سورة الجاثية: الآية 4 - وفي خلقكم وما يبث من...

تفسير الآية 4, سورة الجاثية

وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ

الترجمة الإنجليزية

Wafee khalqikum wama yabuththu min dabbatin ayatun liqawmin yooqinoona

تفسير الآية 4

وفي خَلْقكم -أيها الناس- وخلق ما تفرق في الأرض من دابة تَدِبُّ عليها، حجج وأدلة لقوم يوقنون بالله وشرعه.

«وفي خلقكم» أي في خلق كل منكم من نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن صار إنساناً «و» خلق «ما يبث» يفرق في الأرض «من دابة» هي ما يدب على الأرض من الناس وغيرهم «آيات لقوم يوقنون» بالبعث.

وما بث فيهما من الدواب وما أودع فيهما من المنافع وما أنزل الله من الماء الذي يحيي به الله البلاد والعباد.

وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع من الملائكة والجن والإنس والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات وما في البحر من الأصناف المتنوعة.

والدليل الثاني والثالث قوله- تعالى-: وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.قوله: وَفِي خَلْقِكُمْ جار ومجرور خبر مقدم، وقوله: آياتٌ مبتدأ مؤخر.أى: وفي خلقكم- أيها الناس- من نطفة، فعلقة، فمضغة.. إلى أن نخرجكم من بطون أمهاتكم.. وفيما نبثه وننشره ونوجده من دواب لا تعد ولا تحصى على ظهر الأرض.في كل ذلك آياتٌ بينات، وعلامات واضحات، على كمال قدرتنا، لقوم يوقنون بأن القادر على هذا الخلق، إنما هو الله- تعالى- وحده.

( وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات ) قرأ حمزة ، والكسائي ، ويعقوب : " آيات " وتصريف الرياح آيات " بكسر التاء فيهما ردا على قوله : " لآيات " وهو في موضع النصب ، وقرأ الآخرون برفعهما على الاستئناف ، على أن العرب تقول : إن لي عليك مالا وعلى أخيك مال ، ينصبون الثاني ويرفعونه ( لقوم يوقنون ) أنه لا إله غيره .

قوله تعالى : وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق يعني المطرفأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون تقدم جميعه مستوفى في ( البقرة ) وغيرها . وقراءة العامة وما يبث من دابة آيات ، وتصريف الرياح آيات بالرفع فيهما . وقرأ حمزة والكسائي بكسر التاء فيهما . ولا خلاف في الأول أنه بالنصب على اسم ( إن ) وخبرها في السماوات ووجه الكسر في ( آيات ) الثاني العطف على ما عملت فيه ، التقدير : إن في خلقكم وما يبث من دابة آيات . فأما الثالث فقيل : إن وجه النصب فيه تكرير ( آيات ) لما طال الكلام ، كما تقول : ضربت زيدا زيدا . وقيل : إنه على الحمل على ما عملت فيه ( إن ) على تقدير حذف ( في ) ، التقدير : وفي اختلاف الليل والنهار آيات . فحذفت " في " لتقدم ذكرها . وأنشد سيبويه في الحذف [ للشاعر أبي داود الأيادي ] :أكل امرئ تحسبين امرأ ونارا توقد بالليل نارافحذف ( كل ) المضاف إلى نار المجرورة لتقدم ذكرها . وقيل : هو من باب العطف على عاملين . ولم يجزه سيبويه ، وأجازه الأخفش وجماعة من الكوفيين ، فعطف واختلاف على قوله : وفي خلقكم ثم قال : وتصريف الرياح آيات فيحتاج إلى العطف على عاملين ، والعطف على عاملين قبيح من أجل أن حروف العطف تنوب مناب العامل ، فلم تقو أن تنوب مناب عاملين مختلفين ، إذ لو ناب مناب رافع وناصب لكان رافعا ناصبا في حال . وأما قراءة الرفع فحملا على موضع ( إن ) مع ما عملت فيه . وقد ألزم النحويون في ذلك أيضا العطف على عاملين ; لأنه عطف واختلاف على وفي خلقكم ، وعطف ( آيات ) على موضع ( آيات ) الأول ، ولكنه يقدر على تكرير ( في ) . ويجوز أن يرفع على القطع مما قبله فيرفع بالابتداء ، وما قبله خبره ، ويكون عطف جملة على جملة . وحكى الفراء رفع ( واختلاف ) و ( آيات ) جميعا ، وجعل الاختلاف هو الآيات .

القول في تأويل قوله تعالى : وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)يقول تعالى ذكره: وفى خلق الله إياكم أيها الناس, وخلقه ما تفرّق في الأرض من دابة تدّب عليها من غير جنسكم ( آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) يعني: حججا وأدلة لقوم يوقنون بحقائق الأشياء, فيقرّون بها, ويعلمون صحتها.واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) وفي التي بعد ذلك فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة (آياتٌ) رفعا على الابتداء, وترك ردّها على قوله لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ , وقرأته عامة قرّاء الكوفة (آياتٍ) خفضا بتأويل النصب ردّا على قوله لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ .وزعم قارئو ذلك كذلك من المتأخرين أنهم اختاروا قراءته كذلك, لأنه في قراءة أُبيّ في الآيات الثلاثة (لآياتٍ) باللام فجعلوا دخول اللام في ذلك في قراءته دليلا لهم على صحة قراءة جميعه بالخفض, وليس الذي اعتمدوا عليه من الحجة في ذلك بحجة, لأنه لا رواية بذلك عن أبيّ صحيحة, وأبيّ لو صحت به عنه رواية, ثم لم يُعلم كيف كانت قراءته بالخفض أو بالرفع لم يكن الحكم عليه بأنه كان يقرؤه خفضا, بأولى من الحكم عليه بأنه كان يقرؤه رفعا, إذ كانت العرب قد تدخل اللام في خبر المعطوف على جملة كلام تامّ قد عملت في ابتدائها " إن ", مع ابتدائهم إياه, كما قال حُمَيد بن ثَور الهِلاليّ:إنَّ الخِلافَةَ بَعْدَهُمْ لَذَميمَةٌوَخَلائِفٌ طُرُفٌ لَمِمَّا أحْقِرُ (1)فأدخل اللام في خبر مبتدأ بعد جملة خبر قد عملت فيه " إن " إذ كان الكلام, وإن ابتدئ منويا فيه إن.والصواب من القول في ذلك إن كان الأمر على ما وصفنا أن يقال: إن الخفض في هذه الأحرف والرفع قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار قد قرأ بهما علماء من القرّاء صحيحتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.------------------------الهوامش:(1) لم أجد البيت في ديوان حميد بن ثور الهلالي طبعة دار الكتب المصرية . والخلاف الطرف : هم الذين خلفوا بعد آبائهم القدماء . يقول : إن الخلافة بعد الخلفاء الأولين صارت ذميمة ، والخلفاء المحدثون محتقرون في عيني ، لأنهم لا يسلكون مسلك آبائهم . والشاهد في البيت أن الشاعر استأنف بالواو جملة من مبتدأ وخبر مرفوعين بعد الجملة الأولى التي مبتدؤها منصوب بأن ، وذلك كما في الآية : "إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون" . ا . ه . وقال الفراء في معاني القرآن (الورقة 299) قوله " وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات": تقرأ الآيات بالخفض، على تأويل النصب ، يرد على قوله "إن في السموات والأرض لآيات" . ويقوي الخفض فيها أنها في قراءة عبد الله بن مسعود : لآيات . وفي قراءة أُبي لآيات. والرفع قراءة الناس على الاستئناف فيما بعد أن . والعرب تقول : إن لي عليك مالا ، وعلى أخيك مال كثير ، فينصبون الثاني ويرفعونه وفي قراءة عبد الله : "وفي اختلاف الليل والنهار" فهذه تقوي خفض الاختلاف . ولو رفع رافع فقال: "واختلاف الليل والنهار آيات" أيضا ، يجعل الاختلاف آيات ، ولم نسمعه من أحد من القراء . قال : ولو رفع رافع الآيات وفيها اللام ، كان صوابا. قال : أنشدني الكسائي "إن الخلافة.." البيت.

. وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وعطف جملة { وفي خلقكم } الخ على جملة { إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين } عطف خاص على عام لما في هذا الخاص من التذكير بنعمة إيجاد النوع استدعاء للشكر عليه .والبث : التوزيع والإكثار وهو يقتضي الخلق والإيجاد فكأنه قيل وفي خلق الله ما يبثّ من دابة . وتقدم البث في قوله تعالى : { وبث فيها من كل دابّة } في سورة البقرة ( 164 ) .وعبر بالمضارع في { يبث } ليفيد تجدد البث وتكرره باعتبار اختلاف أجناس الدواب وأنواعها وأصنافها . والدابة تطلق على كل ما يدبّ على الأرض غير الإنسان وهذا أصل إطلاقها وقد تطلق على ما يدب بالأرجل دون الطائر كقوله : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] .والرزق أطلق هنا على المطر على طريقة المجاز المرسل لأن المطر سبب وجود الأقوات . والرزق : القوت . وقد ذكر في آية سورة البقرة ( 164 ) { وما أنزل الله من السماء من ماء } وتقدمت نظائر هذه الآية في أواسط سورة البقرة وفي مواضع عدّة .والمراد ب ( المؤمنين ) ، وب ( قوم يوقنون ) ، وب ( قوم يعقلون ) واحد ، وهم المؤمنون بتوحيد الله فحصل لهم اليقين وكانوا يعقلون ، أي يعلمون دلالة الآيات .والمعنى : أن المؤمنين والذين يُوقنون ، أي يعلمون ولا يكابرون ، والذين يعقلون دلالة الآثار على المؤثر ونظروا النظر الصحيح في شواهد السماوات والأرض فعلموا أن لا بد لها من صانع وأنه واحد فأيقن بذلك العاقل منهم الذي كان متردداً ، وازداد إيماناً من كان مؤمناً فصار موقناً . فالمعنى : أن الذين انتفعوا بالآيات هم المؤمنون العاقلون ، فوزعت هذه الأوصاف على فواصل هذه الآي لأن ذلك أوقع في نفس السامع من إتْلاَءِ بعضها لبعض .وقُدم المتصفون بالإيمان لشرفه وجعل خلق الناس والدواب آية للموصوفين بالإيقان لأن دلالة الخلق كائنة في نفس الإنسان وما يحيط به من الدواب ، وجعل اختلاف الليل والنهار واختلافُ حوادث الجو آية للذين اتصفوا بالعقل لأن دلالتها على الوحدانية بواسطة لوزام مترتبة بإدراك العقل . وقد أومأ ذكر هذه الصفات إلى أن الذين لم يهتدوا بهذه الآيات ليسوا من أصحاب هذه الصفات ولذلك أعقبه بقوله : { فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون } [ الجاثية : 6 ] استفهاماً إنكارياً بمعنى النفي .واعلم أن هذا الكلام وإن كان موجهاً إلى قوم لا ينكرون وجود الإله وإنما يزعمون له شركاء ، وكان مقصوداً منه ابتداء إثباتٌ الوحدانية ، فهو أيضاً صالح لإقامة الحجة على المعَطِّلين الذين ينفون وجود الصانع المختار وفي العرب فريق منهم . فإن أحوال السماوات كلها متغيرة دالة على تغير ما اتصفت بها ، والتغير دليل الحدوث وهو الحاجة إلى الفاعل المختار الذي يوجدها بعد العدم ثم يُعدمها .وقرأ الجمهور قوله : { آيات لقوم يوقنون } وقوله : { آياتٌ لقوم يعقلون } برفع { آيات } فيهما على أنهما مبتدآن وخبراهما المجروران . وتقدّر ( في ) محذوفة في قوله { واختلاف الليل والنهار } لدلالة أختها عليها التي في قوله : { وفي خلقكم } . والعطف في كلتا الجملتين عطف جملة لا عطف مفرد .وقرأها حمزة والكسائي وخلف { لآيات } في الموضعين بكسرة نائبة عن الفتحة ف { آياتٍ } الأول عطف على اسم { إنَّ } و { في خلقكم } عطف على خبر { إنّ } فهو عطف على معمولي عامل واحد ولا إشكال في جوازه وأما { آيات لقوم يعقلون } فكذلك ، إلا أنه عطف على معمولي عَامِلَيْن مختلفين ، أي ليسا مترادفين هما ( إنّ ) و ( في ) على اعتبار أن الواو عاطفة { آيَات } وليست عاطفة جملة { في خلقكم } الآية ، وهو جائز عند أكثر نحاة الكوفة وممنوع عند أكثر نحاة البصرة ، ولذلك تأول سيبويه هذه القراءة بتقدير ( في )
الآية 4 - سورة الجاثية: (وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون...)