سورة الجن: الآية 11 - وأنا منا الصالحون ومنا دون...

تفسير الآية 11, سورة الجن

وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ ۖ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَدًا

الترجمة الإنجليزية

Waanna minna alssalihoona waminna doona thalika kunna taraiqa qidadan

تفسير الآية 11

وأنا منا الأبرار المتقون، ومنا قوم دون ذلك كفار وفساق، كنا فرقًا ومذاهب مختلفة.

«وأنا منا الصالحون» بعد استماع القرآن «ومنا دون ذلك» أي قوم غير صالحين «كنا طرائق قددا» فرقا مختلفين مسلمين وكافرين.

وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ أي: فساق وفجار وكفار، كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا أي: فرقا متنوعة، وأهواء متفرقة، كل حزب بما لديهم فرحون.

يقول مخبرا عن الجن : أنهم قالوا مخبرين عن أنفسهم : ( وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك ) أي : غير ذلك ، ( كنا طرائق قددا ) أي : طرائق متعددة مختلفة وآراء متفرقة .قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : ( كنا طرائق قددا ) أي : منا المؤمن ومنا الكافر .وقال أحمد بن سليمان النجاد في أماليه ، حدثنا أسلم بن سهل بحشل ، حدثنا علي بن الحسن بن سليمان - هو أبو الشعثاء الحضرمي ، شيخ مسلم - حدثنا أبو معاوية قال : سمعت الأعمش يقول : تروح إلينا جني ، فقلت له : ما أحب الطعام إليكم ؟ فقال الأرز . قال : فأتيناهم به ، فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحدا ، فقلت : فيكم من هذه الأهواء التي فينا ؟ قال : نعم . قلت : فما الرافضة فيكم ؟ قال شرنا . عرضت هذا الإسناد على شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي فقال : هذا إسناد صحيح إلى الأعمش .وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن أحمد الدمشقي ، قال : سمعت بعض الجن وأنا في منزل لي بالليل ينشد :قلوب براها الحب حتى تعلقت مذاهبها في كل غرب وشارق تهيم بحب الله والله ربهامعلقة بالله دون الخلائق

ثم حكى- سبحانه- ما قالوه في وصف حالهم وواقعهم فقال: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ.... أى: منا الموصوفون بالصلاح والتقوى ... وهم الذين آمنوا بالله- تعالى- إيمانا حقا، ولم يشركوا معه في العبادة أحدا ...وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أى: ومنا قوم دون ذلك في الصلاح والتقوى ... وهم الذين فسقوا عن أمر ربهم، ولم يستقيموا على صراطه ودينه.وقوله: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً، تشبيه بليغ. والطرائق: جمع طريقة، وهي الحالة والمذهب.وقددا: جمع قدّة، وهي الفرقة والجماعة من الناس، الذين تفرقت مشاربهم وأهواؤهم.والجملة الكريمة بيان وتفسير لما قبلها.أى: وأنا في واقع أمرنا منا الصالحون الأخيار ... ومنا من درجته ورتبته أقل من ذلك بكثير أو بقليل ... فنحن في حياتنا كنا قبل سماعنا للقرآن كالمذاهب المختلفة في حسنها وقبحها، وكالطرق المتعددة في استقامتها واعوجاجها ... أما الآن فقد وفقنا الله- تعالى- إلى الإيمان به، وإلى إخلاص العبادة له ...ومن وجوه البلاغة في الآية الكريمة، أنهم قالوا: وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ، ليشمل التعبير من هم دون الكمال في الصلاح، ومن هم قد انحدروا في الشرور والآثام إلى درجة كبيرة، وهم الأشرار.والمقصود من الآية الكريمة، مدح الصالحين، وذم الطالحين، ودعوتهم إلى الاقتداء بأهل الصلاح والتقوى والإيمان.

( ا وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك ) دون الصالحين ( كنا طرائق قددا ) أي : جماعات متفرقين وأصنافا مختلفة ، والقدة : القطعة من الشيء ، يقال : صار القوم قددا إذا اختلفت حالاتهم ، وأصلها من القد وهو القطع . قال مجاهد : يعنون : مسلمين وكافرين .وقيل : [ ذوو ] أهواء مختلفة ، وقال الحسن والسدي : الجن أمثالكم فمنهم قدرية ومرجئة ورافضة .وقال ابن كيسان : شيعا وفرقا لكل فرقة هوى كأهواء الناس .وقال سعيد بن جبير : ألوانا شتى ، وقال أبو عبيدة : أصنافا .

قوله تعالى : وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك هذا من قول الجن ، أي قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون ومنا الكافرون . وقيل : ومنا دون ذلك أي ومن دون الصالحين في الصلاح ، وهو أشبه من حمله على الإيمان والشرك . كنا طرائق قددا أي فرقا شتى ; قاله السدي . الضحاك : أديانا مختلفة . قتادة : أهواء متباينة ; ومنه قول الشاعر :القابض الباسط الهادي بطاعته في فتنة الناس إذ أهواؤهم قددوالمعنى : أي لم يكن كل الجن كفارا بل كانوا مختلفين : منهم كفار ، ومنهم مؤمنون صلحاء ، ومنهم مؤمنون غير صلحاء .وقال المسيب : كنا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس . وقال السدي في قوله تعالى : طرائق قددا قال : في الجن مثلكم قدرية ، ومرجئة ، وخوارج ، ورافضة ، وشيعة ، وسنية .وقال قوم : أي وإنا بعد استماع القرآن مختلفون : منا المؤمنون ومنا الكافرون . أي ومنا الصالحون ومنا مؤمنون لم يتناهوا في الصلاح . والأول أحسن ; لأنه كان في الجن من آمن بموسى وعيسى ، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا : إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة ، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الإيمان . وأيضا لا فائدة في قولهم : نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر .والطرائق : جمع الطريقة وهي مذهب الرجل ، أي كنا فرقا مختلفة . ويقال : القوم طرائق أي على مذاهب شتى . والقدد : نحو من الطرائق وهو توكيد لها ، واحدها : قدة . يقال : لكل طريق قدة ، وأصلها من قد السيور ، وهو قطعها ; قال لبيد يرثي أخاه أربد :لم تبلغ العين كل نهمتها ليلة تمسي الجياد كالقددوقال آخر :ولقد قلت وزيد حاسر يوم ولت خيل عمرو قدداوالقد بالكسر : سير يقد من جلد غير مدبوغ ; ويقال : ما له قد ولا قحف ; فالقد : إناء من جلد ، والقحف : من خشب .

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًايقول تعالى ذكره مخبرا عن قيلهم: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) وهم المسلمون العاملون بطاعة الله ( وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ) يقول: ومنا دون الصالحين ( كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ) يقول: وأنا كنا أهواء مختلفة، وفِرَقا شتى، منا المؤمن والكافر. والطرائق: جمع طريقة، وهي طريقة الرجل ومذهبه. والقِدد: جمع قدّة، وهي الضروب والأجناس المختلفة.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن حميد الرازي، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرِمة، في قوله: ( طَرَائِقَ قِدَدًا ) يقول: أهواء مختلفة.حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ) يقول: أهواء شتى، منا المسلم، ومنا المشرك.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: ( كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ) كان القوم على أهواء شتى.حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( طَرَائِقَ قِدَدًا ) قال: أهواء.حدثني ابن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ( كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ) قال: مسلمين وكافرين.حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان ( كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ) قال: شتى، مؤمن وكافر.حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: ( كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ) قال: صالح وكافر؛ وقرأ قول الله: ( وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ).

وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها وهو من قول الجن .وقراءة فتح الهمزة عطف على المجرور بالباء ، أي آمنا بأنا منّا الصالحون ، أي أيقنَّا بذلك وكنا في جهالة عن ذلك .ظهرت عليهم آثار التوفيق فعلموا أنهم أصبحوا فريقين فريق صالحون وفريق ليسوا بصالحين ، وهم يعنون بالصالحين أنفسهم وبمن دون الصلاح بقية نوعهم ، فلما قاموا مقام دعوة إخوانهم إلى اتباع طريق الخير لم يصارحوهم بنسبتهم إلى الإِفساد بل ألهموا وقالوا منا الصالحون ، ثم تلطفوا فقالوا : ومنا دون ذلك ، الصادق بمراتب متفاوتة في الشر والفساد ليتطلب المخاطبون دلائل التمييز بين الفريقين ، على أنهم تركوا لهم احتمال أن يُعنَى بالصالحين الكاملون في الصلاح فيكون المعني بمن دون ذلك من هم دون مرتبة الكمال في الصلاح ، وهذا من بليغ العبارات في الدعوة والإِرشاد إلى الخير .و { دونَ } : اسم بمعنى ( تحت ) ، وهو ضد فوق ولذلك كثر نصبه على الظرفية المكانية ، أي في مكان منحط عن الصالحين .والتقدير : ومنا فريق في مرتبة دونهم .وظرفية { دون } مجازية . ووقع الظرف هنا ظرفاً مستقراً في محل الصفة لموصوف محذوف تقديره : فريق ، كقوله تعالى : { وما منا إلاّ له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] ويطَّرد حذف الموصوف إذا كان بعضَ اسم مجرور بحرف ( مِن ) مقدممٍ عليه وكانت الصفة ظرفاً كما هنا ، أو جملة كقول العرب : مِنَّا ظَعَن ومِنَّا أقام .وقوله : { كنا طرائق قِدَداً } تشبيه بليغ ، شبه تخالف الأحوال والعقائد بالطرائق تفضي كل واحدة منها إلى مكان لا تفضي إليه الأخرى .و { طرائق } : جمع طريقة ، والطريقة هي الطريق ، ولعلها تختص بالطريق الواسع الواضح لأنّ التاء للتأكيد مثل دار ودَارة ، ومثل مَقام ومقَامة ، ولذلك شبه بها أفلاك الكواكب في قوله تعالى { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق } [ المؤمنون : 17 ] ووصفت بالمثلى في قوله : { ويَذْهبَا بطريقتكم المُثلى } [ طه : 63 ] .ووصف { طرائق } ب { قِدداً ، } وهو اسم جمع قِدَّة بكسر القاف وتشديد الدال والقدة : القطعة من جلد ونحوه المقطوعة طولاً كالسير ، شبهت الطرائق في كثرتها بالقِدد المقتطعة من الجلد يقطعها صانع حبال القِدّ كانوا يقيدون بها الأسرى .والمعنى : أنهم يدعون إخوتهم إلى وحدة الاعتقاد باقتفاء هدى الإِسلام ، فالخبر مستعمل في التعريض بذم الاختلاف بين القوم وأن على القوم أن يتحدوا ويتطلبوا الحق ليكون اتحادهم على الحق .وليس المقصود منه فائدة الخبر لأن المخاطبين يعلمون ذلك ، والتوكيد ب ( إنّ ) متوجه إلى المعنى التعريضي .
الآية 11 - سورة الجن: (وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك ۖ كنا طرائق قددا...)