سورة النصر: الآية 3 - فسبح بحمد ربك واستغفره ۚ...

تفسير الآية 3, سورة النصر

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابًۢا

الترجمة الإنجليزية

Fasabbih bihamdi rabbika waistaghfirhu innahu kana tawwaban

تفسير الآية 3

إذا وقع ذلك فتهيأ للقاء ربك بالإكثار من التسبيح بحمده والإكثار من استغفاره، إنه كان توابًا على المسبحين والمستغفرين، يتوب عليهم ويرحمهم ويقبل توبتهم.

«فسبح بحمد ربك» أي متلبسا بحمده «واستغفره إنه كان توابا» وكان صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة يكثر من قول: سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه، وعلم بها أنه قد أقترب أجله وكان فتح مكة في رمضان سنة ثمان وتوفي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة عشر.

وأما الأمر بعد حصول النصر والفتح، فأمر رسوله أن يشكر ربه على ذلك، ويسبح بحمده ويستغفره، وأما الإشارة، فإن في ذلك إشارتين: إشارة لأن يستمر النصر لهذا الدين ، ويزداد عند حصول التسبيح بحمد الله واستغفاره من رسوله، فإن هذا من الشكر، والله يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وقد وجد ذلك في زمن الخلفاء الراشدين وبعدهم في هذه الأمة لم يزل نصر الله مستمرًا، حتى وصل الإسلام إلى ما لم يصل إليه دين من الأديان، ودخل فيه، ما لم يدخل في غيره، حتى حدث من الأمة من مخالفة أمر الله ما حدث، فابتلاهم الله بتفرق الكلمة، وتشتت الأمر، فحصل ما حصل.[ومع هذا] فلهذه الأمة، وهذا الدين، من رحمة الله ولطفه، ما لا يخطر بالبال، أو يدور في الخيال.وأما الإشارة الثانية، فهي الإشارة إلى أن أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرب ودنا، ووجه ذلك أن عمره عمر فاضل أقسم الله به.وقد عهد أن الأمور الفاضلة تختم بالاستغفار، كالصلاة والحج، وغير ذلك.فأمر الله لرسوله بالحمد والاستغفار في هذه الحال، إشارة إلى أن أجله قد انتهى، فليستعد ويتهيأ للقاء ربه، ويختم عمره بأفضل ما يجده صلوات الله وسلامه عليه.فكان صلى الله عليه وسلم يتأول القرآن، ويقول ذلك في صلاته، يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: " سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي ".

ولهذا قال : ( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) .قال النسائي : أخبرنا عمرو بن منصور ، حدثنا محمد بن محبوب ، حدثنا أبو عوانة ، عن هلال بن خباب ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) إلى آخر السورة ، قال : نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حين أنزلت ، فأخذ في أشد ما كان اجتهادا في أمر الآخرة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : " جاء الفتح ، وجاء نصر الله ، وجاء أهل اليمن " . فقال رجل : يا رسول الله ، وما أهل اليمن ؟ قال : " قوم رقيقة قلوبهم ، لينة قلوبهم ، الإيمان يمان ، والحكمة يمانية ، والفقه يمان " .وقال البخاري : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي " يتأول القرآن .وأخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي من حديث منصور به .وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قول : " سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه " . وقال : " إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي ، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره ، إنه كان توابا ، فقد رأيتها : ( إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا )ورواه مسلم من طريق داود - وهو ابن أبي هند - به .وقال ابن جرير : حدثنا أبو السائب ، حدثنا حفص ، حدثنا عاصم ، عن الشعبي عن أم سلمة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ، ولا يذهب ولا يجيء ، إلا قال : " سبحان الله وبحمده " . فقلت : يا رسول الله ، إنك تكثر من سبحان الله وبحمده ، لا تذهب ولا تجيء ، ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت : سبحان الله وبحمده ؟ قال : " إني أمرت بها " ، فقال : ) إذا جاء نصر الله والفتح ) إلى آخر السورة .غريب ، وقد كتبنا حديث كفارة المجلس من جميع طرقه وألفاظه في جزء مفرد ، فيكتب هاهنا .وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) كان يكثر إذا قرأها - وركع - أن يقول : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم " ثلاثا .تفرد به أحمد . ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن عمرو بن مرة ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق به .والمراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولا واحدا ، فإن أحياء العرب كانت تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي . فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجا ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا ، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام ، ولله الحمد والمنة . وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال : لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون : دعوه وقومه ، فإن ظهر عليهم فهو نبي . الحديث وقد حررنا غزوة الفتح في كتابنا : السيرة ، فمن أراد فليراجعه هناك ، ولله الحمد والمنة .وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا أبو إسحاق ، عن الأوزاعي ، حدثني أبو عمار ، حدثني جار لجابر بن عبد الله قال : قدمت من سفر فجاءني جابر بن عبد الله فسلم علي ، فجعلت أحدثه عن افتراق الناس وما أحدثوا ، فجعل جابر يبكي ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا ، وسيخرجون منه أفواجا " .[ آخر تفسير سورة " إذا جاء نصر الله والفتح " ولله الحمد والمنة ] .

وقوله فَسَبِّحْ جواب إذا.والمعنى: إذا أتم الله- عليك- أيها الرسول الكريم- وعلى أصحابك النصر، وصارت لكم الكلمة العليا على أعدائكم، وفتح لكم مكة، وشاهدت الناس يدخلون في دين الإسلام، جماعات ثم جماعات كثيرة بدون قتال يذكر.إذا علمت ورأيت كل ذلك، فداوم وواظب على تسبيح ربك، وتنزيهه عن كل مالا يليق به شكرا له على نعمه، وداوم- أيضا- على طلب مغفرته لك وللمؤمنين.إِنَّهُ عز وجل- كانَ وما زال تَوَّاباً أى: كثير القبول لتوبة عباده التائبين إليه، كما قال- سبحانه-: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ.نسأل الله- تعالى- أن يجعلنا من عباده التائبين توبة صادقة نصوحا.وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) فإنك حينئذ لاحق به .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو النعمان ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر قال بعضهم : لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال : إنه ممن قد علمتم ، قال : فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم ، قال : وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني ، فقال : ما تقولون في قوله : " إذا جاء نصر الله والفتح " حتى ختم السورة ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا جاء نصرنا وفتح علينا ، وقال بعضهم : لا ندري ، ولم يقل بعضهم شيئا ، فقال لي : يا ابن عباس أكذلك تقول ؟ قلت : لا قال : فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه به ، " إذا جاء نصر الله والفتح " فتح مكة ، فذلك علامة أجلك " فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي " يتأول القرآن .أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثني عبد الأعلى ، حدثنا داود عن عامر ، عن مسروق ، عن عائشة ; قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قول : " سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه " ، [ قالت : فقلت : يا رسول الله ، أراك تكثر من قول : " سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه ؟ فقال : أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي ، فإذا رأيتها أكثر من قول : سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه ، فقد رأيتها : " إذا جاء نصر الله والفتح " . فالفتح : فتح مكة ، " ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " . " ]قال ابن عباس : لما نزلت هذه السورة علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نعيت إليه نفسه .قال الحسن : أعلم أنه قد اقترب أجله فأمر بالتسبيح والتوبة ، ليختم له بالزيادة في العمل الصالح .قال قتادة ومقاتل : عاش النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه السورة سنتين .

قوله تعالى : فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا قوله تعالى : فسبح بحمد ربك واستغفره أي إذا صليت فأكثر من ذلك . وقيل : معنى سبح : صل ؛ عن ابن عباس : بحمد ربك أي حامدا له على ما آتاك من الظفر والفتح . واستغفره أي : سل الله الغفران . وقيل : فسبح المراد به : التنزيه ؛ أي نزهه عما لا يجوز عليه مع شكرك له . واستغفره أي : سل الله الغفران مع مداومة الذكر . والأول أظهر . روى الأئمة ( واللفظ للبخاري ) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة بعد أن نزلت عليه سورة : إذا جاء نصر الله والفتح ، إلا يقول : سبحانك ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي وعنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي . يتأول القرآن .وفي غير الصحيح : وقالت أم سلمة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال : " سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه - قال - فإني أمرت بها - ثم قرأ - إذا جاء نصر الله والفتح إلى آخرها " . وقال أبو هريرة : اجتهد النبي بعد نزولها ، حتى تورمت قدماه . ونحل جسمه ، وقل تبسمه ، وكثر بكاؤه . وقال عكرمة : لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قط أشد اجتهادا في أمور الآخرة ما كان منه عند نزولها . وقال مقاتل : لما نزلت قرأها النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ، ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص ، ففرحوا واستبشروا ، وبكى العباس ؛ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما يبكيك يا عم ؟ " قال : نعيت إليك نفسك . قال : " إنه لكما تقول " ؛ فعاش بعدها ستين يوما ، ما رئي فيها ضاحكا مستبشرا .وقيل : نزلت في منى بعد أيام التشريق ، في حجة الوداع ، فبكى عمر والعباس ، فقيل لهما : إن هذا يوم فرح ، فقالا : بل فيه نعي النبي - صلى الله عليه وسلم - . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " صدقتما ، نعيت إلي نفسي " . وفي البخاري وغيره عن ابن عباس قال : كان عمر بن الخطاب يأذن لأهل بدر ، ويأذن لي معهم . قال : فوجد بعضهم من ذلك ، فقالوا : يأذن لهذا الفتى معنا ومن أبنائنا من هو مثله ، فقال لهم عمر : إنه من قد علمتم . قال : فأذن لهم ذات يوم ، وأذن لي معهم ، فسألهم عن هذه السورة : إذا جاء نصر الله والفتح فقالوا : أمر الله جل وعز نبيه - صلى الله عليه وسلم - إذا فتح عليه أن يستغفره ، وأن يتوب إليه . فقال : ما تقول يا ابن عباس ؟ قلت : ليس كذلك ، ولكن أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - حضور أجله ، فقال : إذا جاء نصر الله والفتح ، فذلك علامة موتك . فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا . فقال عمر - رضي الله عنه - : تلومونني عليه ؟ وفي البخاري فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول . ورواه الترمذي ، قال : كان عمر يسألني مع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : أتسأله ولنا بنون مثله ؟ فقال له عمر : إنه من حيث نعلم . فسأله عن هذه الآية : إذا جاء نصر الله والفتح . فقلت : إنما هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أعلمه إياه ؛ وقرأ السورة إلى آخرها . فقال له عمر : والله ما أعلم منها إلا ما تعلم . قال : هذا حديث حسن صحيح . فإن قيل : فماذا يغفر للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يؤمر بالاستغفار ؟ قيل له : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه : رب اغفر لي خطيئتي وجهلي ، وإسرافي في أمري كله ، وما أنت أعلم به مني . اللهم اغفر لي خطئي وعمدي ، وجهلي وهزلي ، وكل ذلك عندي . اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أعلنت وما أسررت ، أنت المقدم وأنت المؤخر ، إنك على كل شيء قدير . فكان - صلى الله عليه وسلم - يستقصر نفسه لعظم ما أنعم الله به عليه ، ويرى قصوره عن القيام بحق ذلك ذنوبا . ويحتمل أن يكون بمعنى : كن متعلقا به ، سائلا راغبا ، متضرعا على رؤية التقصير في أداء الحقوق ؛ لئلا ينقطع إلى رؤية الأعمال . وقيل : الاستغفار تعبد يجب إتيانه ، لا للمغفرة ، بل تعبدا . وقيل : ذلك تنبيه لأمته ، لكيلا يأمنوا ويتركوا الاستغفار . وقيل : واستغفره أي استغفر لأمتك .إنه كان توابا أي على المسبحين والمستغفرين ، يتوب عليهم ويرحمهم ، ويقبل توبتهم . وإذا كان - عليه السلام - وهو معصوم يؤمر بالاستغفار ، فما الظن بغيره ؟ روى مسلم عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قول : سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه . فقال : " خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي ، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه ، فقد رأيتها : إذا جاء نصر الله والفتح - فتح مكة - ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " .وقال ابن عمر : نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ؛ ثم نزلت اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي فعاش بعدهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانين يوما . ثم نزلت آية الكلالة ، فعاش بعدها خمسين يوما . ثم نزل لقد جاءكم رسول من أنفسكم فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما . ثم نزل واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما . وقال مقاتل سبعة أيام . وقيل غير هذا مما تقدم في ( البقرة ) بيانه والحمد لله .

وقوله: ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ )يقول: فسبح ربك وعظمه بحمده وشكره, على ما أنجز لك من وعده. فإنك حينئذ لاحق به, وذائق ما ذاق مَنْ قبلك من رُسله من الموت.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك :حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن حبيب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سألهم عن قول الله تعالى: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) قالوا: فتح المدائن والقصور, قال: فأنت يا ابن عباس ما تقول: قلت: مَثَلٌ ضُرب لمحمد صلى الله عليه وسلم نعيت إليه نفسه .حدثنا ابن بشار, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس, أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُدنيه, فقال له عبد الرحمن: إن لنا أبناءً مثلَهُ, فقال عمر: إنه من حيث تعلم, قال: فسأله عمر عن قول الله: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) السورة, فقال ابن عباس: أجله, أعلمه الله إياه, فقال عمر: ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم .حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا مهران, عن سفيان, عن عاصم, عن أبي رزين, عن ابن عباس, قال: قال عمر رضي الله عنه: ما هي؟ يعني ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) قال ابن عباس,( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ ) حتى بلغ: ( وَاسْتَغْفِرْهُ ) إنك ميت ( إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) فقال عمر : ما نعلم منها إلا ما قلت .قال: ثنا مهران, عن سفيان عن عاصم, عن أبي رزين, عن ابن عباس قال: لما نزلت ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) علم النبيّ أنه نعيت إليه نفسه, فقيل له: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ...) إلى آخر السورة .حدثنا أبو كُرَيب وابن وكيع, قالا ثنا ابن فضيل, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: لما نزلت ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نُعِيَتْ إليَّ نَفْسِي, كأنّي مَقْبُوضٌ فِي تِلكَ السَّنَةِ" .حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) قال: ذاك حين نَعَى لَه نفسه يقول: إذا( وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ) يعني إسلام الناس, يقول: فذاك حين حضر أجلك ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) .حدثني أبو السائب وسعيد بن يحيى الأموي, قالا ثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق, عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول قبل أن يموت: " سبحانك اللهم وبحمدك, أستغفرك وأتوب إليك "; قالت: فقلت : يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك قد أحدثتها تقولها؟ قال: " قد جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) إلى آخر السورة " .حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن جده, عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق, قال: قالت عائشة: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أنزلت عليه هذه السورة ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) لا يقول قبلها: " سبحانك ربنا وبحمدك, اللهمّ اغفر لي" .حدثنا ابن وكيع, قال: ثنا ابن نمير, عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق, عن عائشة, عن النبيّ صلى الله عليه وسلم, مثله.حدثنا ابن وكيع, قال: ثنا جرير, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم وبحمدك, اللهمّ اغفر لي", يتأول القرآن .حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن عُلَية, عن داود, عن الشعبي, قال داود: لا أعلمه إلا عن مسروق, وربما قال عن مسروق, عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول: " سبحان الله وبحمده, أستغفر الله وأتوب إليه ", فقلت: إنك تُكثر من هذا, فقال: " إنَّ رَبي قَدْ أخْبَرَنِي أنِّي سأرَى عَلامةً في أُمَّتِي, وأَمَرَنِي إذَا رأَيْتُ تِلكَ الْعَلامَةَ أنْ أُسَبِّحَ بِحَمْدِهِ, وأسْتَغْفِرَهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابا, فَقَدْ رأَيْتُها( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) " .حدثنا أبو السائب, قال: ثنا حفص, قال: ثنا عاصم, عن الشعبي, عن أم سلمة, قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد, ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: " سبحان الله وبحمده ", فقلت: يا رسول الله, إنك تكثر من سبحان الله وبحمده, لا تذهب ولا تجيء, ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت: سبحان الله وبحمده, قال: " إني أمرت بها ", فقال: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) إلى آخر السورة .حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, قال: ثنا ابن إسحاق, عن بعض أصحابه, عن عطاء بن يسار, قال: نزلت سورة ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) كلها بالمدينة بعد فتح مكة, ودخول الناس في الدين, ينعي إليه نفسه .قال: ثنا جرير, عن مُغيرة, عن زياد بن الحصين, عن أبي العالية, قال : لما نزلت: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) ونعيت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم نفسه, &; 24-671 &; كان لا يقوم من مجلس يجلس فيه حتى يقول: " سبحانك اللهمّ وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت, أستغفرك وأتوب إليك " .قال: ثنا الحكم بن بشير, قال: ثنا عمرو, قال: لما نزلت: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول: " سبحانك اللهم وبحمدك, رب اغفر لي وتب عليّ, إنك أنت التوّاب الرحيم " .حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) قرأها كلها. قال ابن عباس: هذه السورة عَلَمٌ وحَدٌّ حدّه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم, ونعى له نفسه. إي إنك لن تعيش بعدها إلا قليلا. قال قتادة: والله ما عاش, بعد ذلك إلا قليلا سنتين, ثم توفي صلى الله عليه وسلم .حدثنا ابن حميد, قال: ثنا مهران, عن أبي معاذ عيسى بن أبي يزيد, عن أبي إسحاق, عن أبي عبيدة, عن ابن مسعود, قال: لما نزلت: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) كان يكثر أن يقول: " سبحانك اللهمّ وبحمدك, اللهمّ اغفر لي, سبحانك ربنا وبحمدك, اللهمّ اغفر لي, إنك أنت التواب الغفور " .حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قول الله: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) : كانت هذه السورة آية لموت رسول الله صلى الله عليه وسلم .حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء, جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) قال: اعلم أنك ستموت عند ذلك.وقوله: ( وَاسْتَغْفِرْهُ )يقول: وسله أن يغفر ذنوبك.يقول: إنه كان ذا رجوع لعبده, المطيع إلى ما يحب. والهاء من قوله " إنه " من ذكر الله عز وجلّ.آخر تفسير سورة النصر

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)وجملة : { فسبح بحمد ربك } جواب { إذا } باعتبار ما تضمنته من معنى الشرط ، وفعل { فسبح } هو العامل في { إذا } النصبَ على الظرفية ، والفاء رابطة للجواب لأنه فعل إنشاء .وقَرن التسبيح بالحمد بباء المصاحبة المقتضية أن التسبيح لاحقٌ للحمد لأن باء المصاحبة بمعنى ( مع ) فهي مثل ( مع ) في أنها تدخل على المتبوع فكان حمد الله على حصول النصر والفتح ودخول الناس في الإِسلام شيئاً مفروغاً منه لا يحتاج إلى الأمر بإيقاعه لأن شأن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قد فعله ، وإنما يحتاج إلى تذكيره بتسبيح خاص لم يحصل من قبل في تسبيحاته وباستغفار خاص لم يحصل من قبل في استغفاره .ويجوز أن يكون التسبيح المأمور به تسبيحَ ابتهاج وتعجب من تيسير الله تعالى له ما لا يخطر ببال أحد أن يتم له ذلك ، فإن سبحان الله ونحوه يستعمل في التعجب كقول الأعشى: ... قد قلتُ لما جاءني فخرُهسبحانَ من علقمةَ الفاخِر ... وفي تقديم الأمر بالتسبيح والحمد على الأمر بالاستغفار تمهيد لإجابة استغفاره على عادة العرب في تقديم الثناء قبل سؤال الحاجة كما قال ابن أبي الصلت: ... إذا أثنى عليك المرء يوماًكفاه عن تعرضه الثناء ... فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخلو عن تسبيح الله فأريد تسبيح يقارن الحمد على ما أعطيه من النصر والفتح ودخول الأمة في الإِسلام .وعطف الأمر باستغفار الله تعالى على الأمر بالتسبيح مع الحمد يقتضي أنه من حَيِّز جواب { إذا } ، وأنه استغفار يحصل مع الحمد مثل ما قرر في { فسبح بحمد ربك } فيدل على أنه استغفار خاص لأن الاستغفار الذي يعم طلب غفران التقصير ونحوه مأمور به من قبل وهو من شأن النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال : " إنه لَيُغَانَ على قلْبي فأستغفر اللَّه في اليوم والليلة مائة مرة " فكان تعليق الأمر بالتسبيح وبالاستغفار على حصول النصر والفتح إيماءً إلى تسبيح واستغفار يحصل بهما تقرب لم يُنْو من قبل ، وهو التهيّؤ للقاء الله ، وأن حياته الدنيوية أوشكت على الانتهاء ، وانتهاء أعمال الطاعات والقربات التي تزيد النبي صلى الله عليه وسلم في رفع درجاته عند ربه فلم يبق إلا أن يسأل ربه التجاوز عما يعرض له من اشتغال ببعض الحظوظ الضرورية للحياة أو من اشتغال بمهم من أحوال الأمة يفوته بسببه أمر آخر هو أهم منه ، مثل فِداء أسرى بدر مع فوات مصلحة استئصالهم الذي هو أصلح للأمة فعوتِبَ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { ما كان لنبيء أن يكون له أسرى } [ الأنفال : 67 ] الآية ، أو من ضرورات الإِنسان كالنوم والطعام التي تنقص من حالة شبهه بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، فكان هذا إيذاناً باقتراب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بانتقاله من حياة تحمل أعباء الرسالة إلى حياة أبدية في العلويات الملكية .والكلام من قبيل الكناية الرمزية وهي لا تنافي إرادة المعنى الصريح بأن يحمل الأمر بالتسبيح والاستغفار على معنى الإِكثار من قول ذلك . وقد دل ذوق الكلام بعضَ ذوي الأفهام النافذة من الصحابة على هذا المعنى وغاصت عليه مثل أبي بكر وعمر والعباس وابنه عبد الله وابن مسعود ، فعن مقاتل : " لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ففرحوا واستبشروا وبكى العباس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يا عم؟ قال : نُعيتْ إليك نفسك . فقال : إنه لكَما تقول " . وفي رواية : " نزلت في منى فبكى عمر والعباس فقيل لهما ، فقالا : فيه نُعي رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدقتما نُعِيَتْ إليّ نفسي " .وفي «صحيح البخاري» وغيره عن ابن عباس : «كان عمر يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم فوجد بعضهم من ذلك ، فقال لهم عمر : إنه مَن قد علمتم . قال : فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم ، فسألهم عن هذه السورة : { إذا جاء نصر الله والفتح } فقالوا : أمر الله نبيئه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه فقال : ما تقول يا ابن عباس؟ قلت : ليس كذلك ولكن أخبر الله نبيئه حضور أجله فقال : { إذا جاء نصر الله والفتح } ، فذلك علامة موتك؟ فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول» فهذا فهم عمر والعباس وعبد الله ابنه .وقال في «الكشاف» : روي أنه لما نزلت خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن عبداً خيّره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله عز وجل . فعلم أبو بكر فقال : فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا " اه .قال ابن حجر في «تخريج أحاديث الكشاف» : الحديث متفق عليه إلا صدره دون أوله من كونه كان عند نزول السورة ا ه . ويحتمل أن يكون بكاء أبي بكر تكرر مرتين أولاهما عند نزول سورة النصر كما في رواية «الكشاف» والثانية عند خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه .وعن ابن مسعود أن هذه السورة «تسمى سورة التوديع» أي لأنهم علموا أنها إيذان بقرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلموتقديم التسبيح والحمد على الاستغفار لأن التسبيح راجع إلى وصف الله تعالى بالتنزه عن النقص وهو يجمع صفات السلب ، فالتسبيح متمحض لجانب الله تعالى ، ولأن الحمد ثناء على الله لإنعامه ، وهو أداء العبد ما يجب عليه لشكر المنعم فهو مستلزم إثبات صفات الكمال لله التي هي منشأ إنعامه على عبده فهو جامع بين جانب الله وحظ العبد ، وأما الاستغفار فهو حظ للعبد وحده لأنه طلبه اللَّه أن يعفو عما يؤاخذه عليه .ومقتضى الظاهر أن يقول : فسبح بحمده ، لتقدم اسم الجلالة في قوله : { إذا جاء نصر اللَّه } فعدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر وهو { ربك } لما في صفة ( رب ) وإضافتها إلى ضمير المخاطب من الإِيماء إلى أن من حكمة ذلك النصر والفتح ودخول الناس في الإِسلام نعمةً أنعم الله بها عليه إذا حصل هذا الخير الجليل بواسطته فذلك تكريم له وعناية به وهو شأن تلطف الرب بالمربوب ، لأن معناه السيادة المرفوقة بالرفق والإِبلاغ إلى الكمال .وقد انتهى الكلام عند قوله : { واستغفره } . وقد روي : «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في قراءته يقف عند { واستغفره } ثم يكمل السورة» .{ واستغفره إِنَّهُ كَانَ } .تذييل للكلام السابق كله وتعليل لما يقتضي التعليل فيه من الأمر باستغفار ربه باعتبار الصريح من الكلام السابق كما سيتبين لك .وتوّاب : مثال مبالغة من تاب عليه . وفعل تاب المتعدي بحرف ( على ) يطلق بمعنى : وفّق للتوبة ، أثبته في «اللسان» و«القاموس» ، وهذا الإِطلاق خاص بما أسند إلى الله .وقد اشتملت الجملة على أربع مؤكدات هي : إنّ ، وكانَ ، وصيغة المبالغة في التوّاب ، وتنوين التعظيم فيه .وحيث كان توكيد ب ( إنَّ ) هنا غير مقصودٍ به ردُّ إنكار ولا إزالة تردد إذ لا يفرضان في جانب المخاطب صلى الله عليه وسلم فقد تمحض ( إنَّ ) لإفادة الاهتمام بالخبر بتأكيده .وقد تقرر أن من شأن ( إنَّ ) إذا جاءت على هذا الوجه أن تغني غَناء فاء الترتيب والتسبب وتفيد التعليل وربط الكلام بما قبله كما تفيده الفاء ، وقد تقدم غير مرة ، منها عند قوله تعالى : { إنك أنت العليم الحكيم } في سورة [ البقرة : 32 ] ، فالمعنى : هو شديد القبول لتوبة عباده كثير قبوله إياها .وإذ قد كان الكلام تذييلاً وتعليلاً للكلام السابق تعين أن حذف متعلق { تواباً } يُقدر بنحو : على التائبين . وهذا المقدر مراد به العموم ، وهو عموم مخصوص بالمشيئة تخصصه أدلة وصف الربوبية ، ولما ذكر دليل العموم عَقب أمرِه بالاستغفار أفاد أنه إذا استغفره غفر له دلالة تقتضيها مستتبعات التراكيب ، فأفادت هذه الجملة تعليل الأمر بالاستغفار لأن الاستغفار طلب لغفر ، فالطالب يترقب إجابة طلبه ، وأما ما في الجملة من الأمر بالتسبيح والحمد فلا يحتاج إلى تعليل لأنهما إنشاء تنزيه وثناء على الله .ومن وراء ذلك أفادت الجملة إشارة إلى وعدٍ بحسن القبول عند الله تعالى حينما يقدم على العالم القدسي ، وهذا معنى كنائي لأن من عُرف بكثرة قبول توبة التائبين شأنه أن يكرم وفادة الوافدين الذين سَعوْا جهودهم في مرضاته بمنتهى الاستطاعة ، أو هو مجاز بعلاقة اللزوم العرفي لأن منتهى ما يخافه الأحبة عند اللقاء مرارة العتاب ، فالإِخبار بأنه توّاب اقتضى أنه لا يخاف عتاباً .فهذه الجملة بمدلولها الصريح ومدلولها الكنائي أو المجازي ومستتبعاتها تعليل لما تضمنته الجملة التي قبلها من معنى صريح أو كنائي يناسبه التعليل بالتسبيح والحمد باعتبارهما تمهيداً للأمر بالاستغفار كما تقدم آنفاً لا يحتاجان إلى التعليل ، أو يغني تعليل الممهد له بهما عن تعليلهما ولكنهما باعتبار كونهما رمزاً إلى مداناة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون ما في قوله : { إنه كان تواباً } من الوعد بحسن القبول تعليلاً لمدلولهما الكنائي ، وأما الأمر بالاستغفار فمناسبة التعليل له بقوله : { إنه كان تواباً } ناهضة باعتبار كلتا دلالتيه الصريحة والكنائيّة ، أي إنه متقبل استغفارك ومتقبلك بأحسن قبول ، شأنَ من عهد من الصفح والتكرم .وفعل { كان } هنا مستعمل في لازم معنى الاتصاف بالوصف في الزمن الماضي . وهو أن هذا الوصف ذاتي له لا يتخلف معموله عن عباده فقد دل استقراء القرآن على إخبار الله عن نفسه بذلك من مبدأ الخليقة قال تعالى : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } [ البقرة : 37 ] .ومقتضى الظاهر أن يقال : إنه كان غفّاراً ، كما في آية : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً } [ نوح : 10 ] فيُجرى الوصف على ما يناسب قوله : { واستغفره } ، فعُدل عن ذلك تلطفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ أمره بالاستغفار ليس مقتضياً إثبات ذنب له لما علمت آنفاً من أن وصف ( تواب ) جاء من تاب عليه الذي يستعمل بمعنى وفقه للتوبة إيماء إلى أن أمره بالاستغفار إرشاد إلى مقام التأدب مع الله تعالى ، فإنه لا يُسأل عما يفعل بعباده ، لولا تفضله بما بيَّن لهم من مراده ، ولأن وصف ( توّاب ) أشد ملاءمة لإقامة الفاصلة مع فاصلة { أفواجاً } لأن حرف الجيم وحرف الباء كليهما حرف من الحروف الموصوفة بالشدة ، بخلاف حرف الراء فهو من الحروف التي صفتها بين الشدة والرِّخوة .وروي في «الصحيح» عن عائشة قالت : «ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةً بعد أن نزلت عليه سورة : { إذا جاء نصر الله والفتح } إلا يقول : " سبحانك ربّنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي يتأول القرآن " أي يتأول الأمر في قوله : { فسبح بحمد ربك واستغفره } على ظاهره كما تأوله في مقام آخر على معنى اقتراب أجله صلى الله عليه وسلم
الآية 3 - سورة النصر: (فسبح بحمد ربك واستغفره ۚ إنه كان توابا...)