سورة ص: الآية 2 - بل الذين كفروا في عزة...

تفسير الآية 2, سورة ص

بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ

الترجمة الإنجليزية

Bali allatheena kafaroo fee AAizzatin washiqaqin

تفسير الآية 2

(ص) سبق الكلام على الحروف المقطَّعة في أول سورة البقرة.

«بل الذين كفروا» من أهل مكة «في عزة» حمية وتكبر عن الإيمان «وشقاق» خلاف وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم.

فهدى اللّه من هدى لهذا، وأبى الكافرون به وبمن أنزله، وصار معهم عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ عزة وامتناع عن الإيمان به، واستكبار وشقاق له، أي: مشاقة ومخاصمة في رده وإبطاله، وفي القدح بمن جاء به.

وقوله : ( بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) أي : إن في هذا القرآن لذكرا لمن يتذكر ، وعبرة لمن يعتبر . وإنما لم ينتفع به الكافرون ؛ لأنهم ) في عزة ) أي : استكبار عنه وحمية ) وشقاق ) أي : مخالفة له ومعاندة ومفارقة .

وقوله- تعالى-: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ انتقال من القسم والمقسم به، إلى بيان حال الكفار وما هم عليه من غرور وعناد.والمراد بالعزة هنا: الحمية والاستكبار عن اتباع الحق، كما في قوله- تعالى-: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ .وليس المراد بها القهر والغلبة كما في قوله- تعالى-: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ .وأصل الشقاق: المخالفة والمنازعة بين الخصمين حتى لكأن كل واحد منهما في شق غير الذي فيه الآخر. والمراد به هنا: مخالفة المشركين لما جاءهم به النبي صلّى الله عليه وسلم.والمعنى: وحق القرآن الكريم ذي الشرف وسمو القدر. إنك- أيها الرسول الكريم- لصادق فيما تبلغه عن ربك، ولست كما يقول أعداؤك في شأنك. بل الحق أن هؤلاء الكافرين في حمية واستكبار عن قبول الهداية التي جئتهم بها من عند ربك، وفي مخالفة ومعارضة لكل ما لا يتفق مع ما وجدوا عليه آباءهم من عبادة للأصنام، ومن عكوف على عاداتهم الباطلة.والتعبير بفي في قوله فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ للإشعار بأن ما هم عليه من عناد ومن مخالفته للحق، قد أحاط بهم من كل جوانبهم، كما يحيط الظرف بالمظروف.

ودل على هذا المحذوف قوله تعالى : ( بل الذين كفروا ) .قال قتادة : موضع القسم قوله : ( بل الذين كفروا ) كما قال : " والقرآن المجيد بل عجبوا " ( ق - 2 ) .وقيل : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : بل الذين كفروا ، ( في عزة وشقاق ) والقرآن ذي الذكر .وقال الأخفش : جوابه قوله تعالى : " إن كل إلا كذب الرسل " ( ص - 14 ) ، كقوله : " تالله إن كنا " ( الشعراء - 97 ) وقوله : " والسماء والطارق إن كل نفس " ( الطارق - 1 : 3 ) .وقيل : جوابه قوله : " إن هذا لرزقنا " ( ص - 54 ) .وقال الكسائي : قوله : " إن ذلك لحق تخاصم أهل النار " ( ص - 64 ) ، وهذا ضعيف لأنه تخلل بين هذا القسم وبين هذا الجواب أقاصيص وأخبار كثيرة .وقال القتيبي : بل لتدارك كلام ونفي آخر ، ومجاز الآية : إن الله أقسم ب ص والقرآن ذي الذكر أن الذين كفروا من أهل مكة في عزة حمية جاهلية وتكبر عن الحق وشقاق وخلاف وعداوة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - .وقال مجاهد : " في عزة " معازين .

قوله تعالى : بل الذين كفروا في عزة أي في تكبر وامتناع من قبول الحق ، كما قال - جل وعز - : وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم والعزة عند العرب : الغلبة والقهر . يقال : من عز بز ، يعني من غلب سلب . ومنه : وعزني في الخطاب أراد غلبني . وقال جرير :يعز على الطريق بمنكبيه كما ابترك الخليع على القداحأراد يغلب .قوله تعالى : وشقاق أي في إظهار خلاف ومباينة . وهو من الشق ، كأن هذا في شق وذلك في شق . وقد مضى في [ البقرة ] مستوفى .

واختلف في الذي وقع عليه اسم القسم, فقال بعضهم; وقع القسم على قوله ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ )* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة.( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ ) قال: ها هنا وقع القسم.وكان بعض أهل العربية يقول: " بل " دليل على تكذيبهم, فاكتفى ببل من جواب القسم, وكأنه قيل: ص, ما الأمر كما قلتم, بل أنتم في عزة وشقاق. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: زعموا أن موضع القسم في قوله إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ وقال بعض نحويي الكوفة: قد زعم قوم أن جواب (والقرآن) قوله إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ قال: وذلك كلام قد تأخر عن قوله (والقرآن) تأخرا شديدا, وجرت بينهما قصص مختلفة, فلا نجد ذلك مستقيما في العربية, والله أعلم.قال: ويقال: إن قوله (والقُرآنِ) يمين اعترض كلام دون موقع جوابها, فصار جوابها للمعترض ولليمين, فكأنه أراد: والقرآن ذي الذكر, لَكَمْ أهلكنا, فلما اعترض قوله ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ ) صارت كم جوابا للعزة واليمين. قال: ومثله قوله وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا اعترض دون الجواب قوله وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فصارت قد أفلح تابعة لقوله: فألهمها, وكفى من جواب القسم, فكأنه قال: والشمس وضحاها لقد أفلح.والصواب من القول في ذلك عندي, القول الذي قاله قتادة, وأن قوله (بَلْ) لما دلّت على التكذيب وحلَّت محلّ الجواب استغني بها من الجواب, إذ عرف المعنى, فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك: ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) ما الأمر, كما يقول هؤلاء الكافرون: بل هم في عزّة وشقاق.وقوله ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) يقول تعالى ذكره: بل الذين كفروا بالله من مشركي قريش في حمية ومشاقة, وفراق لمحمد وعداوة, وما بهم أن لا يكونوا أهل علم, بأنه ليس بساحر ولا كذاب.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله (في عزة وشقاق) قال: مُعَازِّين.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة (في عزة وشقاقٍ) : أي في حَمِيَّة وفراق.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ) قال: يعادون أمر الله ورسله وكتابه, ويشاقون, ذلك عزّة وشِقاق, فقلت له: الشقاق: الخلاف, فقال: نعم.

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2){ بل } للإِضراب الإِبطالي وهذا نوع من الإِضراب الإِبطالي نبّه عليه الراغب في «مفردات القرآن» وأشار إليه في «الكشاف» ، وتحريرُه أنه ليس إبطالاً محضاً للكلام السابق بحيث يكون حرفُ { بل } فيه بمنزلة حرف النفي كما هو غالب الإِضراب الإِبطالي ، ولا هو إضراب انتقالي ، ولكن هذا إبطال لتوهممٍ ينشأ عن الكلام الذي قبله إذّ دل وصف القرآن ب { ذِي الذِّكر } [ ص : 1 ] أن القرآن مذكِّرٌ سامعيه تذكيراً ناجعاً ، فعقب بإزالة توهم مَن يتوهم أن عدم تذكّر الكفار ليس لضعففٍ في تذكير القرآن ولكن لأنهم متعزّزون مُشاقُّون ، فحرف { بل } في مثل هذا بمنزلة حرف الاستدراك ، والمقصود منه تحقيق أنه ذُو ذكر ، وإزالة الشبهة التي قَد تعرض في ذلك .ومثله قوله تعالى : { ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } [ ق : 1 ، 2 ] ، أي ليس امتناعهم من الإِيمان بالقرآن لنقص في علوّه ومجده ولكن لأنهم عجبوا أن جاءهم به رجل منهم .ولك أن تجعل { بل } إضرابَ انتقال من الشروع في التنويه بالقرآن إلى بيان سبب إعراض المعرضين عنه ، لأن في بيان ذلك السبب تحقيقاً للتنويه بالقرآن كما يقال : دع ذا وخذ في حديث . . ، كقول امرىء القيس: ... فدَع ذا وَسَلِّ الهمَّ عنك بجَسرةذمول إذا صام النهارُ وهَجرا ... وقال زهير: ... دَع ذا وعَدِّ القولَ في هَرمخير البُداة وسيد الحَضر ... وقول الأعشى: ... فَدع ذا ولكن ما ترى رأيَ كاشحيرى بيننا من جهله دَقَّ مَنْشم ... وقول العَجاج: ... دع ذا وبَهِّجْ حَسباً مُبَهَّجاًومعنى ذلك أن الكلام أخذ في الثناء على القرآن ثم انقطع عن ذلك إلى ما هو أهم وهو بيان سبب إعراض المعرضين عنه لاعتزازهم بأنفسهم وشقاقهم ، فوقع العدول عن جواب القسم استغناء بما يفيد مُفاد ذلك الجواب .وإنما قيل : { الذين كفروا } دون ( الكافرون ) لما في صلة الموصول من الإِيماء إلى الإِخبار عنهم بأنهم في عزة وشقاق . والعزة تَحوم إطلاقاتها في الكلام حول معاني المنعة والغلبة والتكبر فإن كان ذلك جارياً على أسباب واقعة فهي العزة الحقيقية وإن كان عن غرور وإعجاب بالنفس فهي عزة مزوَّرة قال تعالى : { وإذا قيل له اتقّ اللَّه أخذته بالعزّة بالإثم } [ البقرة : 206 ] ، أي أخذته الكبرياء وشدة العصيان ، وهي هنا عزة باطلة أيضاً لأنها إباء من الحق وإعجاب بالنفس . وضدُّ العزة الذلة قال تعالى : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } [ المائدة : 54 ] وقال السمَوْأل أو غيره: ... وما ضَرنا أنَّا قليل وجارناعزيزٌ وجار الأكثرين ذَليل ... و { في للظرفية المجازية مستعارة لقوة التلبس بالعزة . والمعنى : متلبسون بعزة على الحق .والشقاق : العناد والخصام . والمراد : وشقاق لله بالشرك ولرسوله بالتكذيب . والمعنى : أن الحائل بينهم وبين التذكير بالقرآن هو ما في قرارة نفوسهم من العزة والشقاق .
الآية 2 - سورة ص: (بل الذين كفروا في عزة وشقاق...)