سورة التحريم: الآية 5 - عسى ربه إن طلقكن أن...

تفسير الآية 5, سورة التحريم

عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُۥٓ أَزْوَٰجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَٰتٍ مُّؤْمِنَٰتٍ قَٰنِتَٰتٍ تَٰٓئِبَٰتٍ عَٰبِدَٰتٍ سَٰٓئِحَٰتٍ ثَيِّبَٰتٍ وَأَبْكَارًا

الترجمة الإنجليزية

AAasa rabbuhu in tallaqakunna an yubdilahu azwajan khayran minkunna muslimatin muminatin qanitatin taibatin AAabidatin saihatin thayyibatin waabkaran

تفسير الآية 5

عسى ربُّه إن طلقكنَّ- أيتها الزوجات- أن يزوِّجه بدلا منكن زوجات خاضعات لله بالطاعة، مؤمنات بالله ورسوله، مطيعات لله، راجعات إلى ما يحبه الله مِن طاعته، كثيرات العبادة له، صائمات، منهنَّ الثيِّبات، ومنهن الأبكار.

«عسى ربه إن طلقكن» أي طلق النبي أزواجه «أن يبدِّله» بالتشديد والتخفيف «أزواجا خيرا منكن» خبر عسى والجملة جواب الشرط ولم يقع التبديل لعدم وقوع الشرط «مسلمات» مقرات بالإسلام «مؤمنات» مخلصات «قانتات» مطيعات «تائبات عابدات سائحات» صائمات أو مهاجرات «ثيبات وأبكارا».

وهذا فيه من التحذير للزوجتين الكريمتين ما لا يخفى، ثم خوفهما أيضا، بحالة تشق على النساء غاية المشقة، وهو الطلاق، الذي هو أكبر شيء عليهن، فقال: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ . عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ أي: فلا ترفعن عليه، فإنه لو طلقكن، لم يضق عليه الأمر، ولم يكن مضطرًا إليكن، فإنه سيلقى ويبدله الله أزواجًا خيرًا منكن، دينا وجمالًا، وهذا من باب التعليق الذي لم يوجد، ولا يلزم وجوده، فإنه ما طلقهن، ولو طلقهن، لكان ما ذكره الله من هذه الأزواج الفاضلات، الجامعات بين الإسلام، وهو القيام بالشرائع الظاهرة، والإيمان، وهو: القيام بالشرائع الباطنة، من العقائد وأعمال القلوب.القنوت هو دوام الطاعة واستمرارها تَائِبَاتٍ عما يكرهه الله، فوصفهن بالقيام بما يحبه الله، والتوبة عما يكرهه الله، ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا أي: بعضهن ثيب، وبعضهن أبكار، ليتنوع صلى الله عليه وسلم، فيما يحب، فلما سمعن -رضي الله عنهن- هذا التخويف والتأديب، بادرن إلى رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الوصف منطبقًا عليهن، فصرن أفضل نساء المؤمنين، وفي هذا دليل على أن الله لا يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أكمل الأحوال وأعلى الأمور، فلما اختار الله لرسوله بقاء نسائه المذكورات معه دل على أنهن خير النساء وأكملهن.

فنزلت هذه الآية آية التخيير "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن - وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير" فقلت أطلقتهن؟ قال "لا" فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق نساءه ونزلت هذه الآية "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومقاتل بن حيان والضحاك وغيرهم "وصالح المؤمنين" أبو بكر وعمر زاد الحسن البصري وعثمان قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد "وصالح المؤمنين" قال علي بن أبي طالب وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين ثنا محمد بن أبي عمر ثنا محمد بن جعفر بن محمد بن الحسين قال أخبرني رجل ثقة يرفعه إلى علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى "وصالح المؤمنين" قال "هو علي بن أبي طالب" إسناده ضعيف وهو منكر جدا وقال البخاري ثنا عمرو بن عون ثنا هشيم عن حميد عن أنس قال: قال عمر اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهن "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن" فنزلت هذه الآية وقد تقدم أنه وافق القرآن في أماكن منها في نزول الحجاب ومنها في أسارى بدر ومنها قوله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله تعالى "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي حدثنا الأنصاري ثنا حميد عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب بلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين وبين النبي صلى الله عليه وسلم فاستقريتهن أقول لتكفن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين فقالت: يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن؟.فأمسكت فأنزل الله عز وجل "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا" وهذه المرأة التي ردته عما كان فيه من وعظ النساء هي أم سلمة كما ثبت ذلك في صحيح البخاري وقال الطبراني ثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني ثنا إسماعيل البجلي ثنا أبو عوانة عن أبي سنان عن الضحاك عن ابن عباس في قوله "وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا" قال دخلت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها وهو يطأ مارية فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة إن أباك يلي الأمر من بعد أبي بكر إذا أنا مت" فذهبت حفصة فأخبرت عائشة فقالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أنبأك هذا؟ قال "نبأني العليم الخبير" فقالت عائشة لا أنظر إليك حتى تحرم مارية فحرمها فأنزل الله تعالى "يا أيها النبي لم تحرم" إسناده فيه نظر وقد تبين مما أوردناه تفسير هذه الآيات الكريمات ومعنى قوله "مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات" ظاهر وقوله تعالى "سائحات" أي صائمات قاله أبو هريرة وعائشة وابن عباس وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب القرظي وأبو عبدالرحمن السلمي وأبو مالك وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس والسدي وغيرهم.وتقدم فيه حديث مرفوع عند قوله "السائحون" في سورة براءة ولفظه "سياحة هذه الأمة الصيام" وقال زيد بن أسلم وابنه عبدالرحمن "سائحات" أي مهاجرات وتلا عبدالرحمن "السائحون" أي المهاجرون والقول الأول أولى والله أعلم.وقوله تعالى "ثيبات وأبكارا" أي منهن ثيبات ومنهن أبكارا ليكون ذلك أشهى إلى النفس فإن التنوع يبسط النفس ولهذا قال "ثيبات وأبكارا" وقال أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير ثنا أبو بكر بن صدقة ثنا محمد بن محمد بن مرزوق ثنا عبدالله بن أبي أمية ثنا عبدالقدوس عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه "ثيبات وأبكارا" قال وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يزوجه فالثيب آسية امرأة فرعون وبالأبكار مريم بنت عمران.وذكر الحافظ ابن عساكر فى ترجمة مريم عليها السلام من طريق سويد بن سعيد ثنا محمد بن صالح بن عمر عن الضحاك ومجاهد عن ابن عمر قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت خديجة فقال إن الله يقرئها السلام ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللهب لا نصب فيه ولا صخب من لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم.ومن حديث أبي بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهي في الموت فقال "يا خديجة إذا لقيت ضرائرك فأقرئيهن مني السلام" فقالت يا رسول الله وهل تزوجت قبلي؟ قال "لا ولكن الله زوجني مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وكلثم أخت موسى" ضعيف أيضا وقال أبو يعلى ثنا إبراهيم بن عرعرة ثنا عبدالنور بن عبدالله ثنا يوسف بن شعيب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعلمت أن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون؟" فقلت هنيئا لك يا رسول الله وهذا أيضا ضعيف وروى مرسلا عن ابن أبي داود.

ثم وجه- سبحانه- بعد ذلك خطابه إلى حفصة وعائشة، فأمرهما بالتوبة عما صدر منهما.فقال: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما.ولفظ صَغَتْ بمعنى مالت وانحرفت عن الواجب عليهما. يقال صغا فلان يصغو ويصغى صغوا، إذا مال نحو شيء معين. ويقال: صغت: الشمس، إذا مالت نحو الغروب، ومنه قوله- تعالى-: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.وجواب الشرط محذوف، والتقدير: إن تتوبا إلى الله، فلتوبتكما موجب أو سبب، فقد مالت قلوبكما عن الحق، وانحرفت عما يجب عليكما نحو الرسول صلى الله عليه وسلم من كتمان لسره، ومن حرص على راحته، ومن احترام لكل تصرف من تصرفاته.. وجاء الخطاب لهما على سبيل الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، مبالغة في المعاتبة، فإن المبالغ في ذلك يوجه الخطاب إلى من يريد معاتبته مباشرة.وقال- سبحانه- فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما بصيغة الجمع للقلوب، ولم يقل قلبا كما بالتثنية، لكراهة اجتماع تثنيتين فيما هو كالكلمة الواحدة، مع ظهور المراد، وأمن اللبس.ثم ساق- سبحانه- ما هو أشد في التحذير والتأديب فقال: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ.وقوله تَظاهَرا أصله تتظاهرا فحذفت إحدى التاءين تخفيفا. والمراد بالتظاهر:التعاون والتآزر، يقال: ظاهر فلان فلانا إذا أعانه على ما يريده، وأصله من الظهر، لأن من يعين غيره فكأنه يشد ظهره، ويقوى أمره.قال- تعالى-: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً، وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ .وجواب الشرط- أيضا- محذوف- أى: وإن تتعاونا عليه بما يزعجه، ويغضبه، من الإفراط في الغيرة، وإفشاء سره. فلا يعدم ناصرا ولا معينا بل سيجد الناصر الذي ينصره عليكما، فإن الله- تعالى- هُوَ مَوْلاهُ أى: ناصره ومعينه وَجِبْرِيلُ كذلك ناصره ومعينه عليكما.وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أى: وكذلك الصالحون من المؤمنين من أنصاره وأعوانه.وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ أى: والملائكة بعد نصر الله- تعالى- له، وبعد نصر جبريل وصالح المؤمنين له، مؤيدونه ومناصرونه وواقفون في صفه ضدكما.وفي هذه الآية الكريمة أقوى ألوان النصر والتأييد للرسول صلى الله عليه وسلم وأسمى ما يتصوره الإنسان من تكريم الله- تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم ومن غيرته- عز وجل- عليه، ومن دفاعه عنه صلى الله عليه وسلم.وفيها تعريض بأن من يحاول إغضاب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يكون من صالح المؤمنين.وقوله: وَجِبْرِيلُ مبتدأ، وقوله: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ معطوف عليه.وقوله: بَعْدَ ذلِكَ متعلق بقوله ظَهِيرٌ الذي هو خبر عن الجميع.وقد جاء بلفظ المفرد، لأن صيغة فعيل يستوي فيها الواحد وغيره. فكأنه- تعالى- قال: والجميع بعد ذلك مظاهرون له، واختير الإفراد للإشعار بأنهم جميعا كالشىء الواحد في تأييده ونصرته، وبأنهم يد واحدة على من يعاديه.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: قوله: بَعْدَ ذلِكَ تعظيم للملائكة ومظاهرتهم، وقد تقدمت نصرة الله وجبريل وصالح المؤمنين، ونصرة الله- تعالى- أعظم وأعظم؟قلت: مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله، فكأنه فضل نصرته- تعالى- بهم وبمظاهرتهم على غيرها من وجوه نصرته، لفضلهم ... » .وخص جبريل بالذكر مع أنه من الملائكة، للتنويه بمزيد فضله، فهو أمين الوحى، والمبلغ عن الله- تعالى- إلى رسله.هذا، ومما يدل على أن الخطاب في قوله- تعالى-: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ، لحفصة وعائشة، ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله- تعالى- فيهما: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما.فلما كان ببعض الطريق ... قلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى- فيهما: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما.فقال عمر: وا عجبا لك يا ابن عباس.. هما حفصة وعائشة .ثم أضاف- سبحانه- إلى تكريمه لنبيه تكريما آخر، وإلى تهديده لمن تسيء إليه من أزواجه تهديدا آخر فقال- تعالى-: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ.قال الجمل ما ملخصه: سبب نزولها أنه صلى الله عليه وسلم لما أشاعت حفصة ما أسرها به، اغتم صلى الله عليه وسلم وحلف أن لا يدخل عليهن شهرا مؤاخذة لهن.ولما بلغ عمر- رضى الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتزل نساءه.. قال له يا رسول الله: لا يشق عليك أمر النساء، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك.قال عمر: وقلما تكلمت بكلام إلا رجوت أن الله يصدق قولي الذي أقوله فنزلت هذه الآية.فاستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه فأذن له فقام على باب المسجد، ونادى بأعلى صوته: لم يطلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه .وعَسى كلمة تستعمل في الرجاء، والمراد بها هنا التحقيق، لأنها صادرة عن الله- عز وجل-.قال الآلوسى: عَسى في كلامه- تعالى- للوجوب، وأن الوجوب هنا إنما هو بعد تحقق الشرط وقيل: هي كذلك إلا هنا، والشرط معترض بين اسم عَسى وخبرها.والجواب محذوف. أى: إن طلقكن فعسى ... وأَزْواجاً مفعول ثان ليبدل وخَيْراً صفته .أى: عسى إن طلقكن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بإذن ربه ومشيئته، أن يبدله- سبحانه- أزواجا خيرا منكن.ثم وصف- سبحانه- هؤلاء الأزواج بقوله مُسْلِماتٍ منقادات ومطيعات لله ولرسوله، ومتصفات بكل الصفات التي أمر بها الإسلام.مُؤْمِناتٍ أى: مذعنات ومصدقات بقلوبهن لكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه.قانِتاتٍ أى: قائمات بالطاعة لله ولرسوله على أكمل وجه.تائِباتٍ أى: مقلعات عن الذنوب والمعاصي، وإذا مسهن شيء منها ندمن وتبن إليه- تعالى- توبة صادقة نصوحا.عابِداتٍ أى: مقبلات على عبادته- تعالى- إقبالا عظيما.سائِحاتٍ أى: ذاهبات في طاعة الله أى مذهب، من ساح الماء: إذا سال في أنحاء متعددة، وقيل معناه: مهاجرات. وقيل: صائمات. تشبيها لهن بالسائح الذي لا يصحب معه الزاد غالبا فلا يزال ممسكا عن الطعام حتى يجده.ثَيِّباتٍ جمع ثيب- بوزن سيد- وهي المرأة التي سبق لها الزواج، من ثاب يثوب ثوبا، إذا رجع، وسميت المرأة التي سبق لها الزواج بذلك. لأنها ثابت إلى بيت أبويها بعد زواجها، أو رجعت إلى زوج آخر غير زوجها الأول.وَأَبْكاراً جمع بكر، وهي الفتاة العذراء التي لم يسبق لها الزواج، وسميت بذلك لأنها لا تزال على أول حالتها التي خلقت عليها.وهذه الصفات جاءت منصوبة على أنها نعت لقوله أَزْواجاً أو حال.ولم يعطف بعضها على بعض بالواو، لأجل التنصيص على ثبوت جميع تلك الصفات لكل واحدة منهن.وعطف- سبحانه- وَأَبْكاراً على ما قبله لتنافى الوصفين، إذ الثيبات لا يوصفن بالأبكار، وكذلك الأبكار لا يوصفن بالثيبات، ولا يجتمع الوصفان في ذات واحدة.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف تكون المبدلات خيرا منهن، ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين؟قلت: إذا طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعصيانهن له، وإيذائهن إياه، لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والنزول على هداه ورضاه خيرا منهن.فإن قلت: لم أخليت الصفات كلها من العاطف، ووسط بين الثيبات والأبكار؟ قلت:لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعان فيهن اجتماع سائر الصفات فيهن، فلم يكن بد من الواو .هذا، والمتأمل في هذه الآيات الكريمة يراها ترسم جانبا من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، وهذا الجانب فيه ما فيه من العظات التي من أبرزها تكريم الله- تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وإرشاده إلى ما هو أهدى وأقوم، وسمو أخلاقه صلى الله عليه وسلم في معاملته لأهله، وتحذير أزواجه من أن يتصرفن أى تصرف لا يرغب فيه، ولا يميل إليه: وتعليم المؤمنين والمؤمنات- في كل زمان ومكان- كيف تكون العلاقة الطيبة بين الرجال والنساء.ثم وجه- سبحانه- بعد ذلك نداءين إلى المؤمنين، أمرهم في أولهما أن يؤدوا واجبهم نحو أنفسهم ونحو أهليهم، حتى ينجو من عذاب النار، وأمرهم في ثانيهما بالمداومة على التوبة الصادقة النصوح، ووجه نداء إلى الكافرين بين لهم فيه سوء عاقبة كفرهم، ثم وجه- سبحانه- نداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمره فيه بأن يجاهد الكفار والمنافقين جهادا مصحوبا بالغلظة والخشونة.. فقال- تعالى-:

( عسى ربه إن طلقكن ) أي : واجب من الله إن طلقكن رسوله ( أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات ) خاضعات لله بالطاعة ( مؤمنات ) مصدقات بتوحيد الله ( قانتات ) طائعات ، وقيل : داعيات . وقيل : مصليات ( تائبات عابدات سائحات ) صائمات ، وقال زيد بن أسلم : مهاجرات وقيل : يسحن معه حيث ما ساح ( ثيبات وأبكارا ) وهذا في الإخبار عن القدرة لا عن الكون لأنه قال : " إن طلقكن " وقد علم أنه لا يطلقهن وهذا كقوله : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ( محمد - 38 ) وهذا في الإخبار عن القدرة لأنه ليس في الوجود أمة خير من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .

قوله تعالى : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراقوله تعالى : عسى ربه إن طلقكن قد تقدم في الصحيح أن هذه الآية نزلت على لسان عمر رضي الله عنه . ثم قيل : كل " عسى " في القرآن واجب ; إلا هذا . وقيل : هو واجب ، ولكن الله عز وجل علقه بشرط وهو التطليق ولم يطلقهن .أن يبدله أزواجا خيرا منكن لأنكن لو كنتن خيرا منهن ما طلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال معناه السدي . وقيل : هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ، لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الدنيا نساء خيرا منهن . وقرئ " أن يبدله " بالتشديد والتخفيف . والتبديل والإبدال بمعنى ، كالتنزيل والإنزال . والله كان عالما بأنه كان لا يطلقهن ، ولكن أخبر عن قدرته ، على أنه إن طلقهن أبدله خيرا منهن تخويفا لهن . وهو كقوله تعالى : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم . وهو إخبار عن القدرة وتخويف لهم ، لا أن في الوجود من هو خير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .قوله تعالى : مسلمات يعني مخلصات ، قاله سعيد بن جبير . وقيل : معناه مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله .مؤمنات مصدقات بما أمرن به ونهين عنه .قانتات مطيعات . والقنوت : الطاعة . وقد تقدم .تائبات أي من ذنوبهن ; قاله السدي . وقيل : راجعات إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات لمحاب أنفسهن .عابدات أي كثيرات العبادة لله تعالى . وقال ابن عباس : كل عبادة في القرآن فهو التوحيد .سائحات صائبات ; قال ابن عباس والحسن وابن جبير . وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن ويمان : مهاجرات . قال زيد : وليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة . والسياحة الجولان في الأرض . وقال الفراء والقتبي وغيرهما : سمي الصائم سائحا لأن السائح لا زاد معه ، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام . وقيل : ذاهبات في طاعة الله عز وجل ; من ساح الماء إذا ذهب . وقد مضى في سورة " التوبة " والحمد لله .ثيبات وأبكارا أي منهن ثيب ومنهن بكر . وقيل : إنما سميت الثيب ثيبا لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها ، أو إلى غيره إن فارقها . وقيل : لأنها ثابت إلى بيت أبويها . وهذا أصح ; لأنه ليس كل ثيب تعود إلى زوج . وأما البكر فهي العذراء ; سميت بكرا لأنها على أول حالتها التي خلقت بها . وقال الكلبي : أراد بالثيب مثل آسية امرأة فرعون ، وبالبكر مثل مريم ابنة عمران .قلت : وهذا إنما يمشي على قول من قال : إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيرا منهن . والله أعلم .

يقول تعالى ذكره: عسى ربّ محمد إن طلقكنّ يا معشر أزواج محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يبدله منكنّ أزواجًا خيرًا منكن.وقيل: إن هذه الآية نزلت على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تحذيرًا من الله نساءه لما اجتمعن عليه في الغيرة.* ذكر من قال ذلك:حدثنا أَبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا ثنا هشيم، قال: أخبرنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اجتمع على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم نساؤه في الغيرة فقلت لهنّ: عسى ربه إن طلقهن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكنّ، قال: فنزل كذلك.حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن حميد، عن أنس، عن عمر، قال: بلغني عن بعض أمهاتنا، أمهات المؤمنين شدّة على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأذاهنّ إياه، فاستقريتهنّ امرأة امرأة، أعظها وأنهاها عن أذى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وأقول: إن أبيتنّ أبدله الله خيرًا منكنّ، حتى أتيت، حسبت أنه قال على زينب، فقالت: يا ابن الخطاب، أما في رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ أنت؟ فأمسكت، فأنزل الله ( عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ) .حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أَبي عديّ، عن حميد، عن أنس، قال: قال عمر بن الخطاب: بلغني عن أمهات المؤمنين شيء، فاستقريتهن أقول: لتكففن عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، أو ليبدلنه الله أزواجًا خيرًا منكنّ، حتى أتيت على إحدى أمهات المؤمنين، فقالت: يا عمر أما في رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ أنت؟ فكففت، فأنزل الله ( عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ ) ... الآية.واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( أَنْ يُبْدِلَهُ ) فقرأ ذلك بعض قرّاء مكة والمدينة والبصرة بتشديد الدال: " يبدِّله أزواجا " من التبديل .وقرأه عامة قرّاء الكوفة: ( يُبْدِلَهُ ) بتخفيف الدال من الإبدال.والصواب من القول أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.وقوله: ( مُسْلِمَاتٍ ) يقول: خاضعات لله بالطاعة ( مُؤْمِنَاتٍ ) يعني مصدّقات بالله ورسوله.وقوله: ( قَانِتَاتٍ ) يقول: مطيعات لله.كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قول الله ( قَانِتَاتٍ ) قال: مطيعات.حدثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: ( قَانِتَاتٌ ) قال مطيعات.وقوله: ( تَائِبَاتٍ ) يقول: راجعات إلى ما يحبه الله منهنّ من طاعته عما يكرهه منهنّ( عَابِدَاتٍ ) يقول: متذللات لله بطاعته.وقوله: ( سَائِحَاتٍ ) يقول: صائمات.واختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( سَائِحَاتٍ ) فقال بعضهم: معنى ذلك: صائمات.* ذكر من قال ذلك.حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( سَائِحَاتٍ ) قال: صائمات.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( سَائِحَاتٍ ) قال: صائمات.حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: السائحات الصائمات.حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( سَائِحَاتٍ ) يعني: صائمات.وقال آخرون: السائحات: المهاجرات.* ذكر من قال ذلك:حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد الدراورديّ، عن زيد بن أسلم، قال: السائحات: المهاجرات.حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: ( سَائِحَاتٍ ) قال: مهاجرات ليس في القرآن، ولا في أمة محمد سياحة إلا الهجرة، وهي التي قال الله السَّائِحُونَ .وقد بيَّنا الصواب من القول في معنى السائحين فيما مضى قبل بشواهده مع ذكرنا أقوال المختلفين فيه، وكرهنا إعادته.وكان بعض أهل العربية يقول: نرى أن الصائم إنما سمي سائحًا، لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل حيث يجد الطعام، فكأنه أُخذ من ذلك.وقوله: ( ثَيِّبَاتٍ ) وهن اللواتي قد افترعن وذهبت عذرتهنّ( وَأَبْكَارًا ) وهنّ اللواتي لم يجامعن، ولم يفترعن.

عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)ليس هذا مما يتعلق بالشرط في قوله : { وإن تظاهرا عليه } [ التحريم : 4 ] بل هو كلام مستأنف عدل به إلى تذكير جميع أزواجه بالحذر من أن يضيق صدره عن تحمل أمثال هذا الصنيع فيفارقهن لتقلع المتلبسة وتحذر غيرها من مثل فعلها .فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً عقبت بها جملة { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] التي أفادت التحذير من عقاب في الآخرة إن لم تتوبا مما جرى منهما في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاد هذا الإِيماء إلى التحذير من عقوبة دنيوية لهن يأمر الله فيها نبيئه صلى الله عليه وسلم وهي عقوبة الطلاق عليه ما يحصل من المؤاخذة في الآخرة إن لم تتوبا ، ولذلك فصلت عن التي قبلها لاختلاف الغرضين .وفي قوله : { عسى ربه إن طلقكن } إيجاز بحذف ما يترتب عليه إبدالهن من تقدير إن فارقكن . فالتقدير : عسى أن يطلقكن هو ( وإنما يطلق بإذن ربه ) أن يُبدله ربُّه بأزواج خيرٍ منكن .وفي هذا ما يشير إلى المعْنى الرابع عشر والخامس عشر من معاني الموعظة والإِرشاد التي ذكرناها آنفاً .و { عسى } هنا مستعملة في التحقيق وإيثارها هنا لأن هذا التبديل مجرد فرض وليس بالواقع لأنهن لا يظن بهن عدم الارعواء عما حذرن منه ، وفي قوله : { خيراً منكن } تذكير لهن بأنهن ما اكتسبن التفضيل على النساء إلا من فضل زوجهن عند الله وإجراء الأوصاف المفصلة بعد الوصف المجمل وهو { خيراً منكن } للتنبيه على أن أصول التفضيل موجودة فيهن فيكمل اللاء يتزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم فضل على بقية النساء بأنهن صرن أزواجاً للنبيء صلى الله عليه وسلموهذه الآية إلى قوله : { خيراً منكن } نزلت موافِقة لقول عمر لابنته حفصة رضي الله عنهما مثل هذا اللفظ وهذا من القرآن الذي نزل وفاقاً لقول عمر أو رأيه تنويهاً بفضله . وقد وردت في حديث في «الصحيحين» واللفظ للبخاري «عن عمر قال : وافقت ربي في ثلاث : قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى ، فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } [ البقرة : 125 ] ، وقلت : «يدخلُ عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمهاتتِ المؤمنين بالحجاب» فأنزل الله آية الحجاب . وبلغنِي معاتبة النبي بعضَ نسائه فدخلت عليهن فقلت : إن انتهيتن أو ليبدلَنَّ الله رسولَه خيراً منكن فأنزل الله { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات } الآية .وهي موعظة بأن يأذن الله له بطلاقهن وأنه تصير له أزواجٌ خيرٌ منهن .وهذا إشارة إلى المعنى السادس عشر من مواعظ هذه الآي . .وقرأ الجمهور { أن يبدّله } بتشديد الدال مضارع بدّل . وقرأه يعقوب بتخفيف مضارع أبدل .والمسلمات : المتصفات بالإِسلام . والمؤمنات : المصدّقات في نفوسهن .والقانتات : القائمات بالطاعة أحسن قيام . وتقدم القنوت في قوله تعالى : { وقوموا لله قانتين } في سورة [ البقرة : 238 ] . وقوله : { ومن يقنت منكن لله ورسوله } في سورة [ الأحزاب : 31 ] .وفي هذا الوصف إشعار بأنهن مطيعات لله ورسوله ففيه تعريض لما وقع من تقصير إحداهن في ذلك فعاتبها الله وأيقظها للتوبة .والتائبات : المقلعات عن الذنب إذا وقعن فيه . وفيه تعريض بإعادة التحريض على التوبة من ذنبهما التي أُمرتا بها بقوله : { إن تتوبا إلى الله } [ التحريم : 4 ] .والعابدات : المقبلات على عبادة الله وهذه الصفات تفيد الإِشارة إلى فضل هذه التقوى وهو المعنى السابع عشر من معاني العبرة في هذه الآيات .والسائحات : المهاجرات وإنما ذكر هذا الوصف لتنبيههن على أنهنّ إن كنّ يمتُنّ بالهجرة فإن المهاجرات غيرَهن كثير ، والمهاجرات أفضل من غيرهن ، وهذه الصفة تشير إلى المعنى الثامن عشر من معاني الاعتبار في هذه الآي .وهذه الصفات انتصبت على أنها نعوت ل { أزواجاً } ، ولم يعطف بعضُها على بعض الواو ، لأجل التنصيص على ثبوت جميع تلك الصفات لكل واحدة منهن ولو عطفت بالواو لاحتمل أن تكون الواو للتقسيم ، أي تقسيم الأزواج إلى من يثبت لهن بعض تلك الصفات دون بعض ، ألا ترى أنه لما أريدت إفادة ثبوت إحدى صفتين دون أخرى من النعتين الواقعين بعد ذلك كيف عطف بالواو قولُه : { وأبكاراً } لأن الثّيبات لا يوصفن بأبكار . والأبكار لا يوصفن بالثيّبات . قُلت وفي قوله تعالى : { مسلمات } ، إلى قوله : { سائحات } مُحسن الكلام المتزن إذْ يَلتئم من ذلك بيت من بحر الرمل التام: ... فاعلتن فاعلتن فاعلتنفاعلاتن فاعلاتن فاعلتن ... ووجه هذا التفصيل في الزوجات المقدرات لأن كلتا الصفتين محاسنها عند الرجال؛ فالثيب أرعى لواجبات الزوج وأميل مع أهوائه وأقوم على بيته وأحسن لِعاباً وأبهى زينة وأحلى غنجاً .والبكر أشد حياء وأكثر غرارة ودلاً وفي ذلك مجلبة للنفس ، والبكر لا تعرف رجلاً قبل زوجها ففي نفوس الرجال خلق من التنافس في المرأة التي لم يسبق إليها غيرهم .فما اعتزت واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمزية إلا وقد أنبأها الله بأن سيبدله خيراً منها في تلك المزية أيضاً .وهذا هو المعنى التاسع عشر من معاني الموعظة والتأديب في هذه الآيات .وتقديم وصف { ثيبات } لأن أكثر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لمّا تزوجهن كن ثيبات . ولعله إشارة إلى أن الملام الأشد موجه إلى حفصة قبل عائشة وكانت حفصة ممن تزوجهن ثيبات وعائشة هي التي تزوجها بكراً . وهذا التعريض أسلوب من أساليب التأديب كما قيل : «الحر تكفيه الإِشارة» .وهذا هو المعنى العشرون من مغزى آداب هذه الآيات .ومن غرائب المسائل الأدبية المتعلقة بهذه الآية أن الواو في قوله تعالى : { ثيبات وأبكاراً } زَعمها ابنُ خَالويه واواً لها استعمال خاص ولقبها بواو الثمانية ( بفتح المثلثة وتخفيف التحتية بعد النون ) وتبعهُ جماعة ذكروا منهم الحريري والثعلبي النيسابوري المفسر والقاضي الفاضل .أنهم استخرجوا من القرآن أن ما فيه معنى عدد ثمانية تدخل عليه واو ويظهر من الأمثلة التي مثلوا بها أنهم يعتبرون ما دل على أمر معدود بعدد كما فيه سواء كان وصفاً مشتقاً من عدد ثمانية أو كان ذاتاً ثامنة أو كان يشتمل على ثمانية سواء كان ذلك مفرداً أو كان جملة . فقد مثلوا بقوله تعالى في سورة [ براءة : 112 ] : { التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } قالوا لم يعطف الصفات المسرودة بالواو إلا عند البلوغ إلى الصفة الثامنة وهي الناهون عن المنكر } . وجعلوا من هذا القبيل آية سورة التحريم إذ لم يعطف من الصفات المبدوءة بقوله : { مسلمات } إلا الثامنة وهي { وأبكاراً } ومثلوا لما وصف فيه بوصف ثامن بقوله تعالى : { ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم } في سورة [ الكهف : 22 ] . فلم يعطف رابعهم } ولا { سادسهم } وعطفت الجملة التي وقع فيها وصف الثامن بواو عطف الجمل . ومثلوا لما فيه كلمة ثمانية بقوله تعالى : { سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً } في سورة [ الحاقة : 7 ] . ومثلوا لما يشتمل على ثمانية أسماء بقوله تعالى في سورة [ الزمر : 73 ] : { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها قالوا جاءت جملة وفتحت } هذه بالواو ولم تجىء أختها المذكورة قبلها وهي { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها } [ الزمر : 71 ] . لأن أبواب الجنة ثمانية .وترددت كلماتهم في أن هذه الواو من صنف الواو العاطفة يمتاز عن الصنف الآخر يلزم ذكره إذا كان في المعطوف معنى الثامن أو من صنف الواو الزائدة .وذكر الدمَاميني في الحواشي } الهندية على «المغني» أنه رأى في «تفسير العماد الكندي» قاضي الإِسكندرية ( المتوفى في نحو عشرين وسبعمائة ) نسبة القول بإثبات واو الثمانية إلى عبد الله الكفيف المالقي النحوي الغرناطي من علماء غرناطة في مدة الأمير ابن حَبوس ( بموحدة بعد الحاء المهملة ) هو باديس بن حبوس صاحب غرناطة سنة 420 .وذكر السهيلي في «الروض الأنف» عند الكلام على نزول سورة الكهف أنه أفرد الكلام على الواو التي يسميها بعض الناس واو الثمانية باباً طويلاً ولم يبد رأيه في إثباتها ولم أقف على الموضع الذي أفرد فيه الكلام عليها . ويظهر أنه غير موافق على إثبات هذا الاستعمال لها . ومن عجيب الصدف ما اتفق في هذه الآيات الأربع من مثير شبهة للذين أثبتوا هذا المعنى في معاني الواو . ومن غريب الفطنة تنبه الذي أنبأ بهذا .وذكر ابن المنير في «الانتصاف» أن شيخه ابن الحاجب ذكر له أن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب كان يعتقد أن الواو في قوله تعالى : { وأبكاراً } هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية .وكان الفاضلُ يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة إلى أن ذكره يوماً بحضيرة أبي الجود النحوي المقري ، فبين لهم أنه واهم في عدها من ذلك القبيل وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري في دعاء اللزوم إلى الإِتيان بالواو هنا لامتناع اجتماع هذين الصنفين في موصوف واحد . فأنصفه الفاضل وقال : أرشدتنا يا أبا الجود .قلت : وأرى أن القاضي الفاضل تعجل التسليم لأبي الجُود إذ كان له أن يقول : إنا لم نلتزم أن يكون المعدود الثامن مستقلاً أو قسيماً لغيره وإنما تتبعنا ما فيه إشعار بعدد ثمانية .ونقل الطيبي والقزويني في «حاشيتي الكشاف» أنه روى عن صاحب «الكشاف» أنه قال : الواو تدخل في الثامن كقوله تعالى : { وثامنهم كلبهم } [ الكهف : 22 ] ، وقوله : { وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] ويسمونه واو الثمانية وهي كذلك ، وليس بشيء . قال الراوي عنه وقد قال لنا عند قراءة هذا الموضع : أنسيتم واو الثمانية عند جوابي هذا ( أي يلومهم على إهمالهم ذلك المعنى في تلك الآية ) أي هو جواب حسن وذلك خطأ محض لا يجوز أن يؤخذ به اه .قلت : وهذا يخالف صريح كلامه في «الكشاف» فلعل الراوي لم يحسن تحرير مراد صاحب «الكشاف» ، أو لعل صاحب «الكشاف» لم ير منافاة بين لزوم ذكر الواوين اقتضاء المقام ذكرها بأن المعطوف بها ثامن في الذكر فإن النكت لا تتزاحم فتأمل بتدقيق .وتقدم الكلام على واو الثمانية عند قوله تعالى : { التائبون العابدون } الآية في سورة [ براءة : 112 ] . وعند قوله : { ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم } في سورة [ الكهف : 22 ] ، وتقدمت في سورة الزمر وفي سورة الحاقة .
الآية 5 - سورة التحريم: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا...)