سورة مريم: الآية 3 - إذ نادى ربه نداء خفيا...

تفسير الآية 3, سورة مريم

إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيًّا

الترجمة الإنجليزية

Ith nada rabbahu nidaan khafiyyan

تفسير الآية 3

إذ دعا ربه سرًا؛ ليكون أكمل وأتم إخلاصًا لله، وأرجى للإجابة.

«إذ» متعلق برحمة «نادى ربه نداءً» مشتملاً على دعاء «خفيا» سرا جوف الليل لأنه أسرع للإجابة.

تفسير الآيتين 2و 3 :أي: هذا ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ْ سنقصه عليك، ونفصله تفصيلا يعرف به حالة نبيه زكريا، وآثاره الصالحة، ومناقبه الجميلة، فإن في قصها عبرة للمعتبرين، وأسوة للمقتدين، ولأن في تفصيل رحمته لأوليائه، وبأي: سبب حصلت لهم، مما يدعو إلى محبة الله تعالى، والإكثار من ذكره ومعرفته، والسبب الموصل إليه. وذلك أن الله تعالى اجتبى واصطفى زكريا عليه السلام لرسالته، وخصه بوحيه، فقام بذلك قيام أمثاله من المرسلين، ودعا العباد إلى ربه، وعلمهم ما علمه الله، ونصح لهم في حياته وبعد مماته، كإخوانه من المرسلين ومن اتبعهم، فلما رأى من نفسه الضعف، وخاف أن يموت، ولم يكن أحد ينوب منابه في دعوة الخلق إلى ربهم والنصح لهم، شكا إلى ربه ضعفه الظاهر والباطن، وناداه نداء خفيا، ليكون أكمل وأفضل وأتم إخلاصا.

وقوله : ( إذ نادى ربه نداء خفيا ) : قال بعض المفسرين : إنما أخفى دعاءه ، لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره . حكاه الماوردي .وقال آخرون : إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله . كما قال قتادة في هذه الآية ( إذ نادى ربه نداء خفيا ) : إن الله يعلم القلب التقي ، ويسمع الصوت الخفي .وقال بعض السلف : قام من الليل ، عليه السلام ، وقد نام أصحابه ، فجعل يهتف بربه يقول خفية : يا رب ، يا رب ، يا رب فقال الله : لبيك ، لبيك ، لبيك .

وقوله: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا ظرف لرحمة ربك. والمراد بالنداء: الدعاء الذي تضرع به زكريا إلى ربه- عز وجل-.أى: هذا الذي قرأناه عليك يا محمد في أول هذه السورة. وذكرناه لك، هو جانب من رحمتنا لعبدنا زكريا. وقت أن نادانا وتضرع إلينا في خفاء وستر، ملتمسا منا الذرية الصالحة.وإنما أخفى زكريا دعاءه، لأن هذا الإخفاء فيه بعد عن الرياء، وقرب من الإخلاص، وقد أمر الله- تعالى- به في قوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.ويبدو أن هذا الدعاء قد تضرع به زكريا إلى ربه في أوقات تردده على مريم، واطلاعه على ما أعطاها الله- تعالى- من رزق وفير.ويشهد لذلك قوله- تعالى-: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا، كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً، قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ .

( إذ نادى ) دعا ( ربه ) في محرابه ( نداء خفيا ) دعا سرا من قومه في جوف الليل .

قوله تعالى : إذ نادى ربه نداء خفيا مثل قوله : ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين وقد تقدم . والنداء الدعاء والرغبة ؛ أي ناجى ربه بذلك في محرابه . دليله قوله : فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب فبين أنه استجاب له في صلاته ، كما نادى في الصلاة . واختلف في إخفائه هذا النداء ؛ فقيل : أخفاه من قومه لئلا يلام على مسألة الولد عند كبر السن ؛ ولأنه أمر دنيوي ، فإن أجيب فيه نال بغيته ، وإن لم يجب لم يعرف بذلك أحد .وقيل : مخلصا فيه لم يطلع عليه إلا الله تعالى . وقيل : لما كانت الأعمال الخفية أفضل وأبعد من الرياء أخفاه . وقيل : خفيا سرا من قومه في جوف الليل ؛ والكل محتمل والأول أظهر ؛ والله أعلم .وقد تقدم أن المستحب من الدعاء الإخفاء في سورة ( الأعراف ) وهذه الآية نص في ذلك ؛ لأنه سبحانه أثنى بذلك على زكريا . وروى إسماعيل قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن أسامة بن زيد عن محمد بن عبد الرحمن ، وهو ابن أبي كبشة عن سعد بن أبي وقاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي وهذا عام . قال يونس بن عبيد : كان الحسن يرى أن يدعو الإمام في القنوت ويؤمن من خلفه من غير رفع صوت ، وتلا يونس إذ نادى ربه نداء خفيا . قال ابن العربي : وقد أسر مالك القنوت وجهر به الشافعي ، والجهر به أفضل ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو به جهرا .

وقوله: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) يقول حين دعا ربه، وسأله بنداء خفي، يعنى: وهو مستسرّ بدعائه ومسألته إياه ما سأل ، كراهة منه للرياء.كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) أي سرّا، وإن الله يعلم القلب النقيّ، ويسمع الصوت الخفيّ.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) قال: لا يريد رياء.

إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) و إذ نادى ربه } ظرف ل { رحمتِ }. أي رحمة الله إياه في ذلك الوقت ، أو بدل من { ذكر ، } أي اذكر ذلك الوقت .والنداء : أصله رفع الصوت بطلب الإقبال . وتقدم عند قوله تعالى : { ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان } في سورة آل عمران ( 193 ) وقوله : { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها } في [ سورة الأعراف : 43 ]. ويطلق النداء كثيراً على الكلام الذي فيه طلب إقبال الذات لعمل أو إقبال الذهن لوعي كلام ، فلذلك سميت الحروف التي يفتتح بها طلب الإقبال حروف النداء . ويطلق على الدعاء بطلب حاجة وإن لم يكن فيه نداء لأن شأن الدعاء في المتعارف أن يكون جهراً . أي تضرعاً لأنه أوقع في نفس المدعو . ومعنى الكلام : أن زكرياء قال : يا رب ، بصوت خفي .وإنما كان خفياً لأن زكرياء رأى أنه أدخل في الإخلاص مع رجائه أنّ الله يجيب دعوته لئلا تكون استجابته مما يتحدث به الناس ، فلذلك لم يدعه تضرعاً وإن كان التضرع أعون على صدق التوجه غالباً ، فلعل يقين زكرياء كاف في تقوية التوجه ، فاختار لدعائه السلامة من مخالطة الرياء . ولا منافاة بين كونه نداء وكونه خفياً ، لأنه نداء من يسمع الخفاء .والمراد بالرحمة : استجابة دعائه ، كما سيصرح به بقوله : { يا زكرياء إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى } [ مريم : 7 ]. وإنما حكي في الآية وصف دعاء زكرياء كما وقع فليس فيها إشعار بالثناء على إخفاء الدعاء .
الآية 3 - سورة مريم: (إذ نادى ربه نداء خفيا...)