سورة المنافقون: الآية 4 - ۞ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم...

تفسير الآية 4, سورة المنافقون

۞ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا۟ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ ۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ

الترجمة الإنجليزية

Waitha raaytahum tuAAjibuka ajsamuhum wain yaqooloo tasmaAA liqawlihim kaannahum khushubun musannadatun yahsaboona kulla sayhatin AAalayhim humu alAAaduwwu faihtharhum qatalahumu Allahu anna yufakoona

تفسير الآية 4

وإذا نظرت إلى هؤلاء المنافقين تعجبك هيئاتهم ومناظرهم، وإن يتحدثوا تسمع لحديثهم؛ لفصاحة ألسنتهم، وهم لفراغ قلوبهم من الإيمان، وعقولهم من الفهم والعلم النافع كالأخشاب الملقاة على الحائط، التي لا حياة فيها، يظنون كل صوت عال واقعًا عليهم وضارًا بهم؛ لعلمهم بحقيقة حالهم، ولفرط جبنهم، والرعب الذي تمكَّن من قلوبهم، هم الأعداء الحقيقيون شديدو العداوة لك وللمؤمنين، فخذ حذرك منهم، أخزاهم الله وطردهم من رحمته، كيف ينصرفون عن الحق إلى ما هم فيه من النفاق والضلال؟

«وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم» لجمالها «وإن يقولوا تسمع لقولهم» لفصاحته «كأنهم» من عظم أجسامهم في ترك التفهم «خُشْب» بسكون الشين وضمها «مسندة» ممالة إلى الجدار «يحسبون كل صيحة» تصاح كنداء في العسكر وإنشاد ضالة «عليهم» لما في قلوبهم من الرعب أن ينزل فيهم ما يبيح دماءهم «هم العدوُّ فاحذرهم» فإنهم يفشون سرك للكفار «قاتلهم الله» أهلكهم «أنَّى يؤفكون» كيف يصرفون عن الإيمان بعد قيام البرهان.

وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ من روائها ونضارتها، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ أي: من حسن منطقهم تستلذ لاستماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدى الصالح شيء، ولهذا قال: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض، يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ وذلك لجبنهم وفزعهم وضعف قلوبهم، والريب الذي في قلوبهم يخافون أن يطلع عليهم.فهؤلاء هُمُ الْعَدُوُّ على الحقيقة، لأن العدو البارز المتميز، أهون من العدو الذي لا يشعر به، وهو مخادع ماكر، يزعم أنه ولي، وهو العدو المبين، فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي: كيف يصرفون عن الدين الإسلامي بعد ما تبينت أدلته، واتضحت معالمه، إلى الكفر الذي لا يفيدهم إلا الخسار والشقاء.

( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم ) أي : كانوا أشكالا حسنة وذوي فصاحة وألسنة ، إذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم ، وهم مع ذلك في غاية الضعف ، والخور ، والهلع ، والجزع ، والجبن ; ولهذا قال : ( يحسبون كل صيحة عليهم ) أي : كلما وقع أمر ، أو كائنة ، أو خوف يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم ، كما قال تعالى : ( أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا ) [ الأحزاب : 19 ] فهم جهامات وصور بلا معاني . ولهذا قال : ( هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ) أي : كيف يصرفون عن الهدى إلى الضلال .وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا عبد الملك بن قدامة الجمحي ، عن إسحاق بن بكر بن أبي الفرات ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، . عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن للمنافقين علامات يعرفون بها : تحيتهم لعنة ، وطعامهم نهبة ، وغنيمتهم غلول ، ولا يقربون المساجد إلا هجرا ، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا ، مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون ، خشب بالليل ، صخب بالنهار " . وقال يزيد مرة : سخب بالنهار

ثم رسم- سبحانه- لهم بعد ذلك صورة تجعل كل عاقل يستهزئ بهم، ويحتقرهم، ويسمو بنفسه عن الاقتراب منهم. فقال- تعالى-: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ. وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ.قال القرطبي: قال ابن عباس: كان عبد الله بن أبى، وسيما جسيما صحيحا صبيحا، ذلق اللسان، فإذا قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالته.وقال الكلبي: المراد ابن أبى، وجد بن قيس، ومعتب بن قشير، كانت لهم أجسام ومنظر، وفصاحة ...وخُشُبٌ- بضم الخاء والشين- جمع خشبة- بفتحهما- كثمرة وثمر.وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: كأنهم خشب- بضم الخاء وسكون الشين- كبدنة وبدن.أى: وإذا رأيت- أيها الرسول الكريم- هؤلاء المنافقين، أعجبتك أجسامهم، لكمالها وحسن تناسقها، وإن يقولوا قولا حسبت أنه صدق، لفصاحته، وأحببت الاستماع إليه لحلاوته.وعدى الفعل «تسمع» باللام، لتضمنه معنى تصغ لقولهم.وجملة: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ مستأنفة، أو خبر لمبتدأ محذوف.أى: كأنهم وهم جالسون في مجلسك، مستندين على الجدران، وقد خلت قلوبهم من الخير والإيمان، كأنهم بهذه الحالة، مجموعة من الأخشاب الطويلة العريضة، التي استندت إلى الحوائط، دون أن يكون فيها حسن، أو نفع، أو عقل.فهم أجسام تعجب، وأقوال تغرى بالسماع إليها، ولكنهم قد خلت قلوبهم من كل خير، وامتلأت نفوسهم بكل الصفات الذميمة. فهم كما قال القائل:لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ ... جسم البغال وأحلام العصافيروشبههم- سبحانه- بالخشب المسندة على سبيل الذم لهم، أى: كأنهم في عدم الانتفاع بهم، وخلوهم من الفائدة كالأخشاب المسندة إلى الحوائط الخالية من أية فائدة.ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال: فإن قلت: ما معنى كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ قلت: شبهوا في استنادهم- وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحوائط لأن الخشب إذا انتفع به، كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به، أسند إلى الحائط، فشبهوا به في عدم الانتفاع.ويجوز أن يراد بالخشب المسندة الأصنام المنحوتة من الخشب، المسندة إلى الحيطان، وشبهوا بها في حسن صورهم، وقلة جدواهم، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من يخاطب.. .فأنت ترى القرآن الكريم وصفهم بتلك الصفة البديعة في التنفير منهم وعدم الاغترار بمظهرهم لأنهم كما قال القائل:لا تخدعنك اللحى ولا الصور ... تسعة أعشار من ترى بقرتراهم كالسحاب منتشرا ... وليس فيه لطالب مطرفي شجر السرو منهم شبه ... له رواء وماله ثمرثم وصفهم- سبحانه- بعد ذلك بالجبن والخور فقال: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ....والصيحة: المرة من الصياح، والمراد بها ما ينذر ويخيف أى: يظنون لجبن قلوبهم ولسوء نواياهم، وخبث نفوسهم- أن كل صوت ينادى به المنادى، لنشدان ضالة، أو انفلات دابة ... إنما هو واقع عليهم ضار بهم مهلك لهم..قال الآلوسى: قوله: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ أى: واقعة عليهم، ضارة لهم، لجبنهم وهلعهم.وقيل: كانوا على وجل من أن ينزل الله- تعالى- فيهم ما يهتك أستارهم، ويبيح دماءهم وأموالهم.والوقف على «عليهم» الواقع مفعولا ثانيا ل «يحسبون» وهو وقف تام.وقوله- تعالى-: هُمُ الْعَدُوُّ استئناف. أى: هم الكاملون في العداوة، والراسخون فيها، فإن أعدى الأعداء، العدو المداجى.فَاحْذَرْهُمْ لكونهم أعدى الأعداء، ولا تغترن بظواهرهم..وقوله- سبحانه-: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ دعاء عليهم بالطرد من رحمة الله- تعالى-، وتعجيب لكل مخاطب من أحوالهم التي بلغت النهاية في السوء والقبح.عن ابن عباس أن معنى قاتَلَهُمُ اللَّهُ طردهم من رحمته ولعنهم، وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن.. .وأَنَّى بمعنى كيف، ويُؤْفَكُونَ بمعنى يصرفون، من الأفك- بفتح الهمزة والفاء- بمعنى الانصراف عن الشيء.أى: لعن الله- تعالى- هؤلاء المنافقين، وطردهم من رحمته، لأنهم بسيب مسالكهم الخبيثة، وأفعالهم القبيحة، وصفاتهم السيئة ... صاروا محل مقت العقلاء، وعجبهم، إذ كيف ينصرفون عن الحق الواضح إلى الباطل الفاضح، وكيف يتركون النور الساطع، ويدخلون في الظلام الدامس؟!! وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة: قد فضحت المنافقين، وحذرت من شرورهم، ووصفتهم بالصفات التي تخزيهم، وتكشف عن دخائلهم المريضة.ثم وصفهم- سبحانه- بصفات أخرى، لا تقل في قبحها وبشاعتها عن سابقتها فقال- تعالى-:

( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ) يعني أن لهم أجساما ومناظر ، ( وإن يقولوا تسمع لقولهم ) فتحسب أنه صدق ، قال عبد الله بن عباس : كان عبد الله بن أبي جسيما فصيحا ذلق اللسان ، فإذا قال سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله . ( كأنهم خشب مسندة ) أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام . قرأ أبو عمرو والكسائي : " خشب " بسكون الشين ، وقرأ الباقون بضمها .( مسندة ) ممالة إلى جدار ، من قولهم : أسندت الشيء ، إذا أملته ، والتثقيل للتكثير ، وأراد أنها ليست بأشجار تثمر ، ولكنها خشب مسندة إلى حائط ، ( يحسبون كل صيحة عليهم ) أي لا يسمعون صوتا في العسكر بأن نادى مناد أو انفلتت دابة وأنشدت ضالة ، إلا ظنوا - من جبنهم وسوء ظنهم - أنهم يرادون بذلك ، وظنوا أنهم قد أتوا ، لما في قلوبهم من الرعب .وقيل : ذلك لكونهم على وجل من أن ينزل الله فيهم أمرا يهتك أستارهم ويبيح دماءهم ثم قال : ( هم العدو ) وهذا ابتداء وخبره ، ( فاحذرهم ) ولا تأمنهم ، ( قاتلهم الله ) لعنهم الله ( أنى يؤفكون ) يصرفون عن الحق .

قوله تعالى : وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكونقوله تعالى : وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم أي هيئاتهم ومناظرهم .وإن يقولوا تسمع لقولهم يعني عبد الله بن أبي . قال ابن عباس : كان عبد الله بن أبي وسيما جسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان ، فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالته . وصفه الله بتمام الصورة وحسن الإبانة . وقال الكلبي : المراد ابن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قشير ، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة . وفي صحيح مسلم : وقوله كأنهم خشب مسندة قال : كانوا رجالا أجمل شيء كأنهم خشب مسندة ، شبههم بخشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون ، أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام . وقيل : شبههم بالخشب التي قد تآكلت فهي مسندة بغيرها لا يعلم ما في بطنها . وقرأ قنبل وأبو عمرو والكسائي " خشب " بإسكان الشين . وهي قراءة البراء بن عازب واختيار أبي عبيد ، لأن واحدتها خشبة . كما تقول : بدنة وبدن ، وليس في اللغة فعلة يجمع على فعل . ويلزم من ثقلها أن تقول : البدن ، فتقرأ " والبدن " . وذكر اليزيدي أنه جماع الخشباء ، كقوله عز وجل : وحدائق غلبا واحدتها حديقة غلباء . وقرأ الباقون بالتثقيل وهي رواية البزي عن ابن كثير وعياش عن أبي عمرو ، وأكثر الروايات عن عاصم . واختاره أبو حاتم ، كأنه جمع خشاب وخشب ، نحو ثمرة وثمار وثمر . وإن شئت جمعت خشبة على خشب كما قالوا : بدنة وبدن وبدن . وقد روي عن ابن المسيب فتح الخاء والشين في " خشب " . قال سيبويه : خشبة وخشب ، مثل بدنة وبدن ، قال : ومثله بغير هاء أسد وأسد ، ووثن ووثن وتقرأ خشب ، وهو جمع الجمع ، خشبة وخشاب وخشب ، مثل ثمرة وثمار وثمر . والإسناد الإمالة ، تقول : أسندت الشيء أي أملته . و " مسندة " للتكثير ; أي استندوا إلى الأيمان بحقن دمائهم .قوله تعالى : يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو أي كل أهل صيحة عليهم هم العدو . ف " هم العدو " في موضع المفعول الثاني على أن الكلام لا ضمير فيه . يصفهم بالجبن والخور . قال مقاتل والسدي : أي إذا نادى مناد في العسكر أن انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون ; لما في قلوبهم من الرعب . كما قال الشاعر وهو الأخطل :ما زلت تحسب كل شيء بعدهم خيلا تكر عليهم ورجالاوقيل : يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو كلام ضميره فيه لا يفتقر إلى ما بعد ; وتقديره : يحسبون كل صيحة عليهم أنهم قد فطن بهم وعلم بنفاقهم ; لأن للريبة خوفا . ثم استأنف الله خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : " هم العدو " وهذا معنى قول الضحاك وقيل : يحسبون كل صيحة يسمعونها في المسجد أنها عليهم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فيها بقتلهم ; فهم أبدا وجلون من أن ينزل الله فيهم أمرا يبيح به دماءهم ، ويهتك به أستارهم . وفي هذا المعنى قول الشاعر :فلو أنها عصفورة لحسبتها مسومة تدعو عبيدا وأزنمابطن من بني يربوع .ثم وصفهم الله بقوله : هم العدو فاحذرهم حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم . وفي قوله تعالى : فاحذرهم وجهان : أحدهما : فاحذر أن تثق بقولهم أو تميل إلى كلامهم .الثاني : فاحذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك ." قاتلهم الله " أي لعنهم الله قاله ابن عباس وأبو مالك . وهي كلمة ذم وتوبيخ . وقد تقول العرب : قاتله الله ما أشعره ! يضعونه موضع التعجب . وقيل : معنى قاتلهم الله أي أحلهم محل من قاتله عدو قاهر ; لأن الله تعالى قاهر لكل معاند . حكاه ابن عيسى ." أنى يؤفكون " أي يكذبون ; قاله ابن عباس . قتادة : معناه يعدلون عن الحق . الحسن : معناه يصرفون عن الرشد . وقيل : معناه كيف تضل عقولهم عن هذا مع وضوح الدلائل ; وهو من الإفك وهو الصرف . و " أنى " بمعنى كيف ; وقد تقدم .

يقول جلّ ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وإذا رأيت هؤلاء المنافقين يا محمد تعجبك أجسامهم لاستواء خلقها وحسن صورها(وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) يقول جلّ ثناؤه: وإن يتكلموا تسمع كلامهم يشبه منطقهم منطق الناس (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ) يقول كأن هؤلاء المنافقين خُشُب مسنَّدة لا خير عندهم ولا فقه لهم ولا علم، وإنما هم صور بلا أحلام، وأشباح بلا عقول.وقوله: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ) يقول جلّ ثناؤه: يحسب هؤلاء المنافقون من خُبثهمْ وسوء ظنهم، وقلة يقينهم كلّ صيحة عليهم، لأنهم على وجل أن يُنزل الله فيهم أمرا يهتك به أستارهم ويفضحهم، ويبيح للمؤمنين قتلهم وسبي ذراريهم، وأخذ أموالهم، فهم من خوفهم من ذلك كلما نزل بهم من الله وحي على رسوله، ظنوا أنه نزل بهلاكهم وعَطَبهم. يقول الله جلّ ثناؤه لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: هم العدوّ يا محمد فاحذرهم، فإن ألسنتهم إذا لَقُوكم معكم وقلوبهم عليكم مع أعدائكم، فهم عين لأعدائكم عليكم.وقوله: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) يقول: أخزاهم الله إلى أيّ وجه يصرفون عن الحقّ.حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، وسمعته يقول في قول الله: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ) ... الآية، قال: هؤلاء المنافقون.واختلفت القراء في قراءة قوله: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ) فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والكوفة خلا الأعمش والكسائي ( خُشُبُ ) بضم الخاء والشين، كأنهم وجهوا ذلك إلى جمع الجمع، جمعوا الخشبة خشَابا ثم جمعوا الخِشاب خُشُبا، كما جمعت الثَّمرةُ ثمارا، ثم ثُمُرًا. وقد يجوز أن يكون الخُشُب بضم الخاء والشين إلى أنها جمع خَشَبة، فتضم الشين منها مرة، وتُسكن أخرى، كما جمعوا الأكمة أكمًا وأكمًا بضم الألف والكاف مرة، وتسكين الكاف لها مرة، وكما قيل: البُدُن والبُدْن، بضم الدال وتسكينها لجمع البَدنة، وقرأ ذلك الأعمش والكسائي ( خُشْبُ ) بضم الخاء وسكون الشين.والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، ولغتان فصيحتان، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب وتسكين الأوسط فيما جاء من جمع فُعُلة على فُعْل في الأسماء على ألسن العرب أكثر وذلك كجمعهم البدنة بُدْنا، والأجمة أُجْما.

وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4){ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } .هذا انتقال إلى وضَحْ بعض أحوالهم التي لا يبرزونها إذا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها تبرز من مشاهدتهم ، فكان الوضح الأول مفتتحاً ب { إذا جاءك المنافقون } [ المنافقون : 1 ] وهذا الوضح مفتتحاً ب { إذا رأيتهم } .فجملة { وإذا رأيتهم } معطوفة على جملة { فهم لا يفقهون } [ المنافقون : 3 ] واقعة موقع الاحتراس والتتميم لدفع إيهام من يغره ظاهر صورهم .واتبع انتفاء فقه عقولهم بالتنبيه على عدم الاغترَار بحسن صورهم فإنها أجسام خالية عن كمال الأنفس كقول حسان ولعله أخذه من هذه الآية: ... لابأس بالقوم من طُول ومن غلظجِسم البغال وأحلام العصافِير ... وتفيد مع الاحتراس تنبيهاً على دخائلهم بحيث لو حذف حرف العطف من الجملتين لصح وقوعهما موقع الاستئناف الابتدائي . ولكن أوثر العطف للتنبيه على أن هاتين صفتان تحسبان كمالاً وهما نقيصَتان لعدم تناسقهما مع ما شأنُه أن يكون كمالاً . فإن جمال النفس كجمال الخلقة إنما يحصل بالتناسب بين المحاسن وإلا فرّبما انقلب الحسن موجب نقص .فالخطاب في هذه الآية لغير معيّن يشمل كل من يراهم ممن يظن أن تغرّه صورهم فلا يدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله قد أطلعه على أحوالهم وأوقفه على تعيينهم فهو كالخطاب الذي في قوله في سورة [ الكهف : 18 ] { لو اطلعتَ عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً } والظاهر أن المراد بضمير الجمع واحد معيّن أو عدد محدود إذ يبعد أن يكون جميع المنافقين أحاسن الصور . وعن ابن عباس : كان ابن أُبيّ جسيماً صحيحاً صبيحاً ذلق اللسان . وقال الكلبي : المراد ابنُ أُبيّ والجِد بن قَيس ومعتب بن قُشير كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة . وقال في الكشاف } : وقوم من المنافقين في مثل صفة ابن أُبيّ رؤساء المدينة .وأجسام : جمع جسم بكسر الجيم وسكون السين وهو ما يقصد بالإِشارة إليه أو ما له طُول وعَرض وعُمق . وتقدم في قوله تعالى : { وزادهُ بَسطة في العلم والجسم } في سورة [ البقرة : 247 ] . وجملة وإن يقولوا تسمع لقولهم } معترضة بين جملة { وإذا رأيتهم } الخ وبين جملة { كأنهم خشب مسندة } .والمراد بالسَّماع في قوله : { تسمع لقولهم } الإِصغاء إليهم لحسن إبانتهم وفصاحة كلامهم مع تغريرهم بحلاوة معانيهم تمويه حالهم على المسلمين .فاللام في قوله : { لقولهم } لتضمين { تسمع } معنى : تُصْغ أيها السامع ، إذ ليس في الإِخبار بالسماع للقول فائدة لولا أنه ضمن معنى الإِصغاء لوعي كلامهم .وجملة { كأنهم خشب مسندة } مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً عن سؤال يَنشأ عن وصف حسن أجسامهم وذَلاقة كلامهم ، فإنه في صورة مدح فلا يناسب ما قبله من ذمهم فيترقب السامع ما يَرد بعد هذا الوصف .ويجوز أن تكون الجملة حالاً من ضميري الغيبة في قوله : { رأيتهم تعجبك أجسامهم } .ومعناه أن حسن صورهم لا نفع فيه لأنفسهم ولا للمسلمين .و { خشب } بضم الخاء وضم الشين جمع خَشَبة بفتح الخاء وفتح الشين وهو جمع نادر لم يحفظ إلا في ثَمَرة ، وقيل : ثُمر جمع ثمار الذي هو جمع ثَمرة فيكون ثُمُر جمعَ جمع . فيكون خُشب على مثال جمع الجمع وإن لم يسمع مفرده . ويقال : خُشْب بضم فسكون وهو جمع خشبة لا محالة ، مثل : بُدْن جمع بدنة .وقرأه الجمهور بضمتين . وقرأه قنبل عن ابننِ كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوبُ بضمة فسكون .والمسنَّدة التي سُندت إلى حائط أو نحوه ، أي أميلت إليه فهي غليظة طويلة قوية لكنها غير منتفع بها في سَقف ولا مشدود بها جدار . شُبهوا بالخُشُب المسنَّدة تشبيه التمثيل في حُسن المرأى وعدم الجَدوى ، أفيد بها أن أجسامهم المعجَب بها ومقالَهم المصغى إليه خاليان عن النفع كخُلوّ الخُشب المسنَّدة عن الفائدة ، فإذا رأيتموهم حسبتموهم أرباب لبّ وشجاعة وعلم ودراية . وإذا اختبرتموهم وجدّتموهم على خلاف ذلك فلا تحْتفلوا بهم .{ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ } .هذه الجملة بمنزلة بدل البعض من مضمون جملة { كأنهم خشب مسندة } ، أي من مخالفة باطنهم المشوه للظاهر المموّه ، أي هم أهل جبن في صورة شجعان .وهذا من جملة ما فضحته هذه السورة من دخائلهم ومطاوي نفوسهم كما تقدم في الآيات السابقة وإن اختلفت مواقعها من تفنن أساليب النظم ، فهي مشتركة في التنبيه على أسرارهم .والصيحة : المرة من الصياح ، أي هم لسوء ما يضمرونه للمسلمين من العداوة لا يزالون يتوجّسون خيفة من أن ينكشف أمرهم عند المسلمين فهم في خوف وهلع إذا سمعوا صيحة في خصومة أو أنشدت ضالة خشُوا أن يكون ذلك غارة من المسلمين عليهم للإِيقاع بهم .و { كلّ } هنا مستعمل في معنى الأكثر لأنهم إنما يتوجّسون خوفاً من صيحات لا يعلمون أسبابها كما استعمله النابغة في قوله :بها كل ذيَّال وخنساءَ ترعوي ... إلى كُلّ رَجَّاف من الرمل فاردوقوله : { عليهم } ظرف مستقر هو المفعول الثاني لفعل { يحسبون } وليس متعلقاً ب { صيحة } .{ عَلَيْهِمْ هُمُ العدو } .يجوز أن تكون استئنافاً بيانياً ناشئاً عن جملة { يحسبون كل صيحة عليهم } لأن تلك الجملة لغرابة معناها تثير سؤالاً عن سبب هلعهم وتخوفهم من كلّ ما يتخيَّل منه بأس المسلمين فيجاب بأن ذلك لأنهم أعداء ألِدّاءُ للمسلمين ينظرون للمسلمين بمرآة نفوسهم فكما هم يتربصون بالمسلمين الدوائر ويتمنون الوقيعة بهم في حين يظهرون لهم المودة كذلك يظنون بالمسلمين التربص بهم وإضمار البطش بهم على نحو ما قال أبو الطيب: ... إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونهوصدَّق ما يعتاده من توهم ... ويجوز أن تكون الجملة بمنزلة العلة لِجملة { يحسبون كل صيحة عليهم } على هذا المعنى أيضاً .ويجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً لِذكر حالة من أحوالهم تهُم المسلمين معرفتُها ليترتب عليها تفريع { فاحذرهم } وعلى كل التقادير فنظم الكلام واف بالغرض من فضح دخائلهم .والتعريف في { العدو } تعريف الجنس الدال على معيّن كمال حقيقة العدوّ فيهم ، لأن أعدى الأعادي العدوّ المتظاهر بالموالاة وهو مداح وتحت ضلوعه الداء الدوي . وعلى هذا المعنى رتب عليه الأمر بالحذر منهم .و { العدوّ } : اسم يقع على الواحد والجمع . والمراد : الحذر من الاغترار بظواهرهم الخلابة لئلا يُخلص المسلمون إليهم بسرهم ولا يتقبلوا نصائحهم خشية المكائد .والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ليبلغه المسلمين فيحذروهم .{ فاحذرهم قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى } .تذييل فإنه جمع على الإِجمال ما يغني عن تعداد مذامّهم ( كقوله { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } [ النساء : 63 ] ، مسوق للتعجيب من حال توغلهم في الضلالة والجهالة بعُدولهم عن الحق .فافتتح التعجيب منهم بجملة أصلها دعاء بالإِهلاك والاستئصال ولكنها غلب استعمالها في التعجب أو التعجيب من سوء الحال الذي جرّهُ صاحبه لنفسه فإن كثيراً من الكَلم التي هي دعاء بسوء تستعمل في التعجيب من فعل أو قول مكروهٍ مثل قولهم : ثكلته أمهُ ، ووَيلُ أمّه . وتَربتْ يمينه . واستعمال ذلك في التعجب مجاز مرسل للملازمة بين بُلوغ الحال في السوء وبين الدعاء على صاحبه بالهلاك ، إذ لا نفع له ولا للناس في بقائه ، ثم الملازمةِ بين الدعاء بالهلاك وبين التعجب من سوء الحال . فهي ملازمة بمرتبتين كنايةٌ رمزية .و { أنَّى } هنا اسم استفهام عن المكان . وأصل { أنَّى } ظرف مكان وكثر تضمينه معنى الاستفهام في استعمالاته ، وقد يكون للمكان المجازي فيفسر بمعنى ( كيفَ ) كقوله تعالى : { قلتم أنى هذا } في سورة [ آل عمران : 165 ] ، وفي قوله : { أنَّى لهم الذكرى } في سورة [ الدخان : 13 ] . ومنه قوله هنا أنى يؤفكون } ، والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب على وجه المجاز المرسل لأن الأمر العجيب من شأنه أن يستفهم عن حال حصوله . فالاستفهام عنه من لوازم أعجوبته . فجملة { أنى يؤفكون } بيان للتعجيب الإجمالي المفاد بجملة { قاتلهم الله } .و { يؤفكون } يُصرفون يقال : أفَكَه ، إذا صرفه وأبعده ، والمراد : صرفهم عن الهدى ، أي كيف أمكن لهم أن يصرفوا أنفسهم عن الهدى ، أو كيف أمكن لمضلليهم أن يصرفوهم عن الهدى مع وضوح دلائله .وتقدم نظير هذه الآية في سورة براءة .
الآية 4 - سورة المنافقون: (۞ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ۖ وإن يقولوا تسمع لقولهم ۖ كأنهم خشب مسندة ۖ يحسبون كل صيحة عليهم ۚ...)