سورة النمل (27): مكتوبة كاملة مع التفسير التحميل

تحتوي هذه الصفحة على جميع آيات سورة النمل بالإضافة إلى تفسير جميع الآيات من قبل تنوير المقباس من تفسير ابن عباس (عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي). في الجزء الأول يمكنك قراءة سورة النمل مرتبة في صفحات تماما كما هو موجود في القرآن. لقراءة تفسير لآية ما انقر على رقمها.

معلومات عن سورة النمل

سُورَةُ النَّمۡلِ
الصفحة 383 (آيات من 64 إلى 76)

أَمَّن يَبْدَؤُا۟ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ ۗ أَءِلَٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ قُلْ هَاتُوا۟ بُرْهَٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلَّا ٱللَّهُ ۚ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ٱدَّٰرَكَ عِلْمُهُمْ فِى ٱلْءَاخِرَةِ ۚ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا ۖ بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا۟ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبًا وَءَابَآؤُنَآ أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَٰذَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ قُلْ سِيرُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ فَٱنظُرُوا۟ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ قُلْ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ ٱلَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِى ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ إِلَّا فِى كِتَٰبٍ مُّبِينٍ إِنَّ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَكْثَرَ ٱلَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
383

الاستماع إلى سورة النمل

تفسير سورة النمل (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي)

الترجمة الإنجليزية

Amman yabdao alkhalqa thumma yuAAeeduhu waman yarzuqukum mina alssamai waalardi ailahun maAAa Allahi qul hatoo burhanakum in kuntum sadiqeena

أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)هذا انتقال إلى الاستدلال بتصرف الله تعالى بالحياة الأولى والثانية وبإعطاء المدد لدوام الحياة الأولى مدة مقدرة . وفيه تذكير بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد . والاستفهام تقريري لأنهم لا ينكرون أنه يبدأ الخلق وأنه يرزقهم .وأدمج في خلال الاستفهام قوله { ثم يعيده } لأن تسليم بدئه الخلق يلجئهم إلى فهم إمكان إعادة الخلق التي أحالوها . ولما كان إعادة الخلق محلّ جدل وكان إدماجها إيقاظاً وتذكيراً أعيد الاستفهام في الجملة التي عطفت عليه بقوله { ومن يرزقكم من السماء والأرض } ولأن الرزق مقارن لبدء الخلق فلو عطف على إعادة الخلق لتوهّم أنه يرزق الخلق بعد الإعادة فيحسبوا أن رزقهم في الدنيا من نعم آلهتهم .وإذ قد كانوا منكرين للبعث ذُيّلت الآية بأمر التعجيز بالإتيان ببرهان على عدم البعث .والبرهان : الحجة . وتقدم عند قوله تعالى { يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربّكم في آخر سورة النساء } ( 174 ) .وإضافة البرهان إلى ضمير المخاطبين وهم المشركون مشير إلى أن البرهان المُعَجّزين عليه هو برهان عدم البعث ، أي إن كنتم صادقين فهاتوه لأن الصادق هو الذي قوله مطابق للواقع . والشيء الواقع لا يعدم دليلاً عليه .وجُماع ما تقدم في هذه الآيات من قوله { آلله خير أما تشركون } [ النمل : 59 ] أنها أجملت الاستدلال على أحقية الله تعالى بالإلهية وحده ثم فصّلت ذلك بآيات { أمن خلق السموات والأرض إلى قوله قل هاتو برهانكم إن كنتم صادقين } [ النمل : 60 64 ] فابتدأت بدليل قريب من برهان المشاهدة وهو خلق السموات والأرض وما يأتي منهما من خير للناس . ودليل كيفية خلق الكرة الأرضية وما على وجهها منها ، وهذا ملحق بالمشاهدات .وانتقلت إلى استدلال من قبيل الأصول الموضوعة وهو ما تمالأ عليه الناس من اللجأ إلى الله تعالى عند الاضطرار .وانتقلت إلى الاستدلال عليهم بما مكّنهم من التصرف في الأرض إذ جعل البشر خلفاء في الأرض ، وسخر لهم التصرّف بوجوه التصاريف المعينة على هذه الخلافة ، وهي تكوين هدايتهم في البر والبحر . وذلك جامع لأصول تصرفات الخلافة المذكورة في الارتحال والتجارة والغزو .وختم ذلك بكلمة جامعة لنعمتي الإيجاد والإمداد وفي مطاويها جوامع التمكن في الأرض .

الترجمة الإنجليزية

Qul la yaAAlamu man fee alssamawati waalardi alghayba illa Allahu wama yashAAuroona ayyana yubAAathoona

قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) لما أبطلت الآيات السابقة إلهية أصنام المشركين بالأدلة المتظاهرة فانقطع دابر عقيدة الإشراك ثني عنان الإبطال إلى أثر من آثار الشرك وهو ادعاء علم الغيب بالكهانة وإخبار الجن ، كما كان يزعمه الكهان والعرافون وسدنة الأصنام . ويؤمن بذلك المشركون . وفي «معالم التنزيل» وغيره نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة فما كان سؤالهم عن ذلك إلا لظنهم أن ادعاء العلم بوقتها من شأن النبوءة توصلاً لجحد النبوءة إن لم يعين لهم وقت الساعة فأبطلت الآية هذه المزاعم إبطالاً عاماً معياره الاستثناء بقوله { إلا الله . } وهو عام مراد به الخصوص أعني خصوص الكهان وسدنة بيوت الأصنام . وإنما سلك مسلك العموم لإبطال ما عسى أن يزعم من ذلك ، ولأن العموم أكثر فائدة وأوجز ، فإن ذلك حال أهل الشرك من بين من في السماوات والأرض . فالقصد هنا تزييف آثار الشرك وهو الكهانة ونحوها . وإذ قد كانت المخلوقات لا يعدون أن يكونوا من أهل السموات أو من أهل الأرض لانحصار عوالم الموجودات في ذلك كان قوله { لا يعلم من في السموات والأرض الغيب } في قوة لا يعلم أحد الغيب ، ولكن أطنب الكلام لقصد التنصيص على تعميم المخلوقات كلها فإن مقام علم العقيدة مقام بيان يناسبه الإطناب .واستثناء { إلا الله } منه لتأويل { من في السماوات والأرض } بمعنى : أحد ، فهو استثناء متصل على رأي المحققين وهو واقع من كلام منفي . فحق المستثنى أن يكون بدلاً من المستثنى منه في اللغة الفصحى فلذلك جاء اسم الجلالة مرفوعاً ولو كان الاستثناء منقطعاً لكانت اللغة الفصحى تنصب المستثنى .وبعد فإن دلائل تنزيه الله عن الحلول في المكان وعن مماثلة المخلوقات متوافرة فلذلك يجري استعمال القرآن والسنة على سنن الاستعمال الفصيح للعلم بأن المؤمن لا يتوهم ما لا يليق بجلال الله تعالى . ومن المفسرين من جعل الاستثناء منقطعاً وقوفاً عند ظاهر صلة { من في السماوات والأرض } لأن الله ينزّه عن الحلول في السماء والأرض .وأما من يتفضل الله عليه بأن يظهره على الغيب فذلك داخل في علم الله قال تعالى { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول } [ الجن : 26 ، 27 ] . فأضاف ( غيب ) إلى ضمير الجلالة .وأردف هذا الخبر بإدماج انتفاء علم هؤلاء الزاعمين علم الغيب أنهم لا يشعرون بوقت بعثهم بل جحدوا وقوعه إثارة للتذكير بالبعث لشدة عناية القرآن بإثباته وتسفيه الذين أنكروه . فذلك موقع قوله { وما يشعرون أيان يبعثون ، } أي أن الذين يزعمون علم الغيب ما يشعرون بوقت بعثهم .و { أيان } اسم استفهام عن الزمان وهو معلِّق فعل { يشْعرون } عن العمل في مفعوليه . وهذا تورّكٌ وتعيير للمشركين فإنهم لا يؤمنون بالبعث بَلْةَ شعورهم بوقته .

الترجمة الإنجليزية

Bali iddaraka AAilmuhum fee alakhirati bal hum fee shakkin minha bal hum minha AAamoona

بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)و { بل } للإضراب الانتقالي من الإخبار عنهم ب { لا يشعرون أيان يبعثون } وهو ارتقاء إلى ما هو أغرب وأشد ارتقاء من تعييرهم بعدم شعورهم بوقت بعثهم إلى وصف علمهم بالآخرة التي البعث من أول أحوالها وهو الواسطة بينها وبين الدنيا بأنه علم متدارك أو مدرك .وقرأ الجمهور { إدَّارك } بهمز وصل في أوله وتشديد الدال على أن أصله ( تدارك ) فأدغمت تاء التفاعل في الدال لقرب مخرجيها بعد أن سكنت واجتُلِب همز الوصل للنطق بالساكن . قال الفراء وشمر : وهو تفاعل من الدّرك بتفحتين وهو اللحاق .وقد امتلكت اللغويين والمفسرين حيرة في تصوير معنى الآية على هذه القراءة تثار منه حيرة للناظر في توجيه الإضرابين اللذين بعد هذا الإضراب وكيف يكونان ارتقاء على مضمون هذا الانتقال ، وذكروا وجوهاً مثقلة بالتكلف .والذي أراه في تفسيرها على هذا الاعتبار اللغوي أن معنى التدارك هو أن علم بعضهم لَحِق علم بعض آخر في أمر الآخرة لأن العلم ، وهو جنسٌ ، لمّا أضيف إلى ضمير الجماعة حصل من معناه علوم عديدة بعدد أصناف الجماعات التي هي مدلول الضمير فصار المعنى : تداركت علومهم بعضها بعضاً .وذلك صالح لمعنيين : أولهما : أن يكون التدارك وهو التلاحق الذي هو استعمال مجازي يساوي الحقيقة ، أي تداركت علوم الحاضرين مع علوم أسلافهم ، أي تلاحقت وتتابعت فتلَّقى الخلف عن السلف علمَهم في الآخرة وتقلدوها عن غير بصيرة ولا نظر ، وذلك أنهم أنكروا البعث ويشعر لذلك قوله تعالى عقبه { وقال الذين كفروا أإذا كنّا تراباً وءاباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وءاباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين } [ النمل : 67 68 ] . وقريب من هذا قوله تعالى في سورة المؤمنين ( 81 ) { بل قالوا مثل ما قال الأولون }الوجه الثاني : أن يكون التدارك مستعملاً مجازاً مرسلاً في الاختلاط والاضطراب لأن التدارك والتلاحق يلزمه التداخل كما إذا لحقت جماعة من الناس جماعة أخرى أي لم يرسوا على أمر واختلفت أقوالهم اختلافاً يؤذن بتناقضها ، فهم ينفون البعث ثم يزعمون أن الأصنام شفعاؤهم عند الله من العذاب ، وهذا يقتضي إثبات البعث ولكنهم لا يعذبون ثم يتزودون تارة للآخرة ببعض أعمالهم التي منها : أنهم كانوا يحبسون الراحلة على قبر صاحبها ويتركونها لا تأكل ولا تشرب حتى تموت فيزعمون أن صاحبها يركبها ، ويسمونها البلية ، فذلك من اضطراب أمرهم في الآخرة .وفعل المضي على هذين الوجهين على أصله . وحرف ( في ) على هاذين الوجهين في تفسيرها على قراءة الجمهور مستعمل في السببية ، أي بسبب الآخرة .ويجوز وجه آخر وهو أن يكون { ادارك } مبالغة في ( أدْرَك ) ومفعوله محذوفاً تقديره : إدراكهم ، أي حصل لهم علمهم بوقت بعثهم في اليوم الذي يبعثون فيه ، أي يومئذ يوقنون بالبعث ، فيكون فعل المضي مستعملاً في معنى التحقق ، ويكون حرف ( في ) على أصله من الظرفية ..وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر { بل أدرك } بهمز قطع وسكون الدال ، ومعناه؛ انتهى علمهم في الآخرة . يقال : أدرك ، إذا فني . وفي ثبوت معنى فني لفعل أدرك خلاف بين أيمة اللغة ، فقد أثبته ابن المظفر في رواية شمّر عنه قال شمّر : ولم أسمعه لغيره ، وأثبته الزمخشري في «الكشاف» في هذه الآية وصاحب «القاموس» . وقال أبو منصور : هذا غير صحيح في لغة العرب وما علمت أحداً قال : أدرك الشيء إذا فني .وأقول قد ثبت في اللغة : أدركت الثمار ، إذا انتهى نضجها ، ونسبه في «تاج العروس» لليث ولابن جني وحسبك بإثبات هؤلاء الأثبات . قال الكواشي في «تبصرة المتذكر» : المعنى فني علمهم في الآخرة من أدركت الفاكهة ، إذا بلغت النضج وذلك مؤذن بفنائها وزوالها .فحاصل المعنى على قراءة الجمهور { وما يشعرون أيان يبعثون } وقد تلقى بعضهم عن بعض ما يعلمون في شأن الآخرة وهو ما اشتهر عنهم من إنكار الحياة الآخرة ، أو قد اضطرب ما يعلمونه في شأن الآخرة وأنهم سيعلمون ذلك لا محالة في يوم الدار الآخرة .وحاصل المعنى على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي جعفر : ما يشعرون أيّان يبعثون فإنهم لا علم لهم بالحياة الآخرة ، أي جهلوا الحياة الآخرة .أما عدد القراءات الشاذة في هذه الجملة فبلغت عشراً .وأما جملة { بل هم في شك منها } فهو إضراب انتقال للارتقاء من كونهم اضطرب علمهم في الآخرة ، أو تقلد خلفهم ما لقنه سلفهم ، أو من أنهم انتفى عملهم في الآخرة إلى أن ذلك الاضطراب في العلم قد أثار فيهم شكاً من وقوع الآخرة . و ( من ) للابتداء المجازي ، أي في شك ناشىء عن أمر الآخرة . وجيء بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات الخبر ودوامه ، والظرفية للدلالة على إحاطة الشك بهم .وجملة { بل هم منها عمون } ارتقاء ثالث وهو آخر درجات الارتقاء في إثبات ضلالهم وهو أنهم عميان عن شأن الآخرة .و { عمون } : جمع عممٍ بالتنوين وهو فعل من العمى ، صاغوا له مثال المبالغة للدلالة على شدة العمى ، وهو تشبيه عدم العلم بالعمى ، وعادم العلم بالأعمى . وقال زهير :وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غدً عمفشبه ضلالهم عن البعث بالعمى في عدم الاهتداء إلى المطلوب تشبيه المعقول بالمحسوس .و ( من ) في قوله { منها عمون } للابتداء المجازي ، جعل عماهم وضلالهم في إثبات الآخرة كأنه ناشىء لهم من الآخرة إذ هي سبب عماهم ، أي إنكارها سبب ضلالهم . وفي الكلام مضاف محذوف تقديره : من إنكار وجودها عمون ، فالمجرور متعلق ب { عمون } . وقدم على متعلقه للاهتمام بهذا المتعلق وللرعاية على الفاصلة . وصيغت الجملة الاسمية للدلالة على الثبات كما في قوله { بل هم في شك منها } .وترتيب هذه الاضرابات الثلاثة ترتيب لتنزيل أحوالهم؛ فوصفوا أولاً بأنهم لا يشعرون بوقت البعث ثم بأنهم تلقفوا في شأن الآخرة التي البعث من شؤونها علماً مضطرباً أو جهلاً فخبطوا في شك ومرية ، فأعقبهم عمى وضلالة بحيث إن هذه الانتقالات مندرجة متصاعدة حتى لو قيل : بل أدّارك علمهم في الآخرة فهم في شك منها فهم منها عمون لحصل المراد .ولكن جاءت طريقة التدرج بالإضراب الانتقالي أجزل وأبهج وأروع وأدل على أن كلاً من هذه الأحوال المترتبة جدير بأن يعتبر فيه المعتبر باستقلاله لا بكونه متفرعاً على ما قبله ، وهذا البيان هو ما أشرت إليه آنفاً عند الكلام على قراءة الجمهور { أدّارك } من خفاء توجيه الإضرابين اللذين بعد الإضراب الأول .وضمائر جمع الغائبين في قوله { يشعرون ، ويبعثون ، علمهم ، هم في شك ، هم منها عمون } عائدة إلى ( من ) الموصولة في قوله تعالى { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } . و ( من ) هذه وإن كانت من صيغ العموم فالضمائر المذكورة عائدة إليها بتخصيص عمومها ببعض من في الأرض وهم الذين يزعمون أنهم يعلمون الغيب من الكهان والعرّافين وسدنة الأصنام الذين يستقسمون للناس بالأزلام ، وهو تخصيص لفظي من دلالة السياق وهو من قسم المخصص المنفصل اللفظي . والخلاف الواقع بين علماء الأصول في اعتبار عود الضمير إلى بعض أفراد العام مخصصاً للعموم يقرب من أن يكون خلافاً لفظياً . ومنه قوله تعالى { وبُعُولَتُهنّ أحقّ بردهن } [ البقرة : 228 ] فإن ضمير { بعولتهن } عائد إلى المطلقات الرجعيات من قوله تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن } [ البقرة : 228 ] الذي هو عام للرجعيات وغيرهن .وبهذا تعلم أن التعبير ب { الذين كفروا } [ النمل : 67 ] هنا ليس من الإظهار في مقام الإضمار لأن الذين كفروا أعم من ما صدق ( من ) في قوله { لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب } .

الترجمة الإنجليزية

Waqala allatheena kafaroo aitha kunna turaban waabaona ainna lamukhrajoona

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) أعقب وصف عماية الزاعمين علم الغيب بذكر شبهتهم التي أرتهم البعث مستحيل الوقوع ، ولذلك أسند القول هنا إلى جميع الذين كفروا دون خصوص الذين يزعمون علم الغيب ، ولذلك عطفت الجملة لأنها غايرت التي قبلها بأنها أعم .والتعبير عنهم باسم الموصول لما في الموصول من الإيماء إلى علة قولهم هذه المقالة وهي ما أفادته الصلة من كونهم كافرين فكأنه قيل وقالوا بكفرهم أإذا كنا تراباً . . إلى آخره استفهاماً بمعنى الإنكار .أتوا بالإنكار في صورة الاستفهام لتجهيل معتقد ذلك وتعجيزه عن الجواب بزعمهم . والتأكيد ب { إنّ } لمجاراة كلام المردود عليه بالإنكار . والتأكيد تهكم .وقرأ نافع وأبو جعفر { إذا كنا تراباً } بهمزة واحدة هي همزة ( إذا ) على تقدير همزة استفهام محذوفة للتخفيف من اجتماع همزتين ، أو بجعل ( إذا ) ظرفاً مقدّماً على عامله والمستفهم عنه هو { إنا لمخرجون } .وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بهمزتين في { أإذا وأإنا } على اعتبار تكرير همزة الاستفهام في الثانية لتأكيد الأولى ، إلا أن أبا عمرو خفف الثانية من الهمزتين في الموضعين وعاصماً وحمزة حققاهما . وهؤلاء كهلم حذفوا نون المتكلم المشارك تخفيفاً من الثقل الناشىء من وقوع نون المتلكم بعد نون ( إن ) . وقرأ ابن عامر والكسائي { أإذا } بهمزتين و { إننا } بهمزة واحدة وبنونين اكتفاء بالهمزة الأولى للاستفهام ، وكلها استعمال فصيح .وقد تقدم في سورة المؤمنين حكاية مثل هذه المقالة عن الذين كفروا إلا أن اسم الإشارة الأول وقع مؤخراً عن { نحن في سورة المؤمنين } ( 83 ) ووقع مقدماً عليه هنا ، وتقديمه وتأخيره سواء في أصل المعنى لأنه مفعول ثاننٍ ل { وعدنا } وقع بعد نائب الفاعل في الآيتين . وإنما يتجه أن يُسأل عن تقديمه على توكيد الضمير الواقع نائباً على الفاعل . وقد ناطها في «الكشاف» بأن التقديم دليل على أن المقدم هو الغرض المعتمد بالذكر وبسوق الكلام لأجله . وبينه السكاكي في «المفتاح» بأن ما وقع في سورة المؤمنين كان بوضع المنصوب بعد المرفوع وذلك موضعه . وأما ما في سورة النمل فقدم المنصوب على المرفوع لكونه فيها أهم ، يدلك على ذلك أن الذي قبله { إذا كنا تراباً وءاباؤنا } والذي قبل آية سورة المؤمنين { أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً } [ المؤمنون : 82 ] فالجهة المنظور فيها هناك ( في سورة المؤمنين ) هي كون أنفسهم تراباً وعظاماً ، والجهة المنظور فيها هنا في سورة النمل هي كون أنفسهم وكون آبائهم تراباً لا جزء هناك من بناهم ( جمع بنية ) على أي باقياً صورة نفسه ( أي على صورته التي كان عليها وهو حي ) . ولا شبهة أنها أدخل عندهم في تبعيد البعث فاستلزم زيادة الاعتناء بالقصد إلى ذكره فصيره هذا العارض أهم اه .وحاصل الكلام أن كل آية حكت أسلوباً من مقالهم { بل قالوا مثل ما قال الأولون . . . قالوا أإذا متنا } [ المؤمنون : 81 ، 82 ]

الترجمة الإنجليزية

Laqad wuAAidna hatha nahnu waabaona min qablu in hatha illa asateeru alawwaleena

لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68){ لقد وُعدنا هذا نحن وءاباؤنا } .وبعد فقد حصل في الاختلاف بين أسلوب الآيتين تفنن كما تقدم في المقدمة السابعة .والأساطير : جمع أسطورة ، وهي القصة والحكاية . وتقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى { وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين } في سورة النحل ( 24 ) . والمعنى : ما هذا إلا كلام معاد قاله الأولون وسطّروه وتلقفه من جاء بعدهم ولم يقع شيء منه .

الترجمة الإنجليزية

Qul seeroo fee alardi faonthuroo kayfa kana AAaqibatu almujrimeena

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم هذه الكلمة ولذلك فصل فعل { قل } وتقدم نظيره في سورة الأنعام ( 11 ) . والمناسبة في الموضعين هي الموعظة بحال المكذبين لأن إنكارهم البعث تكذيب للرسول وإجرام . والوعيد بأن يصيبهم مثل ما أصابهم إلا أنها هنالك عُطفت ب { ثم انظروا } وهنا بالفاء { فانظروا } وهما متئايلان . وذكر هنالك { عاقبة المكذبين } [ الأنعام : 11 ] وذكر هنا { عاقبة المجرمين } : والمكذبون مجرمون . والاختلاف بين الحكايتين للتفنن كما قدمناه في المقدمة السابعة .

الترجمة الإنجليزية

Wala tahzan AAalayhim wala takun fee dayqin mimma yamkuroona

وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)كانت الرحمة غالبة على النبي صلى الله عليه وسلم والشفقة على الأمة من خلاله ، فلما أُنذر المكذبون بهذا الوعيد تحركت الشفقة في نفس الرسول عليه الصلاة والسلام فربط الله على قلبه بهذا التشجيع أن لا يحزن عليهم إذا أصابهم ما أنذروا به . وكان من رحمته صلى الله عليه وسلم حرصه على إقلاعهم عما هم عليه من تكذيبه والمكر به ، فألقى الله في روعه رباطة جاش بقوله { ولا تكن في ضيق مما يمكرون .والضيق : بفتح الضاد وكسرها ، قرأه الجمهور بالفتح ، وابن كثير بالكسر . وحقيقته : عدم كفاية المكان أو الوعاء لما يراد حلوله فيه ، وهو هنا مجاز في الحالة الحرجة التي تعرض للنفس عند كراهية شيء فيحس المرء في مجاري نفسه بمثل ضيق عرض لها . وإنما هو انضغاط في أعصاب صدره . وقد تقدم عند قوله { ولا تك في ضيق مما يمكرون } في آخر سورة النحل ( 127 ) .والظرفية مجازية ، أي لا تكن ملتبساً ومحوطاً بشيء من الضيق بسبب مكرهم .والمكر تقدم عند قوله تعالى { ومكروا ومكر الله } في سورة آل عمران ( 54 ) . و ( ما ) مصدرية ، أي من مكرهم .

الترجمة الإنجليزية

Wayaqooloona mata hatha alwaAAdu in kuntum sadiqeena

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) عطف على { وقال الذين كفروا إذا كنا تراباً } [ النمل : 67 ] . والتعبير هنا بالمضارع للدلالة على تجدد ذلك القول منهم ، أي لم يزالوا يقولون .والمراد بالوعد ما أنذروا به من العقاب . والاستفهام عن زمانه ، وهو استفهام تهكم منهم بقرينة قوله { إن كنتم صادقين } .وأمر الله نبيه بالجواب عن قولهم لأن هذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ومن أطلعه على شيء منه من عباده المصطفين .والجواب جار على الأسلوب الحكيم بحمل استفهامهم على حقيقة الاستفهام تنبيهاً على أن حقهم أن يسألوا عن وقت الوعيد ليتقدموه بالإيمان .

الترجمة الإنجليزية

Qul AAasa an yakoona radifa lakum baAAdu allathee tastaAAjiloona

قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)و { عسى } للرجاء ، وهو مستعمل في التقريب مع التحقيق .و { ردف } تبع بقرب . وعدي باللام هنا مع أنه صالح للتعدية بنفسه لتضمينه معنى ( اقترب ) أو اللام للتوكيد مثل شكر له . والمعنى : رجاء أن يكون ذلك قريب الزمن . وهذا إشارة إلى ما سيحل بهم يوم بدر .وحذف متعلق { تستعجلون } أي تستعجلون به .

الترجمة الإنجليزية

Wainna rabbaka lathoo fadlin AAala alnnasi walakinna aktharahum la yashkuroona

وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)موقع هذا موقع الاستدراك على قوله { عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون } [ النمل : 72 ] أي أن تأخير العذاب عنهم هو من فضل الله عليهم . وهذا خبر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على أن تأخير الوعيد أثر من آثار رحمة الله لأن أزمنة التأخير أزمنة إمهال فهم فيها بنعمة ، لأن الله ذو فضل على الناس كلهم . وقد كنا قدمنا مسألة أن نعمة الكافر نعمة حقيقية أو ليست نعمة والخلاف في ذلك بين الأشعري والماتريدي .والتعبير ب { ذو فضل } يدل على أن الفضل من شؤونه . وتنكير { فضل } للتعظيم . والتأكيد ب { إن } واللام منظور فيه إلى حال الناس لا إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم فالتأكيد واقع موقع التعريض بهم بقرينة قوله { ولكن أكثرهم لا يشكرون } .و { لكن } استدراك ناشىء عن عموم الفضل منه تعالى فإن عمومه وتكرره يستحق بأن يعلمه الناس فيشكروه ولكن أكثر الناس لا يشكرون كهؤلاء الذين قالوا { متى هذا الوعد } [ النمل : 71 ] فإنهم يستعجلون العذاب تهكماً وتعجيزاً في زعمهم غير قادرين قدر نعمة الإمهال .

الترجمة الإنجليزية

Wainna rabbaka layaAAlamu ma tukinnu sudooruhum wama yuAAlinoona

وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)موقع هذا موقع الاستئناف البياني لأن قوله { وإن ربّك لذو فضل على الناس } [ النمل : 73 ] يثير سؤالاً في نفوس المؤمنين أن يقولوا : إن هؤلاء المكذبين قد أضمروا المكر وأعلنوا الاستهزاء فحالهم لا يقتضي إمهالهم؟ فيجاب بأن الذي أمهلهم مطلع على ما في صدورهم وما أعلنوه وأنه أمهلهم مع علمه بهم لحكمة يعلمها .وفيه إشارة إلى أنهم يكنون أشياء للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، منها : أنهم يتربصون بهم الدوائر ، وأنهم تخامر نفوسهم خواطر إخراجه وإخراج المؤمنين . وهذا الاستئناف لما كان ذا جهة من معنى وصف الله بإحاطة العلم عطفت جملته على جملة وصف الله بالفضل ، فحصل بالعطف غرض ثان مهم ، وحصل معنى الاستئناف البياني من مضمون الجملة .وأما التوكيد ب { إن } فهو على نحو توكيد الجملة التي قبله . ولكَ أن تجعله لتنزيل السائل منزلة المتردد وذلك تلويح بالعتاب .و { تكن } تخفي وهو من ( أكن ) إذا جعل شيئاً كانّاً ، أي حاصلاً في كن . والكنّ : المسكن . وإسناد { تكن } إلى الصدور مجاز عقلي باعتبار أن الصدور مكانه . والإعلان : الإظهار .

الترجمة الإنجليزية

Wama min ghaibatin fee alssamai waalardi illa fee kitabin mubeenin

وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)عطف على جملة { وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون } [ النمل : 74 ] . وهو في معنى الذييل للجملة المذكورة لأنها ذكر منها علم الله بضمائرهم فذيل ذلك بأن الله يعلم كل غائبة في السماء والأرض .وإنما جاء معطوفاً لأنه جدير بالاستقلال بذاته من حيث إنه تعليم لصفة علم الله تعالى وتنبيه لهم من غفلتهم عن إحاطة علم الله لما تكن صدورهم وما يعلنون .والغائبة : اسم للشيء الغائب والتاء فيه للنقل من الوصفية إلى الاسمية كالتاء في العافية ، والعاقبة ، والفاتحة . وهو اسم مشتق من الغيب وهو ضد الحضور ، والمراد : الغائبة عن علم الناس . استعمل الغيب في الخفاء مجازاً مرسلاً .والكتاب يعبر به عن علم الله ، استعير له الكتاب لما فيه من التحقق وعدم قبول التغيير . ويجوز أن يكون مخلوقاً غيبياً يسجل فيه ما سيحدث .والمبين : المفصل ، لأن الشيء المفصل يكون بيّناً واضحاً . والمعنى : أن الله لا يعزب عن علمه حقيقة شيء مما خفي على العالمين . وذلك يقتضي أن كل ما يتلقاه الرسل من جانب الله تعالى فهو حق لا يحتمل أن يكون الأمر بخلافه . ومن ذلك ما كان الحديث فيه من أمر البعث الذي أنكروه وكذبوا بما جاء فيه .

الترجمة الإنجليزية

Inna hatha alqurana yaqussu AAala banee israeela akthara allathee hum feehi yakhtalifoona

إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)إبطال لقول الذين كفروا { إن هذا إلا أساطير الأولين } [ النمل : 68 ] . وله مناسبة بقوله { وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين } [ النمل : 75 ] ، فإن القرآن وحي من عند الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فكل ما فيه فهو من آثار علم الله تعالى فإذا أراد الله تعليم المسلمين شيئاً مما يشتمل عليه القرآن فهو العلم الحق إذا بلغت الأفهام إلى إدراك المراد منه على حسب مراتب الدلالة التي أصولها في علم العربية وفي علم أصول الفقه .ومن ذلك ما اشتمل عليه القرآن من تحقيق أمور الشرائع الماضية والأمم الغابرة مما خبطت فيه كتب بني إسرائيل خبطاً من جراء ما طرأ على كتبهم من التشتت والتلاشي وسوء النقل من لغة إلى لغة في عصور انحطاط الأمة الإسرائيلية ، ولما في القرآن من الأصول الصريحة في الإلهيات مما يكشف سوء تأويل بني إسرائيل لكلمات كتابهم في متشابه التجسيم ونحوه ، فإنك لا تجد في التوراة ما يساوي قوله تعالى { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] . فالمعنى : نفي أن يكون أساطير الأولين بإثبات أنه تعليم للمؤمنين ، وتعليم لأهل الكتاب . وإنما قص عليهم أكثر ما اختلفوا وهو ما في بيان الحق منه نفع للمسلمين ، وأعرض عما دون ذلك . فموقع هذه الآية استكمال نواحي هدي القرآن للأمم فإن السورة افتتحت بأنه هدى وبشرى للمؤمنين ، وأن المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة يعمهون في ضلالهم فلم ينتفعوا بهديه . فاستكملت هذه الآية ما جاء به من هدي بني إسرائيل لما يهم مما اختلفوا فيه .والتأكيد ب { إن } مثل ما تقدم في نظائره . وأكثر الذي يختلفون فيه هو ما جاء في القرآن من إبطال قولهم فيما يقتضي إرشادهم إلى الحق أن يبين لهم ، وغير الأكثر ما لا مصلحة في بيانه لهم .ومن مناسبة التنبيه على أن القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر ما هم فيه مختلفون ، أن ما قصه مما جرى بين ملكة سبأ مع سليمان كان فيه مما يخالف ما في كتاب الملوك الأول وكتاب الأيام الثاني ففي ذينك الكتابين أن ملكة سبأ تحملت وجاءت إلى أورشليم من تلقاء نفسها محبة منها في الاطلاع على ما بلغ مسامعها من عظمة ملك سليمان وحكمته ، وأنها بعد ضيافتها عند سليمان قفلت إلى مملكتها . وليس مما يصح في حكم العقل وشواهد التاريخ في تلك العصور أن ملكة عظيمة كملكة سبأ تعمد إلى الارتحال عن بلدها وتدخل بلد ملك آخر غير هائبة ، لولا أنها كانت مضطرة إلى ذلك بسياسة ارتكاب أخف الضرين إذ كان سليمان قد ألزمها بالدخول في دائرة نفوذ ملكه ، فكان حضورها لديه استسلاماً واعترافاً له بالسيادة بعد أن تنصلت من ذلك بتوجيه الهدية وبعد أن رأت العزم من سليمان على وجوب امتثال أمره .ومن العجيب إهمال كُتّاب اليهود دعوة سليمان بلقيس إلى عقيدة التوحيد وهل يظن بنبي أن يقر الشرك على منتحليه .
383