سورة المزمل: الآية 8 - واذكر اسم ربك وتبتل إليه...

تفسير الآية 8, سورة المزمل

وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا

الترجمة الإنجليزية

Waothkuri isma rabbika watabattal ilayhi tabteelan

تفسير الآية 8

واذكر -أيها النبي- اسم ربك، فادعه به، وانقطع إليه انقطاعًا تامًا في عبادتك، وتوكل عليه. هو مالك المشرق والمغرب لا معبود بحق إلا هو، فاعتمد عليه، وفوِّض أمورك إليه.

«واذكر اسم ربك» أي قل بسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء قراءتك «وتبتل» انقطع «إليه تبتيلا» مصدر بتلَ جيء به رعاية للفواصل وهو ملزوم التبتل.

وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ شامل لأنواع الذكر كلها وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي: انقطع إلى الله تعالى، فإن الانقطاع إلى الله والإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، والاتصاف بمحبة الله، وكل ما يقرب إليه، ويدني من رضاه.

وقوله : ( واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ) أي : أكثر من ذكره ، وانقطع إليه ، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك ، وما تحتاج إليه من أمور دنياك ، كما قال : ( فإذا فرغت فانصب ) [ الشرح : 7 ] أي : إذا فرغت من مهامك فانصب في طاعته وعبادته ، لتكون فارغ البال . قاله ابن زيد بمعناه أو قريب منه .وقال ابن عباس ومجاهد وأبو صالح وعطية والضحاك والسدي : ( وتبتل إليه تبتيلا ) أي : أخلص له العبادة .وقال الحسن : اجتهد وبتل إليه نفسك .وقال ابن جرير : يقال للعابد : متبتل ، ومنه الحديث المروي : أنه نهى عن التبتل ، يعني : الانقطاع إلى العبادة وترك التزوج .

ثم أمره- سبحانه- بعد ذلك بالمداومة على ذكره ليلا ونهارا فقال: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا.وقوله- سبحانه-: وَتَبَتَّلْ من التبتل، وهو الاشتغال الدائم بعبادة الله- تعالى-، والانقطاع لطاعته. ومنه قولهم بتل فلان الحبل، إذا قطعه، وامرأة بتول.أى: منقطعة عن الزواج، ومتفرغة لعبادة الله- تعالى- والمراد به هنا: التفرغ لما يرضى الله- تعالى-، والاشتغال بذلك عن كل شيء سواه.أى: وداوم- أيها الرسول الكريم- على ذكر الله- تعالى- عن طريق تسبيحه، وتحميده وتكبيره، وتفرغ لعبادته وطاعته تفرغا تاما، دون أن يشغلك عن ذلك شاغل.وليس المراد بقوله- تعالى-: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا الانقطاع التام عن الأعمال، لأن هذا يتنافى مع قوله- تعالى- قبل ذلك: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا، وإنما المراد التنبيه إلى أنه صلى الله عليه وسلم ينبغي له أن لا يشغله السبح الطويل بالنهار، عن طاعته- عز وجل- وعن المداومة على مراقبته وذكره.ومما لا شك فيه أن ما كان يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم من الاشتغال بأمر الدعوة إلى وحدانية الله- تعالى-، ومن تعليم الناس العلم النافع، والعمل الصالح ... كل ذلك يندرج تحت المواظبة على ذكر الله- تعالى-، وعلى التفرغ لعبادته.وقال- سبحانه- وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ولم يقل تبتلا حتى يكون الفعل موافقا لمصدره، للإشارة إلى أن التبتل والانقطاع إلى الله يحتاجان إلى عمل اختياري منه صلى الله عليه وسلم، بأن يجرد نفسه عن كل ما سوى الله- تعالى-، وبذلك يحصل التبتل الذي هو أثر للتبتيل، بمعنى:ترويض النفس وتعويدها على العبادة والطاعة.

( واذكر اسم ربك ) بالتوحيد والتعظيم ( وتبتل إليه تبتيلا ) قال ابن عباس وغيره : أخلص إليه إخلاصا . وقال الحسن : اجتهد . وقال ابن زيد : تفرغ لعبادته . قال سفيان : توكل عليه توكلا . وقيل : انقطع إليه في العبادة انقطاعا وهو الأصل في الباب ، يقال : تبتلت الشيء أي : قطعته وصدقة بتة : أي : مقطوعة عن صاحبها لا سبيل له عليها والتبتيل : [ التقطيع ] تفعيل منه يقال : بتلته فتبتل ، والمعنى : بتل نفسك إليه ، ولذلك قال : تبتيلا . قال زيد بن أسلم : التبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله تعالى .

قوله تعالى : واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلافيه ثلاث مسائل :الأولى : قوله تعالى : واذكر اسم ربك أي ادعه بأسمائه الحسنى ، ليحصل لك مع الصلاة محمود العاقبة . وقيل : أي اقصد بعملك وجه ربك ، وقال سهل : اقرأ باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلاتك توصلك بركة قراءتها إلى ربك ، وتقطعك عما سواه . وقيل : اذكر اسم ربك في وعده ووعيده ، لتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته . وقال الكلبي : صل لربك أي بالنهار .قلت : وهذا حسن فإنه لما ذكر الليل ذكر النهار ; إذ هو قسيمه ; وقد قال الله تعالى : وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر على ما تقدم .الثانية : قوله تعالى : وتبتل إليه تبتيلا التبتل : الانقطاع إلى عبادة الله - عز وجل - ; أي انقطع بعبادتك إليه ، ولا تشرك به غيره . يقال : بتلت الشيء أي قطعته ، ومنه قولهم : طلقها بتة بتلة ، وهذه صدقة بتة بتلة ; أي بائنة منقطعة عن صاحبها ، أي قطع ملكه عنها بالكلية ; ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى ، ويقال للراهب متبتل ; لانقطاعه عن الناس ، وانفراده بالعبادة ، قال :تضيء الظلام بالعشاء كأنها منارة ممسى راهب متبتلوفي الحديث النهي عن التبتل ، وهو الانقطاع عن الناس والجماعات . وقيل : إن أصله عند العرب التفرد ; قاله ابن عرفة . والأول أقوى لما ذكرنا . ويقال : كيف قال : تبتيلا ، ولم يقل تبتلا ؟ قيل له : لأن معنى تبتل بتل نفسه ، فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل .الثالثة : قد مضى في ( المائدة ) في تفسير قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم كراهة لمن تبتل وانقطع وسلك سبيل الرهبانية بما فيه كفاية . قال ابن العربي : وأما اليوم وقد مرجت عهود الناس ، وخفت أماناتهم ، واستولى الحرام على الحطام ، فالعزلة خير من الخلطة ، والعزبة أفضل من التأهل ، ولكن معنى الآية : انقطع عن الأوثان والأصنام وعن عبادة غير الله ، وكذلك قال مجاهد : معناه : أخلص له العبادة ، ولم يرد التبتل ، فصار التبتل مأمورا به في القرآن ، منهيا عنه في السنة ، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي ; فلا يتناقضان ، وإنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم ; فالتبتل المأمور به : الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة ; كما قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين والتبتل المنهي عنه : هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع ، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن .

يقول تعالى ذكره: ( وَاذْكُرْ ) يا محمد ( اسْمُ رَبِّكَ ) فادعه به : ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) يقول: وانقطع إليه انقطاعا لحوائجك وعبادتك دون سائر الأشياء غيره، وهو من قولهم: تبتَّلتُ هذا الأمر؛ ومنه قيل لأمّ عيسى ابن مريم البتول، لانقطاعها إلى الله، ويقال للعابد المنقطع عن الدنيا وأسبابها إلى عبادة الله: قد تبتل؛ ومنه الخبر الذي رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه نهى عن التبتُّل ".وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: أخلص له إخلاصا.حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى، عن ابن أبي نجيح، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: أخلص له إخلاصا.حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: أخلص له إخلاصا.حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: أخْلِصْ إليه.حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: أخلص إليه إخلاصا.حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي يحيى المكي، في قوله: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: أخلص إليه إخلاصا.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: أخلص إليه المسألة والدعاء.حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن أشعث، عن الحسن، في قوله: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: بَتِّل نفسك واجتهد.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) يقول: أخلص له العبادة والدعوة.حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، بنحوه.حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: أخلص إليه إخلاصا.حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ) قال: أي تفرّغ لعبادته، قال: تبتل فحبذا التبتل إلى الله، وقرأ قول الله: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ قال: إذا فرغت من الجهاد فانصب في عبادة الله وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ .

وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) عطف على { قم الليل } [ المزمل : 2 ] وقصد بإطلاق الأمر عن تعيين زمان إلى إفادة تعميمه ، أي اذكر اسم ربك في الليل وفي النهار كقوله : { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً } [ الإنسان : 25 ] .وإقحام كلمة { اسم } لأن المأمور به ذكر اللسان وهو جامع للتذكر بالعقل لأن الألفاظ تجري على حسب ما في النفس ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول } [ الأعراف : 205 ] .والتبتل : شدة البتل ، وهو مصدر تبتّل القاصر الذي هو مطاوع بَتَّله ف { تبتل } وهو هنا للمطاوعة المجازية يقصد من صيغتها المبالغة في حصول الفعل حتّى كأنه فعله غيره به فَطاوعه ، والتبتل : الانقطاع وهو هنا انقطاع مجازي ، أي تفرغ البال والفكر إلى ما يرضي الله ، فكأنه انقطع عن الناس وانحاز إلى جانب الله فعدي ب «إلى» الدالة على الانتهاء ، قال امرؤ القيس :منارة مُمْسى راهب متَبَتِّل ... والتبتيل : مصدر بتَّل المشدد الذي هو فعل متعد مثل التّقطيع .وجيء بهذا المصدر عوضاً عن التبتل للإِشارة إلى أن حُصول التبتل ، أي الانقطاع يقتضي التبتيل أي القطْع . ولما كان التبتيل قائماً بالمتبتل تعين أن تبتيله قطعه نفسه عن غير من تبتل هو إليه فالمقطوع عنه هنا هو من عدا الله تعالى فالجمع بين { تبتل } و { تبتيلاً } مشير إلى إراضة النفس على ذلك التبتل . وفيه مع ذلك وفاء بِرعي الفواصل التي قبله .والمراد بالانقطاع المأمور به انقطاع خاص وهو الانقطاع عن الأعمال التي تمنعه من قيام الليل ومهام النهار في نشر الدعوة ومحاجّة المشركين ولذلك قيل { وتبتل إليه } أي إلى الله فكل عمل يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم من أعمال الحياة فهو لدين الله فإن طعامه وشرابه ونومه وشؤونه للاستعانة على نشر دين الله . وكذلك منعشات الروح البريئة من الإِثم مثل الطِّيب ، وتزوج النساء ، والأنس إلى أهله وأبنائه وذويه ، وقد قال : «حُبّب إليّ من دنياكم النساء والطيب» .وليس هو التبتل المفضي إلى الرهبانية وهو الإِعراض عن النساء وعن تدبير أمور الحياة لأن ذلك لا يلاقي صفة الرسالة .وفي حديث سعْد في «الصحيح» «ردّ رسول الله على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذِن له لاختصينا» يعني ردّ عليه استشارته في الإِعراض عن النساء .
الآية 8 - سورة المزمل: (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا...)