سورة التين: الآية 4 - لقد خلقنا الإنسان في أحسن...

تفسير الآية 4, سورة التين

لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ فِىٓ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ

الترجمة الإنجليزية

Laqad khalaqna alinsana fee ahsani taqweemin

تفسير الآية 4

أَقْسم الله بالتين والزيتون، وهما من الثمار المشهورة، وأقسم بجبل "طور سيناء" الذي كلَّم الله عليه موسى تكليمًا، وأقسم بهذا البلد الأمين من كل خوف وهو "مكة" مهبط الإسلام. لقد خلقنا الإنسان في أحسن صورة، ثم رددناه إلى النار إن لم يطع الله، ويتبع الرسل، لكن الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحة لهم أجر عظيم غير مقطوع ولا منقوص.

«لقد خلقنا الإنسان» الجنس «في أحسن تقويم» تعديل لصورته.

والمقسم عليه قوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أي: تام الخلق، متناسب الأعضاء، منتصب القامة، لم يفقد مما يحتاج إليه ظاهرًا أو باطنًا شيئًا، ومع هذه النعم العظيمة، التي ينبغي منه القيام بشكرها، فأكثر الخلق منحرفون عن شكر المنعم، مشتغلون باللهو واللعب، قد رضوا لأنفسهم بأسافل الأمور، وسفساف الأخلاق.

هذا هو المقسم عليه وهو أنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل منتصب القامة سوى الأعضاء حسنها.

وجملة: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.... وما عطف عليه جواب القسم.أى: وحق التين الذي هو أحسن الثمار، صورة وطعما وفائدة، وحق الزيتون الذي يكفى الناس حوائج طعامهم وإضاءتهم، وحق هذا البلد الأمين، وهو مكة المكرمة، وحق طور سنين الذي كلم الله- تعالى- عليه نبيه موسى تكليما ... وحق هذه الأشياء ... لقد خلقنا الإنسان في أعدل قامة، وأجمل صورة، وأحسن هيئة، ومنحناه بعد ذلك ما لم نمنحه لغيره، من بيان فصيح، ومن عقل راجح، ومن علم واسع، ومن إرادة وقدرة على تحقيق ما يبتغيه في هذه الحياة، بإذننا ومشيئتنا.والتقويم في الأصل: تصيير الشيء على الصورة التي ينبغي أن يكون عليها في التعديل والتركيب. تقول: قومت الشيء تقويما، إذا جعلته على أحسن الوجوه التي ينبغي أن يكون عليها ... في التعديل والتركيب. تقول: قومت الشيء تقويما، إذا جعلته على أحسن الوجوه التي ينبغي أن يكون عليها ... وهذا الحسن يشمل الظاهر والباطن للإنسان ...والمراد بالإنسان هنا: جنسه. أى: لقد خلقنا- بقدرتنا وحكمتنا- جنس الإنسان في أكمل صورة، وأحكم عقل ...

والمقسم عليه قوله "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" أي: أعدل قامة وأحسن صورة، وذلك أنه خلق كل حيوان منكباً على وجهه إلا الإنسان خلقه مديد القامة، يتناول مأكوله بيده، مزيناً بالعقل والتمييز.

قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان هذا جواب القسم ، وأراد بالإنسان : الكافر . قيل : هو الوليد بن المغيرة . وقيل : كلدة بن أسيد . فعلى هذا نزلت في منكري البعث . وقيل : المراد بالإنسان آدم وذريته . في أحسن تقويم وهو اعتداله واستواء شبابه كذا قال عامة المفسرين . وهو أحسن ما يكون ; لأنه خلق كل شيء منكبا على وجهه ، وخلقه هو مستويا ، وله لسان ذلق ، ويد وأصابع يقبض بها . وقال أبو بكر بن طاهر : مزينا بالعقل ، مؤديا للأمر ، مهديا بالتمييز ، مديد القامة يتناول مأكوله بيده .ابن العربي : ( ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان ، فإن الله خلقه حيا عالما ، قادرا مريدا متكلما ، سميعا بصيرا ، مدبرا حكيما . وهذه صفات الرب سبحانه ، وعنها عبر بعض العلماء ، ووقع البيان بقوله : " إن الله خلق آدم على صورته " يعني على صفاته التي قدمنا ذكرها . وفي رواية " على صورة الرحمن " ومن أين تكون للرحمن صورة متشخصة ، فلم يبق إلا أن تكون معاني ) .وقد أخبرنا المبارك بن عبد الجبار الأزدي قال : أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن أبي علي القاضي المحسن عن أبيه قال : كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبا شديدا فقال لها يوما : أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر فنهضت واحتجبت عنه ، وقالت : طلقتني . وبات بليلة عظيمة ، فلما أصبح غدا إلى دار المنصور ، فأخبره الخبر ، وأظهر للمنصور جزعا عظيما فاستحضر الفقهاء واستفتاهم . فقال جميع من حضر : قد طلقت إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة ، فإنه كان ساكتا . فقال له المنصور : ما لك لا تتكلم ؟ فقال له الرجل : بسم الله الرحمن الرحيم : والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم . يا أمير المؤمنين ، فالإنسان أحسن الأشياء ، ولا شيء أحسن منه . فقال المنصور لعيسى بن موسى : الأمر كما قال الرجل ، فأقبل على زوجتك . وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل : أن أطيعي زوجك ولا تعصيه ، فما طلقك .فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق الله باطنا وظاهرا ، جمال هيئة ، وبديع تركيب : الرأس بما فيه ، والصدر بما جمعه ، والبطن بما حواه ، والفرج وما طواه ، واليدان وما بطشتاه ، والرجلان وما احتملتاه . ولذلك قالت الفلاسفة : إنه العالم الأصغر إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه .

وقوله: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) وهذا جواب القسم، يقول تعالى ذكره: والتين والزيتون، لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم.وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: وقع القسم ها هنا( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( لَقَدْ خَلَقْنَا &; 24-507 &; الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) فقال بعضهم: معناه: في أعدل خلق، وأحسن صورة.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عمرو، عن عاصم، عن أبي رَزِين، عن ابن عباس ( فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) قال: في أعدل خلق.حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) قال: في أحسن صورة.قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، مثله.حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم ( فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) قال: خَلْقٍ.حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) قال: في أحسن صورة.حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية ( فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) يقول: في أحسن صورة.حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) : في أحسن صورة.حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) قال: أحسن خَلْقٍ.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) قال: في أحسن خلق.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) يقول: في أحسن صورة.حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، هو والكلبيّ( فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) قالا في أحسن صورة.وقال آخرون: بل معنى ذلك: لقد خلقنا الإنسان، فبلغنا به استواء شبابه وجلده وقوّته، وهو أحسن ما يكون، وأعدل ما يكون وأقومه.* ذكر من قال ذلك:حدثني يعقوب، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت الحكم يحدّث، عن عكرِمة، في قوله: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) قال: الشاب القويّ الجَلْد.حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) قال: شبابه أوّل ما نشأ.وقال آخرون: قيل ذلك لأنه ليس شيء من الحيوان إلا وهو منكبّ على وجهه غير الإنسان.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) قال: خلق كلّ شيء منكبا على وجهه، إلا الإنسان.وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن معنى ذلك: لقد خلقنا الإنسان في أحسن صورة وأعدلها؛ لأن قوله: ( أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) إنما هو نعت لمحذوف، وهو في تقويم أحسن تقويم، فكأنه قيل: لقد خلقناه في تقويم أحسن تقويم.

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) وجملة : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } مع ما عطف عليه هو جواب القسم .والقَسم عليه يدل على أن التقويم تقويم خفي وأن الرد رد خفيّ يجب التدبر لإِدراكه كما سنبينه في قوله : { في أحسن تقويم } .فلذلك ناسب أن يحقق بالتوكيد بالقسم ، لأن تصرفات معظم الناس في عقائدهم جارية على حالة تشبه حالة من ينكرون أنهم خُلقوا على الفطرة .والخلق : تكوين وإيجاد لشيء ، وخلق الله جميع الناس هو أنه خلق أصول الإِيجاد وأوجد الأصول الأولى في بدء الخليقة كما قال تعالى : { لما خلقت بيدي } [ ص : 75 ] وخلق أسباب تولد الفروع من الأصول فتناسلت منها ذرياتهم كما قال : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } [ الأعراف : 11 ] .وتعريف { الإنسان } يجوز أن يكون تعريف الجنس ، وهو التعريف الملحوظ فيه مجموع الماهية مع وجودها في الخارج في ضمن بعض أفرادها أو جميع أفرادها .ويحمل على معنى : خلقنا جميع الناس في أحسن تقويم .ويجوز أن يكون تعريف { الإنسان } تعريف الحقيقة نحو قولهم : الرجل خير من المرأة ، وقول امرىء القيس: ... الحرب أول ما تكون فَتيةفلا يلاحظ فيه أفراد الجنس بل الملحوظ حالة الماهية في أصلها دون ما يعرض لأفرادها مما يغير بعض خصائصها . ومنه التعريف الواقع في قوله تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعاً } وقد تقدم في سورة المعارج ( 19 ) .والتقويم : جعل الشيء في قَوام ( بفتح القاف ) ، أي عَدل وتسوية ، وحسن التقويم أكمله وأليقه بنوع الإِنسان ، أي أحسن تقويم له ، وهذا يقتضي أنه تقويم خاص بالإِنسان لا يشاركه فيه غيره من المخلوقات ، ويتضح ذلك في تعديل القوى الظاهرة والباطنة بحيث لا تكون إحدى قواه موقعة له فيما يفسده ، ولا يعوق بعض قواه البعضَ الآخر عن أداء وظيفته فإن غيره من جنسه كان دونه في التقويم .وحرف { في } يفيد الظرفية المجازية المستعارة لمعنى التمكن والمِلك فهي مستعملة في معنى باء الملابسة أو لام الملك ، وإنما عدل عن أحد الحرفين الحقيقيين لهذا المعنى إلى حرف الظرفية لإفادة قوة الملابسة أو قوة الملك مع الإِيجاز ولولا الإِيجاز لكانت مساواة الكلام أن يقال : لقد خلقنا الإِنسان بتقويم مكين هُو أحسن تقويم .فأفادت الآية أن الله كوَّن الإِنسان تكويناً ذاتياً مُتناسباً ما خلق له نوعه من الإِعداد لنظامه وحضارته ، وليس تقويم صورة الإِنسان الظاهرة هو المعتبر عند الله تعالى ولا جديراً بأن يقسم عليه إذ لا أثر له في إصلاح النفس ، وإصلاح الغير ، والإِصلاح في الأرض ، ولأنه لو كان هو المراد لذهبت المناسبة التي في القَسَمْ بالتين والزيتون وطور سينين والبلدِ الأمين . وإنما هو متمّم لتقويم النفس قال النبي صلى الله عليه وسلم « إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم » فإن العقل أشرف ما خص به نوع الإنسان من بين الأنواع .فالمرضيّ عند الله هو تقويم إدراك الإِنسان ونظره العقلي الصحيح لأن ذلك هو الذي تصدر عنه أعمال الجسد إذ الجسم آلة خادمة للعقل فلذلك كان هو المقصود من قوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } .وأما خلق جسد الإِنسان في أحسن تقويم فلا ارتباط له بمقصد السورة ويظهر هذا كمال الظهور في قوله : { ثم رددناه أسفل سافلين } فإنه لو حمل الرد أسفل سافلين على مصير الإِنسان في أرذل العمر إلى نقائص قوته كما فسر به كثير من المفسرين لكان نبوّه عن غرض السورة أشد ، وليس ذلك مما يقع فيه تردد السامعين حتى يحتاج إلى تأكيده بالقسم ويدل لذلك قوله بعده : { إلا الذين آمنوا } [ التين : 6 ] لأن الإِيمان أثر التقويم لعقل الإنسان الذي يلهمه السير في أعماله على الطريق الأقوم ، ومعاملةِ بني نوعه السالمين من عدائه معاملة الخير معهم على حسب توافقهم معه في الحق فذلك هو الأصل في تكوين الإِنسان إذا سلم من عوارض عائقة من بعض ذلك مما يعرض له وهو جنين؛ إما من عاهة تلحقه لِمرض أحد الأبوين ، أو لفساد هيكله من سقطة أو صدمة في حمله ، وما يعرض له بعد الولادة من داء معضل يعرض له يترك فيه اختلال مزاجه فيحرف شيئاً من فطرته كحماقة السوداويين والسُّكريين أو خبال المختبلين ، ومما يدخله على نفسه من مساوي العادات كشرب المسكرات وتناول المخدرات مما يورثه على طوللٍ انثلامَ تعقله أو خَوَرَ عزيمته .والذي نأخذه من هذه الآية أنَّ الإنسان مخلوق على حالة الفطرة الإِنسانية التي فطر الله النوع ليتصف بآثارها ، وهي الفطرة الإنسانية الكاملة في إدراكه إدراكاً مستقيماً مما يتأدى من المحسوسات الصادقة ، أي الموافقة لحقائق الأشياء الثابتة في نفس الأمر ، بسبب سلامة ما تؤديه الحواس السليمة ، وما يتلقاه العقل السليم من ذلك ويتصرف فيه بالتحليل والتركيب المنتظمين ، بحيث لو جانبتْه التلقينات الضالة والعوائد الذميمة والطبائع المنحرفة والتفكير الضار ، أو لو تسلطت عليه تسلطاً ما فاستطاع دفاعها عنه بدلائل الحق والصواب ، لجَرى في جميع شؤونه على الاستقامة ، ولما صدرت منه إلا الأفعال الصالحة ولكنه قد يتعثر في ذيول اغتراره ويُرخي العنان لهواه وشهوته ، فترمي به في الضلالات ، أو يتغلب عليه دعاة الضلال بعامل التخويف أو الإِطماع فيتابعهم طوعاً أو كرهاً ، ثم لا يلبث أن يستحكم فيه ما تقلده فيعتاده وينسى الصواب والرشد .ويفسر هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم « ما من مولود إلا يولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه » الحديث؛ ذلك أن أبويه هما أول من يتولى تأديبه وتثقيفه وهما أكثر الناس ملازمة له في صباه ، فهما اللذان يُلقيان في نفسه الأفكار الأولى ، فإذا سلم من تضليل أبويه فقد سار بفطرته شوطاً ثم هو بعد ذلك عُرضة لعديد من المؤثرات فيه ، إنْ خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ ، واقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على الأبوين لأنهما أقوى أسباب الزج في ضلالتهما ، وأشد إلحاحاً على ولدهما .ولم يعرج المفسرون قديماً وحديثاً على تفسير التقويم بهذا المعنى العظيم فقصروا التقويم على حسن الصورة . وروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والكلبي وإبراهيم وأبي العالية ، أو على استقامة القامة . وروي عن ابن عباس ، أو على الشباب والجلادة ، وروي عن عكرمة وابن عباس .ولا يلائم مقصد السورة إلا أن يتأول بأن ذلك ذكر نعمة على الإنسان عكس الإنسان شكرها فكفر بالمنعم فرد أسفل سافلين ، سوى ما حكاه ابن عطية عن الثعلبي عن أبي بكر بن طاهر أنه قال : «تقويم الإنسان عقله وإدراكه اللذان زيّناه بالتمييز» ولفظه عند القرطبي قريب من هذا مع زيادة يتناول مأكوله بيده وما حكاه الفخر عن الأصم أن { أحسن تقويم } أكمل عقل وفهم وأدب وعلم وبيان» .وتفيد الآية أن الإِنسان مفطور على الخير وأن في جبلته جلب النفع والصلاح لنفسه وكراهة ما يظنّه باطلاً أو هلاكاً ، ومحبة الخير والحسن من الأفعال لذلك تراه يسر بالعدل والإِنصاف ، وينصح بما يراه مجلبة لخير غيره ، ويغيث الملهوف ويعامل بالحسنى ، ويغار على المستضعفين ، ويشمئزّ من الظلم ما دام مجرداً عن رَوْم نفع يجلبه لنفسه أو إرضاء شهوة يريد قضاءها أو إشفاء غضب يجيش بصدره ، تلك العوارض التي تحول بينه وبين فطرته زمناً ، ويهش إلى كلام الوعّاظ والحكماء والصالحين ويكرمهم ويعظمهم ويودّ طول بقائهم .فإذا ساورتْه الشهوة السيئة فزينت له ارتكاب المفاسد ولم يستطع ردها عن نفسه انصرف إلى سوء الأعمال ، وثقْل عليه نصح الناصحين ، ووعظُ الواعظين على مراتب في كراهية ذلك بمقدار تحكم الهوى في عقله .ولهذا كان الأصل في الناس الخيرَ والعدالة والرشد وحسن النية عند جمهور من الفقهاء والمحدِّثين .
الآية 4 - سورة التين: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم...)