سورة نوح: الآية 7 - وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم...

تفسير الآية 7, سورة نوح

وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوٓا۟ أَصَٰبِعَهُمْ فِىٓ ءَاذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْا۟ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا۟ وَٱسْتَكْبَرُوا۟ ٱسْتِكْبَارًا

الترجمة الإنجليزية

Wainnee kullama daAAawtuhum litaghfira lahum jaAAaloo asabiAAahum fee athanihim waistaghshaw thiyabahum waasarroo waistakbaroo istikbaran

تفسير الآية 7

قال نوح: رب إني دعوت قومي إلى الإيمان بك وطاعتك في الليل والنهار، فلم يزدهم دعائي لهم إلى الإيمان إلا هربًا وإعراضًا عنه، وإني كلما دعوتهم إلى الإيمان بك؛ ليكون سببًا في غفرانك ذنوبهم، وضعوا أصابعهم في آذانهم؛ كي لا يسمعوا دعوة الحق، وتغطَّوا بثيابهم؛ كي لا يروني، وأقاموا على كفرهم، واستكبروا عن قَبول الإيمان استكبارًا شديدًا، ثم إني دعوتهم إلى الإيمان ظاهرًا علنًا في غير خفاء، ثم إني أعلنت لهم الدعوة بصوت مرتفع في حال، وأسررت بها بصوت خفيٍّ في حال أخرى، فقلت لقومي: سلوا ربكم غفران ذنوبكم، وتوبوا إليه من كفركم، إنه تعالى كان غفارًا لمن تاب من عباده ورجع إليه.

«وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم» لئلا يسمعوا كلامي «واستغشوا ثيابهم» غطوا رؤوسهم بها لئلا ينظروني «وأصروا» على كفرهم «واستكبروا» تكبروا عن الإيمان «استكبارا».

وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ أي: لأجل أن يستجيبوا فإذا استجابوا غفرت لهم فكان هذا محض مصلحتهم، ولكنهم أبوا إلا تماديا على باطلهم، ونفورا عن الحق، جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ حذر سماع ما يقول لهم نبيهم نوح عليه السلام، وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ أي تغطوا بها غطاء يغشاهم بعدا عن الحق وبغضا له، وَأَصَرُّوا على كفرهم وشرهم وَاسْتَكْبَرُوا على الحق اسْتِكْبَارًا فشرهم ازداد، وخيرهم بعد.

( وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم ) أي : سدوا آذانهم لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه . كما أخبر تعالى عن كفار قريش : ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) [ فصلت : 26 ] .( واستغشوا ثيابهم ) قال ابن جريج ، عن ابن عباس : تنكروا له لئلا يعرفهم . وقال سعيد بن جبير والسدي : غطوا رءوسهم لئلا يسمعوا ما يقول .( وأصروا ) أي : استمروا على ما هم فيه من الشرك والكفر العظيم الفظيع ، ( واستكبروا استكبارا ) أي : واستنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له .

ثم أضاف إلى فرارهم منه، حالة أخرى. تدل على إعراضهم عنه، وعلى كراهيتهم له، فقال: وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ، جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ، وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً.وقوله: كُلَّما معمول لجملة: جَعَلُوا التي هي خبر إن، واللام في قوله لِتَغْفِرَ لَهُمْ للتعليل.والمراد بأصابعهم: جزء منها. واستغشاء الثياب معناه: جعلها غشاء، أى: غطاء لرءوسهم ولأعينهم حتى لا ينظروا إليه، ومتعلق الفعل «دعوتهم» محذوف لدلالة ما تقدم عليه، وهو أمرهم بعبادة الله وتقواه.والمعنى: وإنى- يا مولاي- كلما دعوتهم الى عبادتك وتقواك وطاعتي فيما أمرتهم به، لكي تغفر لهم ذنوبهم.. ما كان منهم إلا أن جعلوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا قولي، وإلا أن وضعوا ثيابهم على رءوسهم. وأبصارهم حتى لا يرونى، وإلا أن أَصَرُّوا إصرارا تاما على كفرهم وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً عظيما عن قبول الحق.فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة، قد صورت عناد قوم نوح، وجحودهم للحق، تصويرا بلغ الغاية في استحبابهم العمى على الهدى.فهي- أولا- جاءت بصيغة «كلما» الدالة على شمول كل دعوة وجهها إليهم نبيهم نوح- عليه السلام- أى: في كل وقت أدعوهم إلى الهدى يكون منهم الإعراض.وهي- ثانيا- عبرت عن عدم استماعهم إليه بقوله- تعالى-: جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ. وعبر عن الأنامل بالأصابع على سبيل المبالغة في إرادة سد المسامع، فكأنهم لو أمكنهم إدخال أصابعهم جميعها في آذانهم لفعلوا. حتى لا يسمعوا شيئا مما يقوله نبيهم لهم.فإطلاق اسم الأصابع على الأنامل من باب المجاز المرسل، لعلاقة البعضية، حيث أطلق- سبحانه- الكل وأراد البعض، مبالغة في كراهيتهم لسماع كلمة الحق.وهي- ثالثا- عبرت عن كراهيتهم لنبيهم ومرشدهم بقوله- تعالى-: وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أى: بالغوا في التّغطّى بها، حتى لكأنهم قد طلبوا منها أن تلفهم بداخلها حتى لا يتسنى لهم رؤيته إطلاقا.وهذا كناية عن العداوة الشديدة، ومنه قول القائل: لبس لي فلان ثياب العداوة.وهي- رابعا- قد بينت بأنهم لم يكتفوا بكل ذلك، بل أضافوا إليه الإصرار على الكفر- وهو التشديد فيه، والامتناع من الإقلاع عنه مأخوذ من الصرّة بمعنى الشدة- والاستكبار العظيم عن الاستجابة للحق.فقد أفادت هذه الآية، أنهم عصوا نوحا وخالفوه مخالفة ليس هناك ما هو أقبح منها ظاهرا، حيث عطلوا أسماعهم وأبصارهم، وليس هناك ما هو أقبح منها باطنا، حيث أصروا على كفرهم، واستكبروا على اتباع الحق.

( وإني كلما دعوتهم ) إلى الإيمان بك ( لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم ) لئلا يسمعوا دعوتي ( واستغشوا ثيابهم ) غطوا بها وجوههم لئلا يروني ( وأصروا ) على كفرهم ( واستكبروا ) عن الإيمان بك ( استكبارا )

قوله تعالى : وإني كلما دعوتهم أي إلى سبب المغفرة ، وهي الإيمان بك والطاعة لك .جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا دعائيواستغشوا ثيابهم أي غطوا بها وجوههم لئلا يروه . وقال ابن عباس : جعلوا ثيابهم على رءوسهم لئلا يسمعوا كلامه . فاستغشاء الثياب إذا زيادة في سد الآذان حتى لا يسمعوا ، أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت أو ليعرفوه إعراضهم عنه . وقيل : هو كناية عن العداوة . يقال : لبس لي فلان ثياب العداوة ." وأصروا " أي على الكفر فلم يتوبوا ." واستكبروا " عن قبول الحق ; لأنهم قالوا : أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ." استكبارا " تفخيم .

وقوله: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ ) يقول جلّ وعزّ: وإني كلما دعوتهم إلى الإقرار بوحدانيتك، والعمل بطاعتك، والبراءة من عبادة كلّ ما سواك، لتغفر لهم إذا هم فعلوا ذلك جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا دعائي إياهم إلى ذلك (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ ) يقول: وتغشوا في ثيابهم، وتغطوا بها لئلا يسمعوا دعائي.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ ) لئلا يسمعوا كلام نوح عليه السلام.وقوله: (وَأَصَرُّوا ) يقول: وثبتوا على ما هم عليه من الكفر وأقاموا عليه.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: (وَأَصَرُّوا ) قال: الإصرار إقامتهم على الشرّ والكفر.وقوله: (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ) يقول: وتكبروا فتعاظموا عن الإذعان للحقّ، وقبول ما دعوتهم إليه من النصيحة.

وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7){ كلما } مركبة من كلمتين كلمةِ ( كل ) وهي اسم يدل على استغراق أفراد ما تضاف هي إليه ، وكلمة ( ما ) المصدرية وهي حرف يفيد أن الجملة بعده في تأويل مصدر . وقد يراد بذلك المصدر زمَانُ حصوله فيقولون ( مَا ) ظرفية مصدرية لأنها نائبة عن اسم الزمان .والمعنى : أنهم لم يظهروا مخِيلةً من الإِصغاء إلى دعوته ولم يتخلفوا عن الإِعراض والصدود عن دعوته طَرفة عَيْن ، فلذلك جاء بكلمة { كلما } الدالة على شمول كلّ دعوة من دعواته مقترنةً بدلائل الصد عنها ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { كلما أضاء لهم مشوا فيه } [ البقرة : 20 ] .وحُذف متعلق { دَعَوْتُهم } لدلالة ما تقدم عليه من قوله : { أن اعبدوا الله } [ نوح : 3 ] .والتقدير : كلما دعوتهم إلى عبادتك وتقواك وطاعتي فيما أمرتهم به .واللام في قوله : { لتغفر } لام التعليل ، أي دعوتهم بدعوة التوحيد فهو سبب المغفرة ، فالدعوة إليه معللة بالغفران .ويتعلق قوله : { كلما دعوتهم } بفعل { جعلوا أصابعهم } على أنه ظرف زمان .وجملة { جعلوا أصابعهم } خبر ( إن ) والرابط ضمير { دعوتهم } .وجَعْل الأصابع في الآذَان يمنع بلوغ أصوات الكلام إلى المسامع .وأطلق اسم الأصابع على الأنامل على وجه المجاز المرسل بعلاقة البعضية فإن الذي يُجعل في الأذن الأنملة لا الأصبع كلّه فعُبر عن الأنامل بالأصابع للمبالغة في إرادة سد المسامع بحيث لو أمكن لأدخلوا الأصابع كلها ، وتقدم في قوله تعالى : { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق } في سورة البقرة ( 19 ) .واستغشاء الثياب : جَعْلُها غِشاء ، أي غِطاء على أعينهم ، تعْضيداً لسد آذانهم بالأصابع لئلا يسمعوا كلامه ولا ينظروا إشاراته . وأكثر ما يطلق الغشاء على غطاء العينين ، قال تعالى : { وعلى أبصارهم غشاوة } [ البقرة : 7 ] . والسين والتاء في { استغشوا } للمبالغة .فيجوز أن يكون جعل الأصابع في الآذان واستغشاءُ الثياب هنا حقيقة بأن يكون ذلك من عادات قوم نوح إذا أراد أحد أن يظهر كراهية لكلام من يتكلم معه أن يجعل أصبعيه في أذنيه ويجعل من ثوبه ساتراً لعينيه .ويجوز أن يكون تمثيلاً لحالهم في الإِعراض عن قبول كلامه ورؤية مقامه بحال من يَسُكُّ سمعه بأنملتيْه ويحجب عينيه بطرف ثوبه .وجعلت الدعوة معللة بمغفرة الله لهم لأنها دعوة إلى سبب المغفرة وهو الإِيمان بالله وحده وطاعةُ أمره على لسان رسوله .وفي ذلك تعريض بتحميقهم وتعجب من خُلُقهم إذ يعرضون عن الدعوة لما فيه نفعهم فكان مقتضى الرشاد أن يسمعوها ويتدبروها .والإِصرار : تحقيق العزم على فعللٍ ، وهو مشتق من الصَّر وهو الشد على شيء والعقدُ عليه ، وتقدم عند قوله تعالى : { ولم يصرّوا على ما فعلوا } في سورة آل عمران ( 135 ) .وحذف متعلق أصَروا } لظهوره ، أي أصروا على ما هم عليه من الشرك .{ واستكبروا } مبالغة في تكبروا ، أي جعلوا أنفسهم أكبر من أن يأتمروا لواحد منهم { ما نراك إلاّ بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلاّ الذين هم أراذلِنُا بادىء الرأي وما نرى لكم علينا من فضل } [ هود : 27 ] .وتأكيد { استكبروا } بمفعوله المطلق للدلالة على تمكن الاستكبار . وتنوين { استكباراً } للتعظيم ، أي استكباراً شديداً لا يَفله حدُّ الدعوة .
الآية 7 - سورة نوح: (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا...)