سورة نوح: الآية 4 - يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم...

تفسير الآية 4, سورة نوح

يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰٓ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لَا يُؤَخَّرُ ۖ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

الترجمة الإنجليزية

Yaghfir lakum min thunoobikum wayuakhkhirkum ila ajalin musamman inna ajala Allahi itha jaa la yuakhkharu law kuntum taAAlamoona

تفسير الآية 4

إنا بعثنا نوحا إلى قومه، وقلنا له: حذِّر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب موجع. قال نوح: يا قومي إني نذير لكم بيِّن الإنذار من عذاب الله إن عصيتموه، وإني رسول الله إليكم فاعبدوه وحده، وخافوا عقابه، وأطيعوني فيما آمركم به، وأنهاكم عنه، فإن أطعتموني واستجبتم لي يصفح الله عن ذنوبكم ويغفر لكم، ويُمدد في أعماركم إلى وقت مقدر في علم الله تعالى، إن الموت إذا جاء لا يؤخر أبدًا، لو كنتم تعلمون ذلك لسارعتم إلى الإيمان والطاعة.

«يغفر لكم من ذنوبكم» من زائدة فإن الإسلام يغفر به ما قبله، أو تبعيضية لإخراج حقوق العباد «ويؤخركم» بلا عذاب «إلى أجل مسمى» أجل الموت «إن أجل الله» بعذابكم إن لم تؤمنوا «إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون» ذلك لآمنتم.

فإنهم إذا اتقوا الله غفر ذنوبهم، وإذا غفر ذنوبهم حصل لهم النجاة من العذاب، والفوز بالثواب، وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أي: يمتعكم في هذه الدار، ويدفع عنكم الهلاك إلى أجل مسمى أي: مقدر [البقاء في الدنيا] بقضاء الله وقدره [إلى وقت محدود]، وليس المتاع أبدا، فإن الموت لا بد منه، ولهذا قال: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لما كفرتم بالله، وعاندتم الحق، فلم يجيبوا لدعوته، ولا انقادوا لأمره.

( يغفر لكم من ذنوبكم ) أي : إذا فعلتم ما أمرتكم به وصدقتم ما أرسلت به إليكم ، غفر الله لكم ذنوبكم .و " من " هاهنا قيل : إنها زائدة . ولكن القول بزيادتها في الإثبات قليل . ومنه قول بعض العرب : " قد كان من مطر " . وقيل : إنها بمعنى " عن " ، تقديره : يصفح لكم عن ذنوبكم . واختاره ابن جرير ، وقيل : إنها للتبعيض ، أي يغفر لكم الذنوب العظام التي وعدكم على ارتكابكم إياها الانتقام .( ويؤخركم إلى أجل مسمى ) أي : يمد في أعماركم ويدرأ عنكم العذاب الذي إن لم تنزجروا عما نهاكم عنه ، أوقعه بكم .وقد يستدل بهذه الآية من يقول : إن الطاعة والبر وصلة الرحم ، يزاد بها في العمر حقيقة ; كما ورد به الحديث : " صلة الرحم تزيد في العمر " .وقوله : ( إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون ) أي : بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة ، فإنه إذا أمر [ الله ] تعالى بكون ذلك لا يرد ولا يمانع ، فإنه العظيم الذي قهر كل شيء ، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات .

ثم بين لهم ما يترتب على إخلاص عبادتهم لله، وخشيتهم منه- سبحانه-، وطاعتهم لنبيهم فقال: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.وقوله: يَغْفِرْ مجزوم في جواب الأوامر الثلاثة، ومِنْ للتبعيض أى: يغفر لكم بعض ذنوبكم، وهي تلك التي اقترفوها قبل إيمانهم وطاعتهم لنبيهم، أو الذنوب التي تتعلق بحقوق الله- تعالى- دون حقوق العباد.ويرى بعضهم أن «من» هنا زائدة لتوكيد هذه المغفرة. أى: يغفر لكم جميع ذنوبكم التي فرطت منكم، متى آمنتم واتقيتم ربكم، وأطعتم نبيكم.وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أى: ويؤخر آجالكم إلى وقت معين عنده- سبحانه-، ويبارك لكم فيها، بأن يجعلها عامرة بالعمل الصالح، وبالحياة الآمنة الطيبة.فأنت ترى أن نوحا- عليه السلام- قد وعدهم بالخير الأخروى وهو مغفرة الذنوب يوم القيامة، وبالخير الدنيوي وهو البركة في أعمارهم. وطول البقاء في هناء وسلام.قال ابن كثير: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أى: ويمد في أعماركم، ويدرأ عنكم العذاب، الذي إذا لم تنزجروا عما أنهاكم عنه: أوقعه- سبحانه- بكم.وقد يستدل بهذه الآية من يقول: إن الطاعة والبر وصلة الرحم. يزاد بها في العمر حقيقة، كما ورد به الحديث: «صلة الرحم تزيد في العمر» .وقوله: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ بمنزلة التعليل لما قبله. أى:يغفر لكم- سبحانه- من ذنوبكم، ويؤخركم إلى أجل معين عنده- تعالى- إن الوقت الذي حدده الله- عز وجل- لانتهاء أعماركم، متى حضر، لا يؤخر عن موعده، لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أى: لو كنتم من أهل العلم لاستجبتم لنصائحى، وامتثلتم أمرى، وبذلك تنجون من العقاب الدنيوي والأخروى.قال الآلوسى: قوله لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. أى: لو كنتم من أهل العلم لسارعتم لما آمركم به. لكنكم لستم من أهله في شيء، لذا لم تسارعوا، فجواب لو مما يتعلق بأول الكلام.ويجوز أن يكون مما يتعلق بآخره. أى: لو كنتم من أهل العلم لعلمتم ذلك، أى: عدم تأخير الأجل إذا جاء وقته المقدر له. والفعل في الوجهين منزل منزلة اللازم.. .ثم قصت علينا الآيات الكريمة بعد ذلك، ما قاله نوح لربه. على سبيل الشكوى والضراعة، وما وجهه إلى قومه من نصائح فيها ما فيها من الترغيب والترهيب، ومن الإرشاد الحكيم، والتوجيه السديد.. قال- تعالى-:

( يغفر لكم من ذنوبكم ) " من " صلة ، أي : يغفر لكم ذنوبكم . وقيل : يعني ما سلف من ذنوبكم إلى وقت الإيمان ، وذلك بعض ذنوبهم ( ويؤخركم إلى أجل مسمى ) أي : يعافيكم إلى منتهى آجالكم فلا يعاقبكم ( إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون ) يقول : آمنوا قبل الموت تسلموا [ من العذاب ] فإن أجل الموت إذا جاء لا يؤخر ولا يمكنكم الإيمان .

يغفر لكم من ذنوبكم جزم يغفر بجواب الأمر . و " من " صلة زائدة . ومعنى الكلام يغفر لكم ذنوبكم ، قاله السدي . وقيل : لا يصح كونها زائدة ; لأن " من " لا تزاد في الواجب ، وإنما هي هنا للتبعيض ، وهو بعض الذنوب ، وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين . وقيل : هي لبيان الجنس . وفيه بعد ، إذ لم يتقدم جنس يليق به . وقال زيد بن أسلم : المعنى يخرجكم من ذنوبكم . ابن شجرة : المعنى يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منهاويؤخركم إلى أجل مسمى قال ابن عباس : أي ينسئ في أعماركم . ومعناه أن الله تعالى كان قضى قبل خلقهم أنهم إن آمنوا بارك في أعمارهم ، وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب . وقال مقاتل : يؤخركم إلى منتهى آجالكم في عافية ; فلا يعاقبكم بالقحط وغيره . فالمعنى على هذا يؤخركم من العقوبات والشدائد إلى آجالكم . وقال الزجاج أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير موتة المستأصلين بالعذاب . وعلى هذا قيل : أجل مسمى عندكم تعرفونه ، لا يميتكم غرقا ولا حرقا ولا قتلا ; ذكره الفراء . وعلى القول الأول أجل مسمى عند الله .إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر أي إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب . وأضاف الأجل إليه سبحانه لأنه الذي أثبته . وقد يضاف إلى القوم ، كقوله تعالى : فإذا جاء أجلهم لأنه مضروب لهم ." لو " بمعنى إن . أي إن كنتم تعلمون . وقال الحسن : معناه لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل الله إذا جاءكم لم يؤخر .

وقوله: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) يقول: يغفر لكم ذنوبكم.فإن قال قائل: أو ليست " من " دالة على البعض ؟ قيل: إن لها معنيين وموضعين، فأما أحد الموضعين فهو الموضع الذي لا يصح فيه غيرها. وإذا كان ذلك كذلك لم تدلّ إلا على البعض، وذلك كقولك: اشتريت من مماليكك، فلا يصح في هذا الموضع غيرها، ومعناها: البعض، اشتريت بعض مماليكك، ومن مماليكك مملوكا. والموضع الآخر: هو الذي يصلح فيه مكانها عن فإذا صلحت مكانها " عن " دلت على الجميع، وذلك كقولك: وجع بطني من طعام طعمته، فإن معنى ذلك: أوجع بطني طعام طعمته، وتصلح مكان " من " عن، وذلك أنك تضع موضعها " عن "، فيصلح الكلام فتقول: وجع بطني عن طعام طعمته، ومن طعام طعمته، فكذلك قوله: (يَغْفِرْ لَكُمْ من ذُنُوبِكُمْ ) إنما هو: ويصفح لكم، ويعفو لكم عنها؛ وقد يحتمل أن يكون معناها يغفر لكم من ذنوبكم ما قد وعدكم العقوبة عليه. فأما ما لم يعدكم العقوبة عليه فقد تقدّم عفوه لكم عنها.وقوله: (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) يقول: ويؤخِّر في آجالكم فلا يهلككم بالعذاب، لا بغَرَق ولا غيره (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) يقول: إلى حين كتب أنه يبقيكم إليه، إن أنتم أطعتموه وعبدتموه، في أمّ الكتاب.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) قال: ما قد خطّ من الأجل، فإذا جاء أجل الله لا يؤخَّر.وقوله: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) يقول تعالى ذكره: &; 23-631 &; إن أجل الله الذي قد كتبه على خلقه في أمّ الكتاب إذا جاء عنده لا يؤخر عن ميقاته، فينظر بعده (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) يقول: لو علمتم أن ذلك كذلك، لأنبتم إلى طاعة ربكم.

يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)، فقوله : { يغفر لكم من ذنوبكم } ينصرف بادىء ذي بدء إلى ذنوب الإِشراك اعتقاداً وسجوداً .وجَزْمُ { يغفر لكم من ذنوبكم } في جواب الأوامر الثلاثة { اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } ، أي إن تفعلوا ذلك يغفر الله لكم من ذنوبكم . وهذا وعد بخير الآخرة .وحرف { مِن } زائد للتوكيد ، وهذا من زيادة { مِن } في الإيجاب على رأي كثير من أيمة النحو مثل الأخفش وأبي علي الفارسي وابن جنيّ من البصريين وهو قول الكسائي وجميععِ نحاة الكوفة . فيفيد أن الإيمان يَجُبُّ ما قبله في شريعة نوح مثل شريعة الإِسلام .ويجوز أن تكون { مِن } للتبعيض ، عند من أثبت ذلك وهو اختيار التفتزاني ، أي يغفر لكم بعض ذنوبكم ، أي ذنوب الإِشراك وما معه ، فيكون الإيمان في شرع نوح لا يقتضي مغفرة جميع الذنوب السابقة ، وليس يلزم تماثل الشرائع في جميع الأحكام الفرعية ، ومغفرةُ الذنوب من تفاريع الدين وليست من أصوله . وقال ابن عطية : معنى التبعيض : مغفرة الذنوب السابقة دون ما يذنبون من بعد . وهذا يتم ويحسن إذا قدرنا أن شريعة نوح تشتمل على أوامر ومنهيات عملية فيكون ذكر { مِن } التبعيضية اقتصاداً في الكلام بالقدر المحقق .وأما قوله : { ويؤخركم إلى أجل مسمى } فهو وعد بخير دنيوي يستوي الناس في رغبته ، وهو طول البقاء فإنه من النعم العظيمة لأن في جبلة الإِنسان حُب البقاء في الحياة على ما في الحياة من عوارضَ ومكدرات . وهذا ناموس جعله الله تعالى في جبلة الإِنسان لتجري أعمال الناس على ما يعين على حفظ النوع . قال المعري :وكلّ يريدُ العيشَ والعيشُ حَتفُه ويستعْذِبُ اللذاتتِ وهي سِمَام ... والتأخيرُ : ضد التعجيل ، وقد أطلق التأخير على التمديد والتوسيع في أجل الشيء .وقد أشعر وعدُه إياهم بالتأخير أنه تأخير مجموعهم ، أي مجموع قومه لأنه جُعل جزاءً لكل من عَبدَ الله منهم واتقاه وأطاع الرسول ، فدل على أنه أنذرهم في خلال ذلك باستئصال القوم كلهم ، وأنهم كانوا على علم بذلك كما أشار إليه قوله : { أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم } [ نوح : 1 ] كما تقدم آنفاً ، وكما يفسره قوله تعالى في سورة هود ( 38 ) { ويصنَعُ الفلك وكلَّما مرّ عليه ملأ من قومه سَخِروا منه } أي سخروا من الأمر الذي يصنع الفلك للوقاية منه وهو أمر الطوفان ، فتعين أن التأخير المراد هنا هو عدم استئصالهم . والمعنى : ويؤخر القوم كلهم إلى أجل مسمى وهو آجال إشخاصهم وهي متفاوتة .والأجل المسمى : هو الأجل المعين بتقدير الله عند خلقةِ كل أحد منهم ، فالتنوين في { أجل } للنوعية ، أي الجنس ، وهو صادق على آجال متعددة بعدد أصحابها كما قال تعالى :{ ومنكم من يتوفى ومنكم من يُرَدّ إلى أرذل العمر } [ الحج : 5 ] .ومعنى { مسمى } أنه محدد معيّن وهو ما في قوله تعالى : { وأجل مسمى عنده } في سورة الأنعام ( 2 ) .فالأجل المسمى : هو عمر كل واحد ، المعيّنُ له في سَاعةِ خلْقه المشار إليه في الحديث أن المَلَك يؤمر بكتب أجل المخلوق عندما يَنفُخ فيه الروحَ ، واستعيرت التسمية للتعيين لشَبه عدم الاختلاط بين أصحاب الآجال .والمعنى : ويؤخركم فلا يعجل بإهلاككم جميعاً فيؤخر كل أحد إلى أجله المعيّن له على تفاوت آجالهم .فمعنى هذه الآية نظير معنى آية سورة هود ( 3 ) { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتّعْكم متاعاً حسناً إلى أجللٍ مسمّى } وهي على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .{ إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ } .يحتمل أن تكون هذه الجملة تعليلاً لقوله : { ويؤخرْكم إلى أجل مسمى ، } أي تعليلاً للربط الذي بين الأمر وجزائه من قوله : { أن اعبدوا الله } إلى قوله : { ويؤخِّركم } الخ لأن الربط بين الأمْر وجوابِه يعطي بمفهومه معنى : إِنْ لا تعبدوا الله ولا تتقوه ولا تطيعوني لا يغفر لكم ولا يؤخركم إلى أجل مسمى ، فعُلل هذا الربط والتلازم بين هذا الشرط المقدر وبين جزائه بجملة { إنّ أجل الله إذا جاء لا يؤخر } ، أي أن الوقت الذي عيّنه الله لحلول العذاب بكم إن لم تعبدوه ولم تطيعون إذا جاء إِبَّانه باستمراركم على الشرك لا ينفعكم الإِيمان ساعتئذٍ ، كما قال تعالى : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } [ يونس : 98 ] ، فيكون هذا حثاً على التعجيل بعبادة الله وتقواه .فالأجَل الذي في قوله : { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } غير الأجل الذي في قوله : { ويؤخركم إلى أجللٍ مسمى } ويُناسِب ذلك قولُه عقبه { لو كنتم تعلمون } المقتضي أنهم لا يعلمون هذه الحقيقة المتعلقة بآجال الأمم المعيَّنة لاستئصالهم ، وأما عدم تأخير آجال الأعمار عند حلولها فمعلوم للناس مشهور في كلام الأولين . وفي إضافة { أجل } إلى اسم الجلالة في قوله : { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } إيماء إلى أنه ليس الأجل المعتاد بل هو أجل عيّنه الله للقوم إنذاراً لهم ليؤمنوا بالله . ويحتمل أن تكون الجملة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن تحديد غاية تأخيرهم إلى أجل مسمى ، أي دون تأخيرهم تأخيراً مستمراً فيسأل السامع في نفسه عن علة تنهية تأخيرهم بأجل آخر فيكون أجل الله غير الأجل الذي في قوله : { إلى أجل مسمى } .ويحتمل أن تكون الجملة تعليلاً لكلا الأجلين : الأجل المفاد من قوله : { من قبل أن يَأتيهُم عذابٌ أليم } [ نوح : 1 ] فإن لفظ { قبل } يؤذن بأن العذاب موقت بوقت غير بعيد فله أجل مُبْهم غير بعيد ، والأجَل المذكورِ بقوله : { ويؤخركم إلى أجل مسمى } فيكون أجل الله صادقاً على الأجل المسمى وهو أجل كل نفس من القوم .وإضافته إلى الله إضافة كشف ، أي الأجل الذي عينه الله وقدره لكل أحد .وبهذا تعلم أنه لا تعارض بين قوله : { ويؤخركم إلى أجل مسمى } وبين قوله : { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } إما لاختلاف المراد بلفظيّ ( الأجل ) في قوله : { إلى أجل مسمى } وقوله : { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ، } وإما لاختلاف معنيي المجيء ومعنيي التأخير في قوله : { إذا جاءَ لا يؤخر } فانفكت جهة التعارض .أما مسألة تأخير الآجال والزيادة في الأعمار والنقص منها وتوحيد الأجل عندنا واضطراب أقوال المعتزلة في هل للإِنسان أجل واحد أو أجلان فتلك قضية أخرى ترتبط بأصلين : أصل العلم الإلهي بما سيكون ، وأصل تقدير الله للأسباب وترتُّب مسبباتها عليها .فأما ما في علم الله فلا يتغير قال تعالى : { وما يعمَّر من معمَّر ولا يُنقص من عمره إلاّ في كتاب } [ فاطر : 11 ] أي في علم الله ، والناس لا يطلعون على ما في علم الله .وأما وجودُ الأسباب كلها كأسباب الحياة ، وترتبُ مسبباتها عليها فيتغير بإيجاد الله مغيِّراتتٍ لم تكن موجودة إكراماً لبعض عباده أو إهانة لبعض آخر . وفي الحديث صدقة المرء المُسلم تزيد في العُمر . وهو حديث حسن مقبول . وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم من سره أن يُمد في عمره فليتق الله وليصِل رحمه . وسنده جيد . فآجال الأعمار المحددة بالزمان أو بمقدار قوة الأعضاء وتناسب حركاتها قابلة للزيادة والنقص . وآجال العقوبات الإلهية المحددة بحصول الأعمال المعاقب عليها بوقت قصير أو فيه مُهلة غير قابلة للتأخير وهي ما صْدَقُ قوله : { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر } وقد قال الله تعالى : { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } [ الرعد : 39 ] على أظهر التأويلات فيه وما في علم الله من ذلك لا يخالف ما يحصل في الخارج .فالذي رغَّب نوحٌ قومَه فيه هو سبب تأخير آجالهم عند الله فلو فعلوه تأخرتْ آجالهم وبتأخيرها يتبين أن قد تقرر في علم الله أنهم يعملون ما يدعوهم إليه نوح وأن آجالهم تطول ، وإذ لم يفعلوه فقد كُشف للناس أن الله علم إنهم لا يفعلون ما دعاهم إليه نوح وأن الله قاطع آجالهم ، وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم « اعملُوا فكل مُيسَّر إلى ما خُلق له » وقد استعصى فهم هذا على كثير من الناس فخلطوا بين ما هو مقرر في علم الله وما أظهره قدر الله في الخارج الوجودي .وفي إقحام فعل { كنتم } قبل { تعلمون } إيذان بأن علمهم بذلك المنتفيَ لوقوعه شرطاً لحرف { لو } محقق انتفاؤه كما بيناه في قوله تعالى : { أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم } في سورة يونس ( 2 ) .وجواب لو } محذوف دل عليه قوله : { لا يؤخَّر } . والتقدير : لأيقنتم أنه لا يؤخر .
الآية 4 - سورة نوح: (يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ۚ إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ۖ لو كنتم تعلمون...)