سورة الأنبياء: الآية 8 - وما جعلناهم جسدا لا يأكلون...

تفسير الآية 8, سورة الأنبياء

وَمَا جَعَلْنَٰهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُوا۟ خَٰلِدِينَ

الترجمة الإنجليزية

Wama jaAAalnahum jasadan la yakuloona alttaAAama wama kanoo khalideena

تفسير الآية 8

وما جعلنا أولئك المرسلين قبلك خارجين عن طباع البشر لا يحتاجون إلى طعام وشراب، وما كانوا خالدين لا يموتون.

«وما جعلناهم» أي الرسل «جسداً» بمعنى أجساداً «لا يأكلون الطعام» بل يأكلونه «وما كانوا خالدين» في الدنيا.

تفسير الآيات من 7 الى 9 :هذا جواب لشبه المكذبين للرسول القائلين: هلا كان ملكا، لا يحتاج إلى طعام وشراب، وتصرف في الأسواق، وهلا كان خالدا؟ فإذا لم يكن كذلك، دل على أنه ليس برسول.وهذه الشبه ما زالت في قلوب المكذبين للرسل، تشابهوا في الكفر، فتشابهت أقوالهم، فأجاب تعالى عن هذه الشبه لهؤلاء المكذبين للرسول، المقرين بإثبات الرسل قبله - ولو لم يكن إلا إبراهيم عليه السلام، الذي قد أقر بنبوته جميع الطوائف، والمشركون يزعمون أنهم على دينه وملته - بأن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، كلهم من البشر، الذين يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، وتطرأ عليهم العوارض البشرية، من الموت وغيره، وأن الله أرسلهم إلى قومهم وأممهم، فصدقهم من صدقهم، وكذبهم من كذبهم، وأن الله صدقهم ما وعدهم به من النجاة، والسعادة لهم ولأتباعهم، وأهلك المسرفين المكذبين لهم.فما بال محمد صلى الله عليه وسلم، تقام الشبه الباطلة على إنكار رسالته، وهي موجودة في إخوانه المرسلين، الذين يقر بهم المكذبون لمحمد؟ فهذا إلزام لهم في غاية الوضوح، وأنهم إن أقروا برسول من البشر، ولن يقروا برسول من غير البشر، إن شبههم باطلة، قد أبطلوها هم بإقرارهم بفسادها، وتناقضهم بها، فلو قدر انتقالهم من هذا إلى إنكار نبوة البشر رأسا، وأنه لا يكون نبي إن لم يكن ملكا مخلدا، لا يأكل الطعام، فقد أجاب [الله] تعالى عن هذه الشبهة بقوله: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ* وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ وأن البشر لا طاقة لهم بتلقي الوحي من الملائكة قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا فإن حصل معكم شك وعدم علم بحالة الرسل المتقدمين فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ من الكتب السالفة، كأهل التوراة والإنجيل، يخبرونكم بما عندهم من العلم، وأنهم كلهم بشر من جنس المرسل إليهم.وهذه الآية وإن كان سببها خاصا بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين لأهل الذكر وهم أهل العلم، فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين، أصوله وفروعه، إذا لم يكن عند الإنسان علم منها، أن يسأل من يعلمها، ففيه الأمر بالتعلم والسؤال لأهل العلم، ولم يؤمر بسؤالهم، إلا لأنه يجب عليهم التعليم والإجابة عما علموه.وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم، نهي عن سؤال المعروف بالجهل وعدم العلم، ونهي له أن يتصدى لذلك، وفي هذه الآية دليل على أن النساء ليس منهن نبية، لا مريم ولا غيرها، لقوله إِلَّا رِجَالًا

وقوله : ( وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام ) أي : بل قد كانوا أجسادا يأكلون الطعام ، كما قال تعالى : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ) [ الفرقان : 20 ] أي : قد كانوا بشرا من البشر ، يأكلون ويشربون مثل الناس ، ويدخلون الأسواق للتكسب والتجارة ، وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئا ، كما توهمه المشركون في قولهم : ( مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ) [ الفرقان : 7 ، 8 ] .وقوله : ( وما كانوا خالدين ) أي : في الدنيا ، بل كانوا يعيشون ثم يموتون ، ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ) [ الأنبياء : 34 ] ، وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عز وجل ، تنزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكم في خلقه مما يأمر به وينهى عنه .

ثم أكد- سبحانه- هذه الحقيقة وهي كون الرسل من البشر فقال: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ.والضمير في جَعَلْناهُمْ يعود إلى الرسل، والجسد مصدر جسد الدم يجسد- من باب فرح- إذا التصق بغيره، وأطلق على الجسم جسد، لالتصاق أجزائه بعضها ببعض، ويطلق هذا اللفظ على الواحد المذكر وغيره ولذلك أفرد، أو هو أفرد لإرادة الجنس.أى: وما جعلنا الرسل السابقين عليك يا محمد أجسادا لا تأكل ولا تشرب كالملائكة، وإنما جعلناهم مثلك يأكلون ويشربون ويتزوجون ويتناسلون ويعتريهم ما يعترى البشر من سرور وحزن، ويقظة ونوم.. وغير ذلك مما يحسه البشر.وما جعلناهم- أيضا- خالدين في هذه الحياة بدون موت، وإنما جعلنا لأعمارهم أجلا محددا تنتهي حياتهم عنده بدون تأخير أو تقديم.قال- تعالى-: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ.

( وما جعلناهم ) أي : الرسل ، ( جسدا ) ولم يقل أجسادا لأنه اسم الجنس ، ( لا يأكلون الطعام ) هذا رد لقولهم ( مال هذا الرسول يأكل الطعام ) ( الفرقان : 7 ) ، يقول لم نجعل الرسل ملائكة بل جعلناهم بشرا يأكلون الطعام ، ( وما كانوا خالدين ) في الدنيا .

قوله تعالى : وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام الضمير في جعلناهم للأنبياء ؛ أي لم نجعل الرسل قبلك خارجين عن طباع البشر لا يحتاجون إلى طعام وشرابوما كانوا خالدين يريد لا يموتون وهذا جواب لقولهم : ما هذا إلا بشر مثلكم وقولهم : مال هذا الرسول يأكل الطعام . و جسدا اسم جنس ؛ ولهذا لم يقل أجسادا ، وقيل : لم يقل أجسادا ؛ لأنه أراد وما جعلنا كل واحد منهم جسدا . والجسد البدن ؛ تقول منه : تجسد كما تقول من الجسم تجسم . والجسد أيضا الزعفران أو نحوه من الصبغ ، وهو الدم أيضا ؛ قاله النابغة :وما هريق على الأنصاب من جسدوقال الكلبي : والجسد هو المتجسد الذي فيه الروح يأكل ويشرب ؛ فعلى مقتضى هذا القول يكون ما لا يأكل ولا يشرب جسما وقال مجاهد : الجسد ما لا يأكل ولا يشرب ؛ فعلى مقتضى هذا القول يكون ما يأكل ويشرب نفسا ؛ ذكره الماوردي .

يقول تعالى ذكره: وما جعلنا الرسل الذين أرسلناهم من قبلك يا محمد إلى الأمم الماضية قبل أمتك، ( جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) يقول: لم نجعلهم ملائكة لا يأكلون الطعام، ولكن جعلناهم أجسادا مثلك يأكلون الطعام.كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) يقول: ما جعلناهم جسدا إلا ليأكلوا الطعام.حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) يقول: لم أجعلهم جسدا ليس فيهم أرواح لا يأكلون الطعام، ولكن جعلناهم جسدا فيها أرواح يأكلون الطعام.قال أبو جعفر: وقال: ( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا ) فوحَّد الجسد وجعله موحدا، وهو من صفة الجماعة، وإنما جاز ذلك لأن الجسد بمعنى المصدر، كما يقال في الكلام: وما جعلناهم خَلْقا لا يأكلون.وقوله ( وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ) يقول: ولا كانوا أربابا لا يموتون ولا يفنون، ولكنهم كانوا بشرا أجسادا فماتوا، وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قد أخبر الله عنهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا ... إلى قوله أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا قال الله تبارك وتعالى لهم: ما فعلنا ذلك بأحد قبلكم فنفعل بكم، وإنما كنا نرسل إليهم رجالا نوحي إليهم كما أرسلنا إليكم رسولا نوحي إليه أمرنا ونهينا.وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ) أي لا بد لهم من الموت أن يموتوا.

وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)الجسد : الجسم الذي لا حياة فيه ، وهو يرادف الجثة . هذا قول المحققين من أيمة اللغة مثل أبي إسحاق الزجاج في تفسير قوله تعالى : { فأخرج لهم عجلاً جسدا } [ طه : 88 ]. وقد تقدم هناك ، ومنه قوله تعالى : { ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً } [ ص : 34 ]. قيل هو شِق غلام لا روح فيه ولدته إحدى نسائه ، أي ما جعلناهم أجراماً غير منبثة فيها الأرواح بحيث تنتفي عنهم صفات البشَر التي خاصتها أكل الطعام ، وهذا رد لما يقولونه { ما لهذا الرسول يأكل الطعام } [ الفرقان : 7 ] مع قولهم هنا { هل هذا إلا بشر مثلكم } [ الأنبياء : 3 ].وذكر الجسد يفيد التهكم بالمشركين لأنهم لما قالوا { ما لهذا الرسول يأكل الطعام } [ الفرقان : 7 ] ، وسألوا أن يأتي بما أرسل به الأولون كان مقتضى أقوالهم أن الرسل الأولين كانوا في صور الآدميين لكنهم لا يأكلون الطعام وأكل الطعام من لوازم الحياة ، فلزمهم لما قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام أن يكونوا قائلين بأن شأن الرسل أن يكونوا أجساداً بلا أرواح ، وهذا من السخافة بمكانة .وأما قوله : { وما كانوا خالدين } فهو زيادة استدلال لتحقيق بشريتهم استدلالاً بما هو واقع من عدم كفاءة أولئك الرسل كما هو معلوم بالمشاهدة ، لقطع معاذير الضالين ، فإن زعموا أن قد كان الرسل الأولون مخالفين للبشر فماذا يصنعون في لحاق الفناء إياهم . فهذا وجه زيادة { وما كانوا خالدين }.وأُتي في نفي الخلود عنهم بصيغة { ما كانوا } تحقيقاً لتمكن عدم الخلود منهم .
الآية 8 - سورة الأنبياء: (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين...)