سورة ق: الآية 5 - بل كذبوا بالحق لما جاءهم...

تفسير الآية 5, سورة ق

بَلْ كَذَّبُوا۟ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِىٓ أَمْرٍ مَّرِيجٍ

الترجمة الإنجليزية

Bal kaththaboo bialhaqqi lamma jaahum fahum fee amrin mareejin

تفسير الآية 5

بل كذَّب هؤلاء المشركون بالقرآن حين جاءهم، فهم في أمر مضطرب مختلط، لا يثبتون على شيء، ولا يستقر لهم قرار.

«بل كذبوا بالحق» بالقرآن «لما جاءهم فهم» في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن «في أمر مريج» مضطرب قالوا مرة: ساحر وسحر، ومرة: شاعر وشعر، ومرة: كاهن وكهانة.

أي: بَلْ كلامهم الذي صدر منهم، إنما هو عناد وتكذيب للحق الذي هو أعلى أنواع الصدق لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي: مختلط مشتبه، لا يثبتون على شيء، ولا يستقر لهم قرار، فتارة يقولون عنك: إنك ساحر، وتارة مجنون، وتارة شاعر، وكذلك جعلوا القرآن عضين، كل قال فيه، ما اقتضاه رأيه الفاسد، وهكذا، كل من كذب بالحق، فإنه في أمر مختلط، لا يدرى له وجهة ولا قرار، [فترى أموره متناقضة مؤتفكة] كما أن من اتبع الحق وصدق به، قد استقام أمره، واعتدل سبيله، وصدق فعله قيله.

ثم بين تعالى سبب كفرهم وعنادهم واستبعادهم ما ليس ببعيد فقال : ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ) أي : وهذا حال كل من خرج عن الحق ، مهما قال بعد ذلك فهو باطل . والمريج : المختلف المضطرب الملتبس المنكر خلاله ، كقوله : ( إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك ) [ الذاريات : 8 ، 9 ] .

ثم كشف- سبحانه- عن حقيقة أحوالهم، وعن الأسباب التي دفعتهم إلى إيثار الباطل على الحق فقال: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ، فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ. أى: إن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بإنكارهم للبعث.. بل جاءوا بما هو أشنع وأفظع منه، وهو تكذيبهم لنبوتك- أيها الرسول الكريم- تلك النبوة الثابتة بالمعجزات الناصعة، ومن مظاهر هذا التكذيب أنهم تارة يقولون عنك ساحر، وتارة يقولون عنك كاهن وتارة يصفونك بالجنون.فهم في أمر مريج، أى: مضطرب مختلط. بحيث لا يستقرون على حال. يقال: مرج الأمر- بزنة طرب- إذا اختلط وتزعزع، وفقد الثبات والاستقرار والصلاح.. ومنه قولهم:مرجت أمانات الناس، إذا فسدت وعمتهم الخيانة، ومرج الخاتم في إصبع فلان، إذا تخلخل واضطرب لشدة هزال صاحبه.وفي هذا الرد عليهم تصوير بديع معجز، حيث بين- سبحانه- بأنه عليم بما تأكله الأرض من أجسادهم المغيبة فيها، وبتناقص هذه الأجساد رويدا رويدا، وأن كل أحوالهم مسجلة في كتاب حفيظ، وأنهم عند ما فارقوا الحق الثابت وكذبوه، مادت الأرض من تحتهم واضطربت، واختلطت عليهم الأمور والتبست، فصاروا يلقون التهم جزافا دون أن يستقروا على رأى، أو يجتمعوا على كلمة..

( بل كذبوا بالحق ) بالقرآن ( لما جاءهم فهم في أمر مريج ) مختلط ، قال سعيد بن جبير ومجاهد : ملتبس . قال قتادة في هذه الآية : من ترك الحق مرج عليه أمره والتبس عليه دينه . وقال الحسن : ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم . وذكر الزجاج معنى اختلاط أمرهم ، فقال : هو أنهم يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، مرة شاعر ، ومرة ساحر ، ومرة معلم ، ويقولون للقرآن مرة سحر ، ومرة رجز ، ومرة مفترى ، فكان أمرهم مختلطا ملتبسا عليهم .

قوله تعالى : بل كذبوا بالحق لما جاءهم أي : القرآن في قول الجميع ; حكاه الماوردي . وقال الثعلبي : بالحق : القرآن . وقيل : الإسلام . وقيل : محمد صلى الله عليه وسلم .فهم في أمر مريج أي : مختلط . يقولون مرة ساحر ومرة شاعر ومرة كاهن ; قاله الضحاك وابن زيد . وقال قتادة : مختلف . الحسن : ملتبس ; والمعنى متقارب . وقال أبو هريرة : فاسد ، ومنه مرجت أمانات الناس أي : فسدت ; ومرج الدين والأمر اختلط ; قال أبو دؤاد :مرج الدين فأعددت له مشرف الحارك محبوك الكتدوقال ابن عباس : المريج الأمر المنكر . وقال عنه عمران بن أبي عطاء : مريج مختلط . وأنشد :فجالت فالتمست به حشاها فخر كأنه خوط مريجالخوط الغصن . وقال عنه العوفي : في أمر ضلالة وهو قولهم : ساحر شاعر مجنون كاهن . وقيل : متغير . وأصل المرج الاضطراب والقلق ; يقال : مرج أمر الناس ومرج أمر الدين ومرج الخاتم في إصبعي إذا قلق من الهزال . وفي الحديث : كيف بك يا عبد الله إذا كنت في قوم قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا وهكذا وشبك بين أصابعه . أخرجه أبو داود وقد ذكرناه في كتاب " التذكرة " .

القول في تأويل قوله تعالى : بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)يقول تعالى ذكره: ما أصاب هؤلاء المشركون القائلون أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ في قيلهم هذا( بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ ) , وهو القرآن ( لَمَّا جَاءَهُمْ ) من الله.كالذي حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ) أي كذّبوا بالقرآن ( فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) يقول: فهم في أمر مختلط عليهم ملتبس, لا يعرفون حقه من باطله, يقال (3) قد مرج أمر الناس إذا اختلط وأهمل.وقد اختلفت عبارات أهل التأويل في تأويلها, وإن كانت متقاربات المعاني, فقال بعضهم: معناها: فهم في أمر منكر; وقال: المريج: هو الشيء المنكر.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن خالد بن خداش, قال: ثني سلم بن قُتيبة, عن وهب بن حبيب الآمدي, عن أبي حمزة, عن ابن عباس أنه سُئل عن قوله ( أَمْرٍ مَرِيجٍ ) قال: المريج: الشيء المنكر; أما سمعت قول الشاعر:فَجالَتْ والْتَمَسَتْ بهِ حَشاهافَخَرَّ كأنَّهُ خُوطٌ مَرِيجُ (4)وقال آخرون: بل معنى ذلك: في أمر مختلف.* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله ( فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) في قول: مختلف.وقال آخرون: بل معناه: في أمر ضلالة.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ( فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) قال: هم في أمر ضلالة.وقال آخرون: بل معناه: في أمر مُلْتبِس.* ذكر من قال ذلك:حدثنا أبو كُرَيب, قال : ثنا يحيى بن يمان, عن أشعث بن إسحاق, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جُبَير, في قوله ( فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) قال: مُلْتَبِسٍ.حدثنا محمد بن عمرو, قال أبو عاصم, قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله ( أَمْرٍ مَرِيجٍ ) قال : ملتبس.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله ( فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) ملتبس عليهم أمره.حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, قال: والتبس عليه دينه.وقال آخرون : بل هو المختلط.* ذكر من قال ذلك:حدثني يونس , قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ) قال: المريج: المختلط.وإنما قلت: هذه العبارات وإن اختلفت الفاظها فهي في المعنى متقاربات, لأن الشيء مختلف ملتبس, معناه مشكل. وإذا كان كذلك كان منكرا, لأن المعروف واضح بين, وإذا كان غير معروف كان لا شكّ ضلالة, لأن الهدى بين لا لبس فيه.--------------------------------------------------------------------------------الهوامش:(3) زيادة لربط الكلام ، ونظن أنها سقطت من قلم الناسخ .(4) البيت للداخل بن حرام الهذلي ، كما في شرح أشعار الهذليين للسكري طبعة أوربا ، ص 269 وليس لأبي ذؤيب ، كما قال أبو عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 225 ب ) . والضمير في جالت للبقرة . وفي به إلى السهم الذي وصفه . ويروي : فراغت : في موضع " فجالت " . أي حادت عن السهم . والحشا : حشوة الجوف . وخر : سقط . وخوط : غصن أو قضيب . ومريج : أي قد طرح وترك ، يقال : مرج إذا وقع فترك . ويقال مريج : قلق ، يقال مرج الخاتم في يدي ، أي انسل يمرج مرحبا أي قلق وتقلقل واضطرب ومرج ، وفي ( اللسان : مرج ) المرج بالتحريك : مصدر قولك : مرج الخاتم في يدي مرجا : أي قلق . وفي التنزيل " فهم في أمر مريج " يقول : في ضلال . وقال أبو إسحاق : في أمر مختلف ، ملتبس عليهم ، يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم مرة : ساحر . ومرة شاعر ، ومرة معلم مجنون . وهذا الدليل على أن قوله " مريج " ملتبس عليهم . أ ه . وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة ( الورقة 225 ب ) مريج مختلط ؛ يقال قد مرج أمر الناس: اختلط وأهمل . وقال أبو ذؤيب ( كذا ) " فخر كأنه خوط مريج " أي سهم . أ ه .

بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5(إضراب ثان تابع للإضراب الذي في قوله : { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } [ ق : 2 ] على طريقة تكرير الجملة في مقام التنديد والإبطال ، أو بدل من جملة { بل عجبوا أن جاءهم منذر } لأن ذلك العجب مشتمل على التكذيب ، وكلا الاعتبارين يقتضيان فصل هذه الجملة بدون عاطف . والمقصد من هذه الجملة : أنهم أتوا بأفظع من إحالتهم البعث وذلك هو التكذيب بالحق .والمراد بالحق هنا القرآن لأن فعل التكذيب إذا عدي بالباء عدي إلى الخبر وإذا عدي بنفسه كان لتكذيب المخبر .و { لمّا } حرف توقيت فهي دالة على ربط حصول جوابها بوقت حصول شرطها فهي مؤذنة بمبادرة حصول الجواب عند حصول الشرط كقوله تعالى : { فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] ، وقوله { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة : 89 ] وقد مضيا في سورة البقرة . ومعنى { جاءهم } بلغهم وأعلموا به .والمعنى : أنهم بادروا بالتكذيب دون تأمل ولا نظر فيما حواه من الحق بل كذبوا به من أول وهلة فكذبوا بتوحيد الله ، وهو أول حق جاء به القرآن ، ولذلك عقب بقوله : { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها إلى قوله : { وأحيينا به بلدة ميتا } [ ق : 6 11 ] . فالتكذيب بما جاء به القرآن يعمّ التكذيب بالبعث وغيره .وفرع على الخبر المنتقل إليه بالإضراب وصفُ حالهم الناشئة عن المبادرة بالتكذيب قبل التأمل بأنها أمر مريج أحاط بهم وتجلجلوا فيه كما دل عليه حرف الظرفية .و { أمر } اسم مبهم مثل شيء ، ولما وقع هنا بعد حرف { في } المستعمل في الظرفية المجازية تعين أن يكون المراد بالأمر الحالُ المتلبسون هم به تلبُّس المظروف بظرفه وهو تلبس المحوط بما أحاط به فاستعمال { في } استعارة تبعية .والمريج : المضطرب المختلط ، أي لا قرار في أنفسهم في هذا التكذيب ، اضطربت فيه أحوالهم كلها من أقوالهم في وصف القرآن فإنهم ابتدروا فنفوا عنه الصدق فلم يتبينوا بأي أنواع الكلام الباطل يلحقونه فقالوا : { سحر مبين } [ المائدة : 110 ] ، وقالوا { أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] وقالوا { قول شاعر } [ الحاقة : 41 ] ، وقالوا : { قول كاهن } [ الحاقة : 42 ] وقالوا : ( هذيان مجنون ( . وفي سلوكهم في طرق مقاومة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وما يصفونه به إذا سألهم الواردون من قبائل العرب . ومن بهتهم في إعجاز القرآن ودلالة غيره من المعجزات وما دمغهم به من الحجج على إبطال الإشراك وإثبات الوحدانية لله . وهذا تحميق لهم بأنهم طاشت عقولهم فلم يتقنوا التكذيب ولم يرسوا على وصف الكلام الذي كذبوا به .
الآية 5 - سورة ق: (بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج...)