سورة الحج: الآية 2 - يوم ترونها تذهل كل مرضعة...

تفسير الآية 2, سورة الحج

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ

الترجمة الإنجليزية

Yawma tarawnaha tathhalu kullu murdiAAatin AAamma ardaAAat watadaAAu kullu thati hamlin hamlaha watara alnnasa sukara wama hum bisukara walakinna AAathaba Allahi shadeedun

تفسير الآية 2

يوم ترون قيام الساعة تنسى الوالدةُ رضيعَها الذي ألقمته ثديها؛ لِمَا نزل بها من الكرب، وتُسْقط الحامل حملها من الرعب، وتغيب عقول للناس، فهم كالسكارى من شدة الهول والفزع، وليسوا بسكارى من الخمر، ولكن شدة العذاب أفقدتهم عقولهم وإدراكهم.

«يوم ترَوْنها تذُهَلُ» بسببها «كل مرضعة» بالفعل «عما أرضعت» أي تنساه «وتضع كل ذات حمل» أي حبلى «حملها وترى الناس سكارى» من شدة الخوف «وما هم بسكارى» من الشراب «ولكن عذاب الله شديد» فهم يخافونه.

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها، خصوصا في هذه الحال، التي لا يعيش إلا بها. وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا من شدة الفزع والهول، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى أي: تحسبهم -أيها الرائي لهم- سكارى من الخمر، وليسوا سكارى. وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ فلذلك أذهب عقولهم، وفرغ قلوبهم، وملأها من الفزع، وبلغت القلوب الحناجر، وشخصت الأبصار، وفي ذلك اليوم، لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا.ويومئذ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وهناك يعض الظالم على يديه، يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا وتسود حينئذ وجوه وتبيض وجوه، وتنصب الموازين، التي يوزن بها مثاقيل الذر، من الخير والشر، وتنشر صحائف الأعمال وما فيها من جميع الأعمال والأقوال والنيات، من صغير وكبير، وينصب الصراط على متن جهنم، وتزلف الجنة للمتقين، وبرزت الجحيم للغاوين. إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا* وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ويقال لهم: لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا وإذا نادوا ربهم ليخرجهم منها، قال: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ قد غضب عليهم الرب الرحيم، وحضرهم العذاب الأليم، وأيسوا من كل خير، ووجدوا أعمالهم كلها، لم يفقدوا منها نقيرا ولا قطميرا.هذا، والمتقون في روضات الجنات يحبرون، وفي أنواع اللذات يتفكهون، وفيما اشتهت أنفسهم خالدون، فحقيق بالعاقل الذي يعرف أن كل هذا أمامه، أن يعد له عدته، وأن لا يلهيه الأمل، فيترك العمل، وأن تكون تقوى الله شعاره، وخوفه دثاره، ومحبة الله، وذكره، روح أعماله.

ثم قال تعالى : ( يوم ترونها ) : هذا من باب ضمير الشأن; ولهذا قال مفسرا له : ( تذهل كل مرضعة عما أرضعت ) أي : تشتغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها ، والتي هي أشفق الناس عليه ، تدهش عنه في حال إرضاعها له; ولهذا قال : ( كل مرضعة ) ، ولم يقل : " مرضع " وقال : ( عما أرضعت ) أي : عن رضيعها قبل فطامه .وقوله : ( وتضع كل ذات حمل حملها ) أي : قبل تمامه لشدة الهول ، ( وترى الناس سكارى ) وقرئ : " سكرى " أي : من شدة الأمر الذي [ قد ] صاروا فيه قد دهشت عقولهم ، وغابت أذهانهم ، فمن رآهم حسب أنهم سكارى ، ( وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ) .

ثم فصل- سبحانه- هذا الشيء العظيم تفصيلا يزيد في وجل القلوب فقال: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ....والضمير في «ترونها» ، يعود إلى الزلزلة لأنها هي المتحدث عنها والظرف «يوم» منصوب بالفعل تذهل، والرؤية بصرية لأنهم يرون ذلك بأعينهم.والذهول: الذهاب عن الأمر والانشغال عنه مع دهشة وحيرة وخوف، ومنه قول عبد الله ابن رواحة- رضى الله عنه-:ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليلهأى: أن هذه الزلزلة من مظاهر شدتها ورهبتها، أنكم ترون الأم بسببها تنسى وتترك وليدها الذي ألقمته ثديها. وكأنها لا تراه ولا تحس به من شدة الفزع.قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: لم قيل مُرْضِعَةٍدون مرضع؟ قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبى، والمرضع: التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقيل: مرضعة، ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه، وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة عَمَّا أَرْضَعَتْعن إرضاعها: أو عن الذي أرضعته وهو الطفل ... » .وقوله- سبحانه-: وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَهابيان لحالة ثانية تدل على شدة الزلزلة وعلى عنف آثارها.أى: وترونها- أيضا- تجعل كل حامل تضع حملها قبل تمامه من شدة الفزع.ثم بين- سبحانه- حالة ثالثة للآثار التي تدل على شدة هذه الزلزلة فقال: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.أى: وترى- أيها المخاطب- الناس في هذا الوقت العصيب، هيئتهم كهيئة السكارى من قوة الرعب والفزع. وما هم على الحقيقة بسكارى، لأنهم لم يشربوا ما يسكرهم ولكن عذاب الله شديد. أى: ولكن شدة عذابه- سبحانه- هي التي جعلتهم بهذه الحالة التي تشبه حالة السكارى في الذهول والاضطراب.وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى فقال: «وتراهم سكارى على التشبيه، وما هم بسكارى على التحقيق، ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله، هو الذي أذهب عقولهم، وطير تمييزهم، وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه ... » .وقد علق صاحب الانتصاف على عبارة صاحب الكشاف هذه فقال: قال أحمد: والعلماء يقولون: إن من أدلة المجاز صدق نقيضه، كقولك: زيد حمار، إذا وصفته بالبلادة، ثم يصدق أن تقول: وما هو بحمار، فتنفى عنه الحقيقة، فكذلك الآية، بعد أن أثبت السكر المجازى نفى الحقيقة أبلغ نفى مؤكد بالباء، والسر في تأكيده: التنبيه على أن هذا السكر الذي هو بهم في تلك الحالة ليس من المعهود في شيء، وإنما هو أمر لم يعهدوا مثله من قبل. والاستدراك بقوله وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌراجع إلى قوله: وَما هُمْ بِسُكارىوكأنه تعليل لإثبات السكر المجازى، فكأنه قيل: إذا لم يكونوا سكارى من الخمر فما هذا السكر الغريب وما سببه؟ فقال: شدة عذاب الله- تعالى-» .هذا، وقد اختلف العلماء في وقت هذه الزلزلة المذكورة هنا، فمنهم من يرى أنها تكون في آخر عمر الدنيا، وأول أحوال الساعة ومنهم من يرى أنها تكون يوم القيامة، بعد خروج الناس من قبورهم للحساب.وقد وفي هذه المسألة حقها الإمام ابن كثير فقال ما ملخصه: «قال قائلون: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا. وأول أحوال الساعة.وقال آخرون: بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال، كائن يوم القيامة في العرصات، بعد القيام من القبور.ثم ساق- رحمه الله- سبعة أحاديث استدل بها أصحاب الرأى الثاني.ومن هذه الأحاديث ما رواه الشيخان عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يقول الله- تعالى- يوم القيامة: يا آدم. فيقول: لبيك ربنا وسعديك. فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار، قال: يا رب، وما بعث النار؟قال: من كل ألف- أراه قال- تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد» . فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد، ثم أنتم في الناس كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، وإنى لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة- فكبرنا- ثم قال: ثلث أهل الجنة- فكبرنا- ثم قال: شطر أهل الجنة فكبرنا» .وعلى الرأى الأول تكون الزلزلة بمعناها الحقيقي، بأن تتزلزل الأرض وتضطرب، ويعقبها طلوع الشمس من مغربها، ثم تقوم الساعة.وعلى الرأى الثاني تكون الزلزلة المقصود بها شدة الخوف والفزع، كما في قوله- تعالى- في شأن المؤمنين بعد أن أحاطت بهم جيوش الأحزاب: هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً «2» فالمقصود: أصيبوا بالفزع والخوف، وليس المقصود أن الأرض تحركت واضطربت من تحتهم.وبعد هذا الافتتاح الذي يغرس الخوف في النفوس، ويحملها على تقوى الله وخشيته، ساقت السورة حال نوع من الناس يجادل بالباطل، ويتبع خطوات الشيطان، فقال- تعالى-:

( يوم ترونها ) يعني الساعة وقيل الزلزلة ، ( تذهل ) قال ابن عباس : تشغل ، وقيل تنسى ، يقال ذهلت عن كذا أي تركته واشتغلت بغيره . ( كل مرضعة عما أرضعت ) أي كل امرأة معها ولد ترضعه يقال امرأة مرضع بلا هاء إذا أريد به الصفة مثل حائض وحامل فإذا أرادوا الفعل أدخلوا الهاء ( وتضع كل ذات حمل حملها ) أي تسقط ولدها من هول ذلك اليومقال الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام وهذا يدل على أن هذه الزلزلة تكون في الدنيا لأن بعد البعث لا يكون حملومن قال تكون في القيامة قال هذا على وجه تعظيم الأمر لا على حقيقته كقولهم أصابنا أمر يشيب فيه الوليد يريد شدته( وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ) قرأ حمزة والكسائي : " سكرى وما هم بسكرى " بلا ألف وهما لغتان في جمع السكران مثل كسلى وكسالىقال الحسن : معناه وترى الناس سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب .وقيل معناه وترى الناس كأنهم سكارى ( ولكن عذاب الله شديد )أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بكير الكوفي العبسي ، أخبرنا وكيع عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول الله عز وجل يوم القيامة يا آدم قم فابعث بعث النار قال فيقول لبيك وسعديك والخير كله في يديك يا رب وما بعث النار؟ قال فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فحينئذ يشيب المولود وتضع كل ذات حمل حملها وترى [ الناس ] سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد قال : فيقولون وأينا ذاك الواحد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تسعمائة وتسعة وتسعون من يأجوج ومأجوج ومنكم واحد " فقال الناس الله أكبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة والله إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة والله إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة قال فكبر الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود أو الشعرة السوداء في الثور الأبيض " .وروي عن عمران بن حصين ، وأبي سعيد الخدري ، وغيرهما أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلا فنادى [ منادي ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا قدرا والناس ما بين باك أو جالس حزين متفكر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتدرون أي يوم ذلك قالوا الله ورسوله أعلم ، قال ذلك يوم يقول الله عز وجل لآدم قم فابعث بعث النار من ولدك فيقول آدم من كل كم فيقول الله عز وجل من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحدا في الجنة ، قال فكبر ذلك على المسلمين وبكوا وقالوا فمن ينجو إذا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبشروا وسددوا وقاربوا فإن معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ، ثم قال إني لأرجو [ أن تكونوا ] ثلث أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله ثم قال إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة وإن أهل الجنة مائة وعشرون صفا ثمانون منها أمتي وما المسلمون في الكفار إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة بل كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ثم قال ويدخل من أمتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب فقال عمر سبعون ألفا؟ قال نعم ومع كل واحد سبعون ألفا فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت منهم فقام رجل من الأنصار فقال ادع الله أن يجعلني منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبقك بها عكاشة " .

قوله تعالى : يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديدقوله تعالى : يوم ترونها الهاء في ( ترونها ) عائدة عند الجمهور على الزلزلة ؛ ويقوي هذا تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها والرضاع والحمل إنما هو في الدنيا . وقالت فرقة : الزلزلة في يوم القيامة ؛ واحتجوا بحديث عمران بن حصين الذي ذكرناه ، وفيه : أتدرون أي يوم ذلك . . . الحديث . وهو الذي يقتضيه سياق مسلم في حديث أبي سعيد الخدري .قوله : ( تذهل ) أي تشتغل ؛ قاله قطرب . وأنشد :ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليلهوقيل : تنسى . وقيل : تلهو ؛ وقيل : تسلو ؛ والمعنى متقارب . عما أرضعت قال المبرد : ( ما ) بمعنى المصدر ؛ أي تذهل عن الإرضاع . قال : وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا ؛ إذ ليس بعد البعث حمل وإرضاع . إلا أن يقال : ما ماتت حاملا تبعث حاملا فتضع حملها للهول . ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك . ويقال : هذا كما قال الله - عز وجل - : يوما يجعل الولدان شيبا . وقيل : تكون مع النفخة الأولى . وقيل : تكون مع قيام الساعة ، حتى يتحرك الناس من قبورهم في النفخة الثانية . ويحتمل أن تكون الزلزلة في الآية عبارة عن أهوال يوم القيامة ؛ كما قال تعالى : مستهم البأساء والضراء وزلزلوا . وكما قال : عليه السلام - : اللهم اهزمهم وزلزلهم . وفائدة ذكر هول ذلك اليوم التحريض على التأهب له ، والاستعداد بالعمل الصالح . وتسمية الزلزلة ب شيء إما لأنها حاصلة متيقن وقوعها ، فيستسهل لذلك أن تسمى شيئا وهي معدومة ؛ إذ اليقين يشبه الموجودات . وإما على المآل ؛ أي هي إذا وقعت شيء عظيم . وكأنه لم يطلق الاسم الآن ، بل المعنى أنها إذا كانت فهي إذا شيء عظيم ، ولذلك تذهل المراضع وتسكر الناس ؛ كما قال : وترى الناس سكارى أي من هولها ومما يدركهم من الخوف والفزع . ( وما هم بسكارى ) من الخمر . وقال أهل المعاني : وترى الناس كأنهم سكارى . يدل عليه قراءة أبي زرعة هرم بن عمرو بن جرير بن عبد الله ( وترى الناس ) بضم التاء ؛ أي تظن ويخيل إليك . وقرأ حمزة ، والكسائي ، ( سكرى ) بغير ألف . الباقون ( سكارى ) وهما لغتان لجمع سكران ؛ مثل كسلى وكسالى . والزلزلة : التحريك العنيف . والذهول . الغفلة عن الشيء بطروء ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره . قال ابن زيد : المعنى تترك ولدها للكرب الذي نزل بها .

كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ) قال: تترك ولدها للكرب الذي نزل بها.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، عن الحسن ( تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ) قال: ذهلت عن أولادها بغير فطام ( وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ) قال: ألقت الحوامل ما في بطونها لغير تمام، ( وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ) يقول: وتسقط كل حامل من شدة كرب ذلك حملها.وقوله ( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ) قرأت قرّاء الأمصار ( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى) على وجه الخطاب للواحد، كأنه قال: وترى يا محمد الناس حينئذ سُكارى وما هم بسُكارى. وقد رُوي عن أبي زُرْعة بن عمرو بن جرير (وَتُرَى النَّاسَ) بضم التاء ونصب الناس، من قول القائل: أرِيْت تُرى، التي تطلب الاسم والفعل (7) ، كظنّ وأخواتها.والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار، لإجماع الحجة من القرّاء.واختلف القرّاء في قراءة قوله ( سُكارَى ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة ( سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) . وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة ( وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى ومَا هُمْ بِسَكْرَى) .والصواب من القول في ذلك عندنا، أنهما قراءتان مستفيضتان في قَرأة الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب، ومعنى الكلام: وترى الناس يا محمد من عظيم ما نزل بهم من الكرب وشدّته سُكارى من الفزع وما هم بسكارى من شرب الخمر.وبنحو الذي قلنا في ذلك : قال أهل التأويل.ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، عن الحسن ( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ) من الخوف ( وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) من الشراب.قال ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله ( وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) قال: ما هُم بسكارى من الشراب، ( وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) .حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ) قال: ما شربوا خمرا يقول تعالى ذكره: ( وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) يقول تعالى ذكره : ولكنهم صاروا سكارى من خوف عذاب الله عند معاينتهم ما عاينوا من كرب ذلك وعظيم هوله، مع علمهم بشدة عذاب الله.----------------------------------الهوامش :(7) لعل الصواب : الاسم والخبر . لأن ظن ورأى وأعلم تدخل على الجملة الاسمية من المبتدأ والخبر .

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)جملة { يوم ترونها تذهل } الخ . . . بيان لجملة { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } [ الحج : 1 ] لأن ما ذكر في هذه الجملة يبيّن معنى كونها شيئاً عظيماً وهو أنه عظيم في الشرّ والرعب .ويتعلق { يوم ترونها } بفعل { تذهل . } وتقديمُه على عامله للاهتمام بالتوقيت بذلك اليوم وتوقع رؤيته لكل مخاطب من الناس . وأصل نظم الجملة : تذهل كل مرضعة عما أرضعت يوم تَرون زَلزلة الساعة . فالخطاب لكلّ من تتأتّى منه رُؤية تلك الزَلزلة بالإمكان .وضمير النصب في { ترونها } يجوز أن يعود على { زلزلة } [ الحج : 1 ] وأطلقت الرؤية على إدراكها الواضح الذي هو كرؤية المرئيات لأنّ الزلزلة تُسمع ولا ترى . ويجوز أن يعود إلى الساعة .ورؤيتُها : رؤيةُ ما يحدث فيها من المرئيات من حضور الناس للحشر وما يتبعه ومشاهدة أهوال العذاب . وقرينة ذلك قوله { تذهل كل مرضعة } الخ .والذهول : نسيان ما من شأنه أن لا يُنسى لوجود مقتضى تذكره؛ إما لأنه حاضر أو لأن علمه جديد وإنما ينسى لشاغل عظيم عنه ، فذكر لفظ الذهول هنا دون النسيان لأنه أدل على شدّة التشاغل . قاله شيخنا الجدّ الوزير قال : وشفقة الأم على الابن أشد من شفقة الأب ، فشفقتها على الرضيع أشد من شفقتها على غيره . وكلّ ذلك يدل بدلالة الأوْلى على ذهول غيرها من النساء والرجال . وقد حصل من هذه الكناية دلالة على جميع لوازم شدّة الهول وليس يلزم في الكناية أن يصرح بجميع اللوازم لأن دلالة الكناية عقليّة وليست لفظية .والتحقت هاء التأنيث بوصف { مرضعة } للدلالة على تقريب الوصف من معنى الفعل ، فإن الفعل الذي لا يوصف بحدثه غير المرأة تَلحقه علامة التأنيث ليفاد بهذا التقريب أنها في حالة التلبّس بالإرضاع ، كما يقال : هي ترضع . . ولولا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يقال : كلّ مرضع ، لأن هذا الوصف من خصائص الأنثى فلا يحتاج معه إلى الهاء التي أصل وضعها للفرق بين المؤنث والمذكر خيفة اللبس . وهذا من دقائق مسائل نحاة الكوفة وقد تلقاها الجميع بالقبول ونظمها ابن مالك في أرجوزته «الكافية» بقوله :وما من الصفات بالأنثى يخص ... عن تاء استغنى لأنّ اللفظ نصوحيث معنى الفعل تنوي التاء زد ... كذي غدت مُرضعة طِفلاً وُلِدوالمراد : أن ذلك يحصل لكلّ مرضعة موجودة في آخر أيام الدنيا . فالمعنى الحقيقي مراد ، فلم يقتض أن يكون الإرضاع واقعاً ، فأطلق ذهول المرضع وذات الحمل وأريد ذهول كل ذي علق نفيس عن عِلقه على طريقة الكناية .وزيادة كلمة ( كلّ ) للدلالة على أن هذا الذهول يعتري كل مرضع وليس هو لبعض المراضع باحتمال ضعف في ذاكرتها . ثمّ تقتضي هذه الكناية كناية عن تعميم هذا الهول لكل الناس لأن خصوصية هذا المعنى بهذا المقام أنه أظهر في تصوير حالة الفزع والهلع بحيث يذهل فيه من هو في حال شدّة التيقظ لوفرة دواعي اليقظة .وذلك أن المرأة لشدّة شفقتها كثيرة الاستحضار لما تشفق عليه ، وأن المرضع أشد النساء شفقة على رضيعها ، وأنها في حال ملابسة الإرضاع أبعد شيء عن الذهول فإذا ذهلت عن رضيعها في هذه الأحوال دلّ ذلك على أن الهول العارض لها هول خارق للعادة . وهذا من بديع الكناية عن شدة ذلك الهول لأن استلزام ذهول المرضع عن رضيعها لشدّة الهول يستلزم شدّة الهول لغيرها بطريق الأوْلى ، فهو لزوم بدرجة ثانية ، وهذا النوع من الكناية يسمى الإيماء .و ( مَا ) في { عما أرضعت } موصولة ما صْدقُها الطفل الرضيع . والعائد محذوف لأنه ضمير متصل منصوب بفعل ، وحذفُ مثله كثير .والإتيان بالموصول وصلته في تعريف المذهول عنه دون أن يقول عن ابنها للدلالة على أنها تذهل عن شيء هو نصب عينها وهي في عمل متعلّق به وهو الإرضاع زيادة في التكني عن شدة الهول .وقوله { وتضع كل ذات حمل حملها } هو كناية أيضاً كقوله { تذهل كل مرضعة عما أرضعت }. ووضع الحمل لا يكون إلا لشدة اضطراب نفس الحامل من فرط الفزع والخوف لأنّ الحمل في قرار مكين .والحمل : مصدر بمعنى المفعول ، بقرينة تعلقه بفعل { تضعُ } أي تضع جنينها .والتعبير ب { ذات حمل } دون التعبير : بحامل ، لأنه الجاري في الاستعمال في الأكثر . فلا يقال : امرأة حامل ، بل يقال : ذات حمل قال تعالى : { وأُولاتُ الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] ، مع ما في هذه الإضافة من التنبيه على شدة اتصال الحمل بالحامل فيدل على أن وضعها إياه لسبب مفظع .والقول في حمله على الحقيقة أو على معنى الكناية كالقول في { تذهل كل مرضعة عما أرضعت }.والخطاب في { ترى الناس } لغير معيّن ، وهو كل من تتأتى منه الرؤية من الناس ، فهو مساو في المعنى للخطاب الذي في قوله { يوم ترونها } ، وإنما أوثر الإفرادُ هنا للتفنن كراهية إعادة الجمع . وعدل عن فعل المضي إلى المضارع في قوله { وترى لاستحضار الحالة والتعجيب منها كقوله فتثير سحاباً } [ الروم : 48 ] وقوله { ويصنع الفلك } [ هود : 38 ].وقرأ الجمهور { سُكارى } بضم السين المهملة وبألف بعد الكاف . ووصف الناس بذلك على طريقة التشبيه البليغ . وقوله بعده { وما هم بسكارى } قرينة على قصد التشبيه وليبنى عليه قوله بعده { ولكن عذاب الله شديد }.وقرأه حمزة والكسائي { سَكرى } بوزن عَطشى في الموضعين . وسُكارى وسَكرى جمع سكران . وهو الذي اختل شعور عقله من أثر شرب الخمر ، وقياس جمعه سكارى . وأما سَكرَى فهو محمول على نَوْكى لما في السكر من اضطراب العقل . وله نظير وهو جمع كسلان على كُسالى وكَسلى .وجملة { وما هم بسكارى } في موضع الحال من الناس .و { عذاب الله } صادق بعذابه في الدنيا وهو عذاب الفزع والوجَع ، وعذاب الرعب في الآخرة بالإحساس بلفح النار وزبْن ملائكة العذاب .وجملة { وما هم بسكارى } في موضع الحال من النّاس .
الآية 2 - سورة الحج: (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب...)