سورة الأنفال: الآية 6 - يجادلونك في الحق بعدما تبين...

تفسير الآية 6, سورة الأنفال

يُجَٰدِلُونَكَ فِى ٱلْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ

الترجمة الإنجليزية

Yujadiloonaka fee alhaqqi baAAdama tabayyana kaannama yusaqoona ila almawti wahum yanthuroona

تفسير الآية 6

يجادلك -أيها النبي- فريق من المؤمنين في القتال مِن بعد ما تبيَّن لهم أن ذلك واقع، كأنهم يساقون إلى الموت، وهم ينظرون إليه عِيانًا.

«يجادلونك في الحق» القتال «بعد ما تبيَّن» ظهر لهم «كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون» إليه عيانا في كراهتهم له.

تفسير الآيات من 5 حتى 8 : قدم تعالى - أمام هذه الغزوة الكبرى المباركة - الصفات التي على المؤمنين أن يقوموا بها، لأن من قام بها استقامت أحواله وصلحت أعماله، التي من أكبرها الجهاد في سبيله. فكما أن إيمانهم هو الإيمان الحقيقي، وجزاءهم هو الحق الذي وعدهم اللّه به،.كذلك أخرج اللّه رسوله صلى الله عليه وسلم من بيته إلى لقاء المشركين في بدر بالحق الذي يحبه اللّه تعالى، وقد قدره وقضاه. وإن كان المؤمنون لم يخطر ببالهم في ذلك الخروج أنه يكون بينهم وبين عدوهم قتال. فحين تبين لهم أن ذلك واقع، جعل فريق من المؤمنين يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ويكرهون لقاء عدوهم، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. والحال أن هذا لا ينبغي منهم، خصوصا بعد ما تبين لهم أن خروجهم بالحق، ومما أمر اللّه به ورضيه،. فبهذه الحال ليس للجدال محل [فيها] لأن الجدال محله وفائدته عند اشتباه الحق والتباس الأمر،. فأما إذا وضح وبان، فليس إلا الانقياد والإذعان. هذا وكثير من المؤمنين لم يجر منهم من هذه المجادلة شيء، ولا كرهوا لقاء عدوهم،.وكذلك الذين عاتبهم اللّه، انقادوا للجهاد أشد الانقياد، وثبتهم اللّه، وقيض لهم من الأسباب ما تطمئن به قلوبهم كما سيأتي ذكر بعضها. وكان أصل خروجهم يتعرضون لعير خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام، قافلة كبيرة،.فلما سمعوا برجوعها من الشام، ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس،.فخرج معه ثلاثمائة، وبضعة عشر رجلا معهم سبعون بعيرا، يعتقبون عليها، ويحملون عليها متاعهم،.فسمعت بخبرهم قريش، فخرجوا لمنع عيرهم، في عَدَدٍ كثير وعُدَّةٍ وافرة من السلاح والخيل والرجال، يبلغ عددهم قريبا من الألف. فوعد اللّه المؤمنين إحدى الطائفتين، إما أن يظفروا بالعير، أو بالنفير،.فأحبوا العير لقلة ذات يد المسلمين، ولأنها غير ذات شوكة،.ولكن اللّه تعالى أحب لهم وأراد أمرا أعلى مما أحبوا. أراد أن يظفروا بالنفير الذي خرج فيه كبراء المشركين وصناديدهم،. وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ فينصر أهله وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ أي: يستأصل أهل الباطل، ويُرِيَ عباده من نصره للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم. لِيُحِقَّ الْحَقَّ بما يظهر من الشواهد والبراهين على صحته وصدقه،. وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ بما يقيم من الأدلة والشواهد على بطلانه وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ فلا يبالي اللّه بهم.

وقال مجاهد : يجادلونك في الحق : في القتال . وقال محمد بن إسحاق : ( يجادلونك في الحق [ بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ] ) أي : كراهية للقاء المشركين ، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم .وقال السدي : ( يجادلونك في الحق بعدما تبين ) أي : بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله به .قال ابن جرير : وقال آخرون : عنى بذلك المشركين .حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله تعالى : ( يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) قال : هؤلاء المشركون ، جادلوه في الحق ( كأنما يساقون إلى الموت ) حين يدعون إلى الإسلام ) وهم ينظرون ) قال : وليس هذا من صفة الآخرين ، هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر .ثم قال ابن جرير : ولا معنى لما قاله ؛ لأن الذي قبل قوله : ( يجادلونك في الحق ) خبر عن أهل الإيمان ، والذي يتلوه خبر عنهم ، والصواب قول ابن عباس وابن إسحاق أنه خبر عن المؤمنين .وهذا الذي نصره ابن جرير هو الحق ، وهو الذي يدل عليه سياق الكلام ، والله أعلم . .

وقوله- تعالى-: يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ حكاية لما حدث من هذا الفريق الكاره للقتال، وتصوير معجز لما استبد به من خوف وفزع.والمراد بقوله يُجادِلُونَكَ مجادلتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن القتال وقولهم له: ما كان خروجنا إلا للعير، ولو أخبرتنا بالقتال لأعددنا العدة له.والضمير يعود للفريق الذي كان كارها للقتال.والمراد بالحق الذي جادلوا فيه: أمر القتال الذي حضهم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يعدوا أنفسهم له.وقوله: بَعْدَ ما تَبَيَّنَ متعلق: يُجادِلُونَكَ وما مصدرية والضمير في الفعل تَبَيَّنَ يعود على الحق.والمراد بتبينه: إعلام الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بأنهم سينصرون على أعدائهم فقد روى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرهم قبل نجاة العير بأن الله وعده الظفر بإحدى الطائفتين: العير أو النفير، فلما نجت العير علم أن الظفر الموعود به إنما هو النفير، أى: على المشركين الذين استنفرهم أبو سفيان للقتال لا على العير، أى: الإبل الحاملة لأموال المشركين.والمعنى: يجادلك بعض أصحابك- يا محمد- فِي الْحَقِّ أى في أمر القتال بَعْدَ ما تَبَيَّنَ أى، بعد ما تبين لهم الحق بإخبارك إياهم بأن النصر سيكون حليفهم، وأنه لا مفر لهم من لقاء قريش تحقيقا لوعد الله الذي وعد بإحدى الطائفتين.وقوله: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ أى: يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت، وهو ناظر إلى أسبابه، ومشاهد لموجباته.والجملة في محل نصب على الحالية من الضمير في قوله: لَكارِهُونَ.وفي هذه الجملة الكريمة تصوير معجز لما استولى على هذا الفريق من خوف وفزع من القتال يسبب قلة عددهم وعددهم.وقوله: بَعْدَ ما تَبَيَّنَ زيادة في لومهم، لأن الجدال في الحق بعد تبينه أقبح من الجدال فيه قبل ظهوره.

( يجادلونك في الحق ) أي : في القتال ، ( بعد ما تبين ) وذلك أن المؤمنين لما أيقنوا بالقتال كرهوا ذلك ، وقالوا : لم تعلمنا أنا نلقى العدو فنستعد لقتالهم ، وإنما خرجنا للعير ، فذلك جدالهم بعد ما تبين لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك ، وتبين صدقك في الوعد ، ( كأنما يساقون إلى الموت ) لشدة كراهيتهم القتال ، ( وهم ينظرون ) فيه تقديم وتأخير تقديره : وإن فريقا من المؤمنين لكارهون كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون يجادلونك في الحق بعدما تبين . قال ابن زيد : هؤلاء المشركون جادلوه في الحق كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام لكراهيتهم إياه وهم ينظرون .

قوله تعالى يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون قوله تعالى يجادلونك في الحق بعدما تبين مجادلتهم : قولهم لما ندبهم إلى العير وفات العير وأمرهم بالقتال ولم يكن معهم كبير أهبة شق ذلك عليهم وقالوا : لو أخبرتنا بالقتال لأخذنا العدة . ومعنى في الحق أي في القتال . بعدما تبين لهم أنك لا تأمر بشيء إلا بإذن الله . وقيل : بعدما تبين لهم أن الله وعدهم إما الظفر بالعير أو بأهل مكة ، وإذ فات العير فلا بد من أهل مكة والظفر بهم . فمعنى الكلام الإنكار لمجادلتهم .كأنما يساقون إلى الموت كراهة للقاء القوم وهم ينظرون أي يعلمون أن ذلك واقع بهم ; قال الله تعالى : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه أي يعلم .

15701- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق "، قال: كذلك يجادلونك في الحق.15702 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق "، كذلك يجادلونك في الحقِّ, القتالِ.15703- . . . . قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق "، قال: كذلك أخرجك ربك. (59)15704- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: أنزل الله في خروجه = يعني خروج النبي صلى الله عليه وسلم= إلى بدر، ومجادلتهم إياه فقال: " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون "، لطلب المشركين, " يجادلونك في الحق بعد ما تبين " .* * *واختلف أهل العربية في ذلك.فقال بعض نحويي الكوفيين: ذلك أمر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يمضي لأمره في الغنائم, على كره من أصحابه, كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العِير وهم كارهون. (60)* * *وقال آخرون منهم: معنى ذلك: يسألونك عن الأنفال مجادلةً، كما جادلوك يوم بدر فقالوا: " أخرجتنا للعِير, ولم تعلمنا قتالا فنستعدَّ له ".وقال بعض نحويي البصرة، يجوز أن يكون هذا " الكاف " في (كما أخرجك)، على قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ، (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق). وقال: " الكاف " بمعنى " على ". (61)* * *وقال آخرون منهم (62) هي بمعنى القسم. قال: ومعنى الكلام: والذي أخرجك ربّك. (63)* * *قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال في ذلك بقول مجاهد, وقال: معناه: كما أخرجك ربك بالحقّ على كره من فريق من المؤمنين, كذلك يجادلونك في الحق بعد ما تبين= لأن كلا الأمرين قد كان, أعني خروج بعض من خرج من المدينة كارهًا, وجدالهم في لقاء العدو وعند دنوِّ القوم بعضهم من بعض, فتشبيه بعض ذلك ببعض، مع قرب أحدهما من الآخر، أولى من تشبيهه بما بَعُد عنه.* * *وقال مجاهد في " الحق " الذي ذكر أنهم يجادلون فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما تبينوه: هو القتال.15705- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (يجادلونك في الحق)، قال: القتال.15706 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.15707 - حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.* * *وأما قوله: (من بيتك)، فإن بعضهم قال: معناه: من المدينة.* ذكر من قال ذلك:15708- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي بزة: (كما أخرجك ربك من بيتك)، المدينة، إلى بدر.15709- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني محمد بن عباد بن جعفر في قوله: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق)، قال: من المدينة إلى بدر.* * *وأما قوله: (وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون)، فإن كراهتهم كانت، كما:-15710- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم الزهري, وعاصم بن عمر بن قتادة, وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان, عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا, عن عبد الله بن عباس, قالوا: لما سمع رَسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشأم, ندب إليهم المسلمين, (64) وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم, (65) فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفِّلكموها! فانتدب الناس, فخفّ بعضهم وثقُل بعضهم, وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربًا. (66)15711- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون)، لطلب المشركين.* * *ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: (يجادلونك في الحق بعد ما تبين).فقال بعضهم: عُني بذلك: أهلُ الإيمان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا معه حين توجَّه إلى بدر للقاء المشركين.* ذكر من قال ذلك:15712- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال، لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء القوم, وقال له سعد بن عبادة ما قال، وذلك يوم بدر, أمرَ الناس, فتعبَّوْا للقتال, (67) وأمرهم بالشوكة, وكره ذلك أهل الإيمان, فأنزل الله: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) .15713- حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: ثم ذكر القومَ= يعني أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم = ومسيرَهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , حين عرف القوم أن قريشًا قد سارت إليهم, وأنهم إنما خرجوا يريدون العيرَ طمعًا في الغنيمة, فقال: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق)، إلى قوله: (لكارهون)، أي كراهيةً للقاء القوم, وإنكارًا لمسير قريش حين ذُكِروا لهم. (68)* * *وقال آخرون: عُني بذلك المشركون.* ذكر من قال ذلك:15714- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون)، قال: هؤلاء المشركون، جادلوه في الحق (69) = " كأنما يساقون إلى الموت "، حين يدعون إلى الإسلام=(وهم ينظرون)، قال: وليس هذا من صفة الآخرين, هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر.15715- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعقوب بن محمد قال، حدثني عبد العزيز بن محمد, عن ابن أخي الزهري, عن عمه قال: كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر: (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون)، خروجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العِير. (70)* * *قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس وابن إسحاق, من أن ذلك خبرٌ من الله عن فريق من المؤمنين أنهم كرهوا لقاء العدو, وكان جدالهم نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم أن قالوا: " لم يُعلمنا أنا نلقى العدو فنستعد لقتالهم, وإنما خرجنا للعير ". ومما يدلّ على صحته قولُه (71) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ، ففي ذلك الدليلُ الواضح لمن فهم عن الله، أن القوم قد كانوا للشوكة كارهين، وأن جدالهم كان في القتال، كما قال مجاهد, كراهيةً منهم له= وأنْ لا معنى لما قال ابن زيد, لأن الذي قبل قوله: (يجادلونك في الحق)، خبرٌ عن أهل الإيمان, والذي يتلوه خبرٌ عنهم, فأن يكون خبرًا عنهم، أولى منه بأن يكون خبرًا عمن لم يجرِ له ذكرٌ.* * *وأما قوله: (بعد ما تبين)، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.فقال بعضهم: معناه: بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله.* ذكر من قال ذلك:15816- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: بعد ما تبين أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به.* * *وقال آخرون: معناه: يجادلونك في القتال بعدما أمرت به.* ذكر من قال ذلك:15717- رواه الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس. (72)* * *وأما قوله: (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون)، فإن معناه: كأن هؤلاء الذين يجادلونك في لقاء العدوّ، من كراهتهم للقائهم إذا دعوا إلى لقائهم للقتال، " يساقون إلى الموت ".* * *وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:15718- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون)، أي كراهةً للقاء القوم, وإنكارًا لمسير قريش حين ذكروا لهم. (73)----------------------الهوامش :(59) هكذا في المخطوطة والمطبوعة ، ولعل الصواب : " قال : كذلك يجادلونك " ، وهو ما تدل عليه الآثار السالفة عن مجاهد .(60) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 403(61) في المطبوعة : " وقيل : الكاف ... " ، كأنه قول آخر ، والصواب ما في المخطوطة . ولعل قائل هذا هو الأخفش ، لأنه الذي قال : " الكاف بمعنى : على " ، وزعم أن من كلام العرب إذا قيل لأحدهم : " كيف أصبحت " ، أن يقول : " كخير " ، والمعنى : على خير .وانظر تفسير " كما " فيما سلف 3 : 209 ، في قوله تعالى : " كما أرسلنا فيكم رسولا " [ سورة البقرة : 151 ] .(62) في المطبوعة : " وقال آخرون " ، جمعًا ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب ، وقائل ذلك هو أبو عبيدة معمر بن المثنى .(63) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 240 ، 241 .(64) " ندب الناس إلى حرب أو معونة ، فانتدبوا " ، أي : دعاهم فاستجابوا وأسرعوا إليه .(65) " العير " ، ( بكسر العين ) : القافلة ، وكل ما امتاروا عليه من أبل وحمير وبغال . وهي قافلة تجارة قريش إلى الشام .(66) الأثر: 15710 - سيرة ابن هشام 2 :257 ، 258.(67) " عبى الجيش " و " عبأة " بالهمز ، واحد . و " تعبوا للقتال " و " تعبأوا " ، تهيأوا له .(68) الأثر : 15713- سيرة ابن هشام 2 : 322 ، وهو تابع الأثر السالف رقم : 15655 .(69) في المطبوعة : " جادلوك " ، وأثبت الصواب الجيد من المخطوطة .(70) الأثر : 15715 - " يعقوب بن محمد الزهري " ، مضى قريبًا برقم 15654 ، وهو يروي عن ابن أخي الزهري مباشرة ، ولكنه روى عنه هنا بالواسطة .و" عبد العزيز بن محمد بن عبيد بن أبي عبيد الدراوردي " ثقة ، روى له الجماعة ، مضى برقم : 10676 .و " ابن أخي الزهري " ، هو " محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري " ، ثقة ، متكلم فيه ، روى له الجماعة . يروي عن عمه " ابن شهاب الزهري " .(71) في المطبوعة والمخطوطة : " على صحة قوله " ، والصواب ما أثبت .(72) الأثر : 15717 - هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة ، لم يذكر نصًا ، وكأن صواب العبارة : " رواه الكلبي ... " .(73) الأثر : 15718 - سيرة بن هشام 2 : 322 ، وهو جزء من الخبر السالف رقم : 15713 .

وجملة { يجادلونك } حال من { فريقاً } فالضمير لفريق باعتبار معناه لأنه يدل على جمع . وصيغة المضارع لحكاية حال المجادلة زيادة في التعجيب منها ، وهذا التعجيب كالذي في قوله تعالى : { يجادلنا } من قوله : { فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يُجادلنا في قوم لوط } [ هود : 74 ] إذ قال { يجادلنا } ولم يقل «جادلنا» .وقوله : { بعْدَ ما تبيّنَ } لوم لهم على المجادلة في الخروج الخاص ، وهو الخروج للنفير وترك العير ، بعد أن تبين أي ظهر أن الله قدر لهم النصر ، وهذا التبيّن هو بيّنٌ في ذاته سواء شعر به كلهم أو بعضهم فإنه بحيث لا ينبغي الاختلاف فيه ، فإنهم كانوا عَرَباً أذكياء ، وكانوا مؤمنين أصفياء ، وقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله ناصرهم على إحدى الطائفتين : طائفة العير أو طائفة النفير ، فنصرهم إذن مضمون ، ثم أخبرهم بأن العير قد أخطأتهم ، وقد بقي النفير ، فكان بيّناً أنهم إذا لقوا النفير ينصرهم الله عليه ، ثم رأوا كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لمّا اختاروا العير ، فكان ذلك كافياً في اليقين بأنهم إذا لقوا المشركين ينتصرون عليهم لا محالة ، ولكنهم فضلوا غنيمة العير على خضد شوكة أعدائهم ونهوضضِ شوكتهم بنصر بدر ، فذلك معنى تبيّن الحق أي رجحان دليله في ذاته ، ومَن خفي عليه هذا التبيّن من المؤمنين لم يعذره الله في خفائِه عليه .ومن هذه الآية يؤخذ حكم مؤاخذة المجتهد إذا قصّر في فهم ما هو مدلول لأهل النظر ، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم من سؤال الذي سأله عن ضالة الإبل بعدَ أن سأله عن ضالة الغنم فأجابه هي لكَ أو لأخيك أو للذئب . فلما سأله بعد ذلك عن ضالّة الإبل تَمَعّر وجهه وقال «مالَكَ ولها معها حذاؤها وسقاؤها تَشرب الماءَ وترعَى الشجرَ حتى يلقاها ربها» وروى مالك ، في «الموطأ» ، أن أبا هريرة مرّ بقوممٍ محرمين فاستفتوه في لَحْم صيد وجدوا أناساً أحلة يأكلونه فأفتاهم بالأكل منه ثم قدم المدينة فسأل عُمر بن الخطاب عن ذلك فقال له عمر بمَ أفتيتَهم قال : أفتيتهم بأكله فقال : «لو أفتيتهم بغير ذلك لأوْجَعْتُك» .وجملة : { كأنما يساقون إلى الموت } في موضع الحال من الضمير المرفوع في { يجادلونك } أي حالتهم في وقت مجادلتهم إياك تشبه حالتهم لو ساقهم سائق إلى الموت ، والمراد بالموت الحالة المضادة للحياة وهو معنى تكرهه نفوس البشر ، ويصوره كل عقل بما يتخيله من الفظاعة والبشاعة كما تصوره أبو ذؤيب في صورة سَبُع في قوله: ... وإذا المنية أنشبت أظفارهاوكما تخيل ، تأبط شراً الموت طامعا في اغتياله فنجا منه حين حاصره أعداؤه في جحر في جبل: ... فَخَالطَ سَهْلَ الأرض لم يكدح الصفابه كَدْحةً والموتُ خزيانُ يَنظر ... فقوله تعالى : { كأنما يساقون إلى الموت } تشبيه لحالهم ، في حين المجادلة في اللحاق بالمشركين ، بحال من يجادل ويمانع من يسوقه إلى ذات الموت .وهذا التفسير أليق بالتشبيه لتحصل المخالفة المطلقة بين الحالة المشبهة والحالة المشبه بها ، وإلا فإن أمرهم بقتال العدو الكثير العَدد ، وهم في قلة ، إرْجاء بهم إلى الموت إلا أنه موت مظنون ، وبهذا التفسير يظهر حسن موقع جملة : { وهم ينظرون } أما المفسرون فتأولوا الموت في الآية بأنه الموت المتيقن فيكون التخالف بين المشبه والمشبه به تخالفاً بالتقييد .وجملة : { وهم ينظرون } حال من ضمير { يساقون } ومفعول { ينظرون } محذوف دل عليه قوله : { إلى الموت } أي : وهم ينظرون الموتَ ، لأن حالة الخوف من الشيء المخوف إذا كان منظوراً إليه تكون أشد منها لو كان يعلم أنه يساق إليه ولا يَراه ، لأن للحس من التأثير على الإدراك ما ليس لمجرد التعقل ، وقريب من هذا المعنى قول جعفر بن عُلْبَةَ: ... يَرى غمراتتِ الموت ثم يزورهاوفي عكسه في المسرة قوله تعالى : { وأغرقنا آل فرعون وأنتُم تنظرون } [ البقرة : 50 ]
الآية 6 - سورة الأنفال: (يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون...)