سورة الانسان: الآية 5 - إن الأبرار يشربون من كأس...

تفسير الآية 5, سورة الانسان

إِنَّ ٱلْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا

الترجمة الإنجليزية

Inna alabrara yashraboona min kasin kana mizajuha kafooran

تفسير الآية 5

إن أهل الطاعة والإخلاص الذين يؤدون حق الله، يشربون يوم القيامة مِن كأس فيها خمر ممزوجة بأحسن أنواع الطيب، وهو ماء الكافور.

«إن الأبرار» جمع بر أو بار وهم المطيعون «يشربون من كأس» هو إناء شرب الخمر وهي فيه والمراد من خمر تسمية للحال باسم المحل ومن للتبعيض «كان مزاجها» ما يمزج به «كافورا».

وأما الْأَبْرَارِ وهم الذين برت قلوبهم بما فيها من محبة الله ومعرفته، والأخلاق الجميلة، فبرت جوارحهم ، واستعملوها بأعمال البر أخبر أنهم يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ أي: شراب لذيذ من خمر قد مزج بكافور أي: خلط به ليبرده ويكسر حدته، وهذا الكافور [في غاية اللذة] قد سلم من كل مكدر ومنغص، موجود في كافور الدنيا، فإن الآفة الموجودة في الأسماء التي ذكر الله أنها في الجنة وهي في الدنيا تعدم في الآخرة .كما قال تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ .

ولما ذكر ما أعده لهؤلاء الأشقياء من السعير قال بعده : ( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ) وقد علم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة ، مع ما يضاف إلى ذلك من اللذاذة في الجنة .قال الحسن : برد الكافور في طيب الزنجبيل ; ولهذا قال :

ثم بين- سبحانه- ما أعده للمؤمنين الصادقين من خير عميم فقال: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً.والأبرار: جمع برّ أو بارّ. وهو الإنسان المطيع لله- تعالى- طاعة تامة، والمسارع في فعل الخير، والشاكر لله- تعالى- على نعمه.والكأس: هو الإناء الذي توضع فيه الخمر، ولا يسمى بهذا الاسم إلا إذا كانت الخمر بداخله، ويصح أن يطلق الكأس على الخمر ذاتها على سبيل المجاز، من باب تسمية الحال باسم المحل، وهو المراد هنا. لقوله- تعالى- كانَ مِزاجُها كافُوراً. و «من» للتبعيض.والضمير في قوله مِزاجُها يعود إلى الكأس التي أريد بها الخمر، والمراد «بمزاجها» : خليطها من المزج بمعنى الخلط يقال: مزجت الشيء بالشيء، إذا خلطته به.والكافور: اسم لسائل طيب الرائحة، أبيض اللون، تميل إليه النفوس.أى: إن المؤمنين الصادقين، الذين أخلصوا لله- تعالى- الطاعة والعبادة والشكر..يكافئهم- سبحانه- على ذلك، بأن يجعلهم يوم القيامة في جنات عالية، ويتمتعون بالشراب من خمر، هذه الخمر كانت مخلوطة بالكافور الذي تنتعش له النفوس، وتحبه الأرواح والقلوب، لطيب رائحته، وجمال شكله.وذكر- سبحانه- هذه الأشياء في هذه السورة- من الكافور- والزنجبيل، وغيرهما، لتحريض العقلاء على الظفر في الآخرة بهذه المتع التي كانوا يشتهونها في الدنيا، على سبيل تقريب الأمور لهم، وإلا فنعيم الآخرة لا يقاس في لذته ودوامه بالنسبة لنعيم الدنيا الفاني.قال ابن عباس: كل ما ذكر في القرآن مما في الجنة وسماه، ليس له من الدنيا شبيه إلا في الاسم. فالكافور، والزنجبيل، والأشجار والقصور، والمأكول والمشروب، والملبوس والثمار، لا يشبه ما في الدنيا إلا في مجرد الاسم.

"إن الأبرار"، يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم، واحدهم بار، مثل: شاهد وأشهاد، وناصر وأنصار، و بر أيضاً مثل: نهر وأنهار، "يشربون"، في الآخرة، "من كأس"، فيها شراب "كان مزاجها كافوراً"، قال قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك. قال عكرمة: "مزاجها": طعمها، وقال أهل المعاني: أراد كالكافور في بياضه وطيب ريحه وبرده، لأن الكافور لا يشرب، وهو كقوله: "حتى إذا جعله ناراً" (الكهف- 96) أي كنار. وهذا معنى قول قتادة ومجاهد: يمازجه ريح الكافور. وقال ابن كيسان: طيبت بالكافور والمسك والزنجبيل. وقال عطاء والكلبي: الكافور اسم ل"عين ماء في الجنة".

قوله تعالى : إن الأبرار يشربون من كأس الأبرار : أهل الصدق واحدهم بر ، وهو من امتثل أمر الله تعالى . وقيل : البر الموحد والأبرار جمع بار مثل شاهد وأشهاد ، وقيل : هو جمع بر مثل نهر وأنهار ; وفي الصحاح : وجمع البر الأبرار ، وجمع البار البررة ، وفلان يبر خالقه ويتبرره أي يطيعه ، والأم برة بولدها . وروى ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنما سماهم الله - جل ثناؤه - الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء ، كما أن لوالدك عليك حقا كذلك لولدك عليك حقا " . وقال الحسن : البر الذي لا يؤذي الذر . وقال قتادة : الأبرار الذين يؤدون حق الله ويوفون بالنذر . وفي الحديث : " الأبرار الذين لا يؤذون أحدا " . يشربون من كأس أي من إناء فيه الشراب . قال ابن عباس : يريد الخمر . والكأس في اللغة الإناء فيه الشراب : وإذا لم يكن فيه شراب لم يسم كأسا . قال عمرو بن كلثوم :صددت الكأس عنا أم عمرو وكان الكأس مجراها اليميناوقال الأصمعي : يقال صبنت عنا الهدية أوما كان من معروف تصبن صبنا : بمعنى كففت ; قاله الجوهري .كان مزاجها أي شوبها وخلطها ، قال حسان :كأن سبيئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماءومنه مزاج البدن وهو ما يمازجه من الصفراء والسوداء والحرارة والبرودة . كافورا قال ابن عباس : هو اسم عين ماء في الجنة ، يقال له عين الكافور . أي يمازجه ماء هذه العين التي تسمى كافورا . وقال سعيد عن قتادة : تمزج لهم بالكافور وتختم بالمسك . وقاله مجاهد . وقال عكرمة : مزاجها طعمها . وقيل : إنما الكافور في ريحها لا في طعمها . وقيل : أراد كالكافور في بياضه وطيب رائحته وبرده ; لأن الكافور لا يشرب ; كقوله تعالى : حتى إذا جعله نارا أي كنار . وقال ابن كيسان : طيب بالمسك والكافور والزنجبيل . وقال مقاتل : ليس بكافور الدنيا . ولكن سمى الله ما عنده بما عندكم حتى تهتدي لها القلوب . وقوله : كان مزاجها ( كان ) زائدة أي من كأس مزاجها كافور .

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) .يقول تعالى ذكره: إن الذين برّوا بطاعتهم ربهم في أداء فرائضه، واجتناب معاصيه، يشربون من كأس، وهو كل إناء كان فيه شراب ( كَانَ مِزَاجُها ) يقول: كان مزاج ما فيها من الشراب ( كافُورًا ) يعني: في طيب رائحتها كالكافور. وقد قيل: إن الكافور اسم لعين ماء في الجنة، فمن قال ذلك، جعل نصب العين على الردّ على الكافور، تبيانا عنه، ومن جعل الكافور صفة للشراب نصبها، أعني العين عن الحال، وجعل خبر كان قوله: ( كافُورًا ) ، وقد يجوز نصب العين من وجه ثالث، وهو نصبها بإعمال يشربون فيها فيكون معنى الكلام: إن الأبرار يشربون عينا يشرب بها عباد الله، من كأس كان مزاجها كافورا. وقد يجوز أيضا نصبها على المدح، فأما عامة أهل التأويل فإنهم قالوا: الكافور صفة للشراب على ما ذكرت.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( مِزَاجُهَا كَافُورًا ) قال: تمزج.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ) قال: قوم تمزج لهم بالكافور، وتختم لهم بالمسك.--------------------------------------------------------------------------------الهوامش:(1) لم أقف على قائل البيت، وقد جاءت فيه كلمة "فرنها" هكذا في المخطوطة والمطبوعة، ولم نهتد إلى تصويبها. وقد أنشده المؤلف عند تفسير قوله تعالى: والتفت الساق بالساق . قال أبو عبيدة في مجاز القرآن ( 183 ) والتفت الساق بالساق مثل: شمرت عن ساقها . ا ه . وقال الفراء في معاني القرآن ( 350 ) : أتاه أول شدة أمر الآخرة، وأشد آخر أمر الدنيا. ويقال: التفت ساقاه كما يقال للمرأة إذا التصقت فخذاها: هي لفاء.(2) البيت من مشطور الرجز لسيدنا عبد الله بن رواحة الأنصاري، من أبيات قالها في غزوة مؤتة من أرض الشام ( سيرة ابن هشام: طبعة الحلبي الأولى 4 : 21 ) والنطفة: الماء القليل الصافي. والشنة: السقاء البالي. ومعناه: فيوشك أن تهراق النطفة، أو يتخرق السقاء، ضرب ذلك مثلا لنفسه في جسده.(3) البيتان لرؤبة بن العجاج ( ديوانه 32 ) . وقبله:حتى مسيناهن بالإخداجيقذفن كل معجل نشاجوالنون: راجعة إلى النياق ومسيناهن ومسوناهن: أي أدخلنا أيدينا في حيائهن لإخراج الأجنة من بطونهن، من كل ولد ذي صوت، ولكنه لم يكس جلدا بعد، نخرجهن مع دم مختلط بغيره، مما يتجمع في الرحم والمشيمة. قال في ( اللسان: مشج ) وفي التنزيل العزيز إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج قال الفراء: الأمشاج: هي الأخلاط: ماء الرجل وماء المرأة، والدم والعلقة؛ ويقال للشيء من هذا إذا خلط: مشيج، كقولك: خليط، وممشوج: كقولك مخلوط، مشجت بدم وذلك الدم دم الحيض. وقال أبو إسحاق ( الزجاج ) أمشاج: أخلاط من مني ودم، ثم ينقل من حال إلى حال. ويقال: نطفة أمشاج: ماء الرجل يختلط بماء المرأة ودمها. ا ه .(4) البيت في ( اللسان: مشج ) ونسبه لزهير بن حرام الهذلي، وهو الملقب بالداخل. ( وانظره في شرح السكري لأشعار الهذليين طبعة لندن 269 ) . ونسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن ( 183 ) إلى أبي ذؤيب، وعنه نقل المؤلف. ونسب في الكامل للمبرد ( طبعة الحلبي 838 ) إلى الشماخ، وليس بصحيح. أما رواية البيت فتختلف ألفاظها في المراجع، وأجودها رواية الكامل، ( لسان العرب: شرخ ) وهي:كأنَّ المَتْنَ والشَّرْخَينِ مِنْهُخِلافَ النَّصْلِ سيطَ بِهِ مَشِيجقال المبرد: يريد سهما رمى به، فأنفذ الرمية، وقد اتصل به دمها. والمتن: متن السهم. وشرخ كل شيء: حده. فأراه شرخي الفوق وهما حرفاه. والمشيج: اختلاط الدم بالنطفة. هذا أصله. وفي ( اللسان: شرخ ) وشرخ كل شيء: حرفه الناتئ، كالسهم ونحوه. وشرخا الفوق: حرفاه المشرفان اللذان يقع بينهما الوتر. ا ه .

إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) هذا استئناف بياني ناشىء عن الاستئناف الذي قبله من قوله : { إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا } [ الإنسان : 4 ] الخ . فإن من عرف ما أعد للكَفُور من الجزاء يتطلع إلى معرفة ما أعد للشاكر من الثواب .وأخر تفصيله عن تفصيل جزاء الكفور مع أن { شاكراً } [ الإنسان : 3 ] مذكور قبل { كفوراً } [ الإنسان : 3 ] ، على طريقة اللف والنشر المعكوس ليتسع المجال لإِطناب الكلام على صفة جزاء الشاكرين وما فيه من الخير والكرامة ، تقريباً للموصوف من المشاهدة المحسوسة .وتأكيد الخبر عن جزاء الشاكرين لدفع إنكار المشركين أن يكون المؤمنون خيراً منهم في عالم الخلود ، ولإِفادة الاهتمام بهذه البشارة بالنسبة إلى المؤمنين .و { الأبرار } : هم الشاكرون ، عُبر عنهم بالأبرار زيادة في الثناء عليهم .و { الأَبرار } : جمع بَر بفتح الباء ، وجمعُ بَار أيضاً مثل شاهد وأشهاد ، والبار أو البَرّ المكثر من البِرّ بكسر الباء وهو فعل الخير ، ولذلك كان البَرّ من أوصاف الله تعالى قال تعالى : { إنا كنا من قبل ندعوه أنه هو البَر الرحيم } [ الطور : 28 ] .ووصف بَرَ أقوى من بارّ في الاتصاف بالبرِ ، ولذلك يقال : الله بَر ، ولم يُقل : الله بَار .ويجمع برّ على بَرَرة . ووقع في «مفردات الراغب» : أن بررة أبلغ من أبرار .وابتدىء في وصف نعيمهم بنعيم لذة الشرب من خمر الجنة لما للذة الخمر من الاشتهار بين الناس ، وكانوا يتنافسون في تحصيلها .والكأس : بالهمزة الإِناء المجعول للخمر فلا يسمى كأساً إلاّ إذا كان فيه خمر ، وقد تسمى الخمر كأساً على وجه المجاز المرسل بهذا الاعتبار كما سيجيء قريباً قوله تعالى : { ويسقون فيها كأساً كان مزاجُها زنجبيلاً } [ الإنسان : 17 ] فيجوز أن يراد هنا آنية الخمر فتكون { مِن } للابتداء وإفراد { كأس } للنوعية ، ويجوز أن تراد الخمر فتكون { مِن } للتبعيض .وعلى التقديرين فكأس مراد به الجنس وتنوينه لتعظيمه في نوعه .والمزاج : بكسر الميم ما يمزج به غيرُه ، أي يخلط وكانوا يمزجون الخمر بالماء إذا كانت الخمر معتقة شديدة ليخففوا من حدتها وقد ورد ذكر مزج الخمر في أشعار العرب كثيراً .وضمير { مزاجها } عائد إلى { كأس } .فإذا أريد بالكأس إناء الخمر فالإِضافة لأدنى ملابسة ، أي مزاج ما فيها ، وإذا أريدت الخمر فالإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله .والكافور : «زيت يستخرج من شجرة تشبه الدِفْلَى تنبت في بلاد الصين وجَاوة يتكون فيها إذا طالت مدتُها نحواً من مائتي سنة فيُغلَّى حَطَبها ويستخرج منه زيت يسمى الكَافور . وهو ثخِن قد يتصلب فيصير كالزُبْد وإذا يقع حطب شجرة الكافور في الماء صار نبيذاً يتخمر فيصير مسكراً .والكافور أبيض اللون ذكي الرائحة منعش .فقيل إن المزاج هنا مراد به الماء والإِخبار عنه بأنه كافور من قبيل التشبيه البليغ ، أي في اللون أو ذكاء الرائحة ، ولعل الذي دعا بعض المفسرين إلى هذا أن المتعارف بين الناس في طيب الخمر أن يوضع المسك في جوانب الباطية قال النابغة :وتسقى إذا ما شئت غير مُصرَّد ... بزوراء في حافاتها المسك كارعويختم على آنية الخمر بخاتم من مسك كما في قوله تعالى في صفة أهل الجنة : { يُسْقَوْن من رحيق مختوم ختامه مسك } [ المطففين : 25 ، 26 ] . وكانوا يجعلون الفلفل في الخمر لحسن رائحته ولذعة حرارته لذعة لذيذة في اللسان ، كما قال امرؤ القيس :صُبِّحْنَ سلافاً من رحيق مُفلفل ... ويحتمل أن يكونوا يمزجون الخمر بماء فيه الكافور أو بزيته فيكون المزاج في الآية على حقيقته مما تمزج به الخمر ولعل ذلك كان من شأن أهل الترف لأن الكافور ثمين وهو معدود في العطور .
الآية 5 - سورة الانسان: (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا...)