين يأكلون أموال اليتامى } [ النساء : 10 ] { ألا تأكلوا أموالكم } [ الصافات : 91 ، 92 ] ، ولا يختصّ بأخذ الباطل ففي القرآن { فإن طبْن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } [ النساء : 4 ] .والربا : اسم على وزن فِعَل بكسر الفاء وفتح العين لعلّهم خفّفوه من الرباء بالمد فصيّروه اسم مصدر ، لفعل رَبَا الشيء يربو رَبْواً بسكون الباء على القياس كما في «الصحاح» وبضم الراء والباء كعُلُو وربّاء بكسر الراء وبالمد مثل الرِّماء إذا زاد قال تعالى : { فلا يربو عند الله } [ الروم : 39 ] ، وقال : { اهتَزّتْ ورَبَتْ } [ الحج : 5 ] ، ولكونه من ذوات الواو ثني على رِبَواننِ . وكتب بالألف ، وكتبه بعض الكوفيين بالياء نظراً لجواز الإمالة فيه لمكان كسرة الراء ثم ثنّوه بالياء لأجل الكسرة أيضاً قال الزجاج : ما رأيت خطأ أشنع من هذا ، ألا يكفيَهم الخَطأ في الخطّ حتى أخطؤوا في التثنية كيف وهم يقرؤون { وما آتيتم من رِبا لتُربُوَ } [ الروم : 39 ] بفتحة على الواو { في أموال الناس } [ الروم : 39 ] يشير إلى قراءة عاصم والأعمش ، وهما كوفيان ، وبقراءتهما يقرأ أهل الكوفة .وكُتب الربا في المصحف حيثما وقع بواو بعدها ألف ، والشأن أن يكتب ألفاً ، فقال صاحب «الكشاف» : كتبت كذلك على لغة من يفخّم أي ينحو بالألف منحى الواو ، والتفخيم عكس الإمالة ، وهذا بعيد؛ إذ ليس التفخيم لغة قريش حتى يكتب بها المصحف .وقال المبرّد : كتب كذلك للفرق بين الربا والزنا ، وهو أبعد لأنّ سياق الكلام لا يترك اشتبَاهاً بينهما من جهة المعنى إلاَّ في قوله تعالى : { ولا تقربوا الزنا } [ الإسراء : 32 ] . وقال الفراء : إنّ العرب تعلّموا الخطّ من أهل الحيرة وهم نبط يقولون في الربا : رِبَوْ بواو ساكنة فكتبت كذلك ، وهذا أبعد من الجميع .والذي عندي أنّ الصحابة كتبوه بالواو ليشيروا إلى أصله كما كتبوا الألفات المنقلبة عن الياء في أواسط الكلمات بياءات عليها ألفات ، وكأنَّهم أرادوا في ابتداء الأمر أن يجعلوا الرسم مشيراً إلى أصول الكلمات ثم استعجلوا فلم يطّرد في رسمهم ، ولذلك كتبوا الزكاة بالواو ، وكتبوا الصلاة بالواو تنبيهاً على أنّ أصلها هو الركوع من تحريك الصَّلْوَيْن لا من الاصطلاء . وقال صاحب «الكشاف» : وكتبوا بعدها ألفاً تشبيهاً بواو الجمع . وعندي أنّ هذا لا معنى للتعليل به ، بل إنّما كتبوا الألف بعدها عوضاً عن أن يضعوا الألف فوق الواو ، كما وضعوا المنقلب عن ياء ألفاً فوق الياء لئلاّ يقرأها الناس الربُو .وأريد بالذين يأكلون الربا هنا من كان على دين الجاهلية؛ لأن هذا الوعيد والتشنيع لا يناسب إلاّ التوجّه إليهم لأنّ ذلك من جملة أحوال كفرهم وهم لا يرعوون عنها ما داموا على كفرهم . أما المسلمون فسبق لهم تشريع بتحريم الربا بقوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } في سورة آل عمران ( 130 ) ، وهم لا يقولون إنّما البيع مثل الربا ، فجعل الله هذا الوعيد من جملة أصناف العذاب خاصاً للكافرين لأجل ما تفرّع عن كفرهم من وضع الربا .وتقدم ذلك كلّه إنكارُ القرآن على أهل الجاهلية إعطاءهم الربا ، وهو من أول ما نعاه القرآن عليهم في مكة ، فقد جاء في سورة الروم ( 39 ) : وما آتيتم من ربا لتُربوا في أموال الناس فلا يَربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المُضعفون وهو خطاب للمشركين لأنّ السورة مكية ولأنّ بعد الآية قوْلُه : الله خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } .ومن عادات القرآن أن يذكر أحوال الكفّار إغلاظاً عليهم ، وتعريضاً بتخويف المسلمين ، ليكرّه إياهم لأحوال أهل الكفر . وقد قال ابن عباس : كلّ ما جاء في القرآن من ذمّ أحوال الكفار فمراد منه أيضاً تحذير المسلمين من مثله في الإسلام ، ولذلك قال الله تعالى : { ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [ البقرة : 275 ] وقال تعالى : { والله لا يحب كلّ كفّار أثيم } [ البقرة : 276 ] .ثم عطف إلى خطاب المسلمين فقال :{ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله } [ البقرة : 278 ] الآيات ، ولعلّ بعض المسلمين لم ينكفّ عن تعاطي الربا أو لعلّ بعضهم فتن بقول الكفار : إنّما البيع مثل الربا . فكانت آية سورة آل عمران مبدأ التحريم ، وكانت هذه الآية إغلاق باب المعذرة في أكل الربا وبياناً لكيفية تدارك ما سلف منه .والربا يقع على وجهين : أحدهما السلف بزيادة على ما يعطيه المسلف ، والثاني السلف بدون زيادة إلى أجل ، يعني فإذا لم يوف المستسلف أداء الدين عند الأجل كان عليه أن يزيد فيه زيادة يتّفقان عليها عند حلول كل أجل .وقوله : { لا يقومون } حقيقة القيام النهوض والاستقلال ، ويطلق مجازاً على تحسّن الحال ، وعلى القوة ، من ذلك قامت السوق ، وقامت الحرب . فإن كان القيام المنفي هنا القيام الحقيقي فالمعنى : لا يقومون يوم يقوم الناس لرب العالمين إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان ، أي إلاّ قياماً كقيام الذي يتخبّطه الشيطان ، وإن كان القيامَ المجازي فالمعنى إما على أنّ حرصهم ونشاطهم في معاملات الربا كقيام المجنون تشنيعاً لجشعهم ، قاله ابن عطية ، ويجوز على هذا أن يكون المعنى تشبيه ما يعجب الناس من استقامة حالهم ، ووفرة مالهم ، وقوة تجارتهم ، بما يظهر من حال الذي يتخبّطه الشيطان حتى تخاله قوياً سريع الحركة ، مع أنّه لا يملك لنفسه شيئاً . فالآية على المعنى الحقيقي وعيد لهم بابتداء تعذيبهم من وقت القيام للحساب إلى أن يدخلوا النار ، وهذا هو الظاهر وهو المناسب لقوله : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا } ، وهي على المعنى المجازي تشنيع ، أو توعّد بسوء الحال في الدنيا ولُقِّيَ المتَاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة .والتخبّط مطاوع خَبَطه إذا ضربه ضرباً شديداً فاضطرب له ، أي تحرّك تحرّكاً شديداً ، ولما كان من لازم هذا التحرّك عدم الاتّساق ، أطلق التخبّط على اضطراب الإنسان من غير اتّساق . ثم إنّهم يعمدون إلى فعل المطاوعة فيجعلونه متعدّياً إلى مفعول إذا أرادوا الاختصار ، فعِوضاً عن أنّ يقولوا خبطه فتخبّط يقولون تخبّطه كما قالوا : اضطَرّه إلى كذا . فتخبُّط الشيطان المرءَ جَعْله إياه متخبّطاً ، أي متحرّكاً على غير اتّساق .والذي يتخبّطه الشيطان هو المجنون الذيب أصابه الصرع . فيضطرب به اضطرابات ، ويسقط على الأرض إذا أراد القيام ، فلما شبهت الهيأة بالهيأة جيء في لفظ الهيأة المشبه بها بالألفاظ الموضوعة للدلالة عليها في كلامهم وإلاّ لَما فهمت الهيأة المشبّه بها ، وقد عُرِف ذلك عندهم . قال الأعشى يصف ناقته بالنشاط وسرعة السير ، بعد أن سارت ليلاً كاملاً: ... وتُصبح عن غِب السري وكأنّهاألمّ بها من طائف الجنِّ أوْلَقُ ... والمسّ في الأصل هو اللمس باليد كقولها : «المَسُّ مَس أرنب» ، وهو إذا أطلق معرّفاً بدون عهدِ مسَ معروف دل عندهم على مسّ الجن ، فيقولون : رجل ممسوس أي مجنون ، وإنّما احتيج إلى زيادة قوله من المسّ ليظهر المراد من تخبّط الشيطان فلا يظنّ أنّه تخبّط مجازي بمعنى الوسوسة .و ( مِن ) ابتدائية متعلقة بيتخبّطه لا محالة .وهذا عند المعتزلة جارٍ على ما عهده العربي مثل قوله : «طَلْعُها كأنّه رُؤوس الشياطين» ، وقول امرىء القيس: ... ومسنونةٌ زُرقٌ كأنياببِ أغوالإلاّ أنّ هذا أثره مشاهد وعلته مُتخيَّلة والآخران متخيَّلان لأنّهم ينكرون تأثير الشياطين بغير الوسوسة . وعندنا هو أيضاً مبني على تخييلهم والصرع إنّما يكون من علل تعتري الجسم مثل فيضان المِرّة عند الأطبّاء المتقدمين وتشنّج المجموع العصبي عند المتأخرين ، إلاّ أنّه يجوز عندنا أن تكون هاته العلل كلّها تنشأ في الأصل من توجّهات شيطانية ، فإنّ عوالم المجرّدات كالأرواح لم تنكشف أسرارها لنا حتى الآن ولعلّ لها ارتباطات شعاعية هي مصادر الكون والفساد .وقوله : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } الإشارة إلى { كما يقوم } لأنّ ما مصدرية ، والباء سببية .والمحكيّ عنهم بقوله : { قالوا إنما البيع مثل الربوا } ، إن كان قولاً لسانياً فالمراد به قول بعضهم أو قول دُعاتهم وهم المنافقون بالمدينة ، ظنّوا بسوء فهمهم أنّ تحريم الربا اضطراب في حيننِ تحليل البيع ، لقصد أن يفتنوا المسلمين في صحة أحكام شريعتهم؛ إذ يتعذّر أن يكون كل من أكل الربا قال هذا الكلام ، وإن كان قولاً حالياً بحيث يقوله كل من يأكل الربا لو سأله سائل عن وجه تعاطيه الربا ، فهو استعارة . ويجوز أن يكون { قالوا } مجازاً لأنّ اعتقادهم مساواة البيع للربا يستلزم أن يقوله قائل ، فأطلق القول وأريد لازمه ، وهو الاعتقاد به .وقولهم : { إنما البيع مثل الربوا } قصر إضافي للردّ على من زعم تخالف حكمهما فحرم الربا وأحل البيع ، ولمّا صُرح فيه بلفظ مِثل ساغ أن يقال البيع مثل الربا كما يسوغ أن يقال الربا مثل البيع ، ولا يقال : إنّ الظاهر أن يقولوا إنّما الربا مثل البيع لأنّه هو الذي قصد إلحاقه به ، كما في سؤال الكشاف وبنى عليه جعل الكلام من قبيل المبالغة؛ لأنّا نقول : ليسوا هم بصدد إلحاق الفروع بالأصول على طريقة القياس بل هم كانوا يتعاطون الربا والبيع ، فهما في الخطور بأذهانهم سواء ، غير أنّهم لما سمعوا بتحريم الربا وبقاء البيع على الإباحة سبق البيعُ حينئذ إلى أذهانهم فأحضروه ليثبتوا به إباحة الربا ، أو أنّهم جعلوا البيع هو الأصل تعريضاً بالإسلام في تحريمه الربا على الطريقة المسمّاة في الأصول بقياس العكس؛ لأنّ قياس العكس إنّما يُلتجأ إليه عند كفاح المناظرة؛ لا في وقت استنباط المجتهد في خاصّة نفسه .وأرادوا بالبيع هنا بيع التجارة لا بيع المحتاج سلعته برأس ماله .وقوله : { وأحل الله البيع وحرم الربوا } من كلام الله تعالى جواب لهم وللمسلمين ، فهو إعراض عن مجادلتهم إذ لا جدوى فيها لأنّهم قالوا ذلك كفراً ونفاقاً فليسوا ممّن تشملهم أحكام الإسلام .وهو إقناع للمسلمين بأنّ ما قاله الكفار هو شبهة محضة ، وأنّ الله العليم قد حرّم هذا وأباح ذاك ، وما ذلك إلاّ لحكمة وفروق معتبرة لو تدبّرها أهل التدبّر لأدركوا الفرق بين البيع والربا ، وليس في هذا الجواب كشف للشبهة فهو ممّا وكله الله تعالى لمعرفة أهل العلم من المؤمنين ، مع أنّ ذكر تحريم الربا عقب التحريض على الصدقات يومىء إلى كشف الشبهة .واعلم أنّ مبنى شبهة القائلين { إنما البيع مثل الربوا } أنّ التجارة فيها زيادة على ثمن المبيعات لقصد انتفاع التاجر في مقابلة جلب السلع وإرصادها للطالبين في البيع الناض ، ثم لأجل انتظار الثمن في البيع المؤجّل ، فكذلك إذا أسلف عشرة دراهم مثلاً على أنّه يرجعها له أحد عشر درهماً ، فهو قد أعطاه هذا الدرهم الزائد لأجل إعداد ماله لمن يستسلفه؛ لأنّ المقرض تصدّى لإقراضه وأعدّ ماله لأجله ، ثم لأجل انتظار ذلك بعد محل أجله .وكشف هاته الشبهة قد تصدّى له القفال فقال : «من باع ثوباً يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابَلاً بالعشرين ، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صارت العشرون عوضاً للثوب في المالية فلم يأخذ البائع من المشتري شيئاً بدون عوض ، أما إذا أقرضه عشرة بعشرين فقد أخذ المقرض العشرة الزائدة من غير عوض . ولا يقال إنّ الزائد عوض الإمهال لأنّ الإمهال ليس مالاً أو شيئاً يشار إليه حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة» . ومرجع هذه التفرقة إلى أنّها مجرّد اصطلاح اعتباري فهي تفرقة قاصرة .وأشار الفخر في أثناء تقرير حكمة تحريم الربا إلى تفرقة أخرى زادها البيضاوي تحريراً ، حاصلها أنّ الذي يبيع الشيء المساوي عشرة بأحد عشر يكون قد مكّن المشتري من الانتفاع بالمبيع إما بذاته وإما بالتجارة به ، فذلك الزائد لأجل تلك المنفعَة وهي مسيس الحاجة أو توقع الرّواج والربح ، وأما الذي دفع درهماً لأجل السلف فإنّه لم يحصّل منفعة أكثر من مقدار المال الذي أخذه ، ولا يقال : إنّه يستطيع أن يتَّجر به فيربح لأنّ هذه منفعة موهومة غير محقّقة الحصول ، مع أنّ أخذ الزائد أمر محقّق على كل تقدير .وهذه التفرقة أقرب من تفرقة القفال ، لكنّها يردّ عليها أنّ انتفاع المقترض بالمال فيه سدّ حاجاته فهو كانتفاع المشتري بالسلعة ، وأما تصدِّيهِ للمتاجرة بمال القرض أو بالسلعة المشتراة فأمر نادر فيها .فالوجه عندي في التفرقة بين البيع والربا أنّ مرجعها إلى التعليل بالمظنّة مراعاة للفرق بين حالي المقترض والمشتري ، فقد كان الاقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله لأنّهم كانوا يعدّون التداين همّاً وكرباً ، وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم وحال التاجر حال التفضّل . وكذلك اختلاف حالي المُسْلِف والبائع ، فحال باذل ماله للمحتاجين لينتفع بما يدفعونه من الربا فيزيدهم ضيقاً؛ لأنّ المُتسلّف مظنّة الحاجة ، ألا تراه ليس بيده مال ، وحال بائع السلعة تجارةً حالُ من تجشّم مشقّة لجلب ما يحتاجه المتفضّلون وإعداده لهم عند دعاء حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيدهم من المال .فالتجارة معاملة بين غنيّين : ألا ترى أنّ كليهما باذل لما لا يحتاج إليه وآخذٌ ما يحتاج إليه ، فالمتسلّف مظنّة الفقر ، والمشتري مظنّة الغِنى ، فلذلك حرم الربا لأنّه استغلال لحاجة الفقير وأحلّ البيع لأنّه إعانة لطالب الحاجات . فتبيّن أنّ الإقراض من نوع المواساةِ والمعروف ، وأنّها مؤكّدة التعيُّن على المواسي وجوباً أو ندْباً ، وأيَّا ما كان فلا يحل للمقرض أن يأخذ أجراً على عمل المعروف . فأما الذي يستقرض مالاً ليتجَّر به أو ليوسع تجارته فليس مظنّة الحاجة ، فلم يكن من أهل استحقاق مواساة المسلمين ، فلذلك لا يجب على الغني إقراضه بحال فإذا قرضه فقد تطوّع بمعروف . وكفى بهذا تفرقة بين الحالين .وقد ذكر الفخر لحكمة تحريم الربا أسباباً أربعة :أولها أنّ فيه أخذ مال الغير بغير عوض ، وأورد عليه ما تقدم في الفرق بينه وبين البيع ، وهو فرق غير وجيه .الثاني أنّ في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاقّ الاشتغال في الاكتساب؛ لأنّه إذا تعوّد صاحب المال أخذ الربا خفّ عنه اكتساب المعيشة ، فإذا فشا في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق لأنّ مصلحة العالم لا تنتظم إلاّ بالتجارة والصناعة والعمارة .الثالث أنّه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض .الرابع أنّ الغالب في المقرِض أن يكون غنياً ، وفي المستقرض أن يكون فقيراً ، فلو أبيح الربا لتمكّن الغني من أخذ مال الضعيف .وقد أشرنا فيما مرّ في الفرق بين الربا والبيع إلى علة تحريمه وسنبسط ذلك عند قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } من سورة آل عمران ( 130 ) .هذا وقد تعرّضت الآية إلى حكم هو تحليل البيع وتحريم الربا؛ لأنّها من قول الله تعالى لإعلان هذا التشريع بعد تقديم الموعظة بين يديه .و ( أل ) في كل من البيع والربا لتعريف الجنس ، فثبت بها حكم أصلين عظيمين في معاملات الناس محتاج إليهما فيها : أحدهما يسمّى بيعاً والآخر يسمّى ربا . أولهما مباح معتبر كونه حاجياً للأمة ، وثانيهما محرّم ألغيت حاجيته لما عارضها من المفسدة . وظاهر تعريف الجنس أنّ الله أحل البيع بجنسه فيشمل التحليلُ سائر أفراده ، وأنّه حرم الربا بجنسه كذلك . ولما كان معنى أحل الله البيع } أذِنَ فيه كان في قوة قضية موجَبة ، فلم يقتض استغراق الجنس بالصيغة ، ولم تقم قرينة على قصد الاستغراق قيامَها في نحو الحمدُ لله ، فبقي محتملاً شمول الحِلّ لسائر أفراد البيع . ولما كان البيع قد تعتريه أسباب توجب فساده وحرمته تتبّعت الشريعة أسباب تحريمه ، فتعطّل احتمال الاستغراق في شأنه في هذه الآية .أما معنى قوله : { وحرم الربوا } فهو في حكم المنفي لأنّ حرم في معنى منع ، فكان مقتضياً استغراق جنس الربا بالصيغة؛ إذ لا يطرأ عليه ما يصيّره حلالاً .ثم اختلف علماء الإسلام في أنّ لفظ الربا في الآية باق على معناه المعروف في اللغة ، أو هو منقول إلى معنى جديد في اصطلاح الشرع .فذَهَب ابن عباس وابن عمر ومعاوية إلى أنّه باق على معناه المعروف وهو ربا الجاهلية ، أعني الزيادة لأجل التأخير ، وتمسك ابن عباس بحديث أسامة " إنّما الربا في النسيئة " ولم يأخذ بما ورد في إثبات ربا الفضل بدون نسيئة ، قال الفخر : «ولعلّه لا يرى تخصيص القرآن بخبر الآحاد» ، يعني أنّه حمل { أحل الله البيع } على عمومه .وأما جمهور العلماء فذهبوا إلى أنّ الربا منقول في عرف الشرع إلى معنى جديد كما دلّت عليه أحاديث كثيرة ، وإلى هذا نحا عمر بن الخطاب وعائشة وأبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت بل رأى عمر أنّ لفظ الربا نقل إلى معنى جديد ولم يبيَّن جميعُ المراد منه فكأنّه عنده ممّا يشبه المجمل ، فقد حَكى عنه ابن رشد في المقدمات أنّه قال : «كان من أخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا فتوفي رسول الله ولم يفسرها ، وإنّكم تزعمون أنّا نعلم أبواب الربا ، ولأنْ أكون أعلَمُها أحبُ إليّ من أن يكون لي مثل مصر وكورها» قال ابن رشد : ولم يرُد عمر بذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفسر آية الربا ، وإنّما أراد والله أعلم أنّه لم يعمّ وجوه الربا بالنص عليها . وقال ابن العربي : بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الربا في ستة وخمسين حديثاً .والوجهُ عندي أن ليس مراد عمر أنّ لفظ الربا مجمل لأنّه قابله بالبيان وبالتفسير ، بل أراد أنّ تحقيق حكمه في صور البيوع الكثيرة خفي لم يَعمَّه النبي صلى الله عليه وسلم بالتنصيص؛ لأنّ المتقدمين لا يتوخّون في عباراتهم ما يساوي المعاني الاصطلاحية ، فهؤلاء الحنفية سمّوا المخصّصات بيانَ تغيير . وذكر ابن العربي في العواصم أنّ أهل الحديث يتوسّعون في معنى البيان . وفي تفسير الفخر عن الشافعي أنّ قوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربوا } من المجملات التي لا يجوز التمسك بها ، أي بعمومَيْها : عموم البيععِ وعموممِ الربا؛ لأنّه إن كان المراد جنس البيع وجنس الزيادة لزم بيان أيّ بيع وأيّ زيادة ، وإن كان المراد كل بيع وكل زيادة فما من بيع إلاّ وفيه زيادة ، فأول الآية أباح جميع البيوع وآخرها حرم الجميع ، فوجب الرجوع إلى بيان الرسول عليه السلام . والذي حمل الجمهورَ على اعتبار لفظ الربا مستعملاً في معنى جديد أحاديثُ وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل دلت على تفسير الربا بما هو أعم من ربا الجاهلية المعروف عندهم قبل الإسلام ، وأصولها ستة أحاديث :الحديث الأول حديث أبي سعيد الخِدْري : «الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة والبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتَّمر بالتمر والمِلح بالمِلح مِثْلاً بِمثْللٍ يداً بيد ، فمن زاد وازداد فقد أربى ، الآخِذ والمعطي في ذلك سواء» .الثاني حديث عبادة بن الصامت : «الذهبُ بالذهب تِبْرُها وعَيْنُها والفضّة بالفضّة تِبْرها وعَينها والبُرّ بالبُرّ مُدّاً بمدّ وَالشعير بالشعير مُداً بمد والتمر بالتمر مُداً بمد والمِلْح بالملح مداً بمد ، فمن زاد واستزاد فقد أربى ، ولا بأس ببيع الذهب بالفضّة والفضّة بالذهب أكثرهما يداً بيد ، وأما النسيئة فلا» رواه أبو داود ، فسمّاه في هذين الحديثين ربا .الثالث حديث أبي سعيد : أنّ بلالاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر بَرْنِيَ ، فقال له : من أين هذا فقال بلال : تَمر كان عندنا رديء فبعتُ منه صاعين بصاع لطَعم النبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوّهْ عين الربا ، لا تفعل ، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ثم اشتر من هذا» فسمّى التفاضل ربا .الرابع حديث «الموطأ» و«البخاري» عن ابن سعيد وأبي هريرة أنّ سواد بن غَزِيَّةِ جاء في خيبر بتمر جَنِيب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أكُلُّ تمرِ خيبرَ هكذا " فقال : «يا رسول الله إنّا لنأخُذُ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تَفْعَلْ ، بع الجمعْ بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جَنِيبا " .الخامس حديث عائشة في «صحيح البخاري» : قالت " لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا قرأها النبي ثم حَرّم التجارة في الخمر " فظاهره أنّ تحريم التجارة في الخمر كان عملاً بآية النهي عن الربا وليس في تجارة الخمر معنى من معنى الربا المعروف عندهم وإنّما هو بيع فاسد .السادس حديث الدارقطني ورواه ابن وهب عن مالك أنّ العالية بنت أيْنَع وفدت إلى المدينة من الكوفة ، فلقيت عائشة فأخبرتْها أنّها باعت من زيد بن أرقم في الكوفة جارية بثمانمائة درهم إلى العطاء ، ثم إنّ زيداً باع الجارية فاشترتها العالية منه بستمائة نقداً ، فقالت لها عائشة : «بئسما شَرَيْتتِ وما اشتريتتِ ، أبْلِغِي زيداً أنّه قد أبطل جِهاده مع رسول الله إلاّ أن يتوب» ، قالت : فقلت لها : «أرأيتتِ إن لم آخذ إلاّ رأس مالي» قالت : «فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف» فجعلته عائشة من الربا ولذلك تلت الآية .فلأجل هذه الأحاديث الستة أثبت الفقهاء ثلاثة أنواع للربا في اصطلاح الشرع :الأول ربا الجاهلية وهو زيادة على الدين لأجل التأخير .الثاني ربا الفضل وهو زيادة في أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وعُبادة بن الصامت .الثالث ربا النسيئة وهو بيع شيء من تلك الأصناف بمثله مؤخّراً . وزاد المالكية نوعاً رابعاً : وهو ما يؤول إلى واحد من الأصناف بتهمة التحيّل على الربا ، وترجمُه في المدوّنة ببيوع الآجال ، ودليل مالك فيه حديث العالية . ومن العلماء من زعم أنّ لفظ الربا يشمل كل بيع فاسد أخذا من حديث في تحريم تجارة الخمر ، وإليه مال ابن العربي .وعندي أنّ أظهر المذاهب في هذا مذهب ابن عباس ، وأنّ أحاديث ربا الفضل تحمل على حديث أسامة " إنّما الربا في النسيئة " ليجمع بين الحديثين ، وتسمية التفاضل بالربا في حديثي أبي سعيد وعُبادة بن الصامت دليل على ما قلناه ، وأنّ ما راعاه مالك من إبطال ما يفضي إلى تعامل الربا إن صدر من مواقع التهمة رعي حسن ، وما عداه إغراق في الاحتياط ، وقد يؤخذ من بعض أقوال مالك في «الموطأ» وغيره أنّ انتفاء التهمة لا يبطل العقد .ولا متمسّك في نحو حديث عائشة في زيد بن أرقم لأنّ المسلمين في أمرهم الأول كانوا قريبي عهد بربا الجاهلية ، فكان حالهم مقتضياً لسدّ الذرائع .وفي «تفسير القرطبي» : كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أنّ النهي عن بيع الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة متفاضلاً إنّما ورد في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر ولا في المصوغ ، فروى مسلم عن عبادة بن الصامت قال : غزونا وعَلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة ، فكان فيما غنمنا آنيَة من ذهب ، فأمر معاوية رجالاً ببيعها في أعطياتتِ الناس ، فتنازع الناس في ذلك ، فبلغ ذلك عُبادة بن الصامت فقام فقال : «سمعتُ رسول الله ينهَى عن بيع الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة إلاّ سواء بسواء عيْناً بعين ، من زاد وازداد فقد أربَى» فبلغ ذلك معاويةَ فقام خطيباً فقال : «ألا ما بال أقوام يتحدّثون عن رسول الله أحاديث قد كنّا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه» فقال عبادة بن الصامت : «لنحدّثن بما سمعنا من رسول الله وإن كَرِه معاوية» .والظاهر أنّ الآية لم يُقصد منها إلاّ ربا الجاهلية ، وأنّ ما عداه من المعاملات الباطلة التي فيها أكل مال بالباطل مُندرجة في أدلة أخرى .وقوله : { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى } الآية تفريع على الوعيد في قوله : { الذين يأكلون الربوا } .والمجيء بمعنى العلم والبلاغ ، أي من علم هذا الوعيد ، وهذا عذر لمن استرسل على معاملة الربا قبل بلوغ التحريم إليه ، فالمراد بالموعظة هذه الآية وآية آل عمران .والانتهاء مطاوع نهاه إذا صدّه عمّا لا يليق ، وكأنّه مشتق من النُّهَى بضم النون وهو العقل . ومعنى «فله ما سلف» ، أي ما سلف قبْضُه من مال الربا لا ما سلف عقده ولم يُقبض ، بقرينة قوله الآتي{ وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم } [ البقرة : 279 ] .وقوله : { وأمره إلى الله } فرَضَوا فيه احتمالات يرجع بعضها إلى رجوع الضمير إلى «من جاءه» وبعضها إلى رجوعه إلى ما سلف ، والأظهر أنّه راجع إلى من جاءه لأنّه المقصود ، وأنّ معنى { وأمره إلى الله } أنّ أمر جزائه على الانتهاء موكول إلى الله تعالى ، وهذا من الإيهام المقصود منه التفخيم . فالمقصود الوعد بقرينة مقابلته بالوعيد في قوله : { ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .وجُعل العائد خالداً في النار إما لأنّ المراد العود إلى قوله : { إنما البيع مثل الربوا } ، أي عاد إلى استحلال الربا وذلك نِفاق؛ فإنّ كثيراً منهم قد شقّ عليهم ترك التعامل بالربا ، فعلم الله منهم ذلك وجعَل عدم إقلاعهم عنه أمارة على كذب إيمانهم ، فالخلود على حقيقته . وإما لأنّ المراد العود إلى المعاملة بالربا ، وهو الظاهر من مقابلته بقوله : { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى } والخلود طول المكث كقول لبيد: ... فوقفْتُ أسألُها وكيفَ سؤالُناصُمّاً خَوَالِدَ ما يَبِين كلامُها ... ومنه : خلَّد الله مُلك فلان .وتمسك بظاهر هاته الآية ونحوها الخوارج القائلون بتكفير مرتكب الكبيرة كما تمسكوا بنظائرها . وغفلوا عن تغليظ وعيد الله تعالى في وقت نزول القرآن؛ إذ الناس يومئذ قريبٌ عهدهم بكفر . ولا بد من الجمع بين أدلّة الكتاب والسنة .
الآية 275 - سورة البقرة: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ۚ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل...)