سورة النجم: الآية 9 - فكان قاب قوسين أو أدنى...

تفسير الآية 9, سورة النجم

فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ

الترجمة الإنجليزية

Fakana qaba qawsayni aw adna

تفسير الآية 9

علَّم محمدًا صلى الله عليه وسلم مَلَك شديد القوة، ذو منظر حسن، وهو جبريل عليه السلام، الذي ظهر واستوى على صورته الحقيقية للرسول صلى الله عليه وسلم في الأفق الأعلى، وهو أفق الشمس عند مطلعها، ثم دنا جبريل من الرسول صلى الله عليه وسلم، فزاد في القرب، فكان دنوُّه مقدار قوسين أو أقرب من ذلك. فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى بواسطة جبريل عليه السلام. ما كذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه بصره.

«فكان» منه «قاب» قدر «قوسين أو أدنى» من ذلك حتى أفاق وسكن روعه.

فَكَانَ في قربه منه قَابَ قَوْسَيْنِ أي: قدر قوسين، والقوس معروف، أَوْ أَدْنَى أي: أقرب من القوسين، وهذا يدل على كمال المباشرة للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأنه لا واسطة بينه وبين جبريل عليه السلام.

وقوله : ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) أي : فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض حتى كان بينه وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - قاب قوسين أي : بقدرهما إذا مدا . قاله مجاهد ، وقتادة .وقد قيل : إن المراد بذلك بعد ما بين وتر القوس إلى كبدها .وقوله : ( أو أدنى ) قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه ، كقوله : ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) [ البقرة : 74 ] ، أي : ما هي بألين من الحجارة ، بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة . وكذا قوله : ( يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ) [ النساء : 77 ] ، وقوله : ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) [ الصافات : 147 ] ، أي : ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة ، أو يزيدون عليها . فهذا تحقيق للمخبر به لا شك ولا تردد ، فإن هذا ممتنع هاهنا ، وهكذا هذه الآية : ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) .وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما هو جبريل عليه السلام ، هو قول أم المؤمنين عائشة ، وابن مسعود ، وأبي ذر ، وأبي هريرة ، كما سنورد أحاديثهم قريبا إن شاء الله . وروى مسلم في صحيحه ، عن ابن عباس أنه قال : " رأى محمد ربه بفؤاده مرتين " . فجعل هذه إحداهما . وجاء في حديث شريك بن أبي نمر ، عن أنس في حديث الإسراء : " ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى " ولهذا تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية ، وذكروا أشياء فيها من الغرابة ، فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى ، لا أنها تفسير لهذه الآية ; فإن هذه كانت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأرض لا ليلة الإسراء ; ولهذا قال بعده : ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ) ، فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض .وقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني ، حدثنا زر بن حبيش قال : قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية : ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " رأيت جبريل له ستمائة جناح " .وقال ابن وهب : حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان أول شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى في منامه جبريل بأجياد ، ثم إنه خرج ليقضي حاجته فصرخ به جبريل : يا محمد يا محمد . فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمينا وشمالا فلم ير شيئا - ثلاثا - ثم رفع بصره فإذا هو ثان إحدى رجليه مع الأخرى على أفق السماء فقال : يا محمد ، جبريل ، جبريل - يسكنه - فهرب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل في الناس ، فنظر فلم ير شيئا ، ثم خرج من الناس ، ثم نظر فرآه ، فدخل في الناس فلم ير شيئا ، ثم خرج فنظر فرآه ، فذلك قول الله عز وجل : ( والنجم إذا هوى [ ما ضل صاحبكم وما غوى ] ) إلى قوله : ( ثم دنا فتدلى ) يعني جبريل إلى محمد ، ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) : ويقولون : القاب نصف الأصبع . وقال بعضهم : ذراعين كان بينهما .رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث ابن وهب . وفي حديث الزهري عن أبي سلمة ، عن جابر شاهد لهذا .وروى البخاري عن طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن الشيباني قال : سألت زرا عن قوله : ( فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ) قال : حدثنا عبد الله أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل له ستمائة جناح .وقال ابن جرير : حدثني ابن بزيع البغدادي ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) قال : رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه حلتا رفرف ، قد ملأ ما بين السماء والأرض .

ثم صور- سبحانه- شدة قرب جبريل من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى والقاب: المقدار المعين: وقيل: هو ما بين وتر القوس ومقبضها..والقوس: آلة معروفة عند العرب، يشد بها وتر من جلد، وتستعمل في الرمي بالسهام.وكان من عادة العرب في الجاهلية، أنهم إذا تحالفوا، يخرجون قوسين ويلصقون إحداهما بالأخرى، فيكون قاب إحداهما ملاصقا للآخر، حتى لكأنهما قاب واحد، ثم ينزعونهما معا ويرمون بهما سهما واحدا، فيكون ذلك دليلا على التحالف التام والرضا الكامل ...والمعنى: أن جبريل- عليه السلام- بعد أن كان بالجهة العليا من السماء، ثم قرب من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم زاد في القرب، حتى كان على مقدار مسافة قوسين منه صلى الله عليه وسلم أو أقرب من ذلك.قال صاحب الكشاف: قوله: قابَ قَوْسَيْنِ مقدار قوسين عربيتين، والقاب والقيب، والقاد والقيد، المقدار ... وقد جاء التقدير بالقوس، والرمح، والسوط، والذراع، والباع، والخطوة والشبر ... ومنه الحديث الشريف: «لقاب قوس أحدكم من الجنة، وموضع قده، خير من الدنيا وما فيها» والقد السوط ...فإن قلت: كيف تقدير قوله: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ، قلت: تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، فحذفت هذه المضافات...و «أو» في قوله: أَوْ أَدْنى للشك، ولكن هذا الشك من جهة العباد، أى: أن الرائي إذا رأى هذا الوضع قال: هو قاب قوسين أو أقرب من ذلك، ويصح أن تكون بمعنى «بل» .قال الجمل: قوله: أَوْ أَدْنى هذه الآية كقوله: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ لأن المعنى: فكان- جبريل- بأحد هذين المقدارين في رأى الرائي. أى:لتقارب ما بينهما يشك الرائي في ذلك.وأدنى: أفعل تفضيل. والمفضل عليه محذوف. أى: أو أدنى من قاب قوسين.ويصح أن تكون بمعنى بل، أى: بل هو أدنى.. .

قوله - عز وجل - : ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) اختلفوا في معناه :أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن ابن الأشوع عن الشعبي عن مسروق قال : قلت لعائشة فأين قوله : " ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى " ؟ قالت : " ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل ، وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته ، فسد الأفق " .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا طلق بن غنام ، حدثنا زائدة عن الشيباني قال : سألت زرا عن قوله : " فكان قاب قوسين أو أدنى " ، قال : أخبرنا عبد الله - يعني ابن مسعود - أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل له ستمائة جناح .فمعنى الآية : ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض " فتدلى " فنزل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فكان منه " قاب قوسين أو أدنى " ، بل أدنى ، وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة ، قيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : ثم تدلى فدنا؛ لأن التدلي سبب الدنو .وقال آخرون : ثم دنا الرب - عز وجل - من محمد - صلى الله عليه وسلم - فتدلى ، فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى . وروينا في قصة المعراج عن شريك بن عبد الله عن أنس : ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى . وهذا رواية ابن سلمة عن ابن عباس ، " والتدلي " هو النزول إلى الشيء حتى يقرب منه .وقال مجاهد : دنا جبريل من ربه .وقال الضحاك : دنا محمد - صلى الله عليه وسلم - من ربه فتدلى فأهوى للسجود ، فكان منه قاب قوسين أو أدنى .ومعنى قوله : " قاب قوسين " أي قدر قوسين ، و " القاب " و " القيب " و " القاد " و " القيد " : عبارة عن المقدار ، و " القوس " : ما يرمى به في قول الضحاك ومجاهد وعكرمة وعطاء عن ابن عباس ، فأخبر أنه كان بين جبريل وبين محمد عليهما السلام مقدار قوسين ، قال مجاهد : معناه حيث الوتر من القوس ، وهذا إشارة إلى تأكيد القرب . وأصله : أن الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد خرجا بقوسيهما فألصقا بينهما ، يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه .وقال عبد الله بن مسعود : " قاب قوسين " أي : قدر ذراعين ، وهو قول سعيد بن جبير وشقيق بن سلمة ، و " القوس " : الذراع يقاس بها كل شيء ، " أو أدنى " : بل أقرب .

قوله تعالى : فكان قاب قوسين أو أدنى أي ( كان ) محمد من ربه أو من جبريل ( قاب قوسين ) أي قدر قوسين عربيتين ؛ قاله ابن عباس وعطاء والفراء . الزمخشري : فإن قلت كيف تقدير قوله : فكان قاب قوسين قلت : تقديره : فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين ، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله :وقد جعلتني من حزيمة إصبعاأي ذا مقدار مسافة إصبع أو أدنى أي على تقديركم ; كقوله تعالى : أو يزيدون . وفي الصحاح : وتقول بينهما قاب قوس ، وقيب قوس وقاد قوس ، وقيد قوس ; أي قدر قوس . وقرأ زيد بن علي " قاد " وقرئ " قيد " و " قدر " . ذكره الزمخشري . والقاب ما بين المقبض والسية . ولكل قوس قابان . وقال بعضهم في قوله تعالى : قاب قوسين أراد قابي قوس فقلبه . وفي الحديث : ولقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها والقد السوط . وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها . وإنما ضرب المثل بالقوس ، لأنها لا تختلف في القاب . والله أعلم . قال القاضي عياض : اعلم أن ما وقع من إضافة الدنو والقرب من الله أو إلى الله فليس بدنو مكان ولا قرب مدى ، وإنما دنو النبي صلى الله عليه وسلم من ربه وقربه منه - إبانة عظيم منزلته ، وتشريف رتبته ، وإشراق أنوار معرفته ، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته . ومن الله تعالى له مبرة وتأنيس وبسط وإكرام .ويتأول في قوله عليه السلام : ينزل ربنا إلى سماء الدنيا على أحد الوجوه : نزول إجمال وقبول وإحسان . قال القاضي : وقوله : فكان قاب قوسين أو أدنى فمن جعل الضمير عائدا إلى الله تعالى لا إلى جبريل كان عبارة عن نهاية القرب ، ولطف المحل ، وإيضاح المعرفة ، والإشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه وسلم ، وعبارة عن إجابة الرغبة ، وقضاء المطالب ، وإظهار التحفي ، وإنافة المنزلة والقرب من الله ; ويتأول فيه ما يتأول في قوله عليه السلام : من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة قرب بالإجابة والقبول ، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول . وقد قيل : ثم دنا جبريل من ربه فكان قاب قوسين أو أدنى ؛ قاله مجاهد . ويدل عليه ما روي في الحديث : إن أقرب الملائكة من الله جبريل عليه السلام . وقيل : أو بمعنى الواو أي : قاب قوسين وأدنى . وقيل : بمعنى بل أي بل أدنى . وقال سعيد بن المسيب : القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه ، ولكل قوس قاب واحد . فأخبر أن جبريل قرب من محمد صلى الله عليه وسلم كقرب قاب قوسين . وقال سعيد بن جبير وعطاء وأبو إسحاق الهمداني وأبو وائل شقيق بن سلمة : فكان قاب قوسين أي قدر ذراعين ، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء ، وهي لغة بعض الحجازيين . وقيل : هي لغة أزد شنوءة أيضا . وقال الكسائي : قوله : فكان قاب قوسين أو أدنى أراد قوسا واحدا ; كقول الشاعر :ومهمهين قذفين مرتين قطعته بالسمت لا بالسمتينأراد مهمها واحدا . والقوس تذكر وتؤنث فمن أنث قال في تصغيرها قويسة ومن ذكر قال قويس ; وفي المثل هو من خير قويس سهما . والجمع قسي قسي وأقواس وقياس ; وأنشد أبو عبيدة :ووتر الأساور القياسا والقوس أيضا بقية التمرفي الجلة أي : الوعاء . والقوس برج في السماء . فأما " القوس " بالضم فصومعة الراهب ; قال الشاعر جرير وذكر امرأة :لاستفتنتني وذا المسحين في القوس

القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)يقول تعالى ذكره: ثم دنا جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى إليه, وهذا من المؤخِّر الذي معناه القديم, وإنما هو: ثم تدلى فدنا, ولكنه حسن تقديم قوله ( دَنَا ) , إذ كان الدنوّ يدلّ على التدلي والتدلي على الدنوّ, كما يقال: زارني فلان فأحسن, وأحسن إليّ فزارني وشتمني فأساء, وأساء فشتمني لأن الإساءة هي الشتم: والشتم هو الإساءة.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن الحسن ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ) قال: جبريل عليه السلام .حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ) يعني: جبريل.حدثنا ابن حُميد, قال: ثنا مهران, عن أبي جعفر, عن الربيع ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ) قال: هو جبريل عليه السلام .وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم دنا الربّ من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى.* ذكر من قال ذلك:حدثنا يحيى بن الأمويّ, قال: ثنا أبي, قال: ثنا محمد بن عمرو, عن أبي سَلَمة, عن ابن عباس ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ) قال: دنا ربه فتدلّى.حدثنا الربيع, قال: ثنا ابن وهب, عن سليمان بن بلال, عن شريك بن أبي نمر, قال: سمعت أنس بن مالك يحدثنا عن ليلة المسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه عرج جبرائيل برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء السابعة, ثم علا به بما لا يعلمه إلا الله, حتى جاء سدرة المنتهى, ودنا الجبار ربّ العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى, فأوحى الله إليه ما شاء, فأوحى الله إليه فيما أوحى خمسين صلاة على أمته كلّ يوم وليلة, وذكر الحديث " .

فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9(وقاب ، قيل معناه : قَدْر . وهو واوي العين ، ويقال : قاب وقِيب بكسر القاف ، وهذا ما درج عليه أكثر المفسرين . وقيل يطلق القاب على ما بين مقبض القوس ( أي وسط عوده المقوس ( وما بين سِيتيْهَا ( أي طرفيها المنعطف الذي يشدّ به الوتَر ( فللقوس قابان وسِيتان ، ولعل هذا الإِطلاق هو الأصل للآخر ، وعلى هذا المعنى حمل الفراء والزمخشري وابن عطية وعن سعيد بن المسيّب : القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه ولكل قوس قاب واحد .وعلى كلا التفسيرين فقوله : { قاب قوسين } أصله قابَيْ قوس أو قَابَيْ قوسين ( بتثنية أحد اللفظين المضاففِ والمضاف إليه ، أو كليهما ( فوقع إفراد أحد اللفظين أو كليهما تجنباً لثقل المثنى كما في قوله تعالى :{ إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] أي قلباكما .وقيل يطلق القوس في لغة أهل الحجاز على ذِراع يذرع به ( ولعله إذن مصدر قاس فسمي به ما يقاس به ( .والقوس : آلة من عُودِ نَبْع ، مقوسة يشد بها وتَر من جِلد ويرمي عنها السهام والنشاب وهي في مقدار الذراع عند العرب .وحاصل المعنى أن جبريل كان على مسافة قوسين من النبي صلى الله عليه وسلم الدال عليه التفريع بقوله : { فأوحى إلى عبده ما أوحى } ، ولعل الحكمة في هذا البعد أن هذه الصفة حكاية لصورة الوحي الذي كان في أوائل عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوءة فكانت قُواه البشرية يومئذٍ غير معتادة لتحمل اتصال القوة الملكية بها مباشرة رفقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتجشم شيئاً يشق عليه ، ألا ترى أنه لما اتصل به في غار حراء ولا اتصال وهو الذي عبر عنه في حديثه بالغطّ قال النبي صلى الله عليه وسلم " فغطّنِي حتى بلغ مني الجَهْد " ثم كانت تعتريه الحالة الموصوفة في حديث نزول أول الوحي المشار إليها في سورة المدثّر وسورة المزمّل قال تعالى : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] ، ثم اعتاد اتصال جبريل به مباشرة فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عن الإِيمان والإِسلام والإِحسان والساعة أنه «جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه» إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم أيامئذٍ بالمدينة وقد اعتاد الوحي وفارقته شدته ، ولمراعاة هذه الحكمة كان جبريل يتمثل للنبيء صلى الله عليه وسلم في صورة إنسان وقد وصفه عمر في حديث بيانِ الإِيمان والإِسلام بقوله : «إذ دخل علينا رجل شديدُ بياض الثياب شديدُ سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد» الحديث ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم بعد مفارقته " يا عمر أتدري من السائل؟ قال عمر : الله ورسوله أعلم ، قال : «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " . وقوله : { أو أدنى } { أو } فيه للتخيير في التقدير ، وهو مستعمل في التقريب ، أي إن أراد أحد تقريب هذه المسافة فهو مخيّر بين أن يجعلها قاب قوسين أو أدنى ، أي لا أزيد إشارة إلى أن التقدير لا مبالغة فيه .
الآية 9 - سورة النجم: (فكان قاب قوسين أو أدنى...)