سورة النور: الآية 1 - سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها...

تفسير الآية 1, سورة النور

سُورَةٌ أَنزَلْنَٰهَا وَفَرَضْنَٰهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ ءَايَٰتٍۭ بَيِّنَٰتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

الترجمة الإنجليزية

Sooratun anzalnaha wafaradnaha waanzalna feeha ayatin bayyinatin laAAallakum tathakkaroona

تفسير الآية 1

هذه سورة عظيمة من القرآن أنزلناها، وأوجبنا العمل بأحكامها، وأنزلنا فيها دلالات واضحات؛ لتتذكروا- أيها المؤمنون- بهذه الآيات البينات، وتعملوا بها.

هذه «سورة أنزلناها وفرضناها» مخففة ومشددة لكثرة المفروض فيها «وأنزلنا فيها آيات بينات» واضحات الدلالات «لعلكم تذَّكرون» بإدغام التاء الثانية في الذال تتعظون

أي: هذه سُورَةٌ ْ عظيمة القدر أَنْزَلْنَاهَا ْ رحمة منا بالعباد، وحفظناها من كل شيطان وَفَرَضْنَاهَا ْ أي: قدرنا فيها ما قدرنا، من الحدود والشهادات وغيرها، وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ْ أي: أحكاما جليلة، وأوامر وزواجر، وحكما عظيمة لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ْ حين نبين لكم، ونعلمكم ما لم تكونوا تعلمون. ثم شرع في بيان تلك الأحكام المشار إليها

سورة النور وهي مدنية .يقول تعالى : هذه ( سورة أنزلناها ) فيه تنبيه على الاعتناء بها ولا ينفي ما عداها .( وفرضناها ) قال مجاهد وقتادة : أي بينا الحلال والحرام والأمر والنهي ، والحدود .وقال البخاري : ومن قرأ " فرضناها " يقول : فرضنا عليكم وعلى من بعدكم .( وأنزلنا فيها آيات بينات ) أي : مفسرات واضحات ، ( لعلكم تذكرون ) .

مقدمة وتمهيد1- سورة النور من السور المدينة، وعدد آياتها أربع وستون آية، وكان نزولها بعد سورة النصر.وقد اشتملت هذه السورة الكريمة، على أحكام العفاف والستر. وهما قوام المجتمع الصالح. وبدونها تنحط المجتمعات. ويصير أمرها فرطا، ويصبح الفرد إلى الحيوان الأعجم، أقرب منه إلى الإنسان العاقل.قال الآلوسى: «روى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «علموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نساءكم سورة النور» .وعن حارثة بن مضرب قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب، أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور» .2- وتبدأ هذه السورة الكريمة ببدء فريد، تقرر فيه وجوب الانقياد لما فيها من أحكام وآداب فتقول: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها، وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.ثم تقبح فاحشة الزنا تقبيحا يحمل النفوس على النفور منها، وعلى نبذ مرتكبيها، وعلى تنفيذ حدود الله- تعالى- فيهم بدون شفقة أو رأفة.قال- تعالى-: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.3- ثم تبين السورة الكريمة بعد ذلك، حكم الذين يرمون النساء العفيفات بالفاحشة، وحكم الذين يرمون أزواجهم بذلك، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم.قال- تعالى-: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً، وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ. فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.4- ثم ذكر- سبحانه- في ست عشرة آية قصة الإفك، على الصديقة بنت الصديق، ومن بين ما اشتملت عليه هذه القصة: تنبيه المؤمنين إلى العذاب العظيم الذي أعده الله- تعالى- لمن أشاع هذا الإفك، وحض المؤمنين على التثبت من صحة الأخبار، وعلى وجوب حسن الظن بالمؤمنين، وعلى تحذيرهم من اتباع خطوات الشيطان.ثم ختمت القصة ببراءة السيدة عائشة من كل ما اتهمت به، قال- تعالى-: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.5- وبعد أن أفاضت السورة الكريمة في بيان قبح فاحشة الزنا، وفي عقوبة من يقذف المحصنات الغافلات.. أتبعت ذلك بحديث مستفيض، عن آداب الاستئذان، وعن وجوب غض البصر بالنسبة للرجال والنساء على السواء، وعن تعليم الناس الآداب القويمة.والأخلاق المستقيمة، حتى يحيا المجتمع المسلم حياة يسودها الطهر والعفاف والنقاء.قال- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ، حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.وقال- سبحانه-: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ....6- ثم حببت السورة الكريمة إلى المؤمنين والمؤمنات الزواج من أهل الدين والصلاح، دون أن يمنعهم من ذلك الفقر أو قلة ذات اليد، فإنهم إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وعلى الذين لم يتيسر لهم وسائل الزواج، أن يعتصموا بالعفاف، حتى يغنيهم الله- تعالى- من فضله.قال- تعالى-: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ- أى زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ، إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ، يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ، وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ 7- وبعد أن ساقت السورة الكريمة تلك التوجيهات السامية، التي من شأنها أن تسلح الأفراد والجماعات، بسلاح الطهر والعفاف والتستر والآداب الحميدة.. أتبعت ذلك ببيان أن الله- تعالى- هو نور العالم كله علويه وسفليه، وهو منوره بآياته التكوينية والتنزيلية الدالة على وحدانيته وقدرته، وأن أشرف البيوت في الأرض، هي بيوته التي يذكر فيها اسمه والتي يسبح له فيها بالغدو والآصال رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ. يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.تلك هي عاقبة المؤمنين الصادقين. الذين «لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله» أما الكافرون فأعمالهم «كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب» .8- ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن مظاهر قدرة الله- تعالى- في هذا الكون، وأن المتأمل في هذا الوجود، يرى مظاهر قدرته- سبحانه- ظاهرة في هذا السحاب الذي يتحول إلى مطر لا غنى للناس عنه، وفي تقلب الليل والنهار. وفي خلق الدواب على أشكال مختلفة.قال- تعالى-: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ، يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.9- ثم كشفت السورة الكريمة للمؤمنين عن جانب من رذائل المنافقين، لكي يحذروهم.فقال- تعالى-: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا، أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ، بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.10- وبعد هذا التوبيخ للمنافقين على سلوكهم الذميم، وعلى نكوصهم عن حكم الله- تعالى- ورسوله صلّى الله عليه وسلّم جاء وعد الله- تعالى- للمؤمنين، بالاستخلاف في الأرض، وبالتمكين في الدين، وبتبديل خوفهم أمنا، فقال- تعالى-: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.11- ثم عادت السورة مرة أخرى إلى الحديث عن آداب الاستئذان، فأمرت المؤمنين أن يعودوا مماليكهم وصبيانهم الذين لم يبلغوا الحلم، على الاستئذان في الدخول عليهم ثلاث مراتافتتحت سورة النور بافتتاح لم تشترك معها فيه سورة أخرى من سور القرآن الكريم .وقوله - سبحانه - : ( سُورَةٌ ) خبر لمبتدأ محذوف ، أى : هذه سورة .والسورة القرآنية : هى مجموعة من الآيات المسرودة ، لها مبدأ ولها نهاية ، وجمعها : سُوَر .وكلمة سورة مأخوذة من سور المدينة ، وكأن السورة القرآنية سميت بهذا الاسم لإحاطتها بآياتها إحاطة السور بما يكون بداخله .أو أنها فى الأصل تطلق على المنزلة السامية ، والسورة القرآنية سميت بذلك لرفعتها وعلو شأنها .قال القرطبى : والسورة فى اللغة : اسم للمنزلة الشريفة ، ولذلك سميت السورة من القرآن سورة . قال النابغة :ألم تر أن الله أعطاك سُورَة ... ترى كلّ مَلْكٍ دونَها يتذبذبوقوله - تعالى - : ( وَفَرَضْنَاهَا ) من الفرض بمعنى القطع . وأصله قطع الشىء الصُّلْب والتأثير فيه .والمراد به هنا : تنفيذ أحكام الله - تعالى - على أتم وجه وأكمله .والمعنى هذه سورة قرآنية . أنزلناها عليك - أيها الرسول الكريم - ، وأوجبنا ما فيها من أحكام ، وآداب وتشريعات ، إيجابا قطيعا ، وأنزلنا فيها آيات بينات واضحات الدلالة على وحدانيتنا ، وقدرتنا ، وعلى صحة الأحكام التى وردت فيها ، لتتذكرها وتعتبروا بها وتعتقدوا صحتها وتنفذوا ما اشتملت عليه من أمر أو نهى .وجمع - سبحانه - بين الإنزال والفرضية فقال : ( أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ) لبيان أن الغرض منها ليس مجرد الإنزال وإنما الإنزال المصحوب بوجوب تنفيذ الأحكام والآداب التى اشتملت عليها ، والتى أنزلت من أجلها .ومعلوم أن إنزال السورة كلها . يستلزم إنزال هذه الآيات منها فيكون التكرار فى قوله - تعالى - ( وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) لكمال العناية بشأنها ، كما هى الحال فى ذكر بالخاص بعد العام .و " لعل " فى قوله - تعالى - ( لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) للتعليل . أى : لعلكم تتذكرون ما فيها من آيات دالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، وعلى سمو تشريعاتنا ، فيؤدى بكم هذا التذكر إلى عبادتنا وطاعتنا .ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حد الزانى والزانية ، وقبح جريمة الزنا تقبيحا يحمل عل النفور ، وحرمها على المؤمنين تحريما قاطعا ، فقال - تعالى - : ( الزانية . . . ) .

مدنية .( سورة ) أي : هذه سورة ، ( أنزلناها وفرضناها ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : " وفرضناها " بتشديد الراء ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ، أي : أوجبنا ما فيها من الأحكام وألزمناكم العمل بها . وقيل : معناه قدرنا ما فيها من الحدود . والفرض : التقدير . قال الله - عز وجل - : " فنصف ما فرضتم ( البقرة - 237 ) أي : قدرتم ، ودليل التخفيف قوله - عز وجل - : " إن الذي فرض عليك القرآن " ( القصص - 85 ) وأما التشديد فمعناه : وفصلناه وبيناه . وقيل : هو بمعنى الفرض الذي هو بمعنى الإيجاب أيضا . والتشديد للتكثير لكثرة ما فيها من الفرائض ، أي : أوجبناها عليكم وعلى من بعدكم إلى قيام الساعة . ( وأنزلنا فيها آيات بينات ) واضحات ، ( لعلكم تذكرون ) تتعظون .

سورة النورمدنية بالإجماعبسم الله الرحمن الرحيمسورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرونمقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر . وكتب عمر - رضي الله عنه - إلى أهل الكوفة : علموا نساءكم سورة النور . وقالت عائشة - رضي الله عنها - : لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن سورة النور والغزل . وفرضناها قرئ بتخفيف الراء ؛ أي فرضنا عليكم وعلى من بعدكم ما فيها من الأحكام . وبالتشديد : أي أنزلنا فيها فرائض مختلفة . وقرأ أبو عمرو : ( وفرضناها ) بالتشديد أي قطعناها في الإنزال نجما نجما . والفرض القطع ، ومنه فرضة القوس ، وفرائض الميراث ، وفرض النفقة . وعنه أيضا فرضناها فصلناها وبيناها . وقيل : هو على التكثير ؛ لكثرة ما فيها من الفرائض . والسورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة ؛ ولذلك سميت السورة من القرآن سورة . قال زهير :ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذبوقد مضى في مقدمة الكتاب القول فيها . وقرئ ( سورة ) بالرفع على أنها مبتدأ وخبرها أنزلناها ؛ قاله أبو عبيدة ، والأخفش . وقال الزجاج ، والفراء ، والمبرد : سورة بالرفع لأنها خبر الابتداء ؛ لأنها نكرة ولا يبتدأ بالنكرة في كل موضع ، أي هذه سورة . ويحتمل أن يكون قوله ( سورة ) ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة فحسن الابتداء لذلك ، ويكون الخبر في قوله الزانية والزاني . وقرئ ( سورة ) بالنصب ، على تقدير أنزلنا سورة أنزلناها . وقال الشاعر [ الربيع بن ضبيع ] :والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطراأو تكون منصوبة بإضمار فعل أي اتل سورة . وقال الفراء : هي حال من الهاء والألف ، والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه .

قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: ( سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا ) وهذه السورة أنزلناها. وإنما قلنا معنى ذلك كذلك؛ لأن العرب لا تكاد تبتدئ بالنكرات قبل أخبارها إذا لم تكن جوابا، لأنها توصل كما يوصل الذي، ثم يخبر عنها بخبر سوى الصلة، فيستقبح الابتداء بها قبل الخبر إذا لم تكن موصولة، إذ كان يصير خبرها إذا ابتدئ بها كالصلة لها، ويصير السامع خبرها كالمتوقع خبرها، بعد إذ كان الخبر عنها بعدها، كالصلة لها، وإذا ابتدئ بالخبر عنها قبلها، لم يدخل الشك على سامع الكلام في مراد المتكلم. وقد بيَّنا فيما مضى قبل، أن السورة وصف لما ارتفع بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.وأما قوله: ( وَفَرَضْنَاهَا ) فإن القرّاء اختلفت في قراءته، فقرأه بعض قرّاء الحجاز والبصرة: " وفَرَضْناهَا " ويتأولونه: وفصَّلناها ونزلنا فيها فرائض مختلفة. وكذلك كان مجاهد يقرؤه ويتأوّله.حدثني أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا ابن مهدي، عن عبد الوارث بن سعيد، عن حميد، عن مجاهد، أنه كان يقرؤها: " وَفَرَّضْناهَا " يعني بالتشديد.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: " وَفَرَّضْنَاها " قال: الأمر بالحلال، والنهي عن الحرام.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. وقد يحتمل ذلك إذا قرئ بالتشديد وجها غير الذي ذكرنا عن مجاهد، وهو أن يوجه إلى أن معناه: وفرضناها عليكم وعلى من بعدكم من الناس إلى قيام الساعة. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والشأم ( وَفَرَضْنَاهَا ) بتخفيف الراء، بمعنى: أوجبنا ما فيها من الأحكام عليكم، وألزمناكموه وبيَّنا ذلك لكم.والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وذلك أن الله قد فصلها، وأنزل فيها ضروبًا من الأحكام، وأمر فيها ونهى، وفرض على عباده فيها فرائض، ففيها المعنيان كلاهما: التفريض، والفرض، فلذلك قلنا بأية القراءتين قرأ القارئ فمصيب الصواب.*ذكر من تأوّل ذلك بمعنى الفرض، والبيان من أهل التأويل.حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: ( وَفَرَضْنَاهَا ) يقول: بيَّناها.حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ) قال: فرضناها لهذا الذي يتلوها مما فرض فيها، وقرأ فيها: ( آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ).وقوله: ( وَأَنزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) يقول تعالى ذكره: وأنزلنا في هذه السورة علامات ودلالات على الحقّ بينات، يعني واضحات لمن تأمَّلَها وفكَّر فيها بعقل أنها من عند الله، فإنها الحقّ المبين، وإنها تهدي إلى الصراط المستقيم.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج: ( وَأَنزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) قال: الحلال والحرام والحدود ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) يقول: لتتذكروا بهذه الآيات البينات التي أنزلناها.

سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)1(يجوز أن يكون { سورة } خبراً عن مبتدأ مقدر دل عليه ابتداء السورة ، فيقدر : هذه سورة . واسم الإشارة المقدر يشير إلى حاضر في السمع وهو الكلام المتتالي ، فكل ما ينزل من هذه السورة وألحق بها من الآيات فهو من المشار إليه باسم الإشارة المقدر . وهذه الإشارة مستعملة في الكلام كثيراً .ويجوز أن تكون { سورة } مبتدأ ويكون قوله : { الزانية والزاني } [ النور : 2 ] إلى آخر السورة خبراً عن { سورة } ويكون الابتداء بكلمة { سورة } ثم أجري عليه من الصفات تشويقاً إلى ما يأتي بعده مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم " كلمتان حبيبتان إلى الرحمان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " .وأحسن وجوه التقدير ما كان منساقاً إليه ذهن السامع دون كلفة ، فدع عنك التقادير الأخرى التي جوزوها هنا .ومعنى { سورة } جزء من القرآن معين بمبدأ ونهاية وعدد آيات . وتقدم بيانه في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير .وجملة : { أنزلناها } وما عطف عليها في موضع الصفة ل { سورة } . والمقصود من تلك الأوصاف التنويه بهذه السورة ليقبل المسلمون بشراشرهم على تلقي ما فيها . وفي ذلك امتنان على الأمة بتحديد أحكام سيرتها في أحوالها .ففي قوله : { أنزلناها } تنويه بالسورة بما يدل عليه «أنزلنا» من الإسناد إلى ضمير الجلالة الدال على العناية بها وتشريفها . وعبر ب«أنزلنا» عن ابتداء إنزال آياتها بعد أن قدرها الله بعلمه بكلامه النفسي . فالمقصود من إسناد إنزالها إلى الله تعالى تنويه بها . وعبر عن إنزالها بصيغة المضي وإنما هو واقع في الحال باعتبار إرادة إنزالها ، فكأنه قيل : أردنا إنزالها وإبلاغها ، فجعل ذلك الاعتناء كالماضي حرصاً عليه . وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة وقوعه كقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] الآية .والقرينة قوله : { وفرضناها } ومعنى { فرضناها } عند المفسرين : أوجبنا العمل بما فيها . وإنما يليق هذا التفسير بالنظر إلى معظم هذه السورة لا إلى جميعها فإن منها ما لا يتعلق به عمل كقوله : { الله نور السماوات والأرض } [ النور : 35 ] الآيات وقوله : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة } [ النور : 39 ] .فالذي أختاره أن يكون الفرض هنا بمعنى التعيين والتقدير كقوله تعالى : { نصيباً مفروضاً } [ النساء : 7 ] وقوله : { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له } [ الأحزاب : 38 ] . وتعدية فعل «فرضنا» إلى ضمير السورة من قبيل ما يعبر عنه في مسائل أصول الفقه من إضافة الأحكام إلى الأعيان بإرادة أحوالها ، مثل { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] ، أي أكلها . فالمعنى : وفرضنا آياتها . وسنذكر قريباً ما يزيد هذا بياناً عند قوله تعالى : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } [ النور : 34 ] وكيف قوبلت الصفات الثلاث المذكورة هنا بالصفات الثلاث المذكورة هنالك .وقرأ الجمهور : { وفرضناها } بتخفيف الراء بصيغة الفعل المجرد .وقرأه ابن كثير وأبو عمرو { وفرّضناها } بتشديد الراء للمبالغة مثل نزّل المشدّد . ونقل في حواشي «الكشاف» عن الزمخشري قوله: ... كأنه عامل في دين سؤددهبسورة أنزلت فيه وفُرّضَتِ ... وهذان الحكمان وهما الإنزال والفرض ثبتا لجميع السورة .وأما قوله : { أنزلنا فيها آيات بينات } فهو تنويه آخر بهذه السورة تنويه بكل آية اشتملت عليها السورة : من الهدى إلى التوحيد ، وحقية الإسلام ، ومن حجج وتمثيل ، وما في دلائل صنع الله على سعة قدرته وعلمه وحكمته ، وهي ما أشار إليه قوله : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين } [ النور : 34 ] وقوله : { ألم تر أن الله يزجي سحاباً } إلى قوله : { صراط مستقيم } [ النور : 43 46 ] .ومن الآيات البينات التي أنزلت فيها إطلاع الله رسوله على دخائل المنافقين مما كتموه في نفوسهم من قوله : { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون } إلى قوله : { إن الله خبير بما تعلمون } [ النور : 48 53 ] فحصل التنويه بمجموع السورة ابتداء والتنويه بكل جزء منها ثانياً .فالآيات جمع آية وهي قطعة من الكلام القرآني دالة على معنى مستقل وتقدم بيانها في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير .فالمراد من الآيات المنزلة في هذه السورة جميع ما اشتملت عليه من الآيات لا آيات مخصوصة من بينها . والمقصود التنويه بآياتها بإجراء وصف { بينات } عليها .وإذا كانت الآيات التي اشتملت السورة على جميعها هي عين السورة لا بعضاً منها إذ ليس ثم شيء غير تلك الآيات حاوٍ لتلك الآيات حقيقة ولا مشبه بما يحوي ، فكان حرف ( في) الموضوع للظرفية مستعملاً في غير ما وضع له لا حقيقة ولا استعارة مصرحة .فتعين أن كلمة { فيها } تؤذن باستعارة مكنية بتشبيه آيات هذه السورة بأعلاق نفسية تكتنز ويحرص على حفظها من الإضاعة والتلاشي كأنها مما يجعل في خزانة ونحوها . ورمز إلى المشبه به بشيء من روادفه وهو حرف الظرفية فيكون حرف ( في) تخييلاً مجرداً وليس باستعارة تخيلية إذ ليس ثم ما يشبه بالخزانة ونحوها ، فوزان هذا التخييل وزان أظفار المنية في قول أبي ذؤيب الهذلي: ... وإذا المنية أنشبت أظفارهاألفيت كل تميمة لا تنفع ... وهذه الظرفية شبيهة بالإضافة البيانية مثل قوله تعالى : { أُحلت لكم بهيمة الأنعام } [ المائدة : 1 ] وقوله : { أكفاركم خير } [ القمر : 43 ] فإن الكفار هم عين ضمير الجماعة المخاطبين وهم المشركون .فقوله : { وأنزلنا فيها } هو : بمعنى وأنزلناها آيات بينات . ووصف { آيات } ب { بينات } أي واضحات ، مجاز عقلي لأن البيّن هو معانيها ، وأعيد فعل الإنزال مع إغناء حرف العطف عنه لإظهار مزيد العناية بها .والوجه أن جملة { لعلكم تذكرون } مرتبطة بجملة : { أنزلنا فيها آيات بينات } لأن الآيات بهذا المعنى مظنة التذكر ، أي دلائل مظنة لحصول تذكركم . فحصل بهذا الرجاء وصف آخر للسورة هو أنها مبعث تذكر وعظة . والتذكر : خطور ما كان منسياً بالذهن وهو هنا مستعار لاكتساب العلم من أدلته اليقينية بجعله كالعلم الحاصل من قبل فنسيه الذهن ، أي العلم الذي شأنه أن يكون معلوماً ، فشبه جهله بالنسيان وشبه علمه بالتذكر .وقرأ الجمهور : { تذَّكرون } بتشديد الذال وأصله تتذكرون فأدغم . وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف { تذَكرون } بتخفيف الذال فحذفت إحدى التائين اختصاراً .
الآية 1 - سورة النور: (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون...)