سورة الأنعام: الآية 5 - فقد كذبوا بالحق لما جاءهم...

تفسير الآية 5, سورة الأنعام

فَقَدْ كَذَّبُوا۟ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ ۖ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنۢبَٰٓؤُا۟ مَا كَانُوا۟ بِهِۦ يَسْتَهْزِءُونَ

الترجمة الإنجليزية

Faqad kaththaboo bialhaqqi lamma jaahum fasawfa yateehim anbao ma kanoo bihi yastahzioona

تفسير الآية 5

لقد جحد هؤلاء الكفار الحقَّ الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم وسخروا من دعائه؛ جهلا منهم بالله واغترارًا بإمهاله إياهم، فسوف يرون ما استهزءوا به أنه الحق والصدق، ويبين الله للمكذبين كذبهم وافتراءهم، ويجازيهم عليه.

«فقد كذٌبوا بالحق» بالقرآن «لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء» عواقب «ما كانوا به يستهزئون».

فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ والحق حقه أن يتبع، ويشكر الله على تيسيره لهم، وإتيانهم به، فقابلوه بضد ما يجب مقابلته به فاستحقوا العقاب الشديد. فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أي: فسوف يرون ما استهزأوا به، أنه الحق والصدق، ويبين الله للمكذبين كذبهم وافتراءهم، وكانوا يستهزئون بالبعث والجنة والنار، فإذا كان يوم القيامة قيل للمكذبين: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ

قال الله تعالى : ( فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ) وهذا تهديد لهم ووعيد شديد على تكذيبهم بالحق ، بأنه لا بد أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب ، وليجدن غبه ، وليذوقن وباله .

ثم بين- سبحانه- أنهم لم يكتفوا بالإعراض عن الحق، بل تجاوزوا ذلك إلى التهكم بدعاته، والتطاول عليهم، وأنهم نتيجة لذلك المسلك الأثيم ستكون عاقبتهم خسرا فقال- تعالى-: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ، فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.فالآية الكريمة كشفت بأسلوب مؤكد عن جانب من عتوهم وسفههم وسوء أدبهم، بعد أن كشفت سابقتها عن عنادهم ونأيهم عن الحق.وقد بين الفخر الرازي مراحل تماديهم في الباطل كما صورها القرآن فقال «اعلم أنه- تعالى- رتب أحوال هؤلاء الكفار على ثلاث مراتب:فالمرتبة الأولى: كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل والتفكر والبينات.والمرتبة الثانية: كونهم مكذبين بها، وهذه المرتبة أزيد مما قبلها، لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذبا به، بل يكون غافلا عنه غير متعرض له، فإذا صار مكذبا به فقد زاد على الإعراض.والمرتبة الثالثة: كونهم مستهزئين بها، لأن المكذب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه إلى حد الاستهزاء، فإذا بلغ إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في الإنكار، فبين- سبحانه- أن أولئك الكفار وصلوا إلى هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب» .والمراد بالحق الذي كذبوا به: قيل إنه القرآن، وقيل إنه المعجزات، وقيل إنه الشرع الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه الوعد الذي يرغبهم به تارة، والوعيد الذي يحذرهم بسببه تارة أخرى.والذي نراه أن تكذيبهم قد شمل كل ذلك، لأنهم بعدم دخولهم في الإسلام قد صاروا مكذبين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.والتعبير بقوله لَمَّا جاءَهُمْ يفيد أن الحق قد وصل إليهم، وطرق قلوبهم وأسماعهم، ولكنهم عموا وصموا عنه.والأنباء: جمع نبأ وهو ما يعظم وقعه من الأخبار، والمراد بها في قوله- تعالى-: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ الإخبار عن العذاب الذي توعدهم الله به عند إصرارهم على كفرهم، ونظيره قوله- تعالى-: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.قال صاحب الكشاف: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ الشيء الذي كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وهو القرآن، أى أخباره وأحواله، بمعنى: سيعلمون بأى شيء استهزءوا، وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو في يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته .

( فقد كذبوا بالحق ) بالقرآن ، وقيل : بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ( لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ) أي : أخبار استهزائهم وجزاؤه ، أي : سيعلمون عاقبة استهزائهم إذا عذبوا .

قوله تعالى : فقد كذبوا يعني مشركي مكة . بالحق يعني القرآن ، وقيل : بمحمد صلى الله عليه وسلم . فسوف يأتيهم أي : يحل بهم العقاب ; وأراد الأنباء - وهي الأخبار - العذاب ; كقولك : اصبر وسوف يأتيك الخبر أي العذاب ; والمراد ما نالهم يوم بدر ونحوه . وقيل : يوم القيامة .

القول في تأويل قوله : فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فقد كذب هؤلاء العادلون بالله، الحقَّ لما جاءهم, وذلك " الحق "، هو محمد صلى الله عليه وسلم (18) كذّبوا به, وجحدوا نبوَّته لما جاءهم. قال الله لهم متوعّدًا على تكذيبهم إياه وجحودِهم نبوَّته: سوف يأتي المكذّبين بك، يا محمد، من قومِك وغيرهم =" أنْباء ما كانوا به يستهزئون " ، يقول: سوف يأتيهم أخبارُ استهزائهم بما كانوا به يستهزئون من آياتي وأدلَّتي التي آتيتهم . (19) ثم وفى لهم بوعيده لمّا تمادَوا في غيِّهم، وعَتْوا على ربهم, فقتلتهم يوم بدرٍ بالسَّيف .------------------الهوامش :(18) انظر تفسير"الحق" فيما سلف 10: 377 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.(19) انظر تفسير"النبأ" فيما سلف 10: 391 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.= وتفسير"الاستهزاء" فيما سلف 1: 301 - 303.

الفاء فصيحة على الأظهر أفصحت عن كلام مقدّر نشأ عن قوله : { إلا كانوا عنها معرضين } ، أي إذا تقرّر هذا الإعراض ثبت أنّهم كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم من عند الله ، فإنّ الإعراض علامة على التكذيب ، كما قدّمته آنفاً ، فما بعد فاء الفصيحة هو الجزاء . ومعناه أنّ من المعلوم سوء عواقب الذين كذّبوا بالحق الآتي من عند الله فلمّا تقرّر في الآية السابقة أنّهم أعرضوا آيات الله فقد ثبت أنّهم كذّبوا بالحقّ الوارد من الله ، ولذلك فرّع عليه قوله : { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } تأكيداً لوعد المؤمنين بالنصر وإظهار الإسلام على الدين كلّ وإنذار للمشركين بأن سيحلّ بهم ما حلّ بالأمم الذين كذّبوا رسلهم ممّن عرفوا مثل عاد وثمود وأصحاب الرسّ .وبهذا التقدير لم تكن حاجة إلى جعل الفاء تفريعاً محضاً وجعل ما بعدها علّة لجزاء محذوف مدلول عليه بعلّته كما هو ظاهر «الكشاف» ، وهي مضمون { فقد كذّبوا } بأن يقدّر : فلا تعجب فقد كذّبوا بالقرآن ، لأنّ من قدّر ذلك أوهمه أنّ تكذيبهم المراد هو تكذيبهم بالآيات التي أعرضوا عنها ما عدا آية القرآن . وهذا تخصيص لعموم قوله : { من آية } بلا مخصّص ، فإنّ القرآن من جملة الآيات بل هو المقصود أولاً ، وقد علمت أنّ { فقد كذّبوا } هو الجزاء وأنّ له موقعاً عظيماً من بلاغة الإيجاز ، على أنّ ذلك التقدير يقتضي أن يكون المراد من الآيات في قوله : { من آيات ربّهم } ما عدا القرآن . وهو تخصيص لا يناسب مقام كون القرآن أعظمها .والفاء في قوله : { فسوف } فاء التسبّب على قوله : { كذّبوا بالحقّ } ، أي يترتّب على ذلك إصابتهم بما توعّدهم به الله .وحرف التسويف هنا لتأكيد حصول ذلك في المستقبل . واستعمل الإتيان هنا في الإصابة والحصول على سبيل الاستعارة . والأنباء جمع نبأ ، وهو الخبر الذي ب أهميّة . وأطلق تحقّق نبئِه ، لأنّ النبأ نفسه قد علم من قبل .و { ما كانوا به يستهزئون } هو القرآن ، كقوله تعالى : { ذلكم بأنّكم اتَّخذتم آيات الله هزؤاً } فإنّ القرآن مشتمل على وعيدهم بعذاب الدنيا بالسيف ، وعذاب الآخرة . فتلك أنباءٌ أنبأهم بها فكذبّوه واستهزؤا به فتوعّدهم الله بأنّ تلك الأنباء سيصيبهم مضمونها . فلمّا قال لهم : { ما كانوا به يستهزئون } علموا أنّها أنباء القرآن لأنّهم يعلمون أنّهم يستهزئون بالقرآن وعلم السامعون أنّ هؤلاء كانوا مستهزئين بالقرآن . وتقدّم معنى الاستهزاء عند قوله تعالى في سورة البقرة : { إنّما نحن مستهزئون }.
الآية 5 - سورة الأنعام: (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ۖ فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون...)