سورة التكوير: الآية 9 - بأي ذنب قتلت...

تفسير الآية 9, سورة التكوير

بِأَىِّ ذَنۢبٍ قُتِلَتْ

الترجمة الإنجليزية

Biayyi thanbin qutilat

تفسير الآية 9

إذا الشمس لُفَّت وذهب ضَوْءُها، وإذا النجوم تناثرت، فذهب نورها، وإذا الجبال سيِّرت عن وجه الأرض فصارت هباءً منبثًا، وإذا النوق الحوامل تُركت وأهملت، وإذا الحيوانات الوحشية جُمعت واختلطت؛ ليقتصَّ الله من بعضها لبعض، وإذا البحار أوقدت، فصارت على عِظَمها نارًا تتوقد، وإذا النفوس قُرنت بأمثالها ونظائرها، وإذا الطفلة المدفونة حية سُئلت يوم القيامة سؤالَ تطييب لها وتبكيت لوائدها: بأيِّ ذنب كان دفنها؟ وإذا صحف الأعمال عُرضت، وإذا السماء قُلعت وأزيلت من مكانها، وإذا النار أوقدت فأضرِمت، وإذا الجنة دار النعيم قُرِّبت من أهلها المتقين، إذا وقع ذلك، تيقنتْ ووجدتْ كلُّ نفس ما قدَّمت من خير أو شر.

«بأي ذنب قتلت» وقرئ بكسر التاء حكاية لما تخاطب به وجوابها أن تقول: قتلت بلا ذنب.

فتسأل: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ومن المعلوم أنها ليس لها ذنب، ففي هذا توبيخ وتقريع لقاتليها .

فيوم القيامة تسئل الموءودة على أي ذنب قتلت ليكون ذلك تهديدا لقاتلها فإنه إذا سئل المظلوم فما ظن الظالم إذا ؟.

ولا شك أنها لم ترتكب ما يوجب قتلها ، وإنما القصد من ذلك إلزام قائلها الحجة ، حتى يزداد افتضاحا على افتضاحه .وقد حكى القرآن فى كثير من الآيات ، ما كان يفعله أهل الجاهلية من قتلهم للبنات ، ومن ذلك قوله - تعالى - : ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ . يتوارى مِنَ القوم مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ) ولم يكن الوأد معمولا به عند جميع قبائل العرب ، فقريش - مثلا - لم يعرف عنها ذلك وإنما عرف فى قبائل ربيعة ، وكنده ، وتميم . ولكنهم لما كانوا جميعا راضين عن هذا الفعل ، جاء الحكم عاما فى شأن أهل الجاهلية .

( بأي ذنب قتلت ) قرأ العامة على الفعل المجهول فيهما ، وأبو جعفر يقرأ : " قتلت " بالتشديد ومعناه تسأل الموءودة ، فيقال لها : بأي ذنب قتلت ؟ ومعنى سؤالها توبيخ قاتلها ، لأنها تقول : قتلت بغير ذنب .وروي أن جابر بن زيد كان يقرأ : وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ومثله قرأ أبو الضحى .

وقوله تعالى : سئلت سؤال الموؤودة سؤال توبيخ لقاتلها ، كما يقال للطفل إذا ضرب : لم ضربت ؟ وما ذنبك ؟ قال الحسن : أراد الله أن يوبخ قاتلها ; لأنها قتلت بغير ذنب . وقال ابن أسلم : بأي ذنب ضربت ، وكانوا يضربونها . وذكر بعض أهل العلم في قوله تعالى : سئلت قال : طلبت ; كأنه يريد كما يطلب بدم القتيل . قال : وهو كقوله : وكان عهد الله مسئولا أي مطلوبا . فكأنها طلبت منهم ، فقيل أين أولادكم ؟ وقرأ الضحاك وأبو الضحى عن جابر بن زيد وأبي صالح ( وإذا الموؤدة سئلت ) فتتعلق الجارية بأبيها ، فتقول : بأي ذنب قتلتني ؟ ! فلا يكون له عذر ; قاله ابن عباس وكان يقرأ ( وإذا الموؤدة سألت ) وكذلك هو في مصحف أبي .وروى عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقا ولدها بثدييها ، ملطخا بدمائه ، فيقول يا رب ، هذه أمي ، وهذه قتلتني " . والقول الأول عليه الجمهور ، وهو مثل قوله تعالى لعيسى : أأنت قلت للناس ، على جهة التوبيخ والتبكيت لهم ، فكذلك سؤال الموؤودة توبيخ لوائدها ، وهو أبلغ من سؤالها عن قتلها ; لأن هذا مما لا يصح إلا بذنب ، فبأي ذنب كان ذلك ، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها ، كان أعظم في البلية وظهور الحجة على قاتلها . والله أعلم . وقرئ ( قتلت ) بالتشديد ، وفيه دليل بين على أن أطفال المشركين لا يعذبون ، وعلى أن التعذيب لا يستحق إلا بذنب .

وقوله : ( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ) اختلفت القراء في قراءة ذلك فقرأه أبو الضحى مسلم بن صبيح ( وإذا الموءودة سألت بأي ذنب قتلت ) بمعنى : سألت الموءودة الوائدين : بأي ذنب قتلوها .ذكر الرواية بذلك :حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، في قوله : ( وإذا الموءودة سألت ) قال : طلبت بدمائها .حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن الأعمش ، قال : قال أبو الضحى ( وإذا الموءودة سألت ) قال : سألت قتلتها . [ ص: 247 ]ولو قرأ قارئ ممن قرأ ( سألت بأي ذنب قتلت ) كان له وجه ، وكان يكون معنى ذلك من قرأ ( بأي ذنب قتلت ) غير أنه إذا كان حكاية جاز فيه الوجهان ، كما يقال : قال عبد الله : بأي ذنب ضرب; كما قال عنترة :الشاتمي عرضي ولم أشتمهما والناذرين إذا لقيتهما دميوذلك أنهما كانا يقولان : إذا لقينا عنترة لنقتلنه ، فحكى عنترة قولهما في شعره; وكذلك قول الآخر :رجلان من ضبة أخبرانا إنا رأينا رجلا عريانابمعنى : أخبرانا أنهما ، ولكنه جرى الكلام على مذهب الحكاية . وقرأ ذلك بعض عامة قراء الأمصار : ( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ) بمعنى : سئلت الموءودة بأي ذنب قتلت ، ومعنى قتلت : قتلت غير أن ذلك رد إلى الخبر على وجه الحكاية على نحو القول الماضي قبل ، وقد يتوجه معنى ذلك إلى أن يكون : وإذا الموءودة سألت قتلتها ووائديها ، بأي ذنب قتلوها ؟ ثم رد ذلك إلى ما لم يسم فاعله ، فقيل : بأي ذنب قتلت . [ ص: 248 ]وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأ ذلك ( سئلت ) بضم السين ( بأي ذنب قتلت ) على وجه الخبر ، لإجماع الحجة من القراء عليه . والموءودة : المدفونة حية ، وكذلك كانت العرب تفعل ببناتها; ومنه قول الفرزدق بن غالب :ومنا الذي أحيا الوئيد وغائب وعمرو ، ومنا حاملون ودافعيقال : وأده فهو يئده وأدا ، ووأدة .وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .ذكر من قال ذلك :حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وإذا الموءودة سئلت ) هي في بعض القراءات : ( سألت بأي ذنب قتلت ) لا بذنب ، كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ، ويغذو كلبه ، فعاب الله ذلك عليهم .حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : جاء قيس بن عاصم التميمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني وأدت ثماني بنات في الجاهلية ، قال : " فأعتق عن كل واحدة بدنة " .حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي يعلى ، عن الربيع بن خثيم ( وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ) قال : كانت العرب من أفعل الناس لذلك .حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي يعلى ، عن ربيع بن خثيم بمثله .حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وإذا الموءودة سئلت ) قال : البنات التي كانت طوائف العرب يقتلونهن ، وقرأ : [ ص: 249 ] ( بأي ذنب قتلت ) .

بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وفي توجيه السؤال إلى الموءودة : { بأي ذنب قتلت } في ذلك الحشر إدخال الروع على من وأدها ، وجعل سؤالها عن تعيين ذنب أوجَب قتلها للتعريض بالتوبيخ والتخطئة للذي وأدها وليكون جوابُها شهادة على من وأدها فيكون استحقاقه العقاب أشد وأظهر .وجملة : { بأي ذنب قتلت } بيان لجملة { سئلت } .و ( أي ) اسم استفهام يطلب به تميز شيء من بين أشياء تشترك معه في حال .والاستفهام في { بأي ذنب } تقريري ، وإنما سئلت عن تعيين الذنب الموجب قتلها دون أن تُسأل عن قاتلها لزيادة التهديد لأن السؤال عن تعيين الذنب مع تحقق الوائد الذي يسمع ذلك السؤال أن لا ذنب لها إشعار للوائد بأنه غير معذور فيما صنع بها .وينتزع من قوله تعالى : { سئلت بأي ذنب قتلت } الواردِ في سياق نفي ذنب عن الموءودة يوجب قتلها استدلالٌ على أنّ من ماتوا من أطفال المشركين لا يعتبرون مشركين مثل آبائهم ، وأول من رأيته تعرض لهذا الاستدلال الزمخشري في «الكشاف» . وذكر أن ابن عباس استدل على هذا المعنى قال في «الكشاف» : «وفيه دليل على أن أطفال المشركين لا يعذَّبون وإذأ بكَّتَ الله الكافر ببراءة الموءودة من الذنب فما أقبح به وهو الذي لا يَظلِم مثقال ذرة أن يكر على هذا التبكيت فيفعل بها ما تنسى عنده فِعل المبكّت من العذاب السرمدي . وعن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فاحتج بهذه الآية ا ه . فأشار إلى ثلاثة أدلة :أحدها : دلالة الإِشارة ، أي لأن قوله تعالى : { بأي ذنب قتلت } يشير إلى أنها لا ذنب لها ، وهذا استدلال ضعيف لأن الذنب المنفي وجودُه بطريقة الاستفهام المشوب بإنكار إنما هو الذنب الذي يخول لأبيها وأدها لا إثباتَ حرمتها وعصمة دمها فتلك قضية أخرى على تفصيل فيها .الثاني : قاعدة إحالة فعل القبيح على الله تعالى على قاعدة التحسين ، والتقبيح عند المعتزلة وإحالتهم الظلم على الله إذا عذب أحداً بدون فعله ، وهو أصل مختلف فيه بين الأشاعرة والمعتزلة . فعندنا أنَّ تصرف الله في عبيده لا يوصف بالظلم خلافاً لهم على أن هذا الدليل مبنيٌّ على أساس الدليل الأول وقد علمت أنه غير سالم من النقض .الثالث : ما نسبه إلى ابن عباس وهو يشير إلى ما أخرجه ابن أبي حاتم بسنده إلى عكرمة أنه قال : قال ابن عباس : أطفال المشركين في الجنة ، فمن زعم أنهم في النار فقد كذَّب بقول الله تعالى : { وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت } . وقد أجيب عن القول المروي عن ابن عباس بأنه لم يبلغ مبلغ الصحّة . وهذه مسألة من أصول الدين لا يكتفى فيها إلا بالدليل القاطع .واعلم أن الأحاديث الصحيحة في حكم أطفال المشركين متعارضة ، فروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد أو ذراري المشركين .فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " وهذا الجواب يحتمل الوقف عن الجواب ، أي الله أعلم بحالهم كقول موسى عليه السلام : { علمُها عند ربي في كتاب } [ طه : 52 ] جواباً لقول فرعون : { فما بال القرون الأولى } [ طه : 51 ] . ويحتمل أن المعنى الله أعلم بحال كل واحد منهم لو كبر مَاذا يكون عاملاً من كفر أو إيمان ، أي فيعامله بما علم من حاله .وأخرج البخاري ومسلم ( ببعض اختلاف في اللفظ ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل مولود يولد على الفِطرة فأبواه يُهودانه ، أو ينصرانه أو يمجسانه " الحديث . زاد في رواية مسلم : ثُم يقول ( أي أبو هريرة ) اقرأوا : { فطرت اللَّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللَّه ذلك الدين القيم } [ الروم : 30 ] فيقتضي أنهم يولدون على فطرة الإسلام حتى يدخل عليه من أبويه أو قريبه أو قرينه ما يُغيره عن ذلك وهذا أظهر ما يستدل به في هذه المسألة .وقال المازري في «المعلم» : فاضطرب العلماء فيهم . والأحاديث وردت ظواهرها مختلفة واختلاف هذه الظواهر سَبب اضطراب العلماء في ذلك والقطع ههنا يبعُد ا ه .وقول أبي هريرة : واقرأوا : { فطرت اللَّه التي فطر الناس عليها } الخ مصباح ينير وجه الجمع بين هذه الأخبار : وقد ورد في حديث الرؤيا عن سمرة بن جندب ما هو صريح في ذلك إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأما الرجل الذي في الروضة فإنه إبراهيم عليه السلام وأما الوِلْدَانُ الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة " . قال سمرة فقال بعض المسلمين : يا رسول الله " وأولادُ المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولادُ المشركين " . واختلفت أقوال العلماء في أولاد المشركين فقال ابن المبارك وحمّاد بن سلمة وحمّاد بن زيد وإسحاق بن راهويه والشافعي هُم في مشيئة الله . والصحيح الذي عليه المحققون والجمهور أنهم في الجنة وهو ظاهر قول أبي هريرة . وذهب الأزارقة إلى أن أولاد المشركين تبع لآبائهم ، وقال أبو عبيد : سألت محمد بن الحسن عن حديث : " كل مولود يولد على الفطرة " فقال : كان ذلك أول الإِسلام قبل أن تنزل الفرائض وقبل أن يفرض الجهاد . قال أبو عبيد : كأنه يعني أنه لو ولد على الفطرة لم يَرِثاه لأنه مسلم وهما كافران فلما فرضت الفرائض على خلاف ذلك جاز أن يسمى كافراً وعلم أنه يولد على دينهما .وهنالك أقوال أخرى كثيرة غير معزوة إلى معيّن ولا مستندة لأثر صحيح .وذكر المازري : أن أطفال الأنبياء في الجنة بإجماع وأن جمهور العلماء على أن أطفال بقية المؤمنين في الجنة وبعض العلماء وقف فيهم ، وقال النووي : أجمع من يُعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة .وقرأ الجمهور : «قُتلت» بتخفيف المثناة الأولى ، وقرأه أبو جعفر بتشديدها وهي تفيد معنى أنه قَتْل شديد فظيع .
الآية 9 - سورة التكوير: (بأي ذنب قتلت...)